| 0 التعليقات ]





ثمة "شبه" إجماع على أننا متخلفون. ما إن أن يبدأ الإنسان في وطننا –و أمتنا- في فرك عينيه من نوم أيام الصبا و يُقبل على عهد وهج السؤال مع شغب الفتوة و الشباب الباكر؛ ما إن يصل إلى هذا الخط حتى ينتبه لإعلان الواقع: إننا متخلفون !
و لعل كل المشاريع و الكتابات التي تبحث سؤال "التقدم" و "النهضة" منذ أزيد من قرن و نصف تتفق حول كوننا نعيش مرحلة استدبرنا فيها ما  يسمى ب"عصور الانحطاط و الانقباض" لكننا مازلنا نئن تحت وطأة "التخلف" و لهذا أصلا جاءت هذه الكتابات لالتماس محاولات للإجابة على سؤال "كيف" الخروج من مأزق التخلف. لكن، هذا الاتفاق حول سمة الحالة التي نتخبط فيها لا يقابله التفاهم حول المقصود تحديدا ب"التخلف". و لعل هذا "الخلاف" في المعنى الذي تأخذه "حالة التخلف" هو الذي أدى –و مازال يؤدي- إلى انفجار "الخصام" بين بعض هذه المشاريع الكبرى التي أفنى  أصحابها أعمارهم في بنائها. و المعضلة لا تكمن هنا، بل تتجلى في كوننا لم نخرج –بعد كل هذا الكلام- من دائرة "التخلف"، و صرنا مضطرين، نحن أحفاد أبناء أصحاب هذه المشاريع، إلى "الاقتراب" مجددا من مقاربة موضوعة "التخلف" رغم أنه كان من المفترض أن نتناول أسئلة أهم و أدق بعيدة عن "عموميات" يستمر تردادها بدون جدوى. و ربما المأزق في كل هذا التأخر المبين هو أن ثمة تخلفا ما في استكناه "حالة التخلف".
ليس هناك من أمر دال على عمق مأساة "التخلف" الذي نرتع فيه من أن نلفي أحد الذين يتصدون لتوجيه "الرأي العام" في المجتمع، و هو خطيب الجمعة، معتبرا نسبة حالتنا الاجتماعية و الاقتصادية أو التاريخية بشكل عام إلى "التخلف" كلاما فارغا و أكذوبة مُضللة.
فالخطيب، الذي سبق ذكر مضامين خطبته في ذكرى ميلاد المصطفى، شذ إدراكه للواقع عن مشاعر الناس بل تفوه بأحكام قيمة ليس فقط ضد من يعتبر أن وضعنا التاريخي "وضع متخلف" بل أيضا ضد من يرى -بناء على معايير موضوعة لأجل هذا- أننا "دولة في طريق الدول الصاعدة".
لا شك أن المستوى الفكري محدد في فهم إشكالية "التخلف". فجدتي، مثلا، التي سلخت من عمرها ثمانين سنة؛ لن تعتبر الوضع الذي نعيش فيه اليوم (انتشار الكهرباء، الماء الصالح للشرب، وسائل العلاج، أدوات الاتصال و التواصل، وسائل التنظيف..) سوى جنة تداعب خيالها أيام زهرة شبابها. لكن لو اتسع أفقها لإجراء مقارنة بين الأوضاع العالمية و وضعنا لتبينت، بدون أدنى ريب، أننا متخلفون. و لو تمكنت من قراءة خلاصة عن التاريخ الذي مضى لتعجبت من كون ما ترفل فيه اليوم من خيرات و حريات و تسهيلات استمتع بها جناح كبير من أجنحة العالم منذ مدة. 
و إذا كان خطيب الجمعة –الخطيب المذكور، و التعميم مرفوض فهناك خطباء  نبهاء مدركون-  يُنكر أننا متخلفون، بسبب عمى إيديولوجي، و إذا كانت الجدة تحس أننا متقدمون، بسبب كونها ضحية أمية قاسية و جهل أقسى، فإن ثمة إنسانا آخر لا يحس بتاتا بأنين التخلف. إنه ذلك الذي يعيش عالَما ينفصل عن واقع باقي المواطنين. إنه يعيش داخل الوطن، نعم، لكنه مغترب في عالمه الخاص: كل همه هو السعي للاستزادة من نعيم حضارة العالم المتقدم، و هذا من حقه إن اختار هذا السبيل. لكنه إذ يغط في استهلاكيته الجارفة ينسى أن واقع وطنه "متخلف" و لا يسُر الناظرين. لهذا، فالوطن يخسره؛ إذ بإمكانه أن يُسهم في الإنتاج –إن أدرك حاجة الوطن إليه- و أن يُخفف من فاتورة استهلاكيته (أما حريته الشخصية في الاستهلاك فلا جدال حولها). هذا الطراز يُشكل إفرازا طبيعيا لمناهج التعليم التقنوية في المعاهد و المؤسسات؛ حيث يتعامل الإنسان مع "تقنيات" -مصنوعة مسبقا- لا تطرح له إلا مشكل (كيفية التشغيل)، و حيث تُنعت الأفكار و النظريات في هذه الأوساط، كما في غيرها، ب"blabla" في إشارة سافرة إلى تواطؤ مستتر لاحتقار "الفكري" و "الثقافي": و الذي، لا يمكن بسواهما، النفاذ إلى مراكز ثقل موضوعة "التخلف".

إن الواقع الموضوعي بأسئلته الموجعة يدفعنا إلى اللجوء إلى نصيحة غرامشي –التي طالما رددها المنجرة- و مفادها أنه علينا "التسلح بعقلانية التشاؤم و تفاؤل الإرادة" في النظر إلى مشكلاتنا. نعم، إن التحليل العقلاني يقود في غالب الأحيان إلى الخروج بأحكام قاسية ضد كل شيء، خصوصا إذا وقفنا على نموذجين من أبناء الوطن (حامل الخطاب الديني، و حامل التقنية العصرية: أما الجدة فلم يعد لها تأثير كبير على مسار الأجيال الصاعدة) لم يدركا بعد أن هناك مشكلة عنوانها "التخلف" تنتظر أن ينخرطا فيها معا بكليتهما، كل من زاويته.. لكن إرادتنا التي تروم النهوض، ينبغي أن تبقى متحررة من تشاؤم العقل، لأنه في نهاية المطاف لا خيار لنا إلا أن "نطوي" صفحة "التخلف". و لعل أهم خلاصة نخرج بها في هذا الصدد، هي ضرورة الالتفات إلى البعد الفكري و المسألة الثقافية في "تأخر" الوعي ب"التخلف". إن الحرارة التي نتناول بها دور العامل السياسي (الاستبداد: و هو أبهى تجليات "التخلف") في تكريس "التأخر" ينبغي أن تمتد لتشمل الفكري و الثقافي؛ فهما متداخلان أصلا. فإذا كانت حالة (الاستبداد) تتقصد و تؤدي إلى اغتيال الرباعي (العقل-النقد-الفكر-الثقافة)، فإن سبيل توهج "النقد" و تنوير الفكر و سعة الثقافة (=اشتعال العقل)  هو وحده الطريق الآمن و الضامن للانعتاق من حالة (الاستبداد) لكن –طبعا- بمزاوجة ذلك مع العمل النضالي المدني على الأرض؛ فالواقع: لا يكفي تفسيره فقط -كما قال ماركس- و إنما ينبغي العمل على تغييره.


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]






