في هذه الأيام تحل على كل إنسان يعيش في هذا العصر ، يتمثل معاني الإنسانية ، ذكرى الغطرسة الصهيونية التي لحقت قطاع غزة و الشعب الفلسطيني الأعزل . هذه الذكرى الثالثة ، إذ تحييها الأمة الإسلامية ، على وجه أخص ، وسط تغيرات جذرية و نوعية مست كيان الأمة برمتها .
منذ أن وضعت الحرب على غزة أوزارها ، تهافت المحللون على تفسير نتائج الحرب للإجابة على أسئلة مؤرقة للجماهير مازال الغموض يكتنفها ، فرغم الأرقام القياسية التي حطمتها آلة الحرب الصهيونية من شهداء و جرحى و أمهات ثكالى و أرامل .. ، إلا أن السؤال مازال قائما ؛ من المنتصر و من المنهزم ؟
لا ريب أن العدو الصهيوني لم ينتشي نخب النصر ، و كيف له ذلك و غزة على حالها ، حماس على قوتها ، تقارير '' جريمة ضد الإنسانية '' على أحر من الجمر ، المظاهرات الساخطة تعم أرجاء المعمور ، أوراق '' السلام '' المزعوم أصبحت بالية ... ؟ و لا يختلف اثنان ، في أن الخبراء العسكريين الصهاينة ، يعيشون ارتباكا حقيقيا ؛ بعد أن ذهبت حرب جنوب لبنان '' تموز '' و حرب غزة أدراج الرياح !
و في المقابل , يظهر أبطال المقاومة بكل عزة و إباء , يحتسبون الشهداء عند ربهم و ينتظرون اللحاق بهم , يصرون على الاستمرارية و مواصلة مشوار النضال في ساحة الوغى '' النصر أو الموت '' , لا يرهبهم تصريح صهيوني جبان و لا وعيد أي خائن عميل . منذ اليوم , عاهدوا ربهم , على أن تكون حياتهم للأقصى الأسير , على و لائهم للجهاد في سبيل تحرير مسرى النبي الأمين . بقوة الإيمان بمآل الشهداء , سخروا حياتهم ثمنا لحرية فلسطين و من أجل الشهادة في موطن الأنبياء و المرسلين . و بالتمثل لآيات الرحمان , المتكلمة بالوعد الصادق و الحقيقة التي لا يعرف التاريخ غيرها ( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً ) , تأكدت كوادر المقاومة , أن تحرير الأقصى آت و كل آت قريب , و ما عليها إلا أن تشمر على ساعد الجد لعلها تنال حظوة وتكون لها يد في هذا التحرير المبين .
بعد هذه التوطئة القصيرة , أصبح واضحا أن المنتصر من الحرب '' الغزاوية '' هو الشعب الفلسطيني الأبي و مقاومته الباسلة و هذا لا ينكره إلا جاحد , و مهما حاول البعض تغطية الشمس بالغربال , بإعتماد تحليل الأرقام لنتائج الحرب , فإن الإنتصار واضح , خصوصا و أن تلك الحرب تنعدم فيها أبسط الشروط من توازن في القوى ; حيث هناك شعب أعزل في مجابهة مع كيان مدجج بأعتى الأسلحة و مدعوم من طرف أعتى القوى المستكبرة في الأرض , أضف إلى ذلك , الحصار الذي يتعرض له الغزاويون , بمباركة من النظام المصري المخلوع و بمباركة من القوى الدولية , التي تدعي أنها وصلت إلى أرقى القوانين و أعدل النواميس , و كيف ذلك و هي تبارك إبادة شعب كامل و حرمانه من أبسط الحقوق !!
إعتقد الكثير من المتتبعين للقضية الفلسطينية أنها وصلت إلى طريق مسدود , خصوصا أصحاب التحليل الرقمي للحرب الأخيرة , بعد التاريخ الأسود للحكام العرب و مسار تآمرهم على القضية , غير أن الرياح جاءت بما تشتهيه السفن هذه المرة , بعد أن أصبح الفجر يلوح و صارت الشعوب تتحرر من الطواغيت العميلة لبني صهيون و الأمريكان . فتبين أخير للمتتبع أن ضريبة الصمود أهون من ضريبة للاستسلام .
