| 1 التعليقات ]



ماركس.. لا مفر لابن الحركة الإسلامية، في بداياته، من تشييد علاقة متشنجة معه. قصتي مع ماركس تبدأ من التعاطي الإيجابي الذي قابلتُ به محاولات مدرسة آل قطب الرد على "اليهود الثلاثة" (ماركس، فرويد، دوركايم) في مجموعة من الكتابات. مرور العناوين التالية : "ماركس" و"الماركسية" و"الحركة الماركسية اللينينية" يتردد باستمرار على ذهنيتي. وأكيد أن تمثُلي لماركس وبقية هذه العناوين كان طافحا بالاختزال والاجتزاء والأحكام الفارغة من أي برهان.
مدرسة آل قطب التي لها أفضال لا تقدر بأي ثمن علي وعلى جمهور عريض من أبناء الحركة الإسلامية، لن أتهمها بالاتهامات المجانية (أي بعد أن "اقتربتُ" من إنسانية ماركس: سألعن مدرستي الأولى و سأتهمها بتعمُد تزييف وعيي). لكن، نذهب مذهب القائلين إنها تجربة بشرية محكومة بسياقات أواخر الخمسينات والستينات حيث اشتد الشد والجذب بين معسكر الشرق (الاتحاد السوفياتي: الذي يزعم أنه حامل لإرث "الماركسية") ومعسكر الغرب الذي يحمل لافتة أخرى. وكان معسكر الشرق بمثابة قطب جذب لجماهير واسعة من الشباب القاطن في الوطن العربي والإسلامي نظرا لتظاهره بالانحياز للعالم الثالث ومناهضة الامبريالية وتغوُل المعسكر الغربي علاوة على احتفاظ الفكر الماركسي ببريق خاص لارتباطه بإثارة المسألة الاجتماعية وقضايا المستضعفين. ومن المفهوم أن نجد أي متصد لرد الفعل، عاكفا على تسفيه أحلام وخطاب صاحب الفعل. و لما بات الفعل هو استقطاب معسكر، يقدم نفسه على أنه حاضن للفكر الماركسي، لشباب الوطن فإن رد الفعل كان هو الانتفاض والنهوض بعزم وإصرار لنقض هذا الفكر بالعودة إلى اختزال رائده في ثياب "اليهودية" أو ثياب "الإلحاد". فإعلان الاتحاد السوفياتي: الإلحاد دينا رسميا للدولة زاد من حدة رد الفعل ومن سواد الزاوية التي يُرى منها ماركس.
اختيار "الاقتصاد" كتخصص مدرسي كان من بين أهدافه الانطلاق نحو إعادة التعرف على ماركس. و تيسر لي بفضل المولى جل و علا الاطلاع على نُثارات من كتابات ماركس (الإيديولوجية الألمانية، المسألة اليهودية، كتابات عن حياته وفكره وهمومه).
كانت أولى المشاهد المضيئة في حياة ماركس التي أثارت انتباهي، وطالما رددتها لزملائي، هو ماركس المهموم بالإنسان والإنسانية جمعاء. ماركس الذي تيقظ وعيه الإنساني المرهف منذ سنينه الأولى وشبابه الباكر. حوالي سنة 1835-1836 وعمره 17 ربيعا (للإشارة فهو من مواليد 1818)، طلب الأستاذ من التلاميذ تحديد متمنياتهم المهنية في المستقبل، أجاب الإنسان ماركس: لا تهمني إطلاقا طبيعة عملي. ما يهجسني ويؤرقني هو أن أعمل ما أقدمه به خيرا وإضافة للإنسانية جمعاء. ذلك هو عهد الكبار أينما كانوا وكيفما كانت ملتهم. لم يلتهوا أبدا بأفق ضيق أو ثراء شخصي وإنما كانت وجهتهم ماثلة نحو خدمة الإنسانية من أي سبيل. فالمقصد هو إسعاد بني الإنسان والطريق غير هام فملامحه ستتجلى بعد حين. وكما يقول أحدهم، لولا هؤلاء لضاقت بنا الحياة.