تأتي ذكرى ميلاد المصطفى و الوطن مع مجموع الأمة يمران في لحظة من أحرج اللحظات، مع تباين حدة و درجة الحرج حسب هذا القطر أو ذاك. تأتي هذه الذكرى لتسجل شهادة جديدة على التشوهات المزمنة التي تعتور حالتنا الروحية و خطابنا الديني بشكل عام. تأتي هذه الذكرى لتستدعي سؤالا جوهريا متجددا: كيف حال إسلامنا قياسا إلى الإسلام الذي بُعث من أجله المصطفى و دعا إليه الناس  و أرشد الرعيل الأول إلى بلاغاته و مضامينه و معانيه؟
كيف سنقيس حرارة إسلامنا، كيف سنقيس المسافة بينه و بين إسلام محمد صلى الله عليه و سلم. ذاك هو السؤال الأول الذي تقتضيه خطوات الإجابة على سؤالنا الهام. فلتكن خطبة الجمعة باعتبارها تجسيدا ساطعا للخطاب الديني الرسمي، ذلك المقياس !
كانت مضامين خطبة الجمعة في مسجد الحي الجامعي السويسي بمدينة العرفان بعاصمة المملكة، في الموعد، مع الذكرى المشرقة البهية !
أسهب الخطيب في سب و لعن "الغرب و الصهاينة" الذين ابتدعوا ثنائية: الإسلام المتطرف، و الإسلام المعتدل. قائلا: إن الإسلام واحد، و إنما هناك مسلمون متطرفون و مسلمون معتدلون. لا بأس !
استمر الخطيب في صب غضبه على "الغرب": نحن، إسلامنا طاهر. و هم يعيشون في الظلمات.
لا تقف الحكاية عند هذا الحد، فالخطيب يُصر على إثبات وجود عقدة نقص لدى "المسلم" تجاه "الغربي" كما إنه حريص على إيقاظ نوازع و أحاسيس "الاعتزاز" لدى "المسلم" فيقول له ناصحا: قل له أيها "الوسخ"، "المتعفن"... و يستدرك الخطيب على مقولة ذائعة الصيت مخافة أن تخترق أذهان جموع الطلاب الحاضرين في المسجد:  يقولون لكم نحن "دولة متخلفة" أو "دولة أقل صاعدة" و هم "دول متقدمة".. لا أيها "المسلم" لا تصدق هذه الأكذوبة.. أنت الصاعد دوما.. و هم "نازلون" حتى و إن  وصلوا إلى القمر !
تذكر الخطيب فجأة "الثورة الشيوعية" معلقا بصراخ: و يتحدثون عن "البروليتاريا" و " البيروقراطية" (هكذا !). و هي كلها مصطلحات مادية. و يتحدثون عن الأنوار.. يا "جهلة" ! أنتم لا تعرفون رسول الله.
إنها مضامين ناطقة بدون تعليق. خطاب تغشاه المفارقات و المغالطات حتى النخاع. رسائل تشد أي مستمع، فاقد لحاسة النقد، إلى مزيد من التطبيع مع التخلف، إلى حب البقاء في حفرة الحرمان و الضياع التي رمينا فيها أنفسنا.
إن الذاكرة، هنا، تستدعي النقد الماركسي للمثالية الهيجلية. حينما دندن هيجل مرارا حول اكتفاء الفكر بذاته: وجود الفكر المشرق يعني أن الواقع كذلك. أو بتعبير هيجل الشهير (كل ما هو عقلي فهو واقعي و كل ما هو واقعي فهو عقلي). و جاءت صرخة ماركس الصامدة: لا ينبغي الاكتفاء بتفسير الواقع (أو العالم) بل ينبغي العمل على تغييره. إن ذات العمل  النقدي هو أول الطريق.. طريق تنوير الخطاب الديني. أن يفهم القائمون على ترويج هذا الخطاب أن انتسابنا إلى الإسلام لا يعني البتة أننا متحضرون أو متقدمون أو زعماء العالم و أولياء على البشر و الناس أجمعون. بل المطلوب منا أن نتعلم و نتتلمذ لنكون في المستوى المأمول.
إن اللغة الموظفة في الخطاب التي تنضح بآفة الاستعلاء و الافتراء و الاحتقار بناء على الانتماء. إنها لغة تُفرز سلوكات تشذ عن روح السلم و التعايش و قبول الآخر –كما هو و كيفما كان- بل إنها – و دون قصد صاحبها، مع الأسف الشديد- تعطي للمُتلقف المغفل الذي سيستبطن منطقها الحدي الثنائي (نحن و هم: هم لا يؤمنون بما نؤمن؛ إذن فهم يكرهوننا، إذن هم كفار، هم جهلة، إنهم يعكسون العفن..) مشروعية الانتقال إلى الدم و الإرهاب. و هذا فحوى كلام  فولتير: إن الإنسان الذي يقول لي: آمن كما أؤمن و إلا فإن الله سيعاقبك، سيقول لي الآن آمن كما أؤمن و إلا سأغتالك. (ول ديورانت. "قصة الفلسفة". ص:184. مكتبة المعارف، بيروت)
إذا كانت خطبة الجمعة قد ساقت ذات خطاب في سياق ذكرى ميلاد المصطفى. فإن الإسلام الحق الذي جاء به المصطفى قد تم اختطافه. إنه لا سبيل للوقوف على حقيقة الإسلام إلا بالعودة لفهم الرعيل الأول له في بواكيره الأولى. إن الإسلام الحق لم يكن مهجوسا بشتم الآخر، لمجرد أن له رأيا مختلفا، بل كان معنيا أساسا بخلخلة بنية الظلم و الطغيان إن كان الآخر محاميا لها، كان مهموما ببناء نموذج مفارق سام في  العلاقات الاجتماعية. بكلمة، إنه كان مشدودا إلى بناء خُلقية إسلامية إنسانية تقوم على العدل أولا و أخيرا، و تكون الشعائر التعبدية لها بمثابة حصن يقوم بتمنيعها و تعميقها في نفوس الذين اختاروا اعتناقها.     
لنقف على ماذا فهم الرعيل الأول من دروس معلمهم في  دار الأرقم بن أبي الأرقم، عند إسلامنا البهي إسلام الصفاء، قبل أن تظهر أي سلطة أو مغنمة، قبل أن يُختطف ! بعدما هاجر المسلمون الهجرة الثانية إلى الحبشة، لعله في أواخر السنة الخامسة من البعثة، لحق بهم سفيري قريش (عمرو بن العاص و عبد الله بن أبي ربيعة) ليطلبوا من النجاشي أن يردهم.
 أبى النجاشي أن يفعل حتى يسمع ما يقولون، و بعث في طلبهم، فلما جاءوا سألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم و لم تدخلوا به ديني و لا دين أحد من هذه الملل؟ فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، قال:
" أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام و نأكل الميتة و نأتي الفواحش و نقطع الأرحام و نسيء الجوار و يأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه و صدقه و أمانته و عفافه، فدعانا إلى الله لنوحده و نعبده، و نخلع ما كنا نعبد نحن و آباؤنا من دونه، من الحجارة و الأوثان.
و أمرنا بصدق الحديث و أداء الأمانة و صلة الرحم و حسن الجوار و الكف عن المحارم و الدماء، و نهانا عن الفواحش و قول الزور و أكل مال اليتيم و قذف المحصنات، و أمرنا أن نعبد الله و لا نشرك به شيئا.
و أمرنا بالصلاة و الزكاة و الصيام – و عدد عليه أمور الإسلام – فصدقناه به و اتبعناه على ما جاء به من الله". (محمد حسين هيكل. "حياة محمد". ص:136. الطبعة العشرون. دار المعارف.)


إنها عبارات تختزن كنوز الإسلام و تختزل دروس خير الأنام: إن إسلامنا البهي، كما قال سيدنا جعفر، هو أن تكون مُوحدا للرحمان و موصولا بأشواق و مواجيد الارتباط برب السماء و متعلقا بحميد الأخلاق و الخصال. و لكي يربو فيك ذاك و لا يذبل: عليك بالشعائر و العبادات. 


...تابع القراءة

| 1 التعليقات ]






أكرمني المولى جل و علا بزيارة كريمة من طرف جدتي –والدة والدي:أطال الله عمرها- لمسكني بالعاصمة. هي امرأة شابت و شارفت الثمانين. قضيتُ معها كل طفولتي و فُتُوتي. تربطني معها علاقة خاصة؛ إذ يطلق علي العارفون بطبيعة تلك العلاقة "إويس نجداس" (ابن جدته) !
هذا الكلام، حتى لا يكون حشوا، وطأنا به لحديث طريف لجدتي: عميق في دلالاته الفكرية؛ وددتُ أن أشتركها مع القارئ.
فوجئت جدتي بكون الغرفة التي أستقر بها "جذابة"  و "مغرية" بالنسبة للنفايات و الأزبال. يمكن أن تنظفها، لكن بعد برهة و بعد تحرك يسير: يعود "التلوث" لسطح أرضها. و للإشارة، فسطح أرض الغرفة معد ب"الزليج" المُشع.
أعتذر مسبقا للقارئ على فقر معجمي الخاص بعالم "العقار" و آليات "البناء" و معداته.. و نظرا لذلك سأستدعي لغتي الأم لتسعفني في إيصال فكرتي.
القصة لا تنتهي هنا. بل إن مدار مقالي يكمن في الآتي: تتحدث جدتي لقريبة لي لا تقل عنها طعنا في السن عن حال غرفتي. فتقول بسأم: "الزليج" الذي يكسو سطح غرفته قابل بشكل متعب لجمع الأزبال. و ما على المرء إلا أن يجعل بجانبه المكنسة باستمرار.
اسمعوا يا سادة ! ماذا تقترح جدتي لكي لا يكون سطح الغرفة مأوى جاذبا للأزبال ! إنها تتمنى –لأن حدسها يدرك أن مقترحها يندرج ضمن الأماني و لا أثر له في الواقع- لو تم "تبليط" الغرفة بما نطلق عليه بالأمازيغية (البُوصلان) !
تخيلوا فحوى اقتراح جدتي: إنها تحن ل"سطح"؛ الأرجح أنه كان يُدثر باحات منزلنا في النصف الأول من السبعينات بعدما نزحت الأسرة من القرية إلى مدينة تيزنيت. و أكيد أن سطح المنزل الذي استقرت فيه من الثمانينات إلى اليوم؛ انتقل من الاكتساء ب(لاموزيك) إلى (الزليج) و لا مكان فيه ل(البوصلان).
أُقدر أن الرسائل الثاوية وراء قصة جدتي و حديثها عميقة جدا. هي تؤشر بجلاء إلى أزمة الفكر التقليدي.
إنه النظر إلى مشكلة مستحدثة أفرزتها الحياة الحديثة بعيون قروسطوية. إنه الغرق في الماضي و الاستنجاد الدائم به لحل مشكلات الحاضر.
إن التاريخ يسير و لا ينتظر و سننه لا تحابي و لا ترحم !
الإنسان راكم تجربة مهمة في تحسين شروط عيشه و تجويد الراحة التي يوفرها مسكنه؛ انتقل، بعد بذل جهد جهيد، من (البوصلان) إلى (لاموزيك) إلى (الزليج) إلى (الرخام).. و لا عودة – على الأقل: على المستوى النفسي و التفضيلي- من الزليج أو الرخام إلى (البوصلان) في عالم "العقار و البناء".. و إذا حصل أن أفرز هذا التطور آثارا جانبية سلبية؛ فلا ينبغي أن نستسلم لها، نعم، و لكن.. ينبغي أن نلتمس حلا لها انطلاقا من المعطيات الموجودة و الآليات الجديدة و الوسائل الحديثة..  
هذه الفكرة كفيلة بتحرير العقل المسلم اليوم من مجموعة من المشاهد "المخدوشة" التي تحرمه من رؤية سليمة للحياة المعاصرة و الحديثة.
إن المشاكل الاجتماعية و الأخلاقية التي أفرزتها الحياة العصرية هي واقع لكن حلها أو التماس حلول لها لا يكون بالتمني و الحنين إلى مجتمع الماضي لأنه ببساطة الشروط الموضوعية تغيرت..
مثلا: قضية الزي. لا ريب أن مجتمعنا يعيش انقلابا على مستوى القيم المؤطرة لسلوك الناس في اختيار الأزياء التي يشاؤون. و لا شك أن بعض الصادقين و الصادقات ممتعضون من اختيارات الناس على مستوى الزي و اللباس. لكن الأمر الذي ينبغي وعيه بجدية هو إن أي تفكير في حل مشكلة "انفلات" زي الأجيال الصاعدة لا بد أن يستحضر اللحظة التي نمر بها و الزمن الذي نعيش فيه و المناخ الذي نتنفس فيه: لحظة ما بعد الحداثة على المستوى العالمي، زمن الدعاية و الإعلام و الإقناع و مناخ الحرية و حقوق الإنسان..
إن الذي ينطلق حقا من غيرة حارة على مستقبل الأجيال الصاعدة هو الذي يفكر في الحلول في خضم هذه الشروط و هذه المناخات. إن زمن الإكراه و توجيه اختيارات الناس بالسلطة الدينية هو زمن يحتضر !
إن المدخل الجديد الذي يستثمر المعطيات الموضوعية الجديدة هو الذي ينطلق من فكرة "الحرية" ذاتها ! إنه الاستماتة في الدفاع عن حرية الإنسان و درء كل راغب في التحكم و الاستتباع.. إنه الانطلاق في توسيع أمداء هذه الحرية افقيا و عموديا: حرية الإنسان على الأرض و حريته الحق المتجلية في التحرر من كل الأوثان و الأهواء و العبوديات و الوصايات ليتوجه بالدينونة و الإخبات و الخنوع له وحده: جل في علاه.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