فبات جليا أن الأوضاع الإقليمية تغيرت خلال السنوات الثلاث التي خلت , و أن أرشيفا حافلا من الأحداث صار لصالح القضية الفلسطينية , و لعل أبرزها , حسب اعتقادي , وصول الحركة الإسلامية في الآونة الأخيرة إلى سدة الحكم و تسلمها لمقاليده في بعض البلدان الإسلامية . و هذا الحدث ليس بالهين , فالحركة الإسلامية هي التي تقف مع المقاومة في فلسطين قلبا و قالبا , هي التي تمدها بشحنات من الدعم المعنوي , هي التي تكرس منطق التفاؤل و أنه مازال هناك خير كثير في هذه الأمة . لكن الآن ذلك الزمان قد ولى , و السؤال المطروح ما هو الدور المنوط بالحركة الإسلامية بجميع مكوناتها حاليا بعد أن صارت تملك زمام الأمور ؟
انتهى زمن الخطابات الرنانة و المقالات الفياضة غيرة على القضية الفلسطينية و مستقبلها و مركزيتها في الأمة , انتهى ذلك الزمن ليبدأ آخر و هو تطبيق ما جاء في تلك الكتابات و الخطابات و الدعوات التي كان موجهة بالأساس إلى الحكام و الشعوب , و بما أن أصحاب تلك الدعوات الغيورة على الأقصى الأسير أصبحوا حكاما فما عليهم إلا أن يُفَعِّلُوا تلك الأفكار و يترجموا تلك الحلول على أرض الواقع , و في كتابات المفكرين الإسلاميين فيض من غيض من أحاديث جمة عن هذه القضية ; الشيخ يوسف القرضاوي كثيرا ما تناول قضية فلسطين , فتحي يكن , فهمي الهويدي , محمد الغزالي , راشد الغنوشي , طارق السويدان ...
إن أول شيء يجب أن يبدأ به الحكام الجدد هو وقف التطبيع بجميع ألوانه مع هذا الكيان العدواني الغاصب لأرض ذات وقف إسلامي , و لا ريب أن هؤلاء الحكام كثيرا ما نهلوا من معين الكتابات التي ذكرناها آنفا , بل منهم أصحابها ( راشد الغنوشي مثلا في تونس ) و بالتالي فهم عالمون بمخاطر التطبيع و كيف جنى على الأمة , و يصدق عليهم مثل '' أهل مكة أدرى بشعابها ''.
ثانيا , إعادة ضخ حس الانتماء إلى القضية الفلسطينية في شرايين المجتمع و توسيع الحاجز النفسي الذي يوجد بين الأمة المسلمة و اليهود الصهاينة , و الذي يسعى الكيان الصهيوني جاهدا لتقليصه ; و ذلك عبر ترك الحرية لكل نشاط سواء المظاهرات أوالملتقيات الكبرى و غيرها يسير في اتجاه دعم القضية , كما يمكن ذلك عبر إثارة الموضوع في وسائل الاعلام ( الرسمية خصوصا ) و عبر المناهج الدراسية التعليمية بتدريس تاريخ الصراع الاسلامي-الصهيوني و بشاعة الجرائم الصهيونية التي لم يشهد التاريخ مثلها مع التأكيد مرة أخرى على أنه صراع وجود لا صراع حدود .
ثالثا , دعم و نصرة المقاومة الباسلة بالنفس و النفيس , ماديا و معنويا , كما كان الأمر سابقا أو أكثر من ذلك . على الأقل للتخفيف على كوادرها من اشدة الطعون التي يتلقونها من الخلف سابقا من الحكام الطغاة السابقين عملاء الصهيونية العالمية .
رابعا , توحيد صف الأمة الإسلامية والدفع من أجل وحدة القرارت المتبناة تجاه مستجدات القضية لتطويق عنق الكيان الصهيوني بحبل واحد .
خامسا , على الحركات الإسلامية أن تحذو حذو النموذج التركي ; و ذلك بوضع الاقتصاد نصب عينيها و السعي لتطويره , لتكسب تعاطفا شعبيا أكبر يمدها بمزيد من الثقة أثناء اتخاذ قراراتها , و لتصبح قوة معتبرة دوليا '' يتذلل'' الكيان الصهيوني للتعامل معها , فلا يستطيع !
سادسا , على الحكام الجدد احتضان المقاومة الفلسطينية , بعدما سقط القناع عن النظام الدموي اللاإنساني السوري , الذي بينت الأيام أنه كان يستغل اسم '' الممانعة '' و '' المقاومة'' أبشع استغلال لتغطية وجهه القبيح .
سابعا , الاستجابة لمطالب الشعوب المتمثلة في نسف المعاهدات الجائرة التي أبرمها العدو مع الأنظمة المستبدة المخلوعة التي لا تمثل إلا نفسها , و هذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار بأرض الكنانة و الأردن ...
إن أمام الحركة الإسلامية في ربوع العالم الإسلامي فرصة ذهبية لإيجاد حل إسلامي لا استسلامي للقضية الفلسطينية , و عليه فإنه يتوجب على الحركة أن تقوم بالدور المنوط بها كي لا تخطئ موعدها مع التاريخ .