| 0 التعليقات ]


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]


...تابع القراءة

| 1 التعليقات ]




حاول عالم النفس الألماني إيريك فروم، المتميز بتوليفه بين الخلفية الماركسية والتحليل النفسي بما يعنيه ذلك من عدم إغفال النظرة إلى الشخصية الاجتماعية للفرد، تكثيف إطار نظري مفيد جدا في تحليل الجدل الكامن في الواقع المعاصر في ثنائية دقيقة هي "التملك" Avoir و"الكينونة"Etre . وقد انطلق من هذه الثنائية لتسليط الضوء على مختلف الظواهر الفردية (الإيمان/القراءة/المعرفة) والاجتماعية (التعليم/السلطة/الحب) وإعادة قراءة أبعادها.

لنبدأ بالتعليم.
نظرا لكون "المدرسة/الجامعة" تعبير عن نظام تعليمي يختزل الرؤية الوجودية التي تخترق النظام الاجتماعي برمته (وهي رؤية "التملك")؛ فإنه لا غرابة في أن نجد طريقة التعليم تتفرع عن هذه الرؤية، ولا عجب أيضا في أن نجد طريقة التعلُم من طرف الطالب تتأثر بهذا المحيط.
يذهب الطالب إلى الجامعة (دعونا نتحدث عن الجامعة عوض المدرسة لأنها أسهل في عملية التمثيل) ويحضر المحاضرات وهو غير ساع لهدف سوى تسجيل مضامين المحاضرة في مذكرته أو محاولة تخزينها في ذاكرته بما يؤهله لرد البضاعة إلى صاحبها يوم الامتحان. إنه طالب يستهدف أساسا "امتلاك" المعلومات المنثورة في الدروس. وإذا رغب في التفوق وتحصيل الدرجات العُلا ما عليه سوى ب"حيازة" الصيغ والعبارات التي بُنيت بها المعاني المتناثرة في الدروس. 
يخاف هذا الطالب من أي معلومة جديدة لأنه يعرف أنه متبوع بتسجيلها في المذكرة قبل تحويلها إلى الذاكرة. وكلما ازدادت كمية المعلومات ازداد الخوف من شبح "فقدان السيطرة" عليها بنسيانها.
بينما الطالب الذي نجا من الخضوع لنمط "التملك" السائد وكان مشدودا إلى تحقيق "كينونته" أينما حل وارتحل، يجد في المحاضرة – خاصة وانها تندرج ضمن التخصص الذي اختاره بوعي وانطلاقا من ميولات – فرصة متجددة لتنشيط "كينونته" و"تحقيقها". فهو أصلا لم يكن ليحضر إلى الدروس بل لم يكن ليحضر إلى المحاضرة الاولى من دون أن تكون له "وجهة نظر" في ما سيدرُس. لا بد وأن يكون لديه رأي – لا يهُم خطأه من صوابه – ولكنه رأي يعبر عن كينونته. وبالتالي، تكون المحاضرة عنده محطة غير مملة، بل فرصة للتجاوب ومناسبة لتصحيح رؤيته وتعديل وجهة نظره إن كان ثمة ما يدفع إلى التعديل.
طبيعة العلاقة مع الدروس لا ترتبط بالحفظ وإجهاد النفس في التخزين، بل بعملية فكرية نشيطة يكون فيها التأثر والانفعال الداخليين، ويخرج فيها الطالب كائنا ساعيا إلى الرقي المستمر. إنها علاقة يخرج فيها الطالب وقد أنهى الدروس بوعي غير مسبوق وليس بملكية جديدة لحزمة من المعلومات المفصولة عن همومه اليومية. طبعا، لا يكفي أن يكون الطالب مستعدا للتغيير وللارتقاء بكينونته، بل لا بد في المقابل من أن تكون الدروس حية بعيدة عن ترديد الكلام الأجوف، وإلا سيكون من حظ هذا الطالب أن يركز على عملياته الذهنية وهمومه الفكرية وينبذ الإنصات إلى المحاضرة، إلى أن يقرر في ملامح مستقبله الدراسي والمهني ... إلخ.
في التاريخ أو الفلسفة، وهي مواد كفيلة بتحريك سواكن الإنسان، تعمد "المدرسة/الجامعة" إلى تقديم شهادة للطالب تؤكد تمتُعه بنوع من "الملكية الثقافية" لمعلومات متناثرة عن حقب تاريخية معينة أو عن فلاسفة متمايزين. يصبح هَمُ الطالب في هذا السياق هو استظهار الأحداث والشخصيات التاريخية أو ترديد مواقف الفلاسفة بخصوص القضايا المطروحة. هكذا يصير الطالب أشبه ب"الدليل" الذي يعرف معلومات وافية عن "المتحف" الذي يعمل فيه.
أما الحقائق الاجتماعية والنفسية والتاريخية الكامنة وراء هذه المواقف الفلسفية أو وراء هذه الأحداث التاريخية، فإن المدرسة/الجامعة تربأ بنفسها عن الخوض فيها. وحدة الطالب الذي يحس بأن له "كينونة" وليس "آلة" أو "حاطب ليل" هو الذي يخوض غمار الحوار الذهني مع الفلاسفة ومع البنى التي يرتكزون عليها ومع التناقضات التي وقعوا فيها... إلخ.

لننعطف نحو القراءة.
ليس غريبا أن يكون الإنسان الذي ينطلق في علاقته مع العالم من نمط "التملك" فقيرا في علاقته بالقراءة. صحيح، قد يكون قارئا نهما يلهث وراء المعلومات المتناثرة ولكن حصيلته على مستوى المعرفة تكون ضعيفة. قد يستحضر قصصا كثيرة وتجارب تاريخية متنوعة، لكنه يفتقد إلى الروح والذهنية والخلفية التي ستُمكنه من معالجة القضايا والتجارب الراهنة.
هذا الإنسان الذي قد يقرأ كثيرا ولكن بلا فائدة على مستوى تنمية شخصيته وإذكاء روحه وتحفيز وعيه وإنضاج تجربته وتوليد حكمته؛ نجده مع "الروايات" ينشغل بمعرفة عقدة الرواية، كل همه أن يجيب على الأسئلة الرتيبة: هل يظل البطل على قيد الحياة أم يموت؟ هل تقع البطلة في غرامه أم تقاوم؟
هذا القارئ يسعى فقط لمعرفة الإجابات المباشرة وتفاصيل غير دالة لقصة خيالية. فالرواية تشكل له مدخلا للإثارة. وبالتالي تجد أن تجربة القراءة عنده تصل إلى ذروتها باكتشاف النهاية السعيدة أو الحزينة. بل ربما تجده يبكي – تأثرا – بالنهايات الحزينة. فهو ينظر إلى نفسه باعتباره "مالكا" للقصة، يمسك بتلابيبها، وبالتالي يتعاطف مع بعض شخصياتها.
ينهي القارئ الرواية وقد يبكي، ولكنه لم يضف إلى معرفته شيئا، فأحداث الرواية وعوالمها ستختفي بمجرد العودة إلى العالم الحقيقي والانتهاء من القراءة. والمشكل هو أنه حتى الرواية لم يستفد منها كما يجب. فهو من شدة ارتباطه بتسلسل الأحداث وملاحقته للعقدة التي تدور القصة في فلكها، لم يهتم بالنفاذ إلى أعماق الطبيعة البشرية من خلال الشخصيات الموصوفة، ولم ينشغل بالتجاوب مع الجدل الذي تبرزه الرواية – هنا نتحدث عن رواية أصيلة – في طبيعة الاجتماع البشري. نعم، لقد كان همه أن يعرف مصير البطلة!
وللأسف، معظم الروايات الجديدة هي وعاء لقصص رخيصة بخلاف الروائع العالمية التي تختصر حكاية جيل أو أسلوب عيش طبقة اجتماعية أو مخاض قرن... إلخ. ولهذا، أغلب القراء يسقطون في ذات الحبال التي سقط فيها قارئنا الذي يصل الثانية بالدقيقة ويبتلع الصفحات كما يبتلع مشاهد فيلم سينمائي لكي "يمتلك" أحداث الرواية.
أما القارئ الذي يستشعر بـأن له "كينونة"، ويسعى إلى أن يكون "هو" في كل نشاط ولو كان القراءة، فحتما ستكون القراءة فرصة لحوار جاد بينه وبين المؤلف حيث يحتفظ كل طرف بمكانته ومقدرته على الدفاع عن رؤيته. وكثيرا ما يصل قارئنا إلى أن الكتب المَمدُوحَة محدودة القيمة. وفي أحيان أخرى، يفهم القضية التي يثيرها الكاتب من زوايا أوسع من ضيق نظرة الكاتب نفسه. وحينما يقرأ الرواية ينتقي – كما ينتقي كل ألوان الكتب الأخرى من فرط خبرته – ويشتبك مع الروائع التي تثير الأسئلة الحقيقية وتكثف مراحل تاريخية بأكملها. إن القراءة عند قارئنا هي سؤال ذاتي وهموم ذاتية يحاول أن يلقى لها إجابات موضوعية، وبالتالي فهو مستعد للجدل بخصوصها مع الكُتاب.