غالبا ما يتم النزوع – أثناء الوقوف  عند أداء الحركات الاجتماعية – إلى تحليلات غير جادة  بالأحرى هي انطباعات نفسية ظرفية. فالمتأمل في ما يقوله، مثلا، أبناء الحركة الإسلامية عن أدائها يلحظ نَفَس التشاؤم و علامة الاستياء. بخلاف، ما يذهب إليه جل القادة و المسؤولين من استبشار و تفاؤل و ارتياح. في نفس السياق،  طيف واسع من الشباب المتحمس لهويته الأمازيغية يتحدث بعدمية عن غياب الأمازيغية في الحياة العامة، في حين يتفق رواد الحركة الأمازيغية  على النجاحات المتعددة (التي تبقى منقوصة) التي كانت ثمار نضالات عقود من الزمن. 

 1-أداء الحركة الإسلامية:

لا جدال في أن الحركة الإسلامية، بعد مسيرة عقود من العمل الجاد الدؤوب، نجحت في إزاحة خصومها (الذين كان عملهم سببا مباشرا في نشأتها) من تصدر ميدان المجتمع و ساحات الجماهير؛ خصوصا اليسار الجذري و الحركة الماركسية اللينينية. كما أفلحت في إثارة قضية الإسلام و استعادة بعض المظاهر الإسلامية المفقودة. إلى جانب كسب رهان بناء تنظيمات قوية. لكن، هل المطلوب من حركة – هي بمثابة بعثة تجديدية في الأمة- مجرد هذه الأهداف؟
المفروض في الحركة الإسلامية، كحاملة لواء التجديد، أن تصرف جهودها في اتجاهين: أولا: : التمكين لشعور خشية  الله جل في علاه و رجاء رضاه لبلوغ المقامات العُلا في الدار الآخرة. فهذه هي الصناعة الثقيلة بحق. ثانيا: تعميق خيار التحرر في الأمة؛ أي تثبيت الانعتاق السياسي و العدل  الاجتماعي و الخروج من نفق التأخر التاريخي.
دعونا نتساءل: كيف تعاملت الحركة الإسلامية مع المطلوب منها؟
للإنصاف، تعرضت الحركة الإسلامية –كما تعرض غيرها من الحركات الاجتماعية الاحتجاجية، لكن بحجم أكبر- للحرمان من حقها في المشاركة السياسية. و بالتالي، فإن تعاملها مع قضية "التحرر" في جوانبه السياسية و الاجتماعية على الأقل لم يدُم طويلا و مازال الوقت مبكرا لتقييم أدائها فيه (للإشارة: بعض خصوم الحركة الإسلامية؛ منهم الأستاذ عبد الإله بلقزيز –في مقال منشور بجريدة وطنية-: سارع بعد مُضي لأشهر معدودة ليحكم على الحركة الإسلامية بالفشل بل ب"إفشال" باقي ما أنجزته القوى "التقدمية" في الفترة السابقة !). لكن من المهم التذكير بأن الحركة الإسلامية  كانت تغط إلى عهد قريب في الحلم ب"الدولة الإسلامية"؛ و هو حلم صار بلا معنى، سواء لمن تصدى للشأن العام من أبنائها أو بالنسبة للمحللين و المفكرين الذين يرصدون تجربتها. بل  صارت هذه الدولة –حسب أحد الباحثين- "دولة مستحيلة". و على العموم؛ فالحركة الإسلامية تشتغل بجد في مسألة التحرر السياسي -في الآونة الأخيرة- و مازالت الإطارات النظرية المواكبة لتأصيل هذه المسألة مشتغلة. بخلاف مسألة الخروج من التأخر التاريخي أو ما يسمى في أدبيات الحركة بإنتاج "الفعل الحضاري" أو تحقيق "النهضة" فواضح للمتتبع أن الخطاب الإسلامي مازال قاصرا و عائما في تناول هذه المسألة بالجدية اللازمة.
أما بخصوص تقييم أداء الحركة في تثبيت أركان "التقوى" في أوساط الناس. فلا يخفى أن  الحركة أفلحت إلى حد كبير في تشييد صرح هذه القيمة في صفوف أبنائها. لكنها مازالت بعيدة جدا عن هدف التمكين ل"التقوى" في صفوف الناس.

 2-أداء الحركة الأمازيغية:

الحركة الأمازيغية حركة وطنية كبيرة قامت برسالة ثقافية معتبرة في تاريخ المغرب المعاصر. هي الحركة التي ورثت حركة اليسار و بالخصوص الحركة الاتحادية (على الرغم من طابعها السياسي) في منافسة الحركة الإسلامية على النفاذ إلى الجماهير الشعبية. تعتبر الجمعية المغربية للبحث و التبادل الثقافي (التي تأسست بتاريخ 10 نونبر 1967 بالرباط) أول نواة قوية للحركة. وضعت الجمعية المذكورة  منذ ذلك التاريخ نُصب عينيها الأهداف التالية:
-          تعميق الوعي بالذات الأمازيغية لدى كافة المغاربة.
-          تحقيق و ترسيخ المنظور الوحدوي للأمازيغية.
-          دسترة و ترسيم الأمازيغية.
-          تحديث الثقافة الأمازيغية.
-          تعميم و تعليم الأمازيغية الموحدة في جميع أسلاك التعليم و مؤسسات تكوين الأطر.
-          تطوير و تعميم الإعلام السمعي البصري الوطني العمومي بالأمازيغية.
-          اعتماد الأمازيغية في التوعية الدينية، خطب الجمعة، القضاء، و كافة المرافق العمومية. ( 40 سنة من النضال الأمازيغي، منشورات الجمعية المغربية للبحث و التبادل الثقافي، الطبعة الأولى 2007، ص: 15).
واضح أن  الحركة الأمازيغية (سواء بفضل المجهودات الجبارة للجمعية المغربية للبحث و التبادل الثقافي أو بنضالات أطراف جمعوية أو فردية  ظهرت في الساحة لاحقا) نجح أداؤها في الدفع بعجلة الأهداف الموضوعة منذ اليوم الأول إلى الأمام. فلا شك أن قطاعات واسعة من الشباب الجامعي تم تعميق وعيها بالذات الأمازيغية. كما إن الثقافة الأمازيغية تعرضت لعمليات جادة للتحديث و العصرنة و كانت أهم خطوة في ذلك عملية جمع و تدوين التراث الشفوي و الانتقال بالشعر الأمازيغي إلى مستوى العصر سواء من حيث الأغراض أو الأسلوب (مع الشاعر محمد مستاوي). بالإضافة إلى ذلك تم  تطوير الفن الامازيغي و خصوصا في شقه الموسيقي؛ و لا أدل على ذلك من الواقع الذي يرصد ذيوع الصيت الذي يلقاه هذا المنتوج الفني الأمازيغي (منذ "أوسمان"، و "إزنزارن"..) في أوساط الناس. و تم تتويج هذا المسار النضالي بالنجاح في توفير حماية دستورية للأمازيغية بترسيمها في 2011.
بخصوص هدف "تحقيق  و ترسيخ المنظور الوحدوي للأمازيغية"؛ الأكيد أن الجمعية التي وضعت هذا الهدف ما فتئت تدافع عنه في شتى المعارك الثقافية و اللغوية بالخصوص. غير أن الواقع يؤكد أنه، إلى اليوم، مازال مشكل المعيرة حاضرا و مازال اتجاه "اللهجات" مستمرا و أمامنا القناة الأمازيغية الثامنة مثال صارخ لذلك؛ نشراتها الإخبارية يتعذر و يصعب على الأمازيغ المنحدرين من سوس –مثلا- متابعتها بسبب هيمنة "لهجة" معينة على النشرات. فلو كانت هناك لغة موحدة لما كانت الصعوبة بهذه الدرجة لأن اللغة الموحدة قاموسها يغرف من كل اللهجات. بخصوص تعميم تعليم الأمازيغية؛ هذه المسألة تعاني تعثرا لافتا لكن المسؤولية تتحملها الجهات التي تقف على أجرأة البرامج (وزارة التعليم، المعهد الملكي للثقافة الامازيغية و ما يدور في فلك السلطة) و ليس الحركة الأمازيغية.
ثمة منجز هام ساهمت الحركة الأمازيغية في تحقيقه بشكل كبير يتعلق الأمر بإمداد الساحة الفكرية المغربية  بجرعات من النسبية و القبول بالرأي الآخر و إيجاد مساحة للاختلاف و الانتفاض ضد الإطلاقية و الدوغمائية و التشبع بثقافة التساؤل و كسر الطابوهات..
لكن، أمام هذا الأداء المتميز للحركة الأمازيغية الذي يتجسد في الوفاء للأهداف المرسومة و تحقيقها بنَفَس تراكمي. ثمة قضية تطفو على السطح بقوة خصوصا مع بداية الألفية الثالثة و هو الخطر الذي يتهدد الأمازيغية  المُتَمثل في الانقراض على المستوى الشفهي. هذه المرة، الخطر يأتي من ضرة حقيقية هي "الدارجة المغربية" التي يراد تدرسيها من طرف بعض الجهات ! (و ليست الضرة هي اللغة العربية كما يتوهم بعض المنتسبين إلى الحركة الأمازيغية) و التي طالما تفاخر المناضلون الأمازيغيون من جيل التأسيس بكونها أمازيغية القالب. و المثير للتساؤل حقا هو وجود بعض المناضلين في الحركة الأمازيغية يستسهلون هذه القضية و يُرَبُون أبناءهم على الحديث بلغة أجنبية (الفرنسية) أو الدارجة فيفقدون لغة أمهم التي من الصعب أن يتداركوا تعلم الحديث بها إن أخطأوا الموعد معها في الصغر و الطفولة بخلاف الدارجة أو اللغات الأخرى التي تُتعلم عاجلا أو آجلا. و قد سبق للناشطة الأمازيغية مريم الدمناتي أن أشارت إلى خطر الموت البطيء على مستوى التداول الاجتماعي  في ندوة وطنية حول الأمازيغية في أبريل 2015 بالمكتبة الوطنية بالرباط. و الخطير في هذا هو أن كل المكاسب التي أنجزت طيلة عقود لصالح الأمازيغية في الميادين الفنية و الأدبية و الحقوقية و الإعلامية في طريقها لأن تُضرب في الصفر ! لأن الناس إذا فقدوا القدرة على التواصل بالأمازيغية لن يحسوا  بجمالية المنتوج الأدبي و الفني الأمازيغي و بالتالي لن يشجعوه مما يهدده بالفناء. فإعداد الإنسان الذي يحمل اللغة هو أهم حلقة في النضال من أجل قضية اللغة؛ فإذا فُقد هذا الإنسان لن يعود  الحديث عن اللغة و لا تمجيدها و لا توفير كلمات في حقها في ديباجة الدستور شيئا ذا بال.   