كانت ثاني الملاحظات التي رفعت عني غشاوة إيديولوجيا العداوة لماركس ذات صلة وثيقة بالبيت القصيد إنها رسالة عبارته الشهيرة "الدين أفيون الشعوب". وعمره 26 ربيعا أي في سنة 1844، في إحدى مخطوطاته، كتب ماركس في نص ينطق بما مفاده أن الدين تعبير على تُعاسة الإنسان واحتجاج على هذه التعاسة، قبل أن يتحدث على أن الدين الموَظف لإسكات الحركة الاحتجاجية و مناهضة الظلم الاجتماعي أفيون ومخدر معيق لحركة الإنسان والمجتمع. إذن، سياق إيراد العبارة الشهيرة سياق تشريف للدين باعتباره عنوان المقاومة والاحتجاج والنضال ضد كل أشكال الظلم والطغيان.
أما ثالث محطة أبرزت لي ماركسا "جديدا" كانت مع مفهومه الشهير بل نظريته المركزية أي "الألينة: الاستلاب، الاغتراب.." حينما كان يصدح إن العامل مغترب عن عمله و عن السلعة التي أنتجها. هنا تجلى ماركس المنافح عن حرية الإنسان الرافض لخضوعه للاستعباد من طرف سلعة صماء أفنى فيها قوة عمله فحُرم من قيمة عمله في نهاية المطاف. إن رحلة ماركس بمثابة مرافعة علمية للدفاع عن حرية وكرامة الإنسان-العامل ضد مساعي تشييئه و استلاب حريته.
كانت رابع الإشارات اللطيفة في مسار ماركس هو وفاؤه للعهد الذي أخذه على نفسه حينما كان تلميذا أي توسل أي طريق لخدمة الإنسانية جمعاء. هنا يظهر ماركس الإنسان من جديد الذي يحترق من أجل الآخرين، والذي بإمكانه أن يعيش حياة كبار أهل الفكر المُترفين لكنه اختار شظف العيش ليذوق مرارة حياة كل المقهورين، هنا يبرز ماركس الذي يعيش على الاستدانة و مساعدات صديقه إنجلز..
إن ماركس الذي في خاطري يُذكرني بالخالق الباري. إن عكوف ماركس، هذا مع "رأس المال" فحسب، 23 سنة منقطعة للبحث والقراءة والحفر المعرفي من السابعة صباحا إلى السابعة مساء  في المكتبة الوطنية لأكبر دليل في نظري على القبس الإلهي المُتضمن في تكوين كل إنسان ابن آدم. فأن ينقطع المرء للمعرفة والبحث عن المعنى ويزهد في الدنيا وملذاتها لأقوى برهان على أننا كائنات ليست ترابا فقط بل موجودات كريمة بروح المولى جل في عُلاه. إننا في معركتنا اليوم ضد نزوعات ما بعد الحداثة غير الإنسانية التي تُروج لإنسان استهلاكي أولا و أخيرا وتختزله  في الجسد بل في عضوه التناسلي. إن  معركتنا لاستعادة إشراقات عهد التنوير بصيغة جديدة فيها جرعات هامة من لفت الانتباه إلى ازدواجية الإنسان تبدأ من تسليط الضوء على إلماعات إنسانية كل عظماء التاريخ أمثال ماركس و غيره الذين اكتووا بالنار ليعيش الآخرين في أجواء العدل والحرية والسلام.  