لنتوقف عند المعرفة.
صاحبنا المهووس بامتلاك العالم، لا يرف له جفن حتى يحصل على مزيد من المعلومات عن كل شيء عن الرياضة والسياسة والفن والثقافة والاقتصاد ... إلخ. إنه ينظر إلى الارتقاء في سلم المعرفة بمنظار الزيادة من حجم المعلومات. فالمعلومات عنده بمثابة ممتلكات، على قدر ما يحوز منها يحصل على ممتلكات مادية ومكانة اجتماعية.
أما الإنسان الممتلئ بكينونته، فإنه لا ينظر إلى المعرفة إلا بمعناها الوظيفي لا المضموني أي باعتبارها جزءا من عملية التفكير المثمر. إن المعرفة عنده لا معنى لها إذا لم تنفذ إلى ما تحت السطح، وإذا لم تكن سعيا حثيثا للاقتراب من الحقيقة العارية. إن الارتقاء في سلم المعرفة لا يكون بحجم من المعلومات وإنما بالحفر العمودي والتعمق. إنه الفرق بين من يقول "أنا أعرف" (وهو في الحقيقة يجيب على سؤال افتراضي: أما الإنسان الذي يعرف حقا حقيقة ساطعة؛ فهو يعرف أنه أضعف من أن يعترف بأنه يعرف وأقرب إلى التصريح بأنه يجهل)، وبين من "يمتلك قدرا من المعلومات".

لنُعرج على ممارسة السلطة.
من الثابت أن كل فرد يمارس قدرا من السلطة (سواء كان أبا/أما، أو أستاذا(ة)، إداريا(ة)، مسؤولا(ة) في جمعية... إلخ) إلا قلة منزورة في قاع السلم الاجتماعي. لكن ثمة فرق شاسع بين شخص يملك السلطة، وشخص آخر يجسد هو نفسه سلطة.
الشخص الأول، لا يعتمد في حيازة سلطته إلا على القوة والنفوذ والموقع والمكانة والإرث ... إلخ. بينما الشخص الثاني، يفرض سلطته (الاحترام) بجدارته وكفاءته ومهارته وأخلاقه وثقافته وحكمته وخبرته وشخصيته.
تكمن المفارقة في أنه في مجتمعات توصم بأنها بدائية إذ تعتمد على الصيد والرعي والحصاد وحيث النظام الاجتماعي أفقي؛ تكون السلطة من نصيب الماهر في الصيد أو الخفيف في جذب المواشي والرعي. بينما في المجتمعات الحديثة والمعاصرة القائمة على أنظمة اجتماعية عمودية تراتبية أخلت السلطة القائمة على الكفاءة والأهلية المكان للسلطة القائمة على المكانة الاجتماعية.
هكذا لم تعد الجدارة هي العنصر الجوهري المحدد في السلطة القائمة في المجتمعات الحديثة والمعاصرة. سواء كنا بصدد ملك امتلك السلطة بالجينات والوراثة. وأو كنا بصدد مجرم انقلابي حاز على السلطة بالدم والدبابة. أو كنا بصدد سلطات منتخبة بفضل سلاح الدعاية الإعلامية المحتكرة أو بفضل كمية الأموال الموَظفة في الحملة الانتخابية كما هي الحال غالبا في الديمقراطيات الحديثة.
ولكن في أية جماعة بشرية (سواء كنا بصدد أسرة، قرية، حي، جمعية، شركة، مؤسسة تعليمية... إلخ) لا بد وأن تجد شخصا متشبثا بكينونته يكون هو نفسه سلطة، بفضل شخصيته التي حققت درجة عالية من النضج والتكامل. في مثل هذه الحالة، نلفي السلطة والنفوذ يشعان من مثل هذا الشخص دون حاجة إلى إعطاء الأوامر والنواهي أو التهديدات والرشاوي.
قد تجد هذا الشخص يكون في مقام الأب أو الأم، فيحظى باحترام كبير وسط أسرته الكبيرة والصغيرة ويتمتع بنفوذ معنوي عند أبنائه. ومن فرط قيامه بواجباته وتكامل شخصيته وسعة ثقافته يلتزم الأبناء والأقارب بنصائحه وتوجيهاته عن طيب خاطر. وقد تجده عضوا (حزبيا أو جمعويا) يكون موضع تقدير الأغلبية ويكون مسموع الكلمة لأنه يترفع عن الدناءة ويثبت من خلال تجربته أنه مرآة عاكسة لمشروع الحزب أو فكرة التنظيم، هذا من دون أن يتمتع بسلطة تنظيمية يُفصل بها العمل على مقاسه. وقد يكون مسؤولا سياسيا، يحظى كشخص بهيبة خاصة ومصداقية معتبرة ونفوذ كبير من دون إسالة قطرات الدماء أو الزج بالمعارضين في المعتقلات أو تكميم الأفواه أو التضييق على الصحافة المستقلة أو توزيع الصدقات وشراء "رضا" و"تعاطف" المواطنين. وقد يكون سلطة معرفية في مجال علمي، ومرجعا لا يستغني عنه أي باحث في دراسة موضوعه. 

لنعُد إلى الإيمان.
الإيمان ملازم لكل إنسان. لا يمكن لأي شخص أن يتحرك إلا وهو ينطلق من الإيمان بأهداف معينة. قد يكون الإيمان دينيا وهو المشهور، وقد يكون سياسيا، وهناك حتما إيمان لدى كل شخص بمسار معين لمستقبله ورهاناته وقدراته.
لكن، الإيمان بدوره يخضع لداء "التملك". إذ يصير عند الشخص المنطلق من هذا الإطار: مجرد عنوان لما يملكه من إجابات عن الأسئلة المطروحة، ليس عنده دليل عقلاني عليها. ويشتمل هذا الإيمان على مقولات توصل إليها آخرون. إلا أنه لذيذ لأنه يخلق إحساسا باليقين، ويُعفي صاحبه من أشق المهام؛ مهمة "التفكير" و"اتخاذ القرار"، ويشكل أيضا "جوازا" للانضمام إلى جماعة دينية أو سياسية أو تيار مجتمعي غير منضبط لخيار مفارق غير خياراته الشخصية. وكل شخص يريد معرفة معنى الحياة، من دون أن تكون لديه الجرأة على البحث، يختبئ وراء إيمان جماعته أو مجتمعه.
إذا كان الشخص "مالكا" للإيمان في الحالة الأولى، فإن الشخص الحريص على تفرُد "كينونته" يكون في حالة إيمان، إذ يصبح الإيمان لديه توجها داخليا وموقفا وليس مجرد إقرار بأفكار معينة. يشتمل الإيمان هنا على نوع من اليقين، ولكنه يقين أساسه التجربة الذاتية وليس الخضوع لسلطة اجتماعية معينة. هنا الإنسان برحلته الذاتية الحية يسجل الحقائق التي تشكل ركائز الإيمان. بكلمة، نحن أمام شخص في حالة إيمان، وليس أمام "مالك" لإيمان.  
   