إن تقييم أداء الحركتين الاجتماعيتين القويتين اللتين تستأثران باهتمام المنخرطين في العمل الثقافي و السياسي المغربي يروم أساسا تسليط الدور على حلقة مفقودة في التحليل المُقدم لهذا الأداء. تتجسد هذه الحلقة في نسيان المهمة الأصيلة التي تشكل مبرر وجود هذه الحركات مع توالي السنين بفعل الانخراط في معارك يفرضها التاريخ بالإضافة إلى المراجعات الفكرية التي تستهدف تسديد و تجويد عمل هذه الحركات.
فإذا كانت الحركة الإسلامية قد قامت أساسا لإعادة الاعتبار للإسلام في الحياة فإن هذه الرسالة تقتضي العمل بشكل فعال من أجل تربية الفرد المشبع بمعاني "التقوى"؛ و لا ينبغي أن تنسيها القضايا الراهنة التي تعمل لها (أي قضية التحرر السياسي) هذه المهمة الأصيلة. فقضية التحرر السياسي محو مشترك مع كل الفضلاء الديمقراطيين من شتى المشارب و التوجهات لكن مهمة إرشاد الناس لبناء أركان التقوى هي عنوان وجود الحركة الإسلامية وحدها و من العسير أن تضطلع بها حركة اجتماعية أخرى. فضلا عن أن تشييد صرح التقوى هو بمثابة إقامة للتحرر على المستوى النفسي مما يهيئ مناخا ملائما للتحرر السياسي: فطالما ردد المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه (تأملات) ما مفاده أن الإسلام بدعوته المنتسبين إلى رسالته لنفي كل شعور بالاستعلاء على الناس أو انزلاق نفسي نحو قبول العبودية لحساب آخرين فإنه بذلك يرسخ أقدام الشعور الديمقراطي في نفوس المسلمين. فضلا عن هذه المسألة، أبناء الحركة ملزمون في هذه المرحلة بخوض غمار النزال المعرفي بأدواته المعروفة للإسهام في الإجابة عن الأسئلة التاريخية التي مازالت معلقة.
كما إن الحركة الأمازيغية؛ إذا كانت قد حددت غاية غاياتها في صيانة حق البقاء و النماء للأمازيغية فإن الوفاء لهذا الهدف الطموح ينبغي أن يبدأ من الحرص على استدامة التداول الاجتماعي للأمازيغية خصوصا و أن الحقائق لا تبشر بمستقبل سار للأمازيغية على المستوى الشفهي ذلك أن هناك دراسات تقول بأن تصاعد "التمدين" يقابله تراجع في التواصل بالأمازيغية في الحياة اليومية. من هنا على الحركة الأمازيغية أن لا تنسى أن النجاحات الرمزية التي حققتها الأمازيغية تُخفي خطرا داهما هو الانقراض الشفهي للأمازيغية. و يمكن لإدماج حقيقي للأمازيغية في التعليم أن يُخفض درجة الخطر لا إبعاده نهائيا.




