| 0 التعليقات ]





من المعاني الجليلة، المفروض علينا اعتناقها بقوة، الصدق في المواقف و الثبات على المبدأ و الوفاء للخط و القيم.. وهي معان لا يحملها إلا الكبار عبر التاريخ ابتداء بالأنبياء والمرسلين وانتهاء بمن ينهل من ذات المعين من رجالات العمل الوطني الصادقين..
هو خط، إذن، يعكس إنسانية الإنسان وكونه قبسا من روح الله؛ إذ يترفع المرء عن المصالح الضيقة العاجلة والمغانم القريبة ويتيقن من الثمار اليانعة والنتائج المشرقة لخط الصدق و مسار الوفاء للقيم.
إنه نموذج، يوجه ضربات قاصمة وردودا قوية لنموذج يراد له الانتشار بين البنين والبنات؛ نموذج الذل، نموذج يبيح للإنسان خذلان القيم والجرأة على الكذب وبيع الضمير في سبيل نجاح زائف..
إنه برهان ساطع، يُؤكد أن لا خوف من شيء في الدنيا قبل الآخرة، إذا ثبت الإنسان على الحق و كان ديدنه الصدق. لا خوف من المستقبل و إن لاح برهة مظلما، فالمستقبل، في نهاية المطاف، للقابضين على الجمر والثابتين على الخط والأوفياء للقيم؛ فالحياة خلقها من اسمه "الحق" و لا هناء فيها – نفسيا على الأقل – إلا لمن عانق الصدق و الحق..
  هنا، سنعرض  لموقفين من مواقف رمزين وطنيين كبيرين في شبابهما المبكر يعكسان بقوة ما ذهبنا إليه من كون الصدق والوفاء للقيم خط كله خير.

. موقف التلميذ محمد عابد الجابري:

الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله، من رجالات هذا الوطن الكبار على الأقل في الفكر، حريٌ بنا – نحن الطلبة والتلاميذ – الاطلاع على سيرته ومسيرته عسانا نقتفي آثاره في بعض المواقف و المشاهد.
هو من مواليد أواخر سنة 1935 بمدينة فجيج، تنقل بين عدة مناهل للتعلم؛ من المسيد إلى مدرسة في فجيج إلى مدرسة وطنية "النهضة المحمدية" في ذات المدينة إلى مدرسة إعدادية في وجدة ثم استقر به الحال في مدرسة وطنية بالدار البيضاء. في سنة 1953 كان الصدام قد بلغ نقطة "اللاعودة" بين الاستعمار والإرادة الوطنية، تم خلالها نفي أساتذة المدرسة الوطنية واضطهاد أطرها مما أدى إلى توقيف الدراسة في هذه المدرسة. فاضطر التلميذ محمد عابد للاشتغال مع عمه الخياط. لكن هذا الشاب كانت نفسه تطفح تحديا للواقع.
"فكان القرار الحاسم الذي اتخذه صاحبنا هو ترك الخياطة ومواصلة الدراسة، وهكذا فما أن بدأت المدارس تفتح أبوابها في أكتوبر 1953 حتى قصد صاحبنا مدير "الثانوية الإسلامية" وهي الثانوية الرسمية التابعة للتعليم الفرنسي بالمغرب و الخاصة بالمغاربة المسلمين وحدهم – بالدار البيضاء – بينما كانت "ثانوية اليوطي"  مخصصة أساسا لأبناء الجالية الفرنسية.
استقبل هذا المدير الفرنسي صاحبنا ذات صباح بوجه بشوش وأجرى معه محادثة بالفرنسية كان ينوي اختبار مستواه فيها، وذلك بعد أن اطلع على دفتره المدرسي كأحد المتفوقين في اختبارات السنة الخامسة ( الثانية إعدادي ) وفي نهاية المقابلة قال المدير لصاحبنا: " أنا أتفهم وضعيتك ولا أرى مانعا في التحاقك بالسنة الرابعة عندنا ( الثالثة إعدادي ) و لكن لا بد من أستشير الأساتذة. عد عندي بعد أيام". و بعد أسبوع عاد صاحبنا يطلب مقابلة المدير فاستقبله لبرهة من الزمن قائلا: "لم أتمكن بعد من أخذ رأي الأساتذة، عد بعد أيام". وبعد أيام عاد صاحبنا ليتلقى نفس الجواب من المدير.
ثم إن صاحبنا التقى صدفة بتلميذ كان قد التحق بالثانوية المذكورة، في الفترة نفسها، قادما من مدرسة ثانوية رسمية من مدينة أخرى، وحكى له مماطلة المدير وتسويفه، فما كان من ذلك التلميذ إلا أن ابتسم ابتسامة من يخاطب شخصا أخطأ الطريق وقال له: "إنك تتعب نفسك. اذهب واشتر ديكين روميين من السوق المركزي (سوق خاص بالجالية الفرنسية) واحملهما إلى دار المدير وادفعهما للحارس مع ورقة فيها اسمك، ثم عد إلى المدير بعد ذلك بيوم أو يومين ومعك أدواتك المدرسية". ثم أضاف التلميذ: "ذلك ما فعلته أنا، و فعله من نصحني بذلك وأنا أنصحك بدوري".
"ديكين روميين"... رشوة.. إلى مدير فرنسي !
أحس صاحبنا بأصوات الرفض تنبعث فيه من كل جانب: من قلبه وعقله.. وأبيه، من الحاج محمد، من السي بوشتى.. من كل ما يمثل في كيانه الكرامة والحق والوطنية. وبدأ يحس بصراع في داخله وبنوع من القلق يدب في نفسه فقرر الحسم في الأمر حسما تاما و نهائيا..
وهكذا صرف النظر عن الالتحاق بتلك المدرسة وعقد العزم على أن يدرس بنفسه برنامج الشهادة الثانوية (الإعدادية) و يهيئ نفسه بنفسه للتقدم إلى امتحاناتها كطالب حر." ( محمد عابد الجابري. حفريات في الذاكرة. ص:181-182-183).
إن هذه القصة تستحق حقا  ذيوع الصيت خصوصا في أوساط الأجيال الصاعدة (التلاميذ و الطلبة ) خاصة وأن التلميذ الذي عاشها هو فيما بعد المفكر الكبير محمد عابد الجابري الذي أطبقت شهرته في الآفاق. إنها تذكرة بالأصوات المطلوبة: رفض الظلم والرشوة والفساد.. إنها قصة تؤكد مرة أخرى أنه لا خوف من الوفاء للقيم.
ذوو الرؤية القصيرة سيهتفون للشاب محمد عابد؛ ما المشكلة، يا أخي، "ديكين روميين" فقط ! و تعود إلى مقاعد الدراسة و تؤمن مستقبلك. لكن الشاب أجاب عبر سلوكه: بئس المصلحة إن كانت خيانة للقيم و المبادئ ! بئس النجاح إن كان على حساب الصدق في الخط و الوجهة !
أنا لأحد من التلاميذ و الطلبة أن يقول بعد قراءة هذا المشهد: لا مفر من استعمال وسائل الغش للنجاح و التفوق بدعوى شيوع ظاهرة الغش في أوساط جل المتعلمين. أنا لهم أن يقولوا هذا، وقد رأوا الشاب محمدا عابد الجابري انقطعت به السبل ومستقبله الدراسي كله مهدد، لكنه صمد واحتسب ووفى بالعهد وثبت على القيم..
إن الرسالة واضحة، هنا، إن هذا الكون يسير بمشيئة الله جل علاه، يسير بمن اسمه "الحق". و بالتالي لا خوف عليك، إن كنت صاحب حق و ثابتا على عهد ومستمرا على خط الصدق ورفض الرشوة وكل ألوان الفساد.. الخوف – كل الخوف – على مسارك، إن خذلت القيم وأصررت على خذلانها وجانَبتَ الصدق في المواقف التي وقفت عليها واتخذت الغش مطية لتحقيق نجاحاتك.