لننجذب نحو الحب.
هنا لن نكون أمام شخصين، بل أمام شخص واحد (ذكرا كان أو أنثى) يعيش مرحلتين: مرحلة الكينونة، ثم مرحلة التملك.
في فترة ما قبل الزواج، سواء كانت مرحلة خطوبة رسمية أو مرحلة خطوبة غير رسمية، حيث يحاول المُحب أن يخطب ود صاحبه ويقترب منه، يبحث كل طرف عن جذب مشاعر الآخر وكسبها، وكل طرف يخاف من أن يسيء التعامل أو ينحط في السلوك أو يتعثر في العبارة. ومع ذلك، فالحيوية والجاذبية تشتعل بين الطرفين ويُخيَل لكل طرف أن الشريك المفترض من أجمل الخلق. في هذه المرحلة، لا أحد ضمن الآخر، ومن ثَم تكون الطاقة موَجهة ل"الكينونة": أي للعطاء وتنشيط المشاعر.
بيد أنه مع توالي الأيام والشهور والسنين بعد الزواج غالبا ما تتغير الأمور. إذ لم تعد مشكلة كسب ود الآخر هي التي تسيطر على كل طرف، فكلا الطرفين أصبح "مالكا" لحب الآخر. بعبارة أخرى؛ أصبح الحب ملكية مضمونة، ولهذا يكف كل طرف عن بذل الجهد من أجل استثارة مشاعر الطرف الآخر. هكذا، وبشكل تدريجي، يصبح الزوجان غير قادرين إلا على إثارة الملل، وتتملكهما الحيرة وخيبة الأمل، بل قد يطرحان السؤال: أليس هذا هو الطرف الذي اخترته عن وعي؟ ما الذي تغير؟ ألم أنتبه في البداية؟ وغالبا ما يحاول كل طرف البحث عن علة التحول في شريكه.
إن الغلط ليس في الاختيار الأول، بل هو كامن في تصور إمكان "تملُك" الحب. ولهذا تضيع أهمية الملكية بمجرد حيازتها، وينتقل الأنسان إلى البحث عن تحصيل "ملكيات" جديدة. هكذا، عوض أن يحب كل طرف شريكه، يشرعان معا في ملكية: المال، أو المنزل، أو الأطفال، أو المكانة الاجتماعية.
إن رؤية العالم وفق منظور "التملك" تجعل الإنسان يتعلق بالأشياء ويسعى إلى تحويل العالم كله إلى مواد استعمالية بعد تحفيظها في باسمه في وكالته الشخصية. بينما رؤية العالم في إطار أفق "الكينونة" تجعل الإنسان يتعلق بالتجربة الحية. تتناقص الممتلكات دائما بالاستخدام، بينما تتعاظم الكينونة والتجربة الإيمانية والفكرية والفنية وكل القدرات الجوهرية للإنسان بالممارسة.
غاية غايات عند صاحب رؤية "التملك" هي الالتذاذ بالوجود. فهو لا يريد من القراءة والمعرفة سوى اللذة العابرة، ولا يرى وراء السلطة سوى التلذذ باستعباد الناس، ولا يقرأ في العلاقة الزوجية سوى حيازة مفتاح لذة الغريزة. في حين أن صاحب رؤية "الكينونة" يتغيا الوصول إلى حالة "السعادة"، وهي ليست شرارة نشوة تتأجج في لحظة، وإنما هي وهج مصاحب لكينونة الإنسان. وافتقاد حالة السعادة هو السبب الرئيس في اللهث وراء تجريب المزيد والجديد من اللذات. ومع ذلك، فلا بديل عن خط "الكينونة"، إذ أن اللذة لا تفضي بعد الوصول إلى الذروة إلا إلى الحزن، ومنطق "التملك" بأكمله لا يقود بعد حيازة الملكية: بعد إحراز النصر في امتلاك قصة الكتاب أو امتلاك ترانيم الإيمان أو امتلاك المقولات/الأحداث؛ لا يقود إلا إلى الحزن والملل لأن صاحب هذه الرؤية يستشعر أنه لم يحدث أي تغيير بداخله رغم ما حازه من ملكيات.    