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





في سنوات السلك الثانوي، كنت أعيش قلق التلاميذ و قلبي هناك مع الطلبة في الجامعة. لذلك لا تفوتني عطلة دون زيارة أجواء الطلاب خاصة في أكادير. كنت أرنو بشكل متحمس إلى ذلك اليوم الذي أكون فيه طالبا و ألتحق بركب التجديد الطلابي. و الأمر الذي كان ينغص عليَ معيشتي ويشوش على حلمي هو كوني منتسبا إلى شعبة العلوم الرياضية التقنية؛ شعبة لم تكن لتُخيرني في شأن مستقبلي، فقد كانت وجهتها إلى تأهيل "المهندسين" صارمة. لذلك كنت طيلة الثانوي أحاول أن أعَوض ما سأفتقده في الأقسام التحضيرية أو معاهد المهندسين. كنت أحاول أن أعيش "الجامعة" في "الثانوية". و ما شجعني على المُضي في ذلك مطالعات يسيرة عن أجيال من التلاميذ المغاربة كانوا يعيشون جو النقاش و التفاكر في فضاءات الثانوية. و إن كنت أنسى لحظات جميلة قضيتها بهوية "تلميذ"، فلن أنسى الأيام الأخيرة التي هددني فيها المدير (حسب كلامه، فالتهديدات جاءت من السلطة المحلية) و ترجاني –بلغته- في والديَ أن أُوقف نقاشا بسيطا و دردشة متواضعة مع التلاميذ في وقت الاستراحة، قائلا: يا بني، دع النقاش.. إلى الجامعة.
كان من مفاجآت الأقدار أن حقق المولى جل و علا الحلم الكبير و جئت إلى الجامعة بعد حنين سنين و سنين. لكن، مع الأسف الشديد لم يكتمل الحلم بل اصطدم بصخرة الواقع الأليم و استحال سرابا لا يسُر الناظين. إذ وصلتُ إلى الجامعة وهي بالكاد منسلخة من أدوارها الاجتماعية و الثقافية والاحتجاجية ناهيك عن العلمية. وصلتُ إلى جامعة العاصمة فوجدتها صحراء قاحلة. وصلتُ إلى الجامعة و لست مبالغا إن قلت إن التجارة السائدة فيها هي تجارة "الغش" في الامتحانات. وصلت إلى الجامعة بعد طول أمل وعناء فإذا بي أمضي كل وقتي خارجها. وصلتُ إلى الجامعة لأعيش فترة القلق و الأرق و النقد و التساؤل و النقاش في كل لحظة لحظة، فإذا بي أجد نفسي بحاجة إلى البحث عن ملاذ آخر لأحلامي خارج الجامعة (مراكز الأبحاث ومؤسسات ثقافية و علمية أخرى..).
لكن انتمائي لركب اسمه التجديد الطلابي مازال يثير بصيص أمل في نفسي (لا بد من تسجيل تقديرينا الكبير للحركة الثقافية الأمازيغية: لكن للأسف فهي غائبة في جامعة محمد الخامس بالرباط على الرغم من كون أغلب مؤسسي الحركة الأمازيغية المعاصرة انطلقوا من هذه الجامعة في أواخر ستينيات القرن الماضي: الصافي مومن علي، علي صدقي أزايكو، بوكوس..).
و التجديد الطلابي التي في خاطري، هي التي نقول في إطاراتها و لا نجد غضاضة في ذلك و لا أحد يمنعنا و هذا من سعة أفقنا: إن الشهيد عمر بنجلون شهيد الشعب المغربي (رغم أن عمر لو طال به العمر يمكن أن يحسبنا ضمن الصف الرجعي و يمكن أن يسلك مسلك زميله المناضل الوطني الكبير محمد اليازغي الذي انسحقت نضاليته و وطنيته في لحظة المطالبة بحل الحزب سنة 2003). إن الشهيد عمر مفخرة حقا و صدقا لنا كمغاربة و ينبغي للشباب و الطلاب المغاربة أن يتخذوه منارة ضمن القدوات المشرقة: فهو في أقل من 24 سنة من عمره القصير كان رئيسا لجمعية الطلبة المسلمين بشمال إفريقيا و كان متفوقا في تخصصَيه (المدرسة العليا للبريد، و القانون العام). و ذاق الأمرين لكي يوفر مستلزمات دراسته حين كان تلميذا، بائعا للبيض المسلوق في القطار.. وكان مناهضا للظلم و الظالمين، على المستوى المحلي (المغرب) و على المستوى الإقليمي (العدو الصهيوني) و على المستوى الدولي (الامبريالية و الاستعمار الجديد).