2. موقف التلميذ المهدي المنجرة:

رجل غادرنا في يونيو2014، صدق في الموقف وثبت على الخط وانحاز للوطن وكتب "قيمة القيم"، هو الدكتور المهدي المنجرة رحمه الله.
 ولد المهدي بمدينة الرباط سنة 1933، تابع دراسته بالمسيد ومدرسة غورو. بعد الحصول على الشهادة الابتدائية التحق بليسي "ليوطي"، والمثير أنه كان يحصل كل سنة على التوبيخ، و هو ما دفع بهذه المؤسسة إلى طرده بحيث كان من غير الممكن نهائيا أن يعود إلى هذا الليسي، مما دفع بوالده إلى اتخاذ القرار بأن يسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية. سبب غضب مؤسسة "ليوطي" يتعلق بتوبيخات سياسية في الحقيقة، ذلك أن المهدي كان يحصل دائما على نقط دون المستوى في مادتي الفرنسية والتاريخ، لا لضعفه اللغوي و التعبيري، بل لأن أحد أساتذة اللغة الفرنسية كان يشترط للحصول على نقطة جيدة الإشادة بالعلاقات الفرنسية-المغربية.
يقول المهدي معلقا على هذه الذكرى: "إنني حين أتذكر مثل هذه الوقائع أشعر باعتزاز عميق، إذ على المرء ألا يكبت انفعالاته، وألا يستسلم لقبول الأوضاع كما هي، وعليه أن يحرص على معانقة التساؤل المستمر".( محمد بهراجي وحسن نجمي، المهدي المنجرة: مسار فكر، ص: 16).
إنه  الموقف الكبير المتعلق برفض بيع الضمير وتزييف التاريخ من طرف التلميذ المهدي، كلفه ذلك الطرد من مؤسسة كبيرة في وقتها "ليسي ليوطي". لكن نزاهة الضمير أولى و الوفاء للذاكرة أقوى عند التلميذ المهدي. إن الاستعمار استغلال للعمران وتحطيم للإنسان؛ فما الفائدة من الكذب والإشادة بالعلاقات المغربية-الفرنسية؟  هكذا ينطق الوعي المبكر للشاب المهدي.
إن التلميذ المهدي ضحى بالنقط في سبيل الفكرة الوطنية التي يعتنقها، في سبيل الصدق. فماذا وقع له بعدئذ ؟ هل الطرد من ليسي "ليوطي" معناه الفشل، معناه أن التاريخ انتهى؟
كلا ! فالتلميذ المهدي يسر له الله سبحانه وتعالى الذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال دراسته سنة 1948  حيث ألقى هناك عدة عروض أمام زملائه الأمريكيين حول عدة قضايا من بينها عرض حول "التاريخ الأمريكي" يُلفت فيه النظر إلى ظاهرة الامبريالية. فالقضية التي يحملها على عاتقه؛ الصدق مع الوطن و معاداة الاستعمار  والامبريالية والتي بسببها طُرد من "ليوطي" لم يفارقها حتى في أمريكا. وبعد ذلك صار البروفيسور المهدي من كبار المفكرين المعادين للامبريالية والاستعمار الجديد في المؤسسات الدولية (اليونسكو التي اشتغل بها).