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




لا يختلف الباحثون كثيرا في اعتبار فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أحسن مرحلة ذهبية في تاريخ الإنسانية. إذ تمتعت فيها الغالبية العظمى من الكيانات والأمم بالاستقرار والازدهار. وبدت فيها أغلب الدول أقل اندفاعا في سياساتها الخارجية. ولقد امتدت هذه الفترة من 1945 إلى حدود 1970. ويطلق عليها في الأدبيات السياسية والاقتصادية "الثلاثين المجيدة" les trente glorieuses.
في العالم الأول؛ كانت الولايات المتحدة الأمريكية في غاية البهجة لأنها صارت رسميا القوة العظمى التي لا تضاهى في عالم جديد يتكلم بلغتها فقط (لغة الدولار)، مما أهلها للعب أدوار كبيرة في مشروع "مارشال" لإعادة بناء أوروبا. ونجد الدول الأوروبية، رغم كل الجراحات، تشق مسار استعادة ريادتها بثقة عالية، وتفكر في مستقبل أفضل قوامه التعاون الأوروبي وبناء السوق الأوروبية المشتركة.
في العالم الثاني؛ كان الاتحاد السوفياتي مبتهجا لأنه بدأ يحصد ثمار المخططات الاقتصادية التصنيعية وبدأ يرمق وعودها الكبيرة (اختراع أول قمر اصطناعي "سبوتنك" عام 1957). أما دول العالم الثالث فقد كانت سادرة في إشاعة أنغام قرب النصر وحلول لحظة الانعتاق من الاستعمار وتألق الحركات التحررية.
الواقع أن لحظة ما بعد الحرب لم تكن لتكون كذلك إلا لأنها عرفت على الصعيد الاقتصادي معدلات نمو قياسية في أغلب البلدان في العوالم الثلاثة (مثلا؛ مصر المنتمية إلى العالم الثالث، كانت تحقق معدل 5% بشكل دوري بل وصلت في إحدى السنوات إلى أحد أعلى المعدلات في العالم في تلك الفترة وهو 7%). كما عرفت  تلك اللحظة على الصعيد السياسي والحقوقي تعاهدا بين بلدان العالم الأول والعالم الثاني على احترام حقوق الإنسان (إعلان 1948) واحترام سيادة الدول وحق الشعوب في تقرير المصير، علاوة على تأسيس منظمة الأمم المتحدة (1945) والجماعة الأوروبية للفحم والصلب (1951). أما على الصعيد الصناعي؛ فقد اللحظة شهدت طفرة تكنولوجية هامة تطورت بها وسائل الإنتاج (بفضل اختراع الترانزستور عام 1947).
بيد أن ما كان حاسما في "الفرحة" التي عمت تقريبا أرجاء العالم هو اعتماد أغلب الدول لسياسات "كينيزية"، خاصة وأن أزمة 1929 التي عرفها النظام الرأسمالي كانت من بين الأسباب الواقفة وراء اندلاع الحرب التي أودت بالملايين. هكذا، توجهت أغلب البلدان إلى المراهنة على مشاريع القطاع العام من أجل تقوية الاستهلاك وتحريك عجلة الاقتصاد.
طبعا، لم تخلُ هذه الفترة من لحظات نكدة أو من مناطق مهمشة أو من فئات مهملة أو من شعوب مظلومة. ولكن من المفيد أن نفهم أن الذين ناضلوا ضد الأوضاع السائدة فيها حينها تحسروا على إشراقاتها بعدها؛ منهم مثلا  "جوزيف ستيغليز"(مواليد 1943)  الاقتصادي المرموق الحائز على نوبل والمشهور بكتاباته المناهضة للعولمة، الذي قال في سيرته الذاتية (المنشورة في موقع جائزة نوبل): "لم أكن أعلم حينما كنا نلعن أوضاعنا وننشد الأفضل ونحن شباب في قلب عقد الستينيات أننا بصدد فترة ذهبية سنتمنى بصدق لو أنها تكررت".
من إيجابيات تلك الفترة أنها سرعت وتيرة "التمدين" ووسعت دائرة الطبقات الوسطى بفضل مجانية التعليم. فالعديد من الأسر من الطبقات الدنيا خرجت من دوامة انتظار "الغيث" لكي يتحسن الوضع، بفضل التعليم العمومي الذي كان مصعدا اجتماعيا أمينا يكفي أن يحمل معه فردا من أفراد الأسرة حتى يحدث "حراكا اجتماعيا" نوعيا la mobilité sociale.
في أوروبا، اتسعت الطبقات الوسطى بفضل "الكينزية" وتزايُد الاستجابة للمطالب الحقوقية للطبقة العمالية. بينما في العالم الثالث، اختلفت مسارات الطبقات الوسطى  ما بين الانتشار/التوسع والانبثاق/التشكُل. في مصر، مثلا، كانت الطبقات الوسطى موجودة ولكنها محدودة. ولكن، الفترة الناصرية (1954-1970) رغم المآخذ الموجهة إليها من الناحية الديمقراطية، أطلقت بالفعل مسلسلا من السياسات الاقتصادية (أبرزها الإصلاح الزراعي ومحاربة الإقطاع وتعميم التعليم) أدت إلى توسع الطبقات الوسطى أو بالأحرى إلى إعادة تشكلها من جديد.
في المغرب، لا شك أنه من الصعب الحديث عن وجود طبقات وسطى بارزة في الهيكل الاجتماعي للمجتمع قبل هذه الفترة. فغالبية المجتمع كان قرويا تقليديا زراعيا، يمكن استثناء قلة قليلة هي الشرائح التي تشتغل بالتجارة أو السمسرة في الضيعات والأراضي. حتى أن الجامعة، بمفهومها العصري، لم تتأسس إلا عام 1957 بخلاف مصر التي شهدت تأسيس الجامعة عام 1908. كيف تشكلت –إذن-  الطبقات الوسطى  في بلادنا؟
في حديث مع إحدى قريباتي المُسنات (على مشارف إطفاء شمعتها التسعين)، أوضحت لي أن بعض أبناء قريتها صاروا في وضع اجتماعي جيد (بمعنى أنه انتسب إلى الشريحة الوسطى في الطبقة الوسطى) لسبب طريف. مثلا، أحدهم (مواليد بداية الأربعينيات مثل "جوزيف ستيغليز") أخذ تعليمه في الكُتاب القرآني ودرس في بعض المدارس العتيقة، فإذا به يفاجأ بأن الدولة المستقلة تنادي عليه لأنها كانت بحاجة لأطر في هيئة التدريس يشرفون على تعليم التلاميذ في المستوى الأول ابتدائي!
هكذا، يصير صاحبنا "معلما" يحصل على راتب شهري بدون انتظار صدقات "المحسنين" –إن استمر في خط إمامة المصلين- أو انتظار "الغيث" –إن بقي في القرية كما حال إخوته الفلاحين-. يتزوج صاحبنا ويؤسس أسرة، كان أبناؤه محظوظون بالمقارنة مع أبناء عمومتهم: فقد أكملوا تعليهم وصاروا أطرا؛ موظف في البلدية، وأستاذة، ... إلخ.
تحركت في صاحبنا وشائج القرابة، فطلب من أحد إخوته الفلاحين الذين ينتظرون "الغيث" (بيد أن السنوات الأخيرة تعاقب فيها الجفاف) أن يرسل إليه أحد أبنائه (مواليد السبعينيات) لكي يحتضنه ويشرف على تعليمه، طبعا، طار الأخ طربا لطلب أخيه لأنه خلصه من عبء إضافي خاصة مع الجفاف. تمتع الابن بفضل عمه بتعليم جيد وصار بدوره معلما، يمتلك منزلا وسيارة ويدرس أبناؤه في المدارس الخاصة.
نفس القريبة حكت لي قصة أخرى؛ أحد أبناء القرية (مواليد الأربعينيات) اشتغل مبكرا بالتجارة. ولهذا نزح إلى المدينة الصغيرة القريبة من القرية واستثمر في العقار قبل أن تكون مأهولة بالسكان. وحينما هبت رياح الهجرة إلى المدينة في منتصف السبعينيات ومع بداية الثمانينيات، استفاد الرجل من نزوحه المبكر بتوفيره لرأس مال مفيد في كل المشاريع الاستثمارية الواعدة. ولهذا، اختار أبناؤه (الستينيات والسبعينيات) أن يؤسسوا وكالة للأسفار، ولم يكن من الصعب على الأب شراء الحافلات بالتدريج. أكيد، أن أحفاد الرجل يرفلون في نعم جليلة ويمكنهم أن يدرسوا حتى في التعليم العالي الخاص في المغرب أو في إحدى الدول الأجنبية.
قصة أخرى شخصية تقربنا من مشهد تشكل الطبقات الوسطى في بلادنا، كان جدي (مواليد 1929) ابن القرية يشتغل في مناجم وجدة وجرادة في الخمسينيات وبداية الستينيات، حينما حل "موغا" (في الواقع، الحراك الاجتماعي الذي تم في الجنوب بفضل "موغا" - وهو اسم أمازيغي يطلق على الأجنبي الذي ذهب إلى القرى والمداشر يبحث عن السواعد الراغبة في الهجرة- يستحق أبحاثا اجتماعية جادة) عام 1963/1964 بمناطق الجنوب أملا في استقدام اليد العاملة الرخيصة إلى فرنسا، لم يتردد جدي في الذهاب ولكنه سرعان ما عاد، إذ لم تطل مدة مكوثه في فرنسا، ومعه رأس مال كاف لفتح متجر لبيع الملابس في المدينة الصغيرة.
ترك الجد الأسرة في القرية، ولكنه استقدم معه الابن الوحيد (مواليد 1967) إلى المدينة وترك البنات للأم. استقدم الابن لكي يذهب إلى المدرسة. ربما، أصيب الجد بالملل من عملية الذهاب والإياب إلى القرية وبالاستياء من رعاية شؤون الطفل، فقرر أخيرا أن يأتي بالأسرة كلها إلى المدينة (عام 1975). طبعا، حظي الابن بتعليم عمومي معتبر، أضاف إليه تعليما موازيا في حركة اجتماعية ناشئة (انخرط فيها عام 1982). في النهاية، صار الابن منتسبا إلى الشريحة الوسطى في الطبقات الوسطى (ترجمان محلف) قادر على النهوض بأعباء أسرته بشكل جيد. كما صارت إحدى بنات الجد اللائي رأين النور في المدينة (طبيبة) والأخرى (مُجازة).
إذن، التعليم الأصيل والتجارة والهجرة إلى خارج المغرب والهجرة إلى المدن الصغيرة.. كانت من جملة العوامل التي أدت بالجيل الذي وُلد مع الحرب العالمية الثانية أو انبثق وعيه إبانها إلى فتح الطريق أمام أبنائه وأحفاده لكي ينسلكوا في سلك الطبقات الوسطى. 
جدير بالذكر، أن الهجرة إلى المدن الكبرى غير مندرجة ضمن نفس المسار لأنها كانت تابعة لسياقات تاريخية أخرى دفعتها لكي تكون في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية فضاءات مزدحمة وموضعا لمنافسة ضارية مما جعل الشروط الاجتماعية فيها أصعب من البادية. ولهذا عوض أن ترتقي بجيل، كما فعلت المدن الصغيرة، رهنت وضعية أجيال متلاحقة بشروط وملابسات "دور الصفيح". 