التجديد الطلابي التي في خاطري، لا نخاف في مقراتها أن نصدح بما يعن لنا من  ملاحظات حول أفكار يابسة. هي التي ندافع في فضاءات انشطتها عن الغائبين الذين يستحقون إنصافا. هي التي نقول في محضنها إن الأستاذ ابراهيم أخياط علم من أعلامنا وكبير من أكابرنا و فاضل من فضلاء وطننا. هي التي نقول فيها باطمئنان إن أحمد عصيد مثقف من مثقفينا قد يحيف، نعم، ويتحامل علينا.. لكن خطابه مهم لتحديث نظامنا و ذهنية مواطنينا. هي التي لا نهاب أن نقول في إطاراتها إن نظرتنا إلى الغرب في حاجة إلى مراجعة و تصويب دون أن نُتَهم بعمالة أو تمييع.
إن التجديد الطلابي التي في خاطري، انعكاس لإرادة التفاؤل و عنوان الصمود وسط الإعصار. إنها وسيلة لكي لا ننسى أننا كائنات عمودية موصولة بالسماء و منفوخة بروح رب الأرباب. و إطار كذلك لإثارة أسئلة العمران و التعايش بين بني الإنسان.



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





بوح لا بد منه. لا أدري لماذا هذا الوقت بالذات. لكنه إحساس يغشاني دائما. يا سادة !مدرستنا عظيمة. وعظمة مدرستنا و تميزها لا أنسبه، لما قد يعنُ لبعض الأفاضل من تميز في انتهاج منهج "وسطي" أخرج البلاد من الانسداد. كلا! فرادة مدرستنا ترجع إلى كونها كانت المحضن الأول –ومازالت- لمجموعة مُقدرة من الفاعلين؛ هي التي تساهم بقدر هام وجليل في تحريك المشهد المغربي الفسيح. دعونا من السياسة فمساهمة خريجي مدرستنا فيها لا يخفى حتى على الأطفال في الشارع. فالمقصود هنا –بالتأكيد- المشهد الثقافي والفكري والإعلامي والعلمي.
لا يهمُني أن يكون هؤلاء الفاعلون من الباقين أو المغادرين لقطار المدرسة. نعم، قد يكون بعضهم منتسبا حاليا إلى جوقة المتحاملين والحاقدين. لكنه، على أية حال، موقف أخلاقي والإنسان حر في نهاية المطاف. رغم أني، أُرجح كون التحامل والبغضاء أمر راجع غالبا لسلوكات غير أخلاقية أيضا نابعة من أبناء المدرسة الذين يتزيدون في الحرص عليها والغيرة على مشروعها ويتوسلون إلى ذلك حدة في الخطاب.
نعم، إني أعتز حقا إن مدرستنا كانت يوما محضنا للدكتور عبد الرحيم العلام على سبيل المثال. واضح أن الرجل له مواقف مغايرة تماما لخط مدرستنا في المسألة السياسية و النظام السياسي بالأساس، والتي قد لا أتفق معها بدوري إجمالا لكني أسجل تعاطفا مع بعض جوانبها. لكن هذا لا ينفي أنه باحث شاب مقتدر و متمكن وواعد في الفكر السياسي والعلوم السياسية وحالة خاصة في العطاء غزا المنابر الإعلامية في زمن قياسي وآراءه بات يتلقفها الشباب الذي يشترك معه في الموقف من النظام السياسي. إن آراءه وأطاريحه، وهذا هو بيت القصيد، غنية ومطلوبة والحاجة إليها قوية. لأن التاريخ لا يمكن أن يسير بل سيركد إذا قاده فقط و بارتياح أصحاب أطروحة المحافظة السياسية (أي المهادنة المطلقة مع النظام). لأنه لا مفر لنا من الملكية البرلمانية في يوم من الأيام.