إن هذه أمثلة فقط. أما مواقف رجالات هذا الوطن الكبار منذ مرحلتهم التلمذية والطلابية فهي منارات بحق للأجيال الصاعدة (التلاميذ و الطلبة)، وجب تسليط الضوء عليها لنستفيد منها ونقتفي أثرها. فهي تؤشر على أن الصدق في المواقف والثبات على المبدأ والوفاء للقيم وجهة صحيحة تحمل الإنسان دائما إلى بر الأمان.


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]






الحركة الإسلامية المعاصرة، منذ ميلادها في العقود الأولى من القرن الماضي حملت أشواق إخراج الأمة من حالة التيه. تناسلت عدة أحداث بعد النشأة و الميلاد و اشتداد العود حتى وصلنا إلى مرحلة المد و الجزر بين بذور الانتفاضة و جذور الاستبداد.. السؤال الذي يبقى دائما متجددا، ما الذي بقي من دور للحركة الإسلامية  في المرحلة الراهنة ؟
شعار "إقامة الدولة الإسلامية"، من المؤكد أنه بات مهلهلا. فخطاب الحركة الإسلامية الناضجة استبعد هذا الشعار. تحرير فلسطين، لا ريب، أن الحركة الإسلامية المقتدرة "حماس"( و معها حركة "الجهاد" أيضا) مازالت وفية لخط الكفاح و ثابتة على هدف التحرير الشامل، و غير خاف، أن كل الحركات الإسلامية على ذات المساق.. 
لكن القضية الجديدة، التي تشكل تحديا واضحا للحركة الإسلامية، هي التغول السافر للنزعة الاستهلاكية في أوساط مجتمعاتنا. هذه النزعة التي تحطم الإنسان و استعداداته للعطاء؛ تشكل خطرا يفوق، في تقديري، التحدي الفكري الذي واجهته الحركة الإسلامية في العقود الماضية. لأن هذا التحدي الفكري ( سواء الماركسي أو الليبرالي ) ساهم بطريقة أو بأخرى في تنضيج خطاب الحركة الإسلامية. أما التحدي الجديد، فخطبه أشد لأنه، من جهة، يقتل قابلية التضحية من أجل المجتمع و الأمة في نفوس الأفراد بل يسهم في فتور جاهزية أبناء الحركة الإسلامية للعطاء بلا أخذ و خدمة الناس بلا طمع..
المسلم المعاصر أمام هجمة موجة الاستهلاك يفقد كليته الإنسانية و بوصلته القيَمية  و بالتالي يحتاج إلى عقيدة صافية نقية تستند إلى المرجعية القرأنية (لا تعقيدات في فهمها و لا حاجة لاستحضار الجدالات التي دارت بشأنها في القرون الأولى في "علم الكلام") كما يحتاج إلى حاسة قوية "التقوى"  تكبح المنزع الاستهلاكي أو على الأقل تهذبه.
من هنا، الحركة الإسلامية من واجبها في المرحلة الراهنة، أن تنحو منحى التبسيط من غير إخلال في خطابها، تُذكر بقيمتين إسلاميتين خالدتين كفيلتين بمجابهة السيولة الاستهلاكية.
-          قيمة "التقوى": هي إبداع إسلامي خالص، تشير لشعور دفين في أعماق وعي المسلم تجاه كل سلوك مناف للشرع و كل تساهل في القيام بالواجب. تُشكل  حصنا منيعا للمُتشبث بها أينما كان. هي المَقود الذي يقود المسلم إلى الإحسان في المعاملة و العمل و نبذ الغش و الكذب. هي الحاجز النفسي الذي يدفع عنه نزوعات التهام كل الأطعمة و ارتداء كل الألبسة  و امتلاك مختلف الهواتف الذكية و الالتصاق بجديد السيارات الفارهة و اللهث وراء ألوان مساحيق التجميل المُزينة.. 
-          قيمة "التحرر": هي التحرر من كل المعبودات من دون الله جل في علاه. تفوق أهميتها من وجهة نظر إسلامية المعاني التي تُلبس لها من اليسار عموما. لأنها رفض للضيم و الاستبداد، نعم، مواجهة للظلم و الطغيان، نعم، حرب على الاستغلال و الاستعمار، نعم.. و تهذيب راشد لنوازع النفس المادية أيضا و الاستهلاكية منها خصوصا. هي ذات القيمة التي تحرك أبطال المقاومة في غزة العزة إذ يكتفون في مشهد مهيب و في شهر عظيم (رمضان) بالفطور بنصف ثمرة بعدما انقطعت بهم السبل في عملية بطولية (المكوث في الأنفاق ما يقارب العشرين يوما).