هي ملاحظات أولية حول مسارات تشكل الطبقات الوسطى في بلادنا بعد الحرب العالمية الثانية. والمظنون أن الأسرة المنتسبة إلى الطبقات الدنيا اليوم أخلفت بفعل فاعل موعدها مع "الحراك الاجتماعي" الذي انطلق في تلك الفترة، إذ بقي القائمون على الأسرة أسرى تقلبات المناخ ينتظرون "الغيث"، فصار الاحفاد يدفعون الثمن غاليا، بعدما تعقدت الأوضاع أكثر وتدهورت القدرة الشرائية حتى للشريحة الدنيا من الطبقات الوسطى.






...تابع القراءة

| 5 التعليقات ]




النقاشات الجارية اليوم تذكرنا بحقيقة مفادها أنه إذا أردنا التخفيف من وطأة البؤس الذي يعيشه الفقراء بسرعة، وإذا أردنا الحد من الفوارق الاجتماعية التي تتصاعد على الصعيد العالمي. فإن الطريقة الوحيدة الكفيلة بذلك هي انتزاع المال –بالضريبة التصاعدية على الدخل- من الطبقات العليا.
هذا ما يقترحه الاقتصاديون للإجابة على معضلة الفوارق. ولكن، مهلا! من الصعب اختزال عالم اليوم في حلوى يمكن اقتسام أطرافها وفق مشيئتنا. إنه عالم صارت فيه حركة رؤوس الأموال، التي يمتلكها الأثرياء، هي القاعدة، وبإمكانهم ترحيلها وتصديرها إلى أي مكان تهربا من "الضريبة".
للأسف، رؤوس الأموال لها أيضا صوت. ولكنها الحقيقة المنسية في النقاشات الجارية حول "العقد الاجتماعي الجديد" أو حول "التوزيع الجديد للرأسمال العالمي".
في بعض البلدان، حينما تفشل الحكومات في فرض الضريبة على الأثرياء (خوفا من هروبهم أو لأنهم فروا سابقا برؤوس أموالهم)، تلجأ حينها إلى انتزاع جزء من الثروة من الطبقات الوسطى لإسعاف الطبقات الدنيا المعدمة.
إنها خلاصة موجعة؛ التخفيف الحقيقي من الفوارق الاجتماعية لا يتناغم مع حرية حركة رؤوس الأموال. لأن هذا سيقود إلى التفكير في مراجعة حرية حركة رؤوس الأموال، وإلى إعادة إغلاق الحدود، وإلى منع الشركات من تسيير خزائنها وفق مشيئتها، وإلى حرمان الخواص (الأفراد) من حيازة العملات الأجنبية لتوظيفها في الأعمال أو المعاملات التجارية أو الأسفار أو العطل. هل هذا ممكن؟ ربما.
إذن؟ هل نكف عن السعي إلى الحد من الفوارق؟ أو نلجأ إلى ما نفعل اليوم، في فرنسا وفي كل أنحاء العالم، وهو امتصاص جزء من مؤهلات الحياة الكريمة للطبقات الوسطى (les moyens de vivre) لتوفير مؤهلات البقاء على قيد الحياة ((les moyens de survivre للطبقات الدنيا؟
هكذا، سنُفجر ثورة الطبقات الوسطى، ولن نكتسب رضا الطبقات الدنيا، وسيُسَرُ الأثرياء (الطبقات العليا) لأنهم سيذهبون بعيدا للاستمتاع بثرواتهم.
هذا هو المسكوت عنه في النقاشات الجارية اليوم، وهذا ما يخفيه اقتصاديو اليمين واليسار بعناية، للدفاع عن خلفيات مختلفة ولكنها في الواقع جد مترابطة.  
ما العمل إذن للتخفيف من هذه التفاوتات الفاحشة التي تسود العالم؟ من الناحية المثالية، ينبغي تشييد حكومة عالمية يتسيدها الحق، وتتمتع بديمقراطية في القرار، وتعمل على تحديد مستويات معينة، الحد الأقصى والحد الأدنى، للمداخيل ولكل ألوان الثروة. ولكن من الناحية الواقعية، هذا غير ممكن.  ولكن هذا ما ينطوي عليه كلام الذين يدعون إلى فرض ضريبة ضخمة على رأس المال، وتحديد مستوى معين للمداخيل.
هناك سياسة أخرى للتصرف؛ هي صعبة، وأقل ديماغوجية، ولهذا لا تثار في وسائل الإعلام، ولكنها جد فعالة. يتعلق الأمر بالخطوات التالية:
-          المساواة بين قواعد الضريبة على رأس المال في المناطق التي تعرف تبادلا حرا للسلع والرساميل البشرية.
-          فرض الضريبة على رأس المال المستثمَر في الأسهم، كما هي حالة رأس المال العقاري،  ما لم يتم استثمار مبلغ معادل لهذه الضريبة بشكل دائم في العمل الاجتماعي وفي خدمة البيئة.
-           الحد ما أمكن من الفقر المدقع بالرفع من المداخيل المتدنية جدا.
-          والأهم هو توفير شروط النجاح لكل فرد من أجل شق مساره.
بكلمة، فعل كل ما يمكن من أجل أن يصبح الجميع غنيا، وليس من أجل تفقير الأغنياء القلائل.
هذا يفترض وجود تكافئ للفرص أمام الجميع؛ في التكوين، في الحصول على القرض، في الاحترام، في الدعم، وبالخصوص –وهذا هو الأصعب- في الولوج إلى شبكات التأثير (l’accès à des réseaux d’influence).

إذن، النضال من أجل الحد من الفوارق الاجتماعية مسألة أكبر من تُترك للاقتصاديين أو المتخصصين في السياسة الضريبية وحدهم. إنها قضية علماء الاجتماع، ورجال القانون، وخبراء البيداغوجيا. وهي قضية تستدعي قبل كل شيء أهم المهن التي لا تُتعلم في أي مكان؛ مساعدة الآخرين على اكتساب الثقة بالنفس.

° ترجمة لمقال المفكر الاقتصادي الفرنسي "جاك أطالي" المنشور يوم 17 دجنبر 2018 على موقعه الالكتروني تحت عنوان "العمل، وراس المال، والعالم". اخترت له هذا العنوان "لماذا الخوف من أخنوش؟" : لأن المقال - بغض النظر عن خلفيات صاحبه الإيديولوجية والسياسية: يمكن أن يأتي الوقت للخوض فيها - يتحدث عن خوف "موضوعي" لدى جميع الحكومات في العالم من هروب أصحاب رؤوس الأموال (لأن الجميع يريد أن يستقطب  الاستثمار الأجنبي ويضع لذلك تحفيزات) ولهذا يكون هؤلاء فوق "الدولة". فنحن في عصر حكم "الشركة" التي حلت محل الدولة.
يمكن العودة إلى مقالين سابقين في المدونة: "العمل ورأس المال" (في دجنبر 2017) ومقال "ما العمل، إذن؟" (في نونبر 2018).
نحسب أن المقال طرح سؤالا جيدا وربما الإجابة لا تشفي الغليل. المهم أن السؤال جيد ويكشف "مثالية" بعض اليساريين. ولكن، الليبراليين ليسوا بمنأى عن المثالية!! رغم أنهم جميعا يرمون "الدينيين" فقط بالمثالية، كأنهم بمعزل عنها!!