إن المتتبع المدرك لمراكز الأبحاث والدراسات السائدة في الوطن، لا شك أنه لن يخطئ كون جل القائمين عليها و المشتغلين في إطارها من الذين خرجوا من رحم مدرستنا. إنه لأمر يبعث على السرور بالنسبة للمنتسب الواسع الأفق الغيور على هذا الوطن المحبوب. أؤمن دائما أن الهام هو أن يكون الإنسان صادقا (أقصد الصدق في تحري الصواب: و هذا أمر لا يدريه إلا ربنا جل في عليائه) وجادا في بحثه. وليقل ما يشاء، لأن الله حسيبي و حسيبه (على ما لا نعلمه). . إن الدكتور مصطفى بوهندي –على سبيل المثال كذلك- الذي اثارت آراؤه عجيجا وضجيجا (لم يتيسر لي أن أقرأ له إلا كتاب "نحن و القرآن") إن بوهندي؛ فخر لمدرستنا أنها كانت  مأوى أسئلته الأولى. والحركة الثقافية والعلمية، مرة أخرى، لن تتحرك في بلدنا إلا بوجود بوهندي ونقيضه؛ وربما لنا الشرف أن نُخرجهما معا: ونحن حركة اجتماعية دورنا في هذا البعد هو تحريك المشهد وإدارة عجلة التاريخ. وأعجبُ للذي يضيق حنقا بوجود بوهندي ومن على شاكلته (رغم أني لا أشايعهم): إن وجود بوهندي هو الذي خلق لك وجودا قوامه "التصدي لتشغيباته"!
جريدة مدرستنا (التجديد) أسهمت في تخريج كوكبة من الإعلاميين المتميزين (عليموسى، الكنبوري، حمودي،...) انتقلوا إلى الصحف الوطنية الكبرى (المساء، أخبار اليوم..). إنه لأمر يبعث على الاعتزاز بمدرستنا أيضا.
كبار المتصدين للشأن العلمي في بلدنا مروا من مدرستنا. قادة الرابطة المحمدية للعلماء (أحمد العبادي، عبد السلام الطويل..). رئيس جامعة القرويين ( الدكتور الروكي). المجلس العلمي الأعلى (المرحوم فريد الأنصاري، الدكتور مصطفى بنحمزة..). الشيخ الزمزمي و الشيخ عبد الله نهاري؛ جميعا يساهمون في قلقلة أركان الخطاب الديني في بلدنا. لا يُهمني هنا التوقف على موقفي من آرائهم ومفارقاتها بقدر ما يؤرقني تقريب فكرة "كوننا مدرسة استثنائية" أبناء مدرستنا هم الذين يحركون الرأي العام الديني أيضا.
كثيرون هم أبناء مدرستنا (سواء الأوفياء أو العاقين: ربما كانوا ضحية لسلوك غير أخلاقي-إشكال نفسي أو اختاروا  الانسحاب. والإنسان حر في قناعاته يا سادة. المرفوض هو التحامل المجاني) الذين يسجلون حضورا نوعيا في النخبة المؤثرة في بعد من أبعاد المشهد المغربي الراهن. منهم  كوكبة منيرة من أبناء الجنوب؛ و أعتز في هذا السياق أن من بين أنجب عناصرهم أبناء مدينتي تيزنيت.
في المسألة الفكرية والعلمية أنجبت مدرستنا أنجب التلاميذ بل قل الأساتيذ. أن يكون الأفاضل امحمد جبرون والطيب بوعزة ورشيد الراضي ومحمد همام.. ضمن قطارنا فهذا أمر حميد. و قد نختلف معهم وهو حق أكيد.