أمام الحركة الإسلامية، الصادقة في خدمة الدين و الأمة و الوطن، رهانات كثيرة في المرحلة الراهنة. عموما هذه الرهانات تنحو إلى اتجاهين؛ اتجاه تصفية الأفكار و القيم الميتة، التي تفرز ظاهرة "الداعشية" و "الجهاد بلا بوصلة" أي الإرهاب بصفة عامة و قتل الأبرياء و التي تؤدي أيضا إلى  التضخم الشكلاني في التدين و التطرف السلوكي و معاداة الاختيار الديمقراطي و استعداء أفراد المجتمع و تكريس الطائفية فيه. و الاتجاه الثاني يصب في إطار تصفية الأفكار و القيم القاتلة، التي تدعم النزعات الاستهلاكية الجارفة  و تروج للقيم المادية المسمومة و تقتل حس الانتماء للوطن و الأمة و تعادي خيار التحرر و المقاومة في القضايا المصيرية كالقضية الفلسطينية.


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





إن مشكلة المعنى في وجدان الإنسان المعاصر إذا لم نلتفت إليها بشكل جدي، فحتما لن نجد حلولا للانحرافات الاجتماعية التي نواجهها. هذه المقالة محاولة أولية لمقاربة سؤال: كيف نحس بالمعنى؟ أي كيف نستعيد الذاكرة و نؤمن بالقضية؟

1-      التأمل و التفكير الناقد:

إن التفكير الناقد و التساؤل المستمر و القراءة المتدبرة مدخل ضامن لولوج عالم المعنى: عالم الإنسان الحقيقي المحفوف بالأسرار و الحكم. كما أنه محاربة لتبلد الحس و إزاحة للركام العالق بالفطرة و الاستغراق المُشين للإنسان في حمأة المادية.
    
إن التجربة الإيمانية للأنبياء سلام الله عليهم تؤكد أنهم – خصوصا في بداياتهم -  في رحلة ممتدة عبر الزمان و المكان للتأمل في معنى الحياة و  استكناه عميق لرسالة الإنسان. فهذا خليل الرحمان يتأمل في سر الحياة و خالقها و يحاول أن يتلمحه في الشمس و القمر.. إلى أن وجد الرحمان. و هذا رسولنا الكريم يختلي مرارا بنفسه في غار حراء قُبيل البعثة لعله يرمق الفجر من بعيد..
كما أن التجربة الفكرية للفلاسفة و المفكرين لصيقة بالتأمل في كنه و معنى الحياة. فهذا سقراط يقضي ساعات طويلة تحت الشمس اللافحة (من الفجر إلى الظهيرة) يستغرق في التأمل. و هذا ديكارت لم يخرج من خلوته ( في قرية  بألمانيا ) في إحدى أيام نونبر سنة  1619 ( عمره آنذاك 23  سنة ) إلا بعد أن بزغ له الصبح و اتضحت له معالم المنهج بعد كبد التأمل؛ إذ كان يقضي اليوم كله وحده منصرفا إلى التفكير. و هذا نيتشه لم يخرج بإعلانه الشهير في صورة" زرادشت": لقد ماتت جميع الآلهة، و نريد الآن أن يعيش الإنسان الأعلى (السوبرمان). لم يخرج معلنا المعنى الذي لاح له في الحياة إلا بعد عزلة تأملية في قمم جبال الألب..

2-      قراءة سير المناضلين من أجل القيم الشامخة:

من الوسائل الرائدة في توجيه الإنسان – خصوصا في مطلع شبابه – إلى استعادة المعنى؛ إدمان قراءة السير و التراجم.
 و البداية، من الأهمية بمكان، أن تكون مع الأنبياء و المرسلين حملَة قيم التحرر و رسالة التحرير للعالمين و على رأسهم محطم الطواغيت رسولنا الكريم صلى الله عليه و سلم. فالاطلاع على مسيرة تحملهم للضيم في سبيل دعوة الناس للتحرر من الدينونة للآلهة الزائفة و توحيد رب العالمين، تدفع الإنسان لاستصغار نفسه؛ إذ تلوح له حقارة اهتماماته و تفاهتها أمام الانشغالات الحقيقية التي ينبغي أن يعانقها من تذكير الناس بربهم و النضال من أجل تحررهم..
إلى جانب الصفحات المشرقة للأنبياء و المرسلين، تأتي سير الصحابة (و الصحابيات) و سير الصالحين  (و الصالحات) لتعمق بدورها القيم الشامخة المطلوبة في وجدان الإنسان  خصوصا عندما لا يزال متمتعا بقابلية التغيير في مطلع شبابه.
 إضافة إلى  سير رموز الحركة الوطنية و الإسلامية و الأمازيغية التي تنضح بالإشارات اللطيفة للآثار الإيجابية المستقاة من اعتناق قضية  و الفناء من أجل الفكرة و النضال من أجل الهوية و الكرامة و الحرية. هي شهادات بشرية حية تحطم ادعاءات الذين يقولون للشباب (طلبة و تلاميذ): حذار من الانتماء إلى فكرة أو التحيز لمشروع و رؤية.. !
إن سير هؤلاء تؤكد أن خط التفاني من أجل الفكرة و القضية ( و أشرف به من خط ! إن كان خط تذكير الناس بربهم و رسالتهم و المنافحة عن حريتهم و حقوقهم) و خط الاقتدار العلمي: خطين متوازيين.. يتساوقان.
إنها سير منيرة حقا تشير إلى أن التلميذ و الطالب اللذان لم يحددا انتماءا إلى فكرة و لا ولاءا لقضية و لا وفاءا لمشروع و لا اعتقادا بمبدأ ( نقصد هنا الولاء و الاعتقاد النسبي. و عادة  ما ينزع الإنسان في بداية رحلته الفكرية  نحو الإطلاقية و الوثوقية و كلما قرأ أكثر و تأمل في الحياة ارتقى نحو الإيمان بنسبية الأفكار و الرؤى و المشاريع و نحو العض بالنواجذ على المقولة المالكية الذهبية: "كل يؤخذ من كلامه و يُرد إلا صاحب هذه الروضة الشريفة: روضة الرسول صلى الله عليه و سلم "). إنه ما لم يعانق قيمة معنوية و استرخص حياته من أجلها، من اليقين  أنه سيفتقد معنى الحياة و لذة النضال على درب الكبار..