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



إذا أردنا تكثيف مفهوم العلم، لقلنا إنه: تمييز الجانب الموضوعي من الذاتي في الظواهر الطبيعية والاجتماعية. ولعل المفهوم راسخ بالنسبة للظواهر الطبيعية، من فرط الوضوح، ومن شدة إيراد الأمثلة الشارحة: مثل قانون الجاذبية الموضوعي المعزول عن ذاتيات معينة. ولئن كان هذا راسخا إلى حد ما في الشأن الطبيعي، إلا أن الخلط مازال يسكن أذهاننا بخصوص التمييز بين الذاتي والموضوعي في الشأن الإنساني والاجتماعي أي في الظواهر والعلاقات التي تمس الإنسان كفرد وكمجتمع.
كان السؤال الوجودي المؤرق للإنسان ومازال متصلا بقضية "الجبر" و"الاختيار". طبعا، كانت التجربة الكلامية التي عرفها المسلمون في القرون الأولى متباينة بخصوص الإجابة تبعا للجذور الاجتماعية والأغراض السياسية لكل فرقة كلامية. يمكن صياغة الإشكالية المطروحة آنئذ بلغة بسيطة: االله/الإنسان، الطبيعة/الثقافة، الموضوعي/الذاتي... وهلم جرا من الثنائيات التي ليست بالضرورة متقابلة وإنما تبقى متغايرة. ففي نهاية المطاف، حسب الفرضية الإيمانية: الإنسان جزء من القبس الإلهي، والطبيعة لها أثر على الثقافة... إلخ.
اليوم، أمامنا رصيد هام من المعرفة الإنسانية قد تسعفنا كثيرا في مقاربة الإشكالية من زاوية مفيدة وبعيدة عن الجدل العقيم. فالعلوم الإنسانية، راكمت معرفة معتبرة في الاقتراب من اكتشاف من نعته أحدهم ذات يوم "الإنسان، ذلك المجهول". كما أن العلوم الاجتماعية شقت طريقا راسخة في استكناه طبيعة المجتمع والقواعد الموضوعية التي تحكمه. ولهذا يمكن إحراز تقدم مهم بخصوص تناول الإشكالية الوجودية.
ثمة خلط يخترق العديد من الرؤى بخصوص مجال الدين (أو مجال القيم) ومجال العلم. فالعلم لا يفكر بلغة هايدجر، وليس من شأنه التقييم الأخلاقي أو تحديد المطلوب وغير المطلوب، إنما دوره هو كشف القوانين الموضوعية للطبيعة والقواعد الموضوعية للمجتمع. أما القيم/الدين فهما الموكولان بتحديد ما ينبغي بناء على المعايير الذاتية.
 إن حكاية الصراع بين العلم والدين، مرتبطة بمحاولة كل طرف اقتحام المجال المحفوظ للطرف الآخر. إن إقحام القوانين الموضوعية لعالم الشهادة لتفسير الغيب أمر غير ذي جدوى، كما أن النزوع إلى تفسير عالم الشهادة (الطبيعة والمجتمع) بإشارات عالم الغيب أمر غير ذي فائدة، باستثناء فهم الظاهرة الإنسانية في كليتها باعتبارها تحمل جزءا طارئا في تكوينها يتصل بعالم الغيب، في هذه الحالة حصرا يمكن الاستهداء بإشارات الغيب في فهم الخطوط العريضة لقصة الإنسان، وهي لا تتعارض قطعا مع نتائج عالم الشهادة (العلم) بل تزكيها، لأن مصدرهما واحد.
في الطبيعة البشرية للفرد، أبرز خلاصة يمكن الخروج بها هو أنها طبيعة سلبية في عمومها نازعة إلى الضعف وإلى الغفلة وإلى السهل وإلى الكسل وإلى طاعة الغرائز وإلى الأنانية وإلى تكسير القيود.. ولكنها مصحوبة بفطرة وضمير وذاكرة تضم خط الرجعة ونداء الصلاح وجواذب اليقظة وأشواق العقائد وهواتف الأفكار وخيوط الاستماتة والمقاومة. وهي خلاصة يمكن تجليتها في علوم النفس بالخصوص.  
هذه التناقضات الموضوعية للطبيعة البشرية للفرد، هل تتفق معها أو لا تتفق؟ لا يهم رأيك؟ لأنها طبيعة غالبة وقاهرة وموضوعية وليست ذاتية اختيارية. هذه التناقضات الموضوعية، حسب الفرضية الإيمانية، هي ما أراده الله أن يكون في الفرد. بعبارة أخرى، هي الطبيعة الجبرية للفرد. ولكن، مهلا ! فالطبيعة الجبرية تضم فطرة مشدودة إلى التحرر من قيود الطبيعة !؟ إنها المكون الذي يمكن المراهنة عليه، من طرف أصحاب الرسالات ودعاة القيم من أجل إصلاح السلوك البشري.
الفرق إذن يبرز في الرؤية المتبناة تجاه الإنسان، هناك من يؤمن ممن يُنعتون ب"الماديين" أن الطبيعة البشرية ما دامت مادية فلمَ لا نتصالح معها ونكف عن مخاتلة أنفسنا بالحديث عن القيم ونرتمي في أحضانها بشكل حر طليق؟! هؤلاء بلغوا في فهمهم هذا المبلغ، وكانت الطبيعة البشرية مساعدة في هذا الفهم بالنظر إلى كونها أميل للسهل والراحة والانصياع للغرائز. ومن الطبيعي أن يصلوا إلى هذه القناعة التلقائية أو هذا الخيار السهل؛ لأنهم لا يفترضون أو لا يؤمنون بفرضية وجود الله واليوم الآخر.
وهناك من "المثاليين" (سواء كانوا ممن ينطلقون من قراءة مثالية للدين أو كانوا ممن ينطلقون من نظرة تقليدية مأخوذة من الحس المشترك) من يخاف حينما يقرأ بأن الطبيعة البشرية مادية وفيها بعد حيواني بارز؛ أن وراء هذا الرؤية الموضوعية العلمية للطبيعة البشرية تحيزات ساعية إلى إبراز حيوانية الإنسان بهدف الإجهاز على أية محاولة لدعوته إلى الفضيلة وإلى القيم!
ولذلك تجد هؤلاء "المثاليين" سرعان ما ينكرون المعرفة العلمية، ولكن الأقدار حتما تُعلمهم مصداقية تلك القراءة بشكل قاسي حينما يسقطون ببشريتهم لا في هنات بسيطة بل في زلات فاضحة.
إن رفع شعار الاستماتة والمقاومة لا يتناقض مطلقا مع الإيمان بالطبيعة الموضوعية للفرد. ولو كان الإنسان أميل إلى مقاومة الغرائز بشكل تلقائي، لما كان أصلا لقصة الاستخلاف في الدنيا معنى مفيد.
لننتقل إلى الطبيعة الموضوعية للاجتماع البشري. أول ملاحظة جديرة بالتسجيل هي أن المؤمنين عادة بالطبيعة البشرية بشكلها العلمي الموضوعي، لا يستحضرون الطبيعة الموضوعية للاجتماع البشري في تحليلاتهم لأن الطبيعتين تتناقضان، فليست طبيعة سلوك الفرد بمعزل عن الجماعة مطابقة لطبيعة سلوك الفرد في جماعة/تنظيم أو مجتمع كبير.
إن الفرد لوحده إذا اختار بدون استحضار أي قيمة عليا سيختار انطلاقا من "أنانيته" ما ينهض بمصالحه الشخصية فقط. مثال بسيط، الغش في الدراسة أو في المهنة؛ لو كان متاحا لأي فرد لا يؤمن بقيمة الجدارة والاستحقاق أن يغش لما ترك سبيلا لتوسل الغش في سبيل نجاح شخصي. ولكن القصة في إطار المجتمع مختلفة، والحديث هنا دائما عن النجاح أو المصلحة بشكل موضوعي بدون المضمون القيمي، فالفرد الذي يغش في المجتمع، قد يحقق مصلحته الموضوعية والذاتية في نفس الوقت، ولكن المجتمع سيخسر من الناحية الموضوعية؛ يكفي أن إطارا طبيا –مثلا- وصل إلى منصبه في مسار "غش" يمكن أن يتسبب في كوارث مجتمعية.
لكن، التناقض العمودي الكامن بين التناقضات الموضوعية الأفقية الخاصة بالطبيعة البشرية والتناقضات الموضوعية الأفقية الخاصة بالاجتماع البشري لا يكمن في هذا المستوى فحسب؛ بل يرقى إلى أن يكون تناقضا بنيويا يمس بنيات التناقضات الأفقية معا.
إذا كان التناقض القائم في طبيعة الفرد ينتهي إلى مقابلة طبيعته البنيوية الجوهرية (الغريزة، الواقع، المصلحة... إلخ)، بالفطرة ذات الأبعاد الروحية الطارئة على تكوينه (العقيدة، الواجب، الحق... إلخ). فإن التناقض القائم في المجتمع (أو التنظيمات التي تعد بمثابة مجتمعات مصغرة) مختلف تماما؛ فالطبيعة الجوهرية للاجتماع البشري هي الحديث عن "المثُل" و"الواجبات" و"العقائد" و"الغايات" المشتركة.
 للفهم يمكن الانطلاق من هذه الأمثلة البسيطة. الجميع في المجتمع يتحدث بإيجابية عن الاجتهاد في الدراسة رغم أنه مناقض للطبيعة البشرية المائلة للتهاون والخمول، ويتحدث الجميع بإشادة عن النزاهة والفضيلة وأداء الواجبات رغم أن الطبيعة البشرية تستصعب الالتزام، ويلعن الجميع العهارة والدعارة رغم أن الفرد قد يمني نفسه – بمعزل عن القيم- بالالتذاذ بها، وينظر الجميع نظرة ازدراء إلى السرقة على أن كبار المسؤولين يختلسون المال العام إذا ما أتيح لهم ذلك، وقس على هذه الأمثلة... إلخ.