في هذه العُجالة التي جاءت بعد انفعال نفسي مع الأم (=مدرستنا). لم أقصد أن أذكُر مواليد مدرستنا الذين مازالوا يشتغلون تحت يافطتها ولهم آثار طيبة في أوساط المجتمع و هم فضلاء كُثر (وعلى رأسهم: الدكتور سعد الدين العثماني، الأستاذ عبد الإله بنكيران، الدكتور أحمد الريسوني، الأستاذ المقرئ الإدريسي أبو زيد)، وقد يأتي يوم نزور فيه تقديرنا لهم وما يبدو لنا في آرائهم. وإنما قصدي التعريج على بعض من لم يُشتهر في أوساط القواعد أنه كان هنا. وهذه الفئة شقت طريقا متميزا في المشهد المغربي في ناحية من نواحيه، حق لنا أن نفتخر بها مهما اختلفنا معها إن كنا واسعي الأفق ومن أهل رحابة الصدر.
إن الحركات الاجتماعية المتغلغلة في الشعب ليس غريبا ولا عجبا أن تكون مأوى بل دافعا –و لو بشكل غير مباشر- لتشكُل النخب و الصفوة القائدة للمشهد الوطني.  وعظمة حركتنا الرائدة (التوحيد والإصلاح) تتجلى في أنها كانت مدرسة خرجت قادة الشعب المغربي، على أني أسجل في هذا الصدد أننا مازلنا في المرحلة الموالية للبداية يعني مازلنا نتحمل شرف ومسؤولية إيواء النخب وتخريجها (خاصة في المجال الفكري و الفني الذي أصبنا فيه بشبه تعقيم فيما مضى وبدأنا نتعافى منه).  
إن المدرسة التي تستدعيها ذاكرتي دوما حين أذكر مدرستنا هي المدرسة الاتحادية التي لا تُقدر أفضالها على الشعب المغربي بثمن. إن المدرسة الاتحادية مدرسة الشهداء (المهدي، عمر..) والعمالقة (الجابري، العروي..)  هي التي تغزو منتوجات خريجها الأسواق الثقافية المغربية. إنها ذات المدرسة التي قبضت على جمر "الإصلاحية" في زمن العنفوان الثوري في 1975 و لولاها بصدق لعشنا تاريخا آخر: و دائما أقدر أن مدرستنا تنحو نفس منحى المدرسة الاتحادية؛ تقبض على جمر الخط "الثالث"، تقديرا لمصلحة الوطن (وهو مجرد اجتهاد سياسي قابل لأخذ والرد)، في زمن الحماس الثوري مع 2011. غير أن مدرستنا مازالت بحاجة إلى اختراق السوق الثقافي (وهناك مبشرات تعكسها أجيال شابة أغلبها خريجة العمل الطلابي لكنها مازالت محدودة بالنظر إلى المطلوب، أما بالمقارنة مع ما سبق فهي قفزة بلا شك) لتكون الوريثة بحق للمدرسة الاتحادية في انتظار وليد جديد ومدرسة أخرى. وهنا أُسجل أن الحركة الأمازيغية بدورها مدرسة ومازالت ببريقها ساهمت أيضا في تخريج  قادة في المشهد المغربي الراهن (على سبيل المثال؛ الأستاذ أحمد عصيد استقطب في نشاط ثقافي سنة 1982 وسنه 22 سنة: لا ريب أننا نختلف معه وقد نتفق معه في كثير من القضايا لكنه يبقى مساهما من المساهمين في صياغة المشهد المغربي المعاصر: نريد مغربا للجميع ولا يمكن إلا أن يكون كذلك وإلا سيتوقف التاريخ).