...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




كلما قرأ المغربي التاريخ السياسي لبلده إلا و يقف مشدوها لكثرة الفرص المضيعة أمام تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي منذ ستينيات القرن الماضي. و كلما كان واعيا  بطبيعة الحركات السياسية و الاجتماعية الوطنية التي تتحرك في المسرح منذ الاستقلال و كلما كان مطلعا على المناورات المعمول بها للتشويش على مسار هذه الحركات. كلما كان متسلحا بسلاح المعرفة ذاك؛ تجلت له الحقائق ناصعة و مدلولات الوقائع ساطعة.
لنعد إلى الذاكرة السياسية المغربية؛  لنقف على وجه الشبه بين ما جرى في أول انتخابات جماعية بالمغرب سنة 1960 و ما وقع في الانتخابات الجماعية لسنة 1976  و بين ما يجري في الانتخابات الجماعية لسنة 2015.
انتخابات 1960 أقيمت بعد أسبوع واحد من إقالة حكومة عبد الله إبراهيم. و هذا يُلمح أيضا لما كان وراء مساع خائبة كانت ترمي لإسقاط حكومة عبد الإله بنكيران منذ سنته الثانية 2013 و ما وراء مسلسل تأجيل الانتخابات الجماعية (إلى حين سقوط الحكومة أو انتظار تآكل شعبيتها !).
على كل حال، لم تؤثر إقالة حكومة عبد الله إبراهيم في معنوية المناضلين الاتحاديين فقد تجندوا لتعبئة الجماهير فكانت النتيجة أن فاز مرشحو الاتحاد، عندما أعلنت النتائج يوم 30 ماي 1960، بأغلبية ساحقة في أغلب المدن و القرى. لقد حصل مرشحو الاتحاد على أرقام قياسية في البيضاء و الرباط و طنجة و الجديدة و القنيطرة و غيرها. من بين النتائج التي كان لها وقع المفاجأة العظمى في الداخل و الخارج انهزام السيد محمد الدويري الذي عين وزيرا للمالية في حكومة ولي العهد (الحسن الثاني) في الرباط أمام مرشح الاتحاد الحاج محمد بنعلال العوينات، و كان يكسب قوت يومه من بيع الفحم (الفحام). (في غمار السياسة: فكرا و ممارسة- الكتاب الأول، محمد عابد الجابري. الشبكة العربية للأبحاث و النشر. الطبعة الأولى 2009. ص: 262)
و بانتباه بسيط نجد أن ذات السيناريو هو الذي تحقق في 4 شتنبر 2015؛ إذ أسقطت الجماهير الشعبية مرة أخرى العديد ممن تربع على كرسي الوزارة و قادة الأحزاب (بلخياط، أوزين، شباط، الباكوري..). و بخصوص اكتساح الاتحاد للقرى آنذاك و غيبة وريث الاتحاد (العدالة و التنمية) عن هذه المناطق اليوم؛ المسألة تبين، من جهة، أن الاتحاد كان ملتحما مع الجماهير الشعبية في كل الأوساط و "العدالة و التنمية" مازال في بدايات اقتحامه لهذه الأوساط. و من جهة ثانية، يواجه حزب العدالة و التنمية حزبا من أذكى (و أشرس) أحزاب السلطة على مر تاريخها هو حزب الأصالة و المعاصرة  استغل بشكل لافت وضعية الجماهير في القرى، بينما حزب "البام" الأول (أي جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية) بزعامة كديرة لم يكشر عن أنيابه إلا في سنة 1963 و ربما كانت نتائج الانتخابات الجماعية لسنة 1960 هي السبب !
مرت التجربة الديمقراطية الأولى للانتخابات الجماعية كأحسن ما تمر الانتخابات في البلدان المتقدمة التي قطعت أشواطا كبيرة في الحياة الديمقراطية. و إذا كانت هذه النتائج قد أظهرت بوضوح مدى انتصار التقدمية و اندحار الرجعية حيث اكتسح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية اكتساحا عظيما هائلا، في جميع نواحي البلاد. و قد نجح الاتحاد الوطني نجاحا هائلا مؤيدا بالأرقام و الأسماء، آن أن ننصرف جميعا إلى ما هو أهم، إلى بناء مستقبل البلاد، واضعين ثقتنا الكاملة في الجماهير الشعبية التي برهنت عن وعيها و نضجها و رشدها. و الخطر كل الخطر هو السقوط مع الرجعية الفاشلة في مجادلات كلامية دائمة لأن الاستعمار، حليف الرجعية، يريد أكثر من هذا. يريد أن نبقى في مجادلات فارغة مع القوى الرجعية، ليتفرج هو، و يستغل انصرافنا عن أهدافنا الوطنية فيثبت أقدامه و يوطد ركائزه في حين أن المعركة القائمة في المغرب هي معركة ضد الاستعمار و بقايا الاستعمار، معركة من أجل الديمقراطية و التحرر و التقدم المطرد. لذلك يجب أن ننصرف للعمل من أجل مستقبل البلاد.
"نعم لقد انتصرنا اليوم و علينا أن نعمل لننتصر غدا. هذا شعارنا، و على ضوئه سنسير واثقين من أنفسنا و من قوتنا كشعب مناضل مكافح. فلنسر جميعا معززين بانتصارنا، فلنسر جميعا و الله معنا، و النصر لنا". هكذا ختم الأستاذ محمد عابد الجابري تعليقه على نتائج الانتخابات الجماعية الأولى في المغرب التي أُجريت سنة 1960. (المرجع السابق، ص:263-264)
و ليس بعيدا أن يظن أي قارئ لهذا النص أن قائله أحد قادة العدالة و التنمية قاصدا بدعاة الرجعية أصحاب المشروع السلطوي (حزب الأصالة و المعاصرة) الذين يحملون بحق أفكارا  في منتهى الرجعية من قبيل استئصال إحدى أكبر الحركات الاجتماعية بالمغرب و احتضان السلطوية و حماية المفسدين و رعاية السعاة لإعاقة مشروع الانتقال الديمقراطي في هذا الوطن علاوة على الحنين إلى سلب إرادة الجماهير و التحكم في المشهد بالهواتف و ألوان الوعيد.
لننتقل إلى الانتخابات الجماعية لسنة 1976. فقد جرت كما كان مقررا في 12 نونبر بعد حملة انتخابية واسعة خاضها مناضلو الاتحاد في كل مكان، فجاءت النتائج كما كانوا يتوقعون. لقد أسفرت نتائج التصويت التي أعلنت عن "فوز الاتحاد بالأغلبية في أهم المدن و المراكز الحضرية و القروية: في الرباط و فاس و طنجة و أكادير و تارودانت و سيدي قاسم و صفرو". كان الاتحاد يستحق هذه النتائج، فلقد كانت حملته الانتخابية ذكية و قوية، و قد قام المرحوم عبد الرحيم بوعبيد فيها بدور هام، إذ زار كثيرا من المدن و ترأس عدة مهرجانات خطابية في جو من الحماس يذكر بذلك الذي عاشه الاتحاديون في حملاتهم الانتخابية في أوائل الستينات. و لكن دار لقمان تأبى إلا أن تبقى على حالها. لقد تدخلت أيدي التزوير لتغير نتائج مكاتب التصويت و لتعلن وزارة الداخلية عن نتائج أخرى في كثير من المناطق. و بدأت المحرر (جريدة حزب الاتحاد الاشتراكي) بالتشهير بالتدخل الذي حصل فكتبت تقول بعناوين كبيرة: "رغم نزول خصوم الديمقراطية بكامل ثقلهم، و رغم التزوير و طبخات آخر ساعة، الاتحاد الاشتراكي ينتزع أغلبية المقاعد و الأصوات في أهم المدن و المراكز. تدخلات آخر ساعة حرمت الاتحاد من عشرات المقاعد بفارق يتراوح ما بين صوتين أو ثلاثة أصوات". "عملية انتزاع الأغلبية من الاتحاد مستمرة بمختلف الوسائل... و ممارسة الضغط على الناجحين الاتحاديين لإعلان حيادهم و التعاون مع من يسمون ب"الأحرار". و كان هو حزب عصمان الذي خلف حزب كديرة. (في غمار السياسة: فكرا و ممارسة-الكتاب الثالث، محمد عابد الجابري. الشبكة العربية للأبحاث و النشر. الطبعة الأولى 2010. ص:33)
قراءة هذا التاريخ خصوصا في هذه المرحلة من أوكد الواجبات لأنه ثري بالدروس الملهمة لنا لإنجاح هذه الفرصة التي أمام مشروع الانتقال الديمقراطي الذي تم تأجيله من بداية الستينات !
رغم اكتساح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لنتائج الانتخابات الجماعية الأولى لسنة 0196، إلا أن مشروع البناء الديمقراطي تعرض لإجهاض سريع و ضُيعت فرصة تاريخية لإنشاء دستور ديمقراطي. فإثر هذه النجاحات على مستوى الاستشارات الشعبية؛ يقول الأستاذ الجابري: أدرك خصوم الاتحاد، و على رأسهم كديرة و جماعته، أنه إذا أجريت انتخابات مجلس تأسيسي لوضع الدستور سيكون حظ الاتحاد فيه كحظه في انتخابات الغرف و البلديات، و بالتالي سيكون الدستور الذي سيضعه هذا المجلس في صالح ملكية دستورية ديمقراطية حقيقية. من أجل ذلك انطلقوا في حملة من الوشاية الكاذبة ضد الاتحاد قصد التأثير في جلالة المرحوم محمد الخامس، و قد أسسوا حملتهم على القول إن الاتحاد الوطني بمطالبته بالمجلس التأسيسي إنما يريد الإطاحة بالملكية كما حدث حين الثورة الفرنسية عندما اجتمع مجلس تأسيسي سنة 1789 و قرر إلغاء الملكية. (في غمار السياسة: فكرا و ممارسة-الكتاب الأول، ص:264). و سرعان ما انزلق المغرب، بسبب تلك الوشايات المغرضة، نحو ما تسميه الأدبيات الاتحادية ب"الحكم الفردي" بُعيد وفاة الراحل محمد الخامس ذلك الحكم الذي تم تأطيره بدستور 1962. و بذلك تم إجهاض مشروع الديمقراطية الأول في المغرب المستقل و الإجهاز على إرادة الشعب المغربي في التغيير بإنشاء أول نسخة من لون "الأصالة و المعاصرة" باسم جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية.
في الانتخابات الجماعية لسنة 1976؛ الاتحاد الاشتراكي يفوز بثقة الجماهير من جديد. لكن هواة الإجهاز على إرادة الشعب  يحرصون على الولادة الميتة للمشروع الديمقراطي الثاني في المغرب المستقل. و يدفعون بالنسخة الثانية من لون "الأصالة و المعاصرة" تحت اسم التجمع الوطني للأحرار الذي تأسس رسميا سنة 1977 و وُلد بملعقة من ذهب إذ حصل على الأغلبية مباشرة في الانتخابات و زعيمه هو الوزير الأول عصمان !
اليوم في الانتخابات الجماعية 2015، بدأ نفَس الاستبشار بنجاح المشروع الديمقراطي الرابع في المغرب المستقل (فالمشروع الثالث كان مع اليوسفي، لكن مع الأسف تم إجهاضه كذلك !) يسري في أوساط العديد من الناس، منطلقين من حدث 4 شتنبر الذي تحررت فيه إرادة الشعب  و استعاد فيه المبادرة. إذ اكتسح فيه الوريث الطبيعي لنضالات و خط الحركة الاتحادية في نسختيه (الاتحاد الوطني، و الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) المدن و المراكز الكبرى؛ فكما وقف الاتحاد الوطني أمام النسخة الأولى من "البام" التي تزعمها كديرة تحت عنوان (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية) في الستينات، و وقف أمام النسخة الثانية من "البام" التي تزعمها عصمان بعد منتصف السبعينات تحت يافطة (التجمع الوطني للأحرار)، ها هو حزب العدالة و التنمية يقف بثبات أمام  النسخة الثالثة من "البام" المسماة (الأصالة و المعاصرة) التي يتزعمها إلياس العمري !
لن نفهم ما يجري اليوم في المشهد السياسي المغربي إن لم نعي أن حزب العدالة و التنمية ليس حزبا كأيها الأحزاب. لن نتمكن من فك مغالق المناورات حول التحالفات في الأيام المنصرمة إلا بعد أن ندرك أن حزب العدالة و التنمية: يعد واجهة سياسية لفكرة إصلاحية تتغيا تخليق الحياة السياسية المغربية. لن نستوعب طبيعة الخناق الذي يضرب على الحزب على المستوى الإعلامي إذا لم نلحظ بذكاء أنه امتداد لحركة وطنية إصلاحية مجيدة؛ حركة كان عنوانها حزب الاستقلال (من 1943 إلى 1958: مع حكومة بلافريج) و كان أملها "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" (من 1959 إلى 1972) و كان تألقها في "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" (من 1975 إلى 2002 ! ). لن ننتهي إلى مفهوم للحرب المعلنة من طرف "الدولة العميقة" على هذا الحزب إلا حينما نفهم أنه في طليعة القوى الديمقراطية الصلبة التي تعاند بلا هوادة  المشاريع السلطوية الاستبدادية البائدة.
باختصار؛ لن نتمكن من إدراك صحيح لما يجري في المشهد السياسي المغربي إلا إذا ضممنا إلى بنيتنا الذهنية ما يلي: حزب العدالة و التنمية واجهة لمشروع وطني تحرري يروم استكمال بناء المغرب المستقل مسترشدا بتراكمات و تضحيات كل الحركات الوطنية المناضلة.
صحيح أنه مشروع مازال يتلمس بنيانه الفكري الراشد. لكنها طبيعة المشاريع الإصلاحية تستهدي و  تستفيد من التجربة و الممارسة لنفض الغبار عن الأخطاء و العثرات و لفظ كل ما هو عتيق غير مفيد من الأفكار. فأمامنا الحركة الاتحادية مرت في فكرها من "التقرير المذهبي" للرئيس عبد الله إبراهيم في المؤتمر الثاني (سنة 1962) و عرجت على "الاختيار الثوري" للزعيم المهدي بنبركة الذي كانت له أصداء واضحة في "التقرير الإيديولوجي" الذي صاغه المفكر محمد عابد الجابري في المؤتمر الاستثنائي (سنة 1975).
إن درس التاريخ السياسي يقول إن الإيمان بالديمقراطية و الانشداد إلى إرث الحركة الوطنية يقتضي الاعتراف بأن حزب العدالة و التنمية يمثل طليعة القوى الديمقراطية الإصلاحية (التي فيها قوى أخرى: حزب التقدم و الاشتراكية و فيدرالية اليسار الديمقراطي) في هذه المرحلة. و أيُ اعتداء غير مشروع على حق الحزب في التسيير و المشاركة في أركان الحياة السياسية هو اعتداء ينذر بإجهاض الانتقال الديمقراطي الرابع الذي حقق أشواطا مهمة لم يسبق لها مثيل. إنها معادلة ينبغي أن تكون واضحة لدى كل الديمقراطيين و كل الوطنيين و كل الغيورين. فدرس التاريخ الاتحادي أثبت أن الاستهداف غير الأخلاقي للاتحاديين، باعتبارهم آنذاك عنوان الإرادة الشعبية، كان استهدافا للمشروع الديمقراطي في المغرب برمته.



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




شكلت العملية الانتخابية الأخيرة بملابساتها و نتائجها محطة جديدة تبعث رسائل هامة لمختلف الفاعلين في الحقل السياسي و التحليل الاستراتيجي ببلدننا و محيطنا. لعل أبلغ رسالة جامعة فيها كانت: "من جد وجد و من زرع حصد".. صار واقعا لا مثالا فحسب.
أولا؛ ما قلناه في "رسائل من تيزنيت" من كون المصباح بات عنوان المرحلة بلا منازع و رائد الموجة الإصلاحية الثالثة عن جدارة و استحقاق، انطلاقا من الحشود التي تلتئم حول خطاباته، صار حقيقة أكيدة بالصناديق الشفافة النظيفة.
ثانيا؛ بخصوص مسار الانتقال الديمقراطي في وطننا، أكدت النتائج أننا على الطريق الصحيح. من جانبي، حضرت -كغيري من الشباب المقربين من محيط المصباح-لأداء واجب مراقبة نزاهة العملية الانتخابية و نظافة الأصوات المحسوبة؛ فتداعت الخواطر الآتية في ذهني: أ ليست الانتخابات التي أرى أمامي نزيهة؟ أ ليست قضية الفوز رهينة بأصوات الشعب؛ رهينة بجهدك في إقناع المواطنين بأفكارك و برنامجك؟ لماذا يقاطع المقاطعون، إذن؟
ثالثا؛ بخصوص تراجع حزب "البؤس" في المدن و استمرار جراره البئيس في البوادي. ثمة هناك رسالة في غاية الوضوح مفادها أن "الأصالة و المعاصرة" مطالب بحل نفسه اليوم قبل غدا. لأنه لم يعد ممكنا له -بعد أن بدأ الوعي السياسي يتنامى- إلا أن يضحك على ذقون العجائز و الشيوخ الذين شبوا و شابوا في العهد البائد. و بما أن جمهور "البام" قد شاخ و بات على عتبة سجلات الوفيات فإن الحزب اللقيط يطل على نعشه من النافذة في انتظار أن يخرج إليه من الباب.
في ذات السياق، لا يفوتنا أن ننسى أن "البام" ليس الحزب الإداري الوحيد بقدر ما هو الحزب البئيس الذي صُنع حديثا ليعيق الانتقال الديمقراطي في هذه المرحلة. فهناك حزب التجمع الوطني الأحرار و حزب الاتحاد الدستوري و حتى حزب الحركة الشعبية؛ فهي كذلك أحزاب إدارية مريضة بأمراض مزمنة انتهت أدوارها منذ مدة: مازالت تقتات من ذات الجمهور الذي شاخ أي الوقود الحالي  "للبام" في الانتخابات. و بالتالي فأجلها اقترب جدا: ينبغي أن تحل نفسها و يلتحق فضلاؤها – الراغبون في مواصلة العمل السياسي بشرف- إما بحزب العدالة و التنمية أو فيدرالية اليسار الديمقراطي.
رابعا؛ بخصوص تراجع الأحزاب الوطنية التاريخية (حزب الاتحاد الاشتراكي و حزب الاستقلال). ثمة هناك رسالة ساطعة تقول: إن هذه الأحزاب أصبحت متعفنة ينبغي عليها أن تُعجل بالاستقالة من الحياة السياسية و حل نفسها. حزب الاتحاد الاشتراكي مات ! حزب الاتحاد الاشتراكي بسلوكه السياسي البائس و ترشيحه لأمثال المدعو عبد الوهاب بلفقيه بكلميم الذي يستعمل المال الحرام و يشتري الذمم و الأصوات قد اغتال مرة ثانية الشهداء و المناضلين الذين ماتوا من أجل مغرب النزاهة و الديمقراطية و العدالة و الاجتماعية.
  فأما الشرفاء و الصادقون من هذه الأحزاب، إن كانوا ذوي ميولات يسارية، فمن الواجب الأخلاقي عليهم أن يلتحقوا بفيدرالية الشرفاء (فيدرالية اليسار الديمقراطي) التي تعد آخر عناقيد اليسار المبدئي: إذ فيها أمثال المثقف الكبير محمد الساسي (الذي كان في الثمانينات الكاتب العام للشبيبة الاتحادية حينما كانت تؤطر الجماهير الشعبية بالآلاف) الذي ترشح في ذيل اللائحة في الرباط، إنهم الكبار الذين لا تسيل لُعابهم للسطة بل للديمقراطية و العدالة الاجتماعية و الإصلاح !
بخصوص حزب التقدم و الاشتراكية و حزب البديل الديمقراطي، من الأفضل لهم أن يلتحقوا كذلك بهذه الفيدرالية التي تستحق أن تتقوى. لكن، من جانبها ينبغي على الفيدرالية أن تتخفف من بعض التكبر الذي يتخلل خطاب بعض قادتها (إذ يعتبرون أنفسهم الأوصياء على الديمقراطية و الحرية و يتغافلون عن "النضالية" المنقطعة النظير التي تسم خط "العدالة و التنمية"). إننا في حاجة لمغرب يكون لكل الصادقين.
إن هذا التأثيث المأمول للمشهد الحزبي المغربي، كفيل بتسريع وتيرة الانتقال الديمقراطي في هذا الوطن و وضع الحد للميوعة السائدة فيه و لفظ الكائنات السياسية التي لا تجيد سوى التهريج و التدجيل و شراء الأصوات في الانتخابات. إنه مشهد جدير بتمتيع المغرب بحياة سياسية راقية تقترب من مشهد الدول العريقة في الديمقراطية حيث التنافس يدور بين قطبين أو حزبين –على الأكثر ثلاثة أحزاب- و يكون التدافع ساريا بين البرامج و الأفكار. إنه المغرب المأمول ! على كل حال، المغرب أخذ طريقه السيار و لا عودة إلى الوراء.
أخيرا؛ رسالة أخرى تعد جوهر الرسائل، بالنسبة لي كمهتم بالأطر النظرية و الفكرية للسلوك السياسي أكثر من الممارسة السياسية، هي أن فكرة "الحتمية" التي تحرك تحليلات الكثير من المثقفين الفضلاء (منهم أصدقائي) الذين نكن لهم كل تقدير و احترام لما لهم من غيرة لا غبار عليها و رغبة صادقة في إخراج مجتمعنا من التأخر التاريخي الذي يرتع فيه؛ أصبحت هذه الفكرة بعد هذه المحطة الديمقراطية في عداد الأفكار التي تستدعي أن يعاد فيها النظر بجدية..
أقصد بفكرة "الحتمية"؛ الخطاب الذي يتضمن تشاؤما مطلقا و رؤية سوداوية لأن المسار السياسي –عندنا- حسب أصحابه لا يسير وفق التحليلات العلمية و لا وفق المسار الذي اتخذته الدول العظمى للتقدم (= أي ضرورة انتشار وعي طبقي وفق الثقافة الماركسية للقيام بثورة ثم بناء حياة حديثة..). و بالتالي أصحابه ينادون بحتمية سلوك مسلك الثورة  -بذاك المفهوم- للخروج من نفق التأخر التاريخي.
إن خط الانتقال الديمقراطي (الذي يعد شرطا لازما للانتقال التاريخي) بهذا الوطن؛ إذ ينتهج نهجا تراكميا تدرجيا متميزا يؤكد أن فكرة "حتمية" الانتقال وفق نمط معين باتت محدودة.



...تابع القراءة

| 2 التعليقات ]







شاءت الأقدار أن أصل إلى تيزنيت ساعات معدودة قبل بدء المهرجان الخطابي الذي استضاف الأستاذ عبد الإله بنكيران.  لا أخفي أني لا أتعلق بالأشخاص كثيرا مهما كانوا، لكني في ذات الوقت أعلن باعتزاز أني أرتبط ارتباطا وجدانيا عميقا بالصادقين (و الصادقات) من الناس لأني ببساطة أرى فيهم معنى الإنسان و قبسا من روح الله. و لا سلطة لي على دموعي حين أستمع لهم إذ تحين ساعة اللقاء و يجيش عالم الارواح.
حضر للمهرجان المذكور الذي استضاف حامل مشعل المصباح (ذ. بنكيران): حشد و أيُ حشد ! حشد مخيف بكل صدق !
لم أتصور يوما –و أنا الذي كنت قريبا جدا من محيط المصباح- طيلة أيام الثانوية و الإعدادية بتيزنيت أن "العدالة و التنمية" قادر على تعبئة الجماهير بهذه الكثافة المنقطعة النظير. إنه الصدق يا سادة ! إنه خطاب الصادقين الذين لا يجيدون التصنع و الزخرفة و "التزويق" !
رغم أني لا أؤمن بحكاية " الزعيم" ! إلا أنه – من دون شك-  يبقى الأستاذ عبد الإله بنكيران في طليعة رجالات الوطن الكبار الذين هيأتهم العناية الإلهية لهذه المرحلة. هو –بلا مبالغة- وريث عبد الله إبراهيم و المهدي بنبركة و عبد الرحمان اليوسفي. بل ربما هو  المنافس الشرس، الذي لا يشق له غبار، للمهدي بنبركة في القدرة التواصلية المذهلة و  احتلال قلوب المواطنين.
إنه الصدق –مرة أخرى- يا سادة ! فلا يوهمن أحد نفسه بمكانة مرموقة في أوساط الناس و هو سالك طريق الكذب و الافتراء و التسلق و التملق و الخواء و الفراغ ! إنه الصدق –أولا و أخيرا- مع رب العالمين في المُرابطة على درب الصالحين و المصلحين ! إنه الصدق –ثانيا- مع الوطن و المواطنين في العمل – قدر المستطاع – على رفع الوهن عنهم و الارتقاء بأحوالهم و الوقوف ضد كل من يكيد لهم !
إن الرسالة التي لن يغفل النبهاء عن تلقُفها من وراء الحشود التي تحضر منتديات و مهرجانات المصباح؛ هي أن فكرة "العدالة و التنمية" و المشروع الحاضن لها هو رائد الموجة الثالثة من الحركة الوطنية الإصلاحية. فبعد الموجة الأولى مع حركة الاستقلال : و أشير في هذا الصدد أني لما وقفتُ بجوار المنصة التي اعتلاها الأستاذ بنكيران مع العديد من الشباب عادت بي الذاكرة إلى الذاكرة السياسية للمفكر العملاق محمد عابد الجابري التي سجلت (في "مواقف") المهرجان الجماهيري الحاشد الذي أطره الراحل الكبير المهدي بنبركة –في إطار حزب الاستقلال- في الدار البيضاء لعله في سنة 1955 و شارك الشاب محمد عابد  الشباب في حراسة منصته و هو إذ ذاك على مشارف العشرين (فهو من مواليد دجنبر 1935) التي بدوري أُطل على عتبتها في هذه الأشهر الجارية !  
بعد الموجة الاستقلالية جاءت الحركة الاتحادية لتضفيَ على المشهد السياسي معان أخرى و كان قائدها في نسختها الثانية  الوطني الكبير الأستاذ "عبد الرحيم بوعبيد" المحبوب لدى شريحة واسعة من المواطنين. و للأسف الشديد فقد حمل إدريس لشكر نعش الحركة الاتحادية إلى  مثواها الأخير.
هكذا سنن التاريخ ! اقتضت أن يكون مشروع الإصلاح الذي يمثل "العدالة و التنمية" واجهته السياسية بمثابة خميرة للحركة الإصلاحية الجديدة التي تألقت بعد الحراك الفبرايري المجيد ! و الجميل أن هذه الموجة الثالثة استجمعت جواهر الحركة الاستقلالية (مقاصد الشريعة عند الفاسي) و درر الحركة الاتحادية (الوطنية الصادقة، الصلابة الأخلاقية و الديمقراطية). و بالتالي فكل رافض –هكذا بإطلاق- للحركة الإصلاحية الثالثة (بقيادة العدالة و التنمية) فهو معاند لسنن التاريخ و مُهمل للحقائق الساطعة في الواقع الراهن.
إن الوعي بالواقع السياسي الحالي يقول: إن حزب الاتحاد الاشتراكي انتهى ! و كل ارتباط بهذا الحزب إنما هو ارتباط بمنظومة رجل لا يخلو كلامه من مغالطات و أكاذيب و سفه و تدجيل. إن حزب الاستقلال، منذ مدة ليست قليلة، بات حزب الأعيان و الراغبين في الانتفاع بالمال العام و الاغتناء غير المشروع و هو حزب بلا بوصلة و لا مشروع يحكمه رجل: لا يختلف مواطنان حول جهله و دجله و خبله و سيلان لُعابه (للسلطة). أما أحزاب التجمع الوطني للأحرار و الاتحاد الدستوري و الحركة الشعبية (نسبيا) فهي أحزاب إدارية وظيفية أنشأها (المخزن)  للتشويش على مسار الحركة الاتحادية خصوصا، غدت الآن في المشهد السياسي –للأسف فهذه هي الحقيقة- بلا وظيفة تذكر سوى توفير نصاب الأغلبية (و العدالة و التنمية مضطر للتحالف معها لأن المشهد أصلا مبلقن و لا خيار له في ذلك  في انتظار تغير حقيقي في النظام الانتخابي يسمح بأغلبية تتشكل من حزبين : حزب العدالة و التنمية  مع حزب كالتقدم و الاشتراكية أو فيدرالية اليسار الديمقراطي) و هي –بلا شك- توظف أساليب بئيسة تنتمي للعهد البائد في العملية الانتخابية: المال الحرام و شراء الذمم... أما حزب البؤس و البؤساء (ليس"البؤس" بالمعايير المادية؛ فأغلبهم من اليسار الجذري الفاشل الذي انتقل من حب التحليلات العلمية ل"رأس المال" (الكتاب الأشهر لكارل ماركس)–حسب تعبير المناضل الوطني الغيور: عبد العزيز أفتاتي- إلى حب "المال" و الريع و الاغتناء غير المشروع و بحبوحة العيش على حساب الكادحين. بل أعني "بؤسهم" من ناحية فقرهم الأخلاقي و القيمي: فكل مشروعهم هو العداء للحركة الإسلامية و  استئصال شأفتها و بالتالي العداء للديمقراطية و دولة المؤسسات و الحرية؛ أي في نهاية المطاف مشروعهم هو تكريس الفساد و تثبيت الاستبداد)؛ فهو حزب مخزني بامتياز جرائمه المتواصلة –في السر و العلن- بحق مشروع الانتقال الديمقراطي في هذا الوطن تستدعي  يقظة جادة من طرف كل المواطنين الغيورين.
لم يبق –إذن-من الأحزاب المُعول عليها سوى حزب العدالة و التنمية و هو حزب المرحلة.  و بالمناسبة: الوعي بسنن التاريخ؛ يقتضي أن نفهم بأن لكل محطة رجالها و نساؤها و عنوان جامع لمشروعها: و بالتالي لا مناص مرة أخرى من الإقرار بأن مشروع الإصلاح الذي يقوده العدالة و التنمية –رغم كل الملاحظات التي قد تسجلها عليه- هو إجابة عن أسئلة المرحلة. و نحن واعون بأن  صلاحية موجته ستنتهي في يوم من الأيام كما وُلدت كل الموجات و ماتت سواء بترهل في نضالية و قيم إنسان "المشروع" أو ظهور موجة جديدة من الإصلاح – و هذا مستبعد في المستقبل القريب- أكثر متانة و تماسكا و جاذبية. و من الجدير بالذكر كذلك أن المرحلة تتطلب أحزاب أخرى تكمل النقائص و تسد الثغرات و تتدافع أطروحاتها بشكل ديمقراطي راقي مع مشاريع و رؤى الحزب و أُقدر –و تقديري محدود- أن تكون فيدرالية اليسار الديمقراطي و أجنحة معتبرة من حزب التقدم و الاشتراكية هي الخطوط السياسية المرشحة لهذه المَهمة: فالانتقال الديمقراطي لا يحتمل طغيان لون واحد مهما كان، زد على ذلك أن التاريخ يسير دائما على أنقاض تدافع فكرتين. هذا ما أثبته كبار فلاسفة التاريخ.
إني هنا أتحدث في إطار الممكن و الواقعي و الموجود (من قبيل: واقعية "الجابري" مع الحركة الاتحادية الثانية، و خط "العروي" في الترشح باسم الاتحاد الاشتراكي سنة 1977). أما الحديث عن التماسك الداخلي لمنطق المشاريع و الصرامة المنهجية في التعبير عن الرؤى و الأفكار فذلك  حديث آخر.






...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





ألقى الأستاذ بلال أردوغان محاضرة مفتوحة حول أسرار نجاح التجربة التركية أمام الجيل السابع من أكاديمية إعداد القادة التي تنظمها سنويا شركة الإبداع الأسرية و تديرها الأستاذة بثينة إبراهيم (زوجة المفكر و الإعلامي المعروف طارق السويدان). لم يُفوت فيها المحاضر الفرصة لبعث رسائل مضيئة لمسارات "قادة" الغد.
استهل نجل الرئيس التركي كلمته بالتذكير بمدلول القيادة، كما درسه في إحدى الجامعات العريقة بالولايات المتحدة الأمريكية، و هو: القدرة على مواجهة المشاكل  و قيادة المعارك (على مختلف الأصعدة) في ظل غموض المشهد و ضبابية الصورة و طغيان التعقيدات و تشابك الملفات. و من هنا، اعتبر نجاح والده في قيادة التجربة راجع إلى استبطانه لهذا المدلول (رغم كونه لم يشهد الدراسة في الجامعات المتقدمة في الولايات المتحدة الأمريكية !) فهو الذي يقول –أي الرئيس أردوغان-: أستمتع بمجابهة  المشاكل  الكائنة في مناخ موبوء و  مشهد مضطرب..
هذا الكلام يزكي كثيرا المسار الذي يرسمه حزب العدالة و التنمية في المغرب. فالحزب يدرك ما يكتنف العملية السياسية من غموض و تعقيد و ميوعة، لكنه -و بقيادة الأستاذ عبد الإله بنكيران- يصمد وسط الإعصار و يشق طريق فكرته الإصلاحية بثبات غير مكترث لأي مثبط أو كائن يعيش على الأماني و الانتظار.
اعتبر الأستاذ بلال أن توجُه حزب أردوغان إلى بناء اقتصاد قوي من خلال الدفع بعجلة الاستثمارات الأجنبية و تقوية البنيات التحتية و تلميع عمل البلديات  إلى جانب توجيه المشاريع نحو الفقراء و توطيد أركان الديمقراطية و الحرية. اعتبر كل تلك الإجراءات نجاحات ساطعة رفعت الوهن عن تركيا. لكنه استدرك: إن النجاح الحقيقي الذي حققناه هو المتمثل في جعل التدين في مركز الحياة التركية (قبل ولوج حزب العدالة و التنمية للسلطة كانت المرأة تُطرد من البرلمان لأنها محجبة، حاليا أزيد من عشرين محجبة و لا أحد بمقدوره أن يتجرأ على فتح فمه بخصوص زيهن بله أنطردهن من السلطة التشريعية).
أما زبدة الدروس التي وجهها نجل أردوغان ل"قائد" الغد فهي : اعرف نفسك، و عش لرسالتك.. النجاح التام يوجد هناك في الدار الآخرة.. لا راحة لنا في الدنيا. فحتى ما نظنه نعيما هنا، بالمقارنة مع ما في الفردوس الأعلى، هو جحيم. الخيبة كل الخيبة، إن فُزت هنا و أفلحت في الدنيا، و خسرت الآخرة فذاك هو الخسران المبين. و أضاف: المهم إن لم ننجح، بالنسبة لنا نحن المسلمون، هو أن نموت و نحن نحاول صد الظلم و الطغيان و مقارعة الباطل و الاستكبار..
هو درس و أيُ درس ! هو درس ابن الرئيس الذي لم تنسيه حياة واشنطن أو باريس بوصلة "الآخرة" التي تعد بحق منارة كل مسلم سعيد ! (كل نفس ذائقة الموت و إنما تُوفون أجوركم يوم القيامة فمن زُحزح عن النار و أُدخل الجنة فقد فاز و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). سورة آل عمران:185.
المهم هو أن تحاول  بكل قواك، هو أن تجاهد بكل جهدك، هو أن تُقلع.. و ليس بالضرورة أن تصل! المهم هو أن تقتعد مقعدا في الفردوس الأعلى فذاك هو غاية المنى ! أما أن تحتل حيزا بين الأمم العظمى، فلا شك أنه مطلوب، لكن يكفيك فيه شرف المحاولة.. ففيها مناط رسالة الاستخلاف.. و لعل الجيل الذي يعقبك يفوز بقطف ثمار محاولاتك !
كلام يزكي مرة أخرى تجربة العدالة و التنمية في نسخته المغربية. فهو حزب يخوض هذه الأيام غمار العملية الانتخابية في مستنقع آسن؛ في ظل غياب منافسة حقيقية من الأحزاب السياسية (باستثناء قطاع مُقدر من حزب التقدم و الاشتراكية و فيدرالية اليسار الديمقراطي الذي يحوي آخر العناقيد في اليسار الوطني المبدئي الغيور). فالمنافس الحقيقي للحزب هو الفساد و الكذب  و استعمال المال الحرام و استغفال جماهير الأمية..  لكن، "العدالة و التنمية" يكفيه أنه يحاول، بل هو يشق سبيل الفلاح في محاولته: إذ يقض مضاجع المفسدين (بحاله قبل مقاله) و يستنفر خطابه طغمة الأعيان و المتنفذين و يهجس لفكرته الإصلاحية حزب "البؤس" الذي تلطخ بمخازي المخزنة منذ نشأته في ثمانية بعد ألفين (2008)..
ختم نجل الرئيس التركي رسائله قائلا: نحتاج إلى قادة واثقين بأنفسهم، فخورين بدينهم و هويتهم. قادة يغشاهم الإيمان بربهم و يملأهم الحب لرسولهم (صلى الله عليه و سلم) و الحب للإنسانية جمعاء. لا تهتموا بما يقوله الناس فيكم بل ركزوا على ما يراه الله جل في عُلاه منكم.







...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



حضرتُ مؤخرا نشاطا دوليا جمع جنسيات متنوعة في الوطن العربي. أتاح لي اللقاء فرصة التعرف عن كثب على ملامح فرادة هويتنا الوطنية (بعد استحضار عمقها الإسلامي العربي). فالهوية، في أبسط دلالاتها، هي حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره. من هنا، كانت معاينتي لثقافة باقي مكونات الوطن العربي محطة لاستجلاء تميز هويتنا المغربية عن باقي الكيانات العربية، دون إهمال فكرة التنوع في إطار الوحدة.
إنه أمر لافت، أننا –نحن المغاربة- لسنا نسخة كربونية لغيرنا (=أي لأشقائنا العرب).
 خذ العامية المشرقية؛ فيها مشترك كبير في المعاني و المفردات بين مختلف الكيانات العربية من أقصى الخليج إلى الجزائر (و أعني ما أقول حينما أحُد المجال بالجزائر). و من اليسير لأي مواطن عربي، ينتمي لهذا المجال، أن يستوعب حديث زميله و لو كان من أقاصي هذا المجال. باستثناء العامية المغربية، لن يفهمها الكثيرون. و بالمناسبة، جنسية "العامية" لا علاقة بالتمكن من اللغة الفصيحة؛ فالمغاربة لا يتلعثمون في الحديث بالفصحى رغم بُعد عاميتهم عنها. بل إن أحد الشباب المشاركين في النشاط، و هو مهاجر مغربي أمازيغي قح من مدينتي "تيزنيت" يقطن في فرنسا منذ صباه في 2002 (درس الابتدائي في تيزنيت ثم هاجر)، يتحدث بفصاحة مثيرة للاهتمام.
على المستوى الفكري، المغاربة معروفون بالشغب الفكري و بآرائهم المثيرة التي تعادي التقليد و تنزع نحو التجديد. أحد الشباب المهتمين بالفكر، من الصومال، عبر لي عن تقديره الشديد للمفكرين المغاربة  (و أشار لي لبعض الأسماء: من بهذا قبيل الدكتور محمد عابد الجابري و هو "عروبي معتز بإسلامه"، و الدكتور سعد الدين العثماني و هو "إسلامي معتز بأمازيغيته").  و هؤلاء، رغم البون الواسع بين مجالات اشتغالهما، قدموا للمكتبة الإسلامية تجديدات مهمة و إضافات نوعية. كما عبر لي شاب آخر، من قطر، عن سروره بمقابلة أهل المغرب و حبه لعلمائه و مفكريه؛ دون أن ينسى استياءه  من "التواضع الشديد" الذي يتصفون به بخلاف أهل المشرق (قطر و البلدان الخليجية خاصة)، قائلا: ما إن يتحصل أحدهم على شهادة "البكالوريوس" (=الإجازة)، حتى يتجه نحو نشر "سبعة" كتب و المشاركة في الندوات و الدورات و  إنشاء المراكز  و "بلبلة" الدنيا..
على صعيد الفكر السياسي -مثلا-؛ الشباب المغاربة "حسموا" تقريبا ! مع خيار الدولة المدنية و الإيمان بالديمقراطية و الحرية. في حين أن العديد من الأطراف في الحالة العربية مازالوا يستنكفون من قضية "مدنية" الدولة. على أن العمليات الجراحية الفكرية مازالت تشتغل، هناك، للاتجاه نحو التصالح مع هذا الخيار.
دعونا نتساءل: لماذا هويتنا الوطنية فريدة و متميزة؟
لعل مجيبا يقول: إن المغرب تعرض لاستعمار فرنسي. و معروف أن فرنسا هي مهد التنوير و الحداثة.  و بالتالي، فالمغرب استفاد من هذه الرياح الفكرية التنويرية الفرنسية القوية للقيام بتجديد الفكر الديني و تثوير الخطاب الإسلامي.
لا شك أن هذا سبب مهم و مفتاح أساسي لفهم تقدم الذهنية المغربية على نظيرتها المشرقية (في العديد من الأصعدة). غير أننا إذا اكتفينا بهذا المستوى من التحليل. بماذا سنفسر، إذن، الفروق الكبيرة –على مستوى الذهنية- التي بيننا و بين سوريا الجريحة و لبنان الممزق و كلاهما تعرض للاحتلال الفرنسي؟
إني ،هنا، لا أخفي أن ذاكرتي تستدعي المكون الأمازيغي في هويتنا الوطنية. فهناك تكمن "العبقرية المغربية". و ينبغي أن ننصف المثقفين الأمازيغيين الوطنيين المعتدلين رواد الحركة الأمازيغية (ذ.أخياط، د،شفيق، ذ.أزايكو، د.بوكوس ..) الذين لفتوا انتباه المغاربة بعد رحلة نصف قرن من النضال الثقافي و الاجتماعي إلى هذا المكون الهام الذي يثري هويتنا الوطنية.
بخصوص قضية العامية أو الدارجة المغربية، لماذا هي عصية على باقي أبناء الوطن العربي. أشير إلى أن "فيلسوف" الحركة الأمازيغية أو بالأحرى "فيلسوف" لامريك (أي الجمعية المغربية للبحث و التبادل الثقافي) –بتعبير ذ. ابراهيم أخياط- و هو الأستاذ الصافي مومن علي؛ اعتبر في إحدى كتاباته –لعله كتاب "خطابات إلى الشعب الأمازيغي"- أن الدارجة المغربية ترجمة حرفية للأمازيغية إلى العربية فبنيتها اللسانية أمازيغية خالصة.
هل هذا الرأي صائب أم لا؟ هذا نقاش اللسانيين. المهم أنه يضفي معان إضافية على الفكرة-الرأي: مرد فرادة هويتنا الوطنية الغنية هو المكون الأمازيغي. 
قصدي في هذه الأسطر ليس توسيع الهوة بيننا و باقي إخواننا في الوطن العربي. و إنما هو تجديد الدعوة للاعتزاز بالمكون الأمازيغي في هويتنا الوطنية. و هذا الاعتزاز بهذا الانتماء لا يتنافى إطلاقا –إلا في أذهان بعض المغرضين و المتحاملين على  عمقنا العربي الاسلامي- مع العمل على تعميق الصلة بباقي الكيانات العربية و خاصة المغاربية. فاليوم، بات واضحا انه من زاوية استراتيجية: لا مستقبل إلا للتكتلات البشرية الضخمة و الأسواق الكبيرة و بالتالي فلا خيار لنا في العمل بجدية على بناء  الاتحاد المغاربي  و لم لا الاتحاد العربي؟



...تابع القراءة