بكلمة، بالتأمل و الخروج من الألفة الغافلة و قراءة سير ذوي المعادن الأصيلة من البشر،  يحاول الإنسان أن يصل إلى معناه و ينسحق من عالم المادة الأملس و يتيقن أنه إنسان !
...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]







سبق في مقالة "لماذا ينحرف الناس؟" أن أشرنا إلى أن منشأ الانحرافات السلوكية يعود بالأساس إلى فقدان المعنى. هنا في هذه المقالة، سنتوقف على خلفيات هذا الفقدان، أو قل معاني فقدان المعنى..
تطفح صحة مجتمعنا بعدة أمراض اجتماعية فتاكة تعيق مسيرة النهوض، لا بد من تسليط الضوء عليها للحد من انتشارها و الحيلولة دون انتقالها إلى الأجيال الصاعدة. أبرز هذه الأمراض: مرض فقدان الذاكرة و مرض فقدان القضية.  كلها تؤدي إلى الإصابة بفقدان المعنى في الحياة.

1.     فقدان الذاكرة:

من الأمراض التي تشل وجود الإنسان؛ مرض فقدان الذاكرة. هذا مرض معروف في الميدان الطبي. لكن ثمة أناس كُثر، مازالوا في ريعان شبابهم، يحتفظون بذاكرتهم: يعرفون أسماءهم، أسماء الأماكن و الأشياء، يميزون أقاربهم و معارفهم... لكنهم، مع الأسف، يعانون من فقدان الذاكرة العمودية و ذاكرة الوطن و ذاكرة الأمة و الذاكرة الإنسانية..
الذاكرة العمودية، تعبير للدكتور طه عبد الرحمان، يشير إلى العلاقة مع الله جل في عُلاه. الإنسان يفقد هذه الذاكرة، رويدا رويدا، حينما يغوص في أوحال الذنوب دون محاولة أوبة، حينما يقطع الصلة العميقة المتمثلة في الصلاة، حينما يتبلد حسه و يغرق في الألفة الغافلة فيعدم التأثر و الانفعال و التساؤل حول فرادة  خلقته و عظمة تكوينه و سعة العالم من حوله و أسرار الموت الذي يخطف الأرواح غيلة و ما بعد الموت من رحلة..
و من الطبيعي أن فقدان هذه الذاكرة العظيمة، التي توجه الإنسان في مسيرة الكدح في هذه الدنيا "حتى لا يطغى"،  يؤدي إلى فقدان ذاكرات أخرى: ذاكرات الهوية و الانتماء؛ ذاكرة الوطن و ذاكرة الأمة و ذاكرة الإنسانية.. فالله جل في علاه هو القائل: (و لا تكونوا كالذين نسُوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون). سورة الحشر:19؛ محذرا المؤمنين – على إيمانهم - من الإصابة بمرض فقدان الذاكرة العمودية، مرض نسيان رب العالمين. هذه الآية الكريمة (19 من سورة الحشر) مسبوقة بآية أخرى تحدد المعنيين بالتوجيه. (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و لتنظر نفس ما قدمت لغد و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون). سورة الحشر:18.
نسيان الله، إذن، مدعاة لنسيان النفس. و النفس هنا، قد تكون موحية بمعنى عام؛ الفرد نفسه، انتماؤه الوطني، عمقه الحضاري: الأمة الإسلامية.. فالذي فقد ذاكرته العمودية، من السهل أن ينخرط في عملية انتحار بطيء: تناول المخدرات و المسكرات و السجائر.
 الذاكرة الوطنية، هي حاضنة لملاحم و سير رموز الوطن المخلصين (على اختلاف مشاربهم و ألوانهم الفكرانية) في التفاني في بنائه و العمل على نهضته. فهي ذاكرة، واجب على الإنسان، منذ مطلع شبابه؛ أن يعمل على شحذها. لأنه بالالتحام، مع هذه الذاكرة و مناراتها و فضاءاتها، يحدد المرء بوصلته و موقعه ضمن ذات حلقة البناء: بناء الوطن. و هذا الالتحام وحده قمين بدفعه للترفع عن الدنايا و سفاسف الاهتمامات.. و بالمقابل فقدان هذه الذاكرة، واضح أنه فقدان لمعنى الانتماء لهذا الوطن، فقدان لمعنى الحياة على الأرض، فقدان لعبق التاريخ.. سقوط في الأنانية، و الدوران حول اللذة و المادة.. حرمان ذاتي من معنى معانقة قيمة الوطنية و حمل هموم و تطلعات الكبار: الكبار في صدقهم و إخلاصهم للوطن و أبناء الوطن..
و ذاكرة الوطن جزء من ذاكرة الأمة الواسعة، و الالتحام بالأولى لا يُغني عن الاغتراف من معين الثانية. محور دوران ذاكرة الأمة قائم على تاريخ الصعود و الأفول في محاولات القيام بواجب الشهادة و النهوض علاوة على قضايا الطريق كقضية فلسطين.
الاحتفاظ بالذاكرة الإنسانية، هو الانتفاع من كدح الإنسان الفكري و جهده في الإجابة عن القلق الوجودي؛ من ذلك معرفة سير عظماء المفكرين و العباقرة و قادة الحركات التحررية و كل من أفنى عمره في خدمة البشرية و الترفع عن الأنانية و اللذة الشخصية، مع اطلاع حسب المُتاح على زبدة أفكارهم و خلاصات بحوثهم و اكتشافاتهم.
حاصل الكلام، هنا، إن معاول الهدم و التخريب وجهتها الأولى هي تعميق الهُوة بين الإنسان و ذاكرته بمختلف أبعادها. و بالتالي لا مفر من جعل صيانة هذه الذاكرة، بمختلف أبعادها دائما، من أوكد الواجبات.