باختصار؛ إن المدارس الكبيرة من الحركات الاجتماعية هي التي تُخرج نُخب حقيقية. ومدرستنا (التوحيد والإصلاح، وما يدور في فلكها) مدرسة استثنائية معطاءة. علينا أن نتخفف من أثقال التاريخ المثخن بانفعالات نفسية لا غير، لنعتز بأبنائنا (على عقوق بعضهم لنا: لعله خير). والفكرة الجوهرية التي ينبغي أن يلتقطها الذي من مازال يقبل -على مضض- بالآخر المُختلف مفادها أن وجود المُختلف: العلام، بوهندي، عصيد.. هو سبب وجودي، وإذا انتفى هؤلاء و انعدم بعض المختلفين الآخرين، فما مبرر وجودي وما مصيري سوى التهلكة ! إن التاريخ يعلمنا درسا بليغا: إنه يسير بفعل التفاعل بين المختلفين و"المتصارعين" و إلا فالحياة ستقف وستصير بدون معنى. فالمختلف معي يُسدي لي خدمة جليلة في الحقيقة. والله يتولى السرائر وهو حسيبنا نسأله الفردوس الأعلى  لنا جميعا.





...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





في صيف (2014) الذي تلا تَخرجنا من المدرسة بشهادة الباكالوريا، صادفتُ أحد الأصدقاء الذي جَايَلني و زاملني في الابتدائي و حصل على شهدة الباكالوريا من تخصص تقني. كان معي كتاب عن العمل النقابي الطلابي.  انغمرنا معا في نقاش حول رحلة ما بعد الباكالوريا، بعدها تذَكر صاحبي أن معي كتابا فرام أن يكتشفه. لكن ما إن قرأ العنوان و أدرك المضمون و طبيعة الموضوع حتى راح يلقي موعظة حول أهمية انتقاء الكتب المقروءة مؤكدا أنه لن يقرأ ذات كتاب و لن يُضيع "وقته" في هكذا موضوع. ربما أسرف صاحبي في شفافيته ! لكن ما عساني فاعلا فقد ختم آخر عهد لي به بتلك الموعظة التي لم و لن أنساها !
دائما عندما تُذكَر القراءة للتلاميذ و الطلاب؛ يستهدف المُبشرون بفوائدها عادة "اكتساب الأسلوب للإجابة بإجادة على الإنشاء" و قلما تجاوزوا هذه الفائدة. و مؤخرا، مع تنامي المدارس الخاصة و ضعف مكانة اللغة العربية في المنظومة التعليمية، صار أولياء التلاميذ و المُتصدون لتوجيه الطلاب يركزون في دعوتهم إلى القراءة على "المطالعة باللغة الفرنسية فقط"، لهذا تصاعدت أسهم "باولو كويهلو" مثلا في أوساط الشبيبة المغربية في الآونة الأخيرة. على كل حال فالدعوة إلى القراءة بالفرنسية كان وراءها حقيقة تخترق الواقع المغربي مفادها أنه لا مستقبل دراسي لأي تلميذ أو طالب بدون الفرنسية (أي، ابتداء، القدرة على التحرير و الإنشاء بالفرنسية).
في ظل هذا المناخ، معدل القراءة مازال منعدما. المستوى الفكري و الثقافي لأغلب الطبقات الاجتماعية (سواء المعدومة، أو المتوسطة، أو المُترفة) يكتسحه شلل شبه كلي بنسب متفاوتة. الناس يلهثون وراء "اليومي". بعد نيل "كسرة الخبز" يشرعون في البحث عن معنى آخر في الحياة، عن توازن مفقود، عن شيء خاف معدوم. أما غير الحاصلين على "الخبز" فحلمهم و معنى الحياة بالنسبة لهم، طبعا، هو "الخبز".
دعوى حصر فوائد القراءة في التمكن من تدبيج الإنشاء سواء بالعربية أو الفرنسية، لم تأت من فراغ. فالآباء و الأولياء و المتصدون لتوجيه الطلاب و التلاميذ جزء من نسق اجتماعي همُه، كما سبق، هو "الخبز" و الرغبة في تأمين حصول الأبناء على "الخبز". و هو أمر طبيعي. و "الخبز" لن يتم توفيره بدون المرور من مسطرة تتطلب إجادة الإنشاء بالفرنسية أولا و العربية قليلا.
