| 1 التعليقات ]





يثبت بن نبي في كل مرة أنه فلتة، فهو يناقش جوانب في محيط علم الاقتصاد في كتاب (المسلم في عالم الاقتصاد)، ويطرق باب علم الاجتماع إذ يتناول سنن انحلال شبكة العلاقات الاجتماعية في كتاب (ميلاد مجتمع)، ويلامس ميادين علم النفس في سياق معالجته ل(مشكلة الثقافة)، وهو قبل كل هذا مهندس كهربائي وصحفي في جريدة (لوموند) الفرنسية.

انشغل في كتاب (ميلاد مجتمع) بمسألة في غاية الأهمية تتصل بتحولات العلاقات الاجتماعية. استدعى في ذلك التجربة الإسلامية التاريخية للتوضيح والعبرة، فكانت تلك التجربة أحسن بيان.

العلاقات الاجتماعية السليمة هي تلك التي تكون فيها الأفكار فاعلة ومؤطرة وجامعة لعلاقات الأشخاص مما يمنحهم قدرة على إنتاج الأشياء التي تتطلبها معارك الحياة اليومية. هي التي تكون فيها العلاقات بين الأشخاص مبنية على أهداف مشتركة وسامية.

أما العلاقات الاجتماعية الفاسدة فهي التي تصاب  فيها الذوات بالتضخم، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعبا أو مستحيلا، إذ يدور النقاش حينئذ لا لإيجاد حلول للمشكلات، بل للعثور على أدلة وبراهين، يقول بن نبي: "في حالة الصحة يكون تناول المشكلات من أجل علاجها هي، أما في الحالة المرضية فإن تناولها يصبح فرصة لتورم (الذات) وانتفاشها، وحينئذ يكون حلها مستحيلا، لا للفقر في الأفكار أو في الأشياء، ولكن لأن شبكة العلاقات لم تعد أمورها تجري على طبيعتها".

عندما تفسد شبكة العلاقات الاجتماعية ويكون المجتمع مريضا، لا يهتم أحد بالمشكلات الواقعية، بل يكون الاهتمام منصبا على قضايا تجريدية خيالية، كما كان الوضع في عهد الانحطاط وفي كل عهود الانقباض، فعوض أن يطرح نخبة المجتمع (الفقهاء) آنذاك مشاكل الاستبداد السياسي والاجتهاد الفكري الفقهي وغير ذلك راحت تلك "النخبة" تطرح مشكلات من قبيل التساؤل حول "جنس الملائكة" أو "حكم التوضؤ بعد وطء البهيمة"... إلخ.

وفي محاولة منه لتوظيف البرهان بالخلف، يقول بن نبي: بوسعنا أن نتخيل ما كان يمكن أن يحدث ــ في مجتمع مريض ــ لو أن خليفة من طراز عمر بن الخطاب أراد أن يعزل رجلا كخالد بن الوليد من قيادة جيش الشام !! إن محاولة كهذه كفيلة بزلزلة العالم الإسلامي لو أنها حدثت بعد ذلك بقرنين أو ثلاثة قرون فحسب. ولكن (الأنا) الإسلامية كانت في العهد الأول سليمة سوية، فكان (فعل) عمر دون عقدة، وكان (رد فعل) خالد دون عقدة ايضا. لأن علاقاتهما كانت سوية منزهة".

إذا فسد عالم الأشخاص في مرحلة ما، فالأفكار لا تقوم بدورها والأشياء تفقد فعاليتها الاجتماعية. فمنذ القرون الغابرة، اكتشف عالم مسلم "الدورة الدموية" واكتشف عالم آخر "سنن العمران"؛ ولكن كل الاكتشافات العلمية التي تحتضن أفكارا جديدة وتنتج أشياء بديعة لم يكن لها صدى آنذاك في المجتمع لأن بنية الاستقبال كانت متردية. وفي المقابل، نجد -على سبيل المثال- أن بعد "ابن خلدون" تقريبا بقرن،  جاء  "ميكيافيل" وردد خلاصات شبيهة ل"المقدمة" في كتاب "الأمير"، ولكن لما توفرت له بنية استقبال جيدة تضم حاضنة اجتماعية تتقوى شبكة علاقاتها الاجتماعية صار اسم "ميكيافيل" محلقا في سماء العلوم السياسية مع الانقلابات العميقة التي أحدثها فكره في ذهنية المجتمع الأوروبي.

لن نفهم جيدا ما يقوله بن نبي في هذا الكتاب إلا باستحضار التنظيمات الاجتماعية (حركات، أحزاب، نقابات، جمعيات كبيرة) فهي مجتمعات مصغرة تعتريها سنن نمو شبكة العلاقات الاجتماعية. 

فعندما يلتئم أبناء التنظيم الاجتماعي حول فكرة مفارقة مؤطرة لأهدافهم المشتركة يكون العمل منتجا ومفيدا للمجتمع وتكون المردودية مرتفعة. أما حينما تتضخم ذوات بعض الأشخاص وتغلب نزعاتهم ومصالحهم الشخصية المصلحة العليا (=مضمون الفكرة الجامعة) التي من أجلها بُنيَ التنظيم أصلا، تبدأ شبكة العلاقات الاجتماعية المشكلة له في الانحلال، وتكون محطة الوصول إلى نهاية التنظيم قريبة (نهايته كفكرة، أما الهيكل فيبقى). آنذاك المبادرات الفردية اللامعة التي تبشر بأفكار جديدة أو إسهامات رائقة لن يكون لها أي صدى لأن بنية الاستقبال (داخل التنظيم) للأفكار الجديدة صارت في عداد الموتى!

قرأ بن نبي منذ نعومة أظافره، منذ أن كان عمره 16 سنة، ابن خلدون وشغف به. فراح يتأمل في الواقع سنن وفاة مجتمع، تماما كما تأمل ابن خلدون سنن وفاة دولة، ولكن حري بنا نحن لنستفيد أن نستخلص الدرس الكبير لنمنع وفاة (روح) التنظيمات (وليس هياكلها) فهي أس المجتمعات المعاصرة. ولكن هيهات أن يقع الإنقاذ إذا فات الأوان!  

1 التعليقات

غير معرف يقول... @ 1 يناير 2018 في 2:45 م

هيهات هيهات..

إرسال تعليق