لماذا تعد الفضيحة الجنسية أو الأسرة المفككة منبوذة من طرف المجتمعات الموسومة بأنها "مادية"، حتى أن كبار السياسيين يصعب عليهم النجاح الانتخابي إذا ما رسبوا في امتحان الأسرة والحياة الشخصية؟ باختصار، لأن قواعد الطبيعة البشرية للفرد هي غير قواعد الطبيعة البشرية للمجتمع. نعم، قد تؤمن بأن الفرد من حقه أن يستجيب لغرائزه كما يحلو له بل حتى في الفضاء العام (طبعا في حدود معينة)، ولكن مزاج المجتمع الموضوعي لا يتسامح مع فرد يريد أن تكون حياته الشخصية نموذج (أو سلطة) مهيمن على الحيوات الشخصية لأفراد المجتمع.
 إن المشترك في المجتمع يكمن في القيم العليا والمثل السامية والمصالح العامة، وكلها تدل على التعاون على تيسير تصريف الغرائز المطبوعة في الطبيعة البشرية للفرد في شروط إنسانية. فمثلا، بخصوص الحاجة إلى الغذاء تجد أنه بالتعليم والتكوين يتم تأهيل الفرد لوظيفة بها يسد رمقه، وبخصوص الحاجة إلى الجنس بتعليم الفرد وتربيته يتم تأهيله على بناء أسرة (سواء تقليدية: الزواج) أو عبر علاقة رضائية حسب المنظور القيمي للفرد، وبخصوص الحاجة إلى انتزاع الاعتراف بتعليم الفرد وتربيته يتم تأهيله على تفتيق مواهبه وتوجيهها في الاتجاه الذي يخدم مصلحته الشخصية (في البروز وتحقيق الأنا) ويخدم مصلحة المجتمع كذلك بتحريك عجلة الاقتصاد ودينامية الحياة.
بعد تسليط الضوء على مفارقات الطبيعة الموضوعية الجوهرية للمجتمع في علاقتها بالطبيعة البشرية. ننتقل إلى بعد آخر يندرج ضمن أبعاد الطبيعة الموضوعية للمجتمع يتباين أيضا مع مثيله في الطبيعة البشرية للفرد.
إن الفرد بطبعه كائن ضعيف، سلوكاته غير واعية، يحكمه اللاشعور أكثر من الشعور، ولكن بفطرته الطارئة يميل إلى التفكير والتعقل وتجاوز الضعف. أما المجتمع فهو بطبيعته الموضوعية قوي ولكن قوته كامنة في ضمور النزعة العقلانية عند كل فرد، النزعة العقلانية بما تعنيه من فردانية وقياس كمي للمصلحة الشخصية الحصرية.       
هذا بخصوص الطبيعة الموضوعية الجوهرية للمجتمع التي تتميز بخصائصها الإيجابية الملحوظة. أما بخصوص طبيعة المجتمع الطارئة، فإنها ذات أبعاد سلبية بخلاف الطبيعة الموضوعية الطارئة عند الفرد الموسومة بالإيجابية. أو لنقل؛ إن طبيعة الفرد الجوهرية مادية وفطرته الطارئة مثالية، بينما طبيعة المجتمع الجوهرية مثالية وطبيعته الطارئة مادية.
إن المجتمع يبلور المشترك الذي يجمعه بناء على عقل "جمعي" خفي يساهم في تشكيله الجميع بقدر، ولهذا يعمل المجتمع (والتنظيم دائما مجتمع مصغر) بقاعدة "سيروا سير ضعفائكم أو متوسطيكم". ولهذا، فالمشترك القيمي والأفق المثالي للمجتمع قد يلهم القاعدة العريضة من أبناء المجتمع، ولكن نبهاؤه انطلاقا من استثمارهم الكبير لقدراتهم العقلية وللياقتهم الفكرية والذهنية في تحري "الحقيقة" المجردة بعيدا عن "المصلحة" سرعان ما يجدون بأن المشترك كان "وهما" أو "أسطورة". ولهذا يعملون على تشطيب "الوهم" في الأذهان، ومقابل "الوهم" لا تقف سوى المصالح القريبة عند القاعدة العريضة للناس باستثناء أولئك "النبهاء" الذين غيروا المُثُل الوهمية بمُثُل جديرة ومفيدة. وهكذا، يتمزق المجتمع، الذي ينفرط عقده في غياب المشترك الجامع الملهم.
هكذا، نلفي مرة أخرى أن ما كان نقطة مضيئة في الطبيعة البشرية قد يستحيل إلى إشعاع مظلم في الاجتماع البشري. فالطبيعة الموضوعية للاجتماع البشري، تفترض ولا بد أن يكون هناك مشترك، وفي الغالب يكون هذا المشترك الذي لم يرسمه فرد واحد أو فردين "وهما" أو "أسطورة" في جميع التنظيمات والمجتمعات التي تعتبر قمة في العقلانية.
إن "المثُل" و"القيم" حتى تخضع للتبني الجماعي لا بد بتغليفها بغلاف "أسطوري"، لأن العقلانية الفردية نازعة بطبعها إلى الاكتفاء بالذات في حالة ما وجدت في الاكتفاء ما يحقق رغباتها الموضوعية بخلاف ما يقال من أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه.
ولكن، الحاجة إلى المجتمع (وليست حاجة الفرد إلى المجتمع) بدورها حاجة موضوعية وليست خاضعة للرغبات الذاتية للفرد. لنتفق في هذا المستوى على التكثيف التالي للمعاني المشروحة سابقا، ما هو موضوعي بالنسبة للمجتمع يخضع للرغبات الذاتية للأفراد، وما هو موضوعي بالنسبة للفرد هو اختيارات ذاتية بالنسبة للجماعة.
إن المجتمع مهم من جهة لتحقيق الرغبات الموضوعية لجميع الأفراد وإلا ستكون حالة حرب الجميع ضد الجميع في سبيل الاقتيات وإثبات الذات، ومهم من جهة أخرى لتحقيق الرغبات الذاتية التي تنولد من فطرة الفرد وتدفعه للتمايز عن الحيوان والتي ترتبط أساسا بالعمل من أجل الغير أو من أجل المصلحة العامة.
  إذن، سلوك الفرد وتفكيره موضوعيا غير عقلاني، وذاتيا (باستثمار الفطرة الموضوعية) يمكن أن يكون كذلك بالجهد الذهني على المستوى الفكري ومقاومة طغيان الغرائز على المستوى العملي. حينما نتحدث عن جهد مبذول، فإننا في إطار كل ما هو "ذاتي".
أما سلوك المجتمع وتفكيره فهو موضوعيا عقلاني (العقلانية هنا هي الإيمان بالأسس الموضوعية التي تقوم عليها المجتمعات وهي "الأرضية المشتركة")، بينما على المستوى الذاتي حينما تتحرك جموع داخله بدافع من "عقلانية" فردانية أي انطلاقا من ثمار تفكير بعض نبهائه لتكسير المشترك بشكل حدي وغير تاريخي، فسلوكه آنذاك وعقله الجمعي يصبح غير عقلاني (على الرغم من أن العقلانية عند نبهائه قد تقود إلى إنتاج خلاصات فكرية عميقة بخصوص "وهم" مجتمعها).
عقلانية الفرد غير عقلانية المجتمع. اختلاف عقلانيتهما نابع من اختلاف أسسهما الموضوعية. هذا إذا اتفقنا على أن العقلانية هي النظر الموضوعي المحايث إلى الموجودات بمعزل عن رغباتنا وبعيدا عن مرجعيات مفارقة. فمن العقلانية؛ أن نؤمن بأن المجتمع يقوم على "أرضية مشتركة" غير مدققة لأنها غير ناتجة عن تفكير مفكر مُدقق، بل هي حصيلة تضارب مسار مشترك  لأفراد مجتمع جلهم بعيد عن التفكير العقلاني الفردي. ومن الناحية الذاتية، من حقنا أن نتمنى وأن نسعى إلى الارتقاء بهذه "الأرضية المشتركة" ولكن لن يتم ذلك إلا بعد الاعتراف بطابعها الموضوعي الصرف.
من الموضوعية (أو من العقلانية، هما سيان في هذا السياق) كذلك؛ أن نؤمن بان الطبيعة البشرية للفرد مادية، ومن حقنا من الناحية الذاتية أن نعمل على تطويعها وتهذيبها وضبطها. ومن الموضوعية أيضا، أن نفهم بأن الفرد المتأمل الحر يميل بجهده الذاتي إلى بلورة تفكير عقلاني مجافي لما اجتمعت عليه الجماعة.
 لكن من المهم قبل هذا وذاك  أن نفهم بأنه في الدائرة الذاتية هناك أولويات يمكن التفضيل فيما بينها. أما في الدائرة الموضوعية فهناك قوانين وقواعد، من تجرأ على مصادمتها.. هيهات هيهات أن يصمد في وجهها. فالموضوعي هو كل ما هو ثابت وما هو بنيوي وما هو قائم وما هو كائن وما هو واقع. أما الذاتي، فهو كل ما ينبغي وما هو مفيد وما هو مطلوب.. فالفسحة فيه واسعة.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




نعم، الحركة الإسلامية قاصرة ولعبت أدوارا غير مطلوبة وخلقت معارك وهمية... إلى غير ذلك. أتفق مع كل هذا، وأؤمن بما يفوق هذه الخلاصات. غير أن ما يثير استغرابي في كل مرة، هو أن تكون الحركة الإسلامية الحائط القصير لكل من يميل إلى إبراز نزعة النقد، هو أن تكون الحركة الإسلامية مشجبا نعلق عليه كل ما يعتورنا من أدواء، هو أن ننسى دروس التاريخ والسوسيولوجيا والسيكولوجيا ونكتفي بالإيديولوجيا حينما نقرأ موقع الحركة الإسلامية في أي واقعة.
في الحالة التونسية؛ سمعتُ من مثقفين ومن شباب قوميين أن الحركة الإسلامية التونسية في شخص النهضة هي التي تقف وراء ظواهر "الشذوذ الجنسي" ودعاوى "المساواة في الإرث".. وسمعتُ منهم كذلك، أنها أيضا تقف وراء إرسال الشباب إلى "داعش" في سوريا، كما يقف "جهازها السري" الانقلابي وراء اغتيال المناضلَين "شكري بلعيد" و"محمد البراهمي".
اتُهمت الحركة الإسلامية في تونس من طرف شخصيات ومؤسسات إسلامية بأنها حركة متسيبة إذ قامت بترشيح امرأة غير محجبة لعمودية العاصمة وقامت بالفصل بين الوظيفة الدعوية والسياسية وتسامحت مع قضايا الهوية في الدستور. وفي الجهة المقابلة، اتُهمت من طرف الإمارات والسعودية (أي عمليا من طرف الولايات المتحدة والكيان الصهيوني) بأنها حركة إرهابية لا يجدر بها أن تبقى ولو للحظة على هامش السلطة.
في الحالة المغربية؛ نقرأ يوميا تحليلات وتصريحات تذهب إلى أن الحركة الإسلامية المشاركة في العملية السياسية ذات نزوعات هيمنية ومشدودة إلى الاستفراد بالسلطة، ونقف في المقابل على تقييمات أخرى تذهب إلى أن الحركة الإسلامية حركة مهادنة وضعيفة تخلت عن صلاحيات رئاسة الحكومة. شاهدنا كيف أن الحركة اتهمت بأخونة الدولة في مسيرة ولد زروال وغيرها، كما نقرأ في كل مرة تصريحات من مؤسسات وجمعيات وشخصيات تنعي فيها الهوية الإسلامية للحركة.
تتهم الحركة بأنها هي من أدخلت العنف إلى الجامعة، وبأنها هي من أدخلت التطرف إلى المجتمع، وبأنها هي من وضعت نقطة النهاية للزمن الجميل.  
في الحالة المصرية؛ حدث ولا حرج. كل لعنات العصر ألصقت بالحركة الإسلامية فيها. فالمداخلة يفتخرون بأنهم فضحوا "حزبيتها" و"بدعها" و"انحراف عقيدتها"، والوهابيون يتهمونها بأنها حركة ضالة خارج عقيدة أهل السنة والجماعة القائمة على فقه الطاعة. في المقابل، يتهمها الليبراليون بأنها حركة منغلقة ومتشددة ومستبدة، والاشتراكيون بأنها حركة رأسمالية، والماركسيون بأنها حركة زائفة، والقوميون بأنها حركة متصهينة وعميلة، والسلطة بأنها حركة