بالكاد يُفلح هذا الخطاب المُبشر بالقراءة في استقطاب الشبيبة (الطلاب و التلاميذ). حتى و إن نجح، فاجتياز الشبيبة لكل محطات المسطرة بنجاح يدفعها نحو تطليق "القراءة" (هذا في حالة الزواج !) لأنها استنفذت أغراضها. هكذا لأن الفائدة المرتجاة من القراءة تم قصرها على بُعد مادي نفعي براغماتي مؤقت. و موعظة صاحبي الذي امتعض من كتابي جاءت في هذا المساق و هي محكومة بنفس السياق و بذات الدلالات.
لقد اتضح بالأرقام، أن القنوات الفعالة من قبل في عملية القراءة لم تعد مؤثرة. فلم تعد لدى المواطن القارئ نفس الحوافز. و بذلك لم تعد هناك قراءة تقوم على الحوافز الفردية و المصالح الحزبية و الرغبة في حل القضايا و الإشكاليات العامة من وجهة النظر الحزبية و الإيديولوجية أو البحث عن مميزات شخصية في سياق التنافس النضالي. (أحمد الرضواني. القراءة العمومية بالمغرب. العدد 73. مجلة فكر و نقد. نوفمبر 2005).
إذن ، في السابق، ظلت الفئات القليلة المحظوظة، بفضل تسَيُسها، مشدودة إلى القراءة. و منذ مطلع التسعينات، و السياسة تفقد بريقها لصالح النهج التقنوي المتواطئ مع حسابات البنك الدولي. و كانت النتيجة اللاحقة انسحاب المُسيسين و الطامعين في الانتساب إلى عالم الفكر و الثقافة أو تدجين بعضهم و احتواؤه ضمن التكنوقراط. اليوم، بعد أحداث 2011 و الخُطى الأولى في استعادة الأمل و استرداد السياسة و استعمال "الفايسبوك"، ثمة انتعاش في مستوى تسيُس الجماهير لكنه مازال مصحوبا بالشلل الفكري. لهذا يلزم مصاحبة هذا الانتعاش بالإقبال على القراءة و البداية من هذه الموضوعات المثيرة للسجال (التاريخ السياسي للوطن بعد استقلال 1956، طبيعة النظام السياسي، الحقبة الاستعمارية و ما دار في أطوائها من مقاومة و نضالات وطنية، تاريخ الأحزاب السياسية و الحركات الاجتماعية القائمة في المجتمع المغربي، تاريخ الإصلاحات التعليمية، مسار التحديث..).  

نستجمع الكلام؛ إن أزمة القراءة مرتبطة أولا بأزمة الخطاب المُبشر بأدوار القراءة. فتضخيم المنافع المادية المؤقتة و إغفال الأدوار "المعنوية" الأكثر أهمية هو أول الأدواء، وجب علاجه أولا. إن هذه المرحلة التاريخية الثقيلة (التي يحتدم فيها "الشذ" و "الجذب" بين نزوع التسيس و نزوع التقننة) التي نمُر بها فرصة هامة لغرس "كنه" القراءة العميق في ذهنية الشبيبة المغربية.  إن "كنه" القراءة، الذي غفل عنه صاحبي، هو أن تفهم الحياة و تدرك المحيط الذي تتحرك فيه و تعرف سبب ما يعتمل في وسطك من"عجيج" و "ضجيج". و إذا استبطن المرء هذا المعنى، فلا خوف عليه حينئذ: في المدرسة، أو أمام الإنشاء، أو من ضرورة الأسلوب، أو القابلية للاستبداد، أو الخضوع للتدجين و الاستيلاب.. إن "كنه" القراءة هو الرغبة في إسقاط الأفكار اليابسة العالقة بأذهاننا و الاستعداد الدائم لصدمات كهربائية معرفية عن عالم الإنسان و الحياة اللذين تغشاهما الأسرار بلا انقطاع. إن "كنه" القراءة هو السعي لإيجاد ذلك التوازن المفقود بعد الاستجابة للمطالب المادية في الإنسان (الخبز..)، إنه الانشداد إلى حياة أخرى (بتعبير العقاد).


...تابع القراءة