| 0 التعليقات ]





ثمة "شبه" إجماع على أننا متخلفون. ما إن أن يبدأ الإنسان في وطننا –و أمتنا- في فرك عينيه من نوم أيام الصبا و يُقبل على عهد وهج السؤال مع شغب الفتوة و الشباب الباكر؛ ما إن يصل إلى هذا الخط حتى ينتبه لإعلان الواقع: إننا متخلفون !
و لعل كل المشاريع و الكتابات التي تبحث سؤال "التقدم" و "النهضة" منذ أزيد من قرن و نصف تتفق حول كوننا نعيش مرحلة استدبرنا فيها ما  يسمى ب"عصور الانحطاط و الانقباض" لكننا مازلنا نئن تحت وطأة "التخلف" و لهذا أصلا جاءت هذه الكتابات لالتماس محاولات للإجابة على سؤال "كيف" الخروج من مأزق التخلف. لكن، هذا الاتفاق حول سمة الحالة التي نتخبط فيها لا يقابله التفاهم حول المقصود تحديدا ب"التخلف". و لعل هذا "الخلاف" في المعنى الذي تأخذه "حالة التخلف" هو الذي أدى –و مازال يؤدي- إلى انفجار "الخصام" بين بعض هذه المشاريع الكبرى التي أفنى  أصحابها أعمارهم في بنائها. و المعضلة لا تكمن هنا، بل تتجلى في كوننا لم نخرج –بعد كل هذا الكلام- من دائرة "التخلف"، و صرنا مضطرين، نحن أحفاد أبناء أصحاب هذه المشاريع، إلى "الاقتراب" مجددا من مقاربة موضوعة "التخلف" رغم أنه كان من المفترض أن نتناول أسئلة أهم و أدق بعيدة عن "عموميات" يستمر تردادها بدون جدوى. و ربما المأزق في كل هذا التأخر المبين هو أن ثمة تخلفا ما في استكناه "حالة التخلف".
ليس هناك من أمر دال على عمق مأساة "التخلف" الذي نرتع فيه من أن نلفي أحد الذين يتصدون لتوجيه "الرأي العام" في المجتمع، و هو خطيب الجمعة، معتبرا نسبة حالتنا الاجتماعية و الاقتصادية أو التاريخية بشكل عام إلى "التخلف" كلاما فارغا و أكذوبة مُضللة.
فالخطيب، الذي سبق ذكر مضامين خطبته في ذكرى ميلاد المصطفى، شذ إدراكه للواقع عن مشاعر الناس بل تفوه بأحكام قيمة ليس فقط ضد من يعتبر أن وضعنا التاريخي "وضع متخلف" بل أيضا ضد من يرى -بناء على معايير موضوعة لأجل هذا- أننا "دولة في طريق الدول الصاعدة".
لا شك أن المستوى الفكري محدد في فهم إشكالية "التخلف". فجدتي، مثلا، التي سلخت من عمرها ثمانين سنة؛ لن تعتبر الوضع الذي نعيش فيه اليوم (انتشار الكهرباء، الماء الصالح للشرب، وسائل العلاج، أدوات الاتصال و التواصل، وسائل التنظيف..) سوى جنة تداعب خيالها أيام زهرة شبابها. لكن لو اتسع أفقها لإجراء مقارنة بين الأوضاع العالمية و وضعنا لتبينت، بدون أدنى ريب، أننا متخلفون. و لو تمكنت من قراءة خلاصة عن التاريخ الذي مضى لتعجبت من كون ما ترفل فيه اليوم من خيرات و حريات و تسهيلات استمتع بها جناح كبير من أجنحة العالم منذ مدة. 
و إذا كان خطيب الجمعة –الخطيب المذكور، و التعميم مرفوض فهناك خطباء  نبهاء مدركون-  يُنكر أننا متخلفون، بسبب عمى إيديولوجي، و إذا كانت الجدة تحس أننا متقدمون، بسبب كونها ضحية أمية قاسية و جهل أقسى، فإن ثمة إنسانا آخر لا يحس بتاتا بأنين التخلف. إنه ذلك الذي يعيش عالَما ينفصل عن واقع باقي المواطنين. إنه يعيش داخل الوطن، نعم، لكنه مغترب في عالمه الخاص: كل همه هو السعي للاستزادة من نعيم حضارة العالم المتقدم، و هذا من حقه إن اختار هذا السبيل. لكنه إذ يغط في استهلاكيته الجارفة ينسى أن واقع وطنه "متخلف" و لا يسُر الناظرين. لهذا، فالوطن يخسره؛ إذ بإمكانه أن يُسهم في الإنتاج –إن أدرك حاجة الوطن إليه- و أن يُخفف من فاتورة استهلاكيته (أما حريته الشخصية في الاستهلاك فلا جدال حولها). هذا الطراز يُشكل إفرازا طبيعيا لمناهج التعليم التقنوية في المعاهد و المؤسسات؛ حيث يتعامل الإنسان مع "تقنيات" -مصنوعة مسبقا- لا تطرح له إلا مشكل (كيفية التشغيل)، و حيث تُنعت الأفكار و النظريات في هذه الأوساط، كما في غيرها، ب"blabla" في إشارة سافرة إلى تواطؤ مستتر لاحتقار "الفكري" و "الثقافي": و الذي، لا يمكن بسواهما، النفاذ إلى مراكز ثقل موضوعة "التخلف".

إن الواقع الموضوعي بأسئلته الموجعة يدفعنا إلى اللجوء إلى نصيحة غرامشي –التي طالما رددها المنجرة- و مفادها أنه علينا "التسلح بعقلانية التشاؤم و تفاؤل الإرادة" في النظر إلى مشكلاتنا. نعم، إن التحليل العقلاني يقود في غالب الأحيان إلى الخروج بأحكام قاسية ضد كل شيء، خصوصا إذا وقفنا على نموذجين من أبناء الوطن (حامل الخطاب الديني، و حامل التقنية العصرية: أما الجدة فلم يعد لها تأثير كبير على مسار الأجيال الصاعدة) لم يدركا بعد أن هناك مشكلة عنوانها "التخلف" تنتظر أن ينخرطا فيها معا بكليتهما، كل من زاويته.. لكن إرادتنا التي تروم النهوض، ينبغي أن تبقى متحررة من تشاؤم العقل، لأنه في نهاية المطاف لا خيار لنا إلا أن "نطوي" صفحة "التخلف". و لعل أهم خلاصة نخرج بها في هذا الصدد، هي ضرورة الالتفات إلى البعد الفكري و المسألة الثقافية في "تأخر" الوعي ب"التخلف". إن الحرارة التي نتناول بها دور العامل السياسي (الاستبداد: و هو أبهى تجليات "التخلف") في تكريس "التأخر" ينبغي أن تمتد لتشمل الفكري و الثقافي؛ فهما متداخلان أصلا. فإذا كانت حالة (الاستبداد) تتقصد و تؤدي إلى اغتيال الرباعي (العقل-النقد-الفكر-الثقافة)، فإن سبيل توهج "النقد" و تنوير الفكر و سعة الثقافة (=اشتعال العقل)  هو وحده الطريق الآمن و الضامن للانعتاق من حالة (الاستبداد) لكن –طبعا- بمزاوجة ذلك مع العمل النضالي المدني على الأرض؛ فالواقع: لا يكفي تفسيره فقط -كما قال ماركس- و إنما ينبغي العمل على تغييره.


0 التعليقات

إرسال تعليق