. فقدان القضية:

من الأمور المساهمة بقوة، في تقديري، في فقدان المعنى في الحياة و الارتماء في سخافة الاهتمامات مرض "فقدان القضية" و هو نتيجة طبيعية و تلقائية للمرض الأول "فقدان الذاكرة".
فقدان القضية؛ فقدان للرسالة، فقدان للانخراط في معالجة أي إشكال، فقدان لحمل أي هَم، فقدان للذة النضال من أجل قيمة من القيم أو ملف من الملفات، فقدان لطمأنينة خدمة الناس بلا أخذ و راحة العطاء و البذل بلا مقابل. مرض كهذا، هو سجن حيثُ العذابات النفسية و الراحة السطحية المتصنعة، أسرٌ في ظلال تفكير مهووس بالسيارة الفارهة و المنزل الفخم و الهاتف الذكي و الزوجة (أو الخليلة) الحسناء. إنه مرض مثيل للموت، أو قل إنه الموت؛ فماذا تعني حياة التفاهة؛ تكرار عمل يومي رتيب بلا روح و لا إبداع و تزود من السوق و أكل و نوم و هكذا دواليك.. هكذا بدون حمل قضية أو اعتناق فكرة أو الدفاع عن قيمة مطلقة.. ماذا تعني هذه الحياة، غير البؤس و الشقاء و الموت؟
القضايا، المقصودة هنا، لها صلة قوية بأبعاد الذاكرة التي سبق الحديث عنها.
فمن عانق قضية الذاكرة العمودية بصدق، استشعر أن واجبه هو تذكير الناس بربهم، و من ثم عليه الاجتهاد قدر المستطاع في تجديد الوسائل للقيام بذلك.
و من التحم بالذاكرة الوطنية، اتضح له أن قضيته هي تعريف الأجيال الصاعدة برموز وطنهم و زعاماته ( الدعوية، الفكرية، العلمية، السياسية) أولى الأولويات حتى يتعلقوا بالقدوة الصالحة المنيرة.
و من التفت إلى ذاكرة الأمة و الإنسان، جعل قضيته الأولى هي العمل على بلورة وعي جمعي في محيطه – على الأقل- وعي تحرري حضاري و حس يقظ تجاه قضايا الأمة و وعي متبصر تجاه أسئلة الإنسان الوجودية و الفكرية مع التعريف دائما بسير رموز الأمة و كل الذين قدموا خدمة غالية للإنسانية. 
و نحن – كمجتمع  مغربي بعمقه الحضاري الإسلامي - في هذه المرحلة التاريخية في حاجة إلى كل هؤلاء، إلى كل من يقتطع من وقته و يضحي من أجل الجماعة، إلى كل من لم يفقد المعنى و يغار عليه، إلى من يُذَكرنا بربنا حق تذكير و يبصرنا بدورنا و يسلط الضوء على سير رموزنا و جهد الإنسانية من أجل حل مشكلاتها.


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




المتأمل في السلوكات النشاز (دينا و عقلا و قانونا) التي يقوم بها الناس، لا شك أنه سيتلمح خيطا وراءها يفسر لماذا يلجأ الناس إليها.
صنم كرة القدم، إله أرضي يحظى بعبادة منقطعة النظير في العقود الأخيرة؛ يتسمر الإنسان (سواء كان شابا أو كهلا) أمام الشاشة أو مباشرة في الملاعب ساعات، و يتابع بحماس "هستيري" المباراة، قد يُضحي بكل شيء من أجل هذه المتابعة. عينُه على المرمى: متى تُقذف الكرة فتخترق الشباك ! ينفعل وجدانيا مع نتائج المباراة بشكل مثير، يصفق، يصرخ، يحزن.. ! يضمر هذا الانفعال و يغيب تجاه قضايا الوطن و الأمة و المصير..
ألا يؤشر هذا الفعل ( المتابعة المتلهفة، التضحية بأوقات غالية، لرؤية (كرة !) تتلاعب بها الأقدام في انتظار اختراقها للشباك)، حقيقة على أزمة فقدان المعنى لدى هذا المتابع ؟
هنا، لا نتحدث عن الكرة كرياضة من شأنها صقل الجسم بل نقصد رأسا هذه المتابعة غير العادية لمختلف البطولات و الأندية و المباريات.
أعتقد، أن هذا المتابع  فقد المعنى في الحياة  و صار يتابع وهم المباريات لعله يجد معنىً في الهدف الذي يُسدد صوب المرمى بعدما فقد الهدف الحقيقي في الحياة.
المُسكرات و المخدرات و كل ما من شأنه تغييب العقل و الوعي، آلهة لها سدنة كُثُر. لماذا؟ باختصار، لأن الإنسان تلوح له الحياة و كأنها استنفذت أغراضها و لا معنى فيها؛ فيستقر تفكيره على أن المعنى: ربما، هناك في المخدر !
الموسيقى الصاخبة، التي تثوي دعوة إلى العبث و التفاهة و الرائجة في العُلب الليلية؛ من الواضح أن أصحابها فقدوا ذات المعنى في الحياة و صاروا يتلمحون التفاهة في قالب موسيقي مجسدة لهذا الغائب (أي المعنى). أتحدث عن أمثال on va danser. C’est la vie. La. La. أما الفن عموما ( و منه الموسيقى ) فهو تعبير أصيل عن أشواق  الإنسان و كبده المستمر بحثا عن المعنى.
التعامل غير اللائق و غير المناسب مع القرآن الكريم، من طرف بعض الناس ( الصراخ في قراءته و التغني بألفاظه )، لا يؤشر – ربما – سوى على بؤس معنى القرآن الكريم لدى هؤلاء الناس؛ فقد تحول من منارة هادية تجعل الإنسان يرنو ببصره إلى بعيد و يتطلع لرضوان رب العالمين إلى ألفاظ يُصرخ بقراءتها.
التضخم الشكلاني الذي يبديه بعض المتدينين، يعكس فقدانهم للمعنى العميق للانتماء لهذا الدين(= سبر أغوار معاني الاستخلاف و العبودية)؛ إذ صارت علامات التدين مختزلة في قوالب و صور معينة.

بكلمة، إن مشكلة المعنى هي أم المشكلات. و فقدان المعنى هو منشأ الانحرفات السلوكية بالأساس. و عالم اليوم، عالم ما بعد الحداثة، يوجه الإنسان لهذه الوهاد بإغراقه في الاستهلاك و إفراغه من كل معنى و انتماء.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




الدكتور علي شريعتي، في نقطة  منهجية ذكية و مهمة، يعتبر أن فهم دين معين (أو أي منهج حياة) و سبر خصائصه ينطلق من معرفة واستيعاب : الإله المقصود بالعبادة في ذلك الدين، كليات كتابه المرجعي المؤسس، صفات المُبشر بالدين و حامل رسالته، سمات الطليعة الأولى المؤمنة بالدين و الساعية لنشره..
من هذا المنطلق المنهجي نتعامل مع الإسلام، في محاولة لاستجلاء إحدى الخصائص التي يريد أن تتمكن من نفوس معتنقيه.
أكيد أن الله الذي جاء الإسلام  داعيا إلى توحيده؛ هو رحمان، رحيم، رؤوف، كريم.. لكنه كذلك، جبار شديد العقاب يُذل المتكبرين و الظالمين، يأنف من رؤية الظلم ينتشر و ينتصر فيمهل فقط و لا يهمل.. ( كتب الله لأغلبن أنا و رسلي إن الله قوي عزيز). سورة المجادلة: 20.
واضح أن القرآن العظيم لكونه كلام الإله الواحد الأوحد القوي المتين، فإن خطابه ينضح بالتحدي.. ( و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) واليقين .. ( فإن لم تفعلوا و لن تفعلوا فاتقوا النار ). سورة البقرة:22-23.
و إذا كان الكتاب المرجعي المؤسس ( القرآن العظيم) يفيض بمعاني العزة و الأنفة ( مع التذكير بالتواضع دائما للمتواضعين : أشداء على الكفار رحماء بينهم ) و يوجه خطابه الممتد زمانا و مكانا للمؤمنين برسالته: (فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين). سورة آل عمران: 175 .
فلا ريب أن يكون رسول الإسلام صلى الله عليه و سلم أول المناضلين ضد الظلم و التكبر و الإهانة و أول  الداعين إلى القيم التحررية و المنتصرين لفضائل العزة و الأنفة.. من المرويات الشهيرة في هذا الصدد؛ أن الرسول صلى الله عليه و سلم لما رأى عمرا بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في صحيفة "التوراة"، استشاط غضبا و قال (أو ما معناه): و الله لو كان موسى حيا ما حق له إلا أن يتبعني. لعلها الأنفة هي التي حركت وجدان المصطفى. فعمر رضي الله عنه يعيش مع المصطفى و شهد بعينه ربما حتى بعض لحظات نزول الوحي و على الأقل حضور جبريل في درسه التعليمي ( في حديث جبريل المشهور في الأربعين النووية) و  مجموعة من المشاهد التي يتضح فيها تأييد الله للجماعة المؤمنة ( في غزوة بدر مثلا)، و مع ذلك يتلمس جديدا في التوراة المُحرف المنسوخ..
حُق للمصطفى أن يغضب و يأنف من أن يتشوف  صحابته الكرام جديدا في الكتب المحرفة المنسوخة مع أن بينهم نورا مبينا (القرآن العظيم).
  جلي كذلك، أن الطليعة الأولى التي حملت لواء هذا الدين تمتلئ بفُيوضات قيم العزة و الأنفة و التحرر، نقف هنا عند مشهدين:
مشهد عمر رضي الله عنه إذ تسقط له دُرته و هو يمتطي دابة، فيأنف أن يناوله إياها أحد..
مشهد مكرور في الكتب و القصص، مشهد ربعي إذ يتكلم بكل عزة و ثقة و امتلاء عن زبدة الإسلام: ثورة تحررية و تحريرية شاملة..
حاصل الكلام، إن الله القوي المتين قاهر الجبارين و مذل المتكبرين الذي أرسل القرآن العظيم على رسوله  محارب الظالمين المتجبرين و قدر أن تتعاون معه عصبة مختارة رحيمة بينها شديدة على عتاة الكافرين الظالمين المتكبرين؛ إن الله جل و علا – و هو هذا – جاء بالإسلام لإيجاد مسلمين لا جبناء ( بتعبير الأستاذ بيغوفيتش )..
مسلمون أقوياء الصلة بالقوة المطلقة ( الله ) لا يكُفون عن الاستمداد منها، لا يحنون الجبهة لغيره جل في عُلاه.. يرفضون الظلم و التسلط و لو كان مثقال ذرة ( لأن ربهم يهتف: إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا)، يأنفون من الخنوع لأي استبداد أو غطرسة، يموتون من أجل الحرية و الكرامة..
و التاريخ يشهد لسنة لا تبديل لها: الحق يُنتزع و لا يعطى ! و بالتالي لا مفر من النضال من أجل استكمال انعتاقنا.
و للنضال ساحات، أولى ميادينه  العقول، أي النضال من أجل بناء وعي حضاري تحرري يمتاح من القيم التحررية الإسلامية الخالدة يلفت النظر إلى طبيعة الرحلة: رحلة الكدح إلى الله..
و له ميدان لا يقل أهمية، هو ميدان المعرفة و العلم، فبقدر علمك بقدر تحررك.. ( و اليوم في إطار مجتمع المعرفة: بات البقاء للأكثر إنتاجا و معرفة ).
و له ميدان هو المظاهرة، الوقفة، الاعتصام، الحلقية، الكلمة الحرة، و هو ميدان كذلك لا ينبغي التخلي عنه.. لأنه بقدر ما تضغط أكثر تنل حقك و تُصن كرامتك..
فلازم.. لازم النضال
مناسبة هذا الحديث، أحد أقربائي ( يحمل شهادة عليا)، اختار أن يقول لي ناصحا (بالأمازيغية ) : " حرش، أتكت زوند باك أتبنوت تكمي زوند نتان.. فتساع إنضال.. فتساع إنضال..  "..
منطوق كلامه: "اجتهد لتكن مثل أبيك؛ تبني منزلا مثله.. ابتعد عن النضال.. ابتعد عن النضال" ..
هذا الكلام، كثيرا ما قيل لي بصيغ متعددة، من طرف بعض الأساتذة و الأقارب، بعدما حصلت على شهادة الباكالوريا.
و هنا، أقول لهذا القريب – و من يفكر تفكيره – شكر الله سعيك و قبل نصيحتك. فنحن، لا نتكبر عن السماع لمن طرق بابنا ناصحا. و لكن لا نقبل من أحد، الوصاية على اختياراتنا.
و إذا كان بناء المنزل غاية غاياتك. فبصفتي إنسانا، هناك بعض المُثل التي تتحكم في أفعالي و توجه أحكامي، لأنني لم أعتبر أبدا المتعة و السعادة كغاية في حد ذاتهما، و أترك هذا النوع من الاستمتاع للأفراد الذين يحصرون حياتهم في غرائز الجماعة. و بالمقابل هناك مُثل أثارت مجهوداتي و مكنتني من أحيا، و هي الخير و الجمال و الحقيقة. و إذا لم أعاند من دون هوادة في تقفي أثر هذه المُثل؛ فإن الحياة عديمة المعنى بالنسبة لي. و الحال أن البشرية تثير شغفا بغايات مثيرة للسخرية، و هي الغنى و المجد و الترف، و كلها أشياء أمقتها.(1)
و في الختام، النضال ( و الجهاد ) الفكري من أجل البحث عن الحقيقة و المعنى و كنه الجمال، إلى أن نلقى الرحمان جل في علاه، ديدُنا. و النضال من أجل إشاعة الخير (المعروف )، مهمتنا. و النضال من أجل انتزاع الحق و احترام الكرامة و الذب عن الحرية و ترسيخ الديمقراطية في بلادنا، واجباتنا. و لا يعني هذا بأي حال من الأحوال، التهور في فعلنا أو تحوير سلم أولوياتنا ( الاجتهاد في التعامل مع ما تجود به منظومتنا التعليمية ) . لأنه اختيار واع مبني عن قناعة، و ما الأسطر أعلاه إلا شذرات لتأطير هذه القناعة و توضيح أصولها الفكرية.

(1) إنشتاين، كيف أرى العالم. ص: 7 8  . مطبعة النجاح الجديدة: البيضاء. الطبعة الثانية: 2012


...تابع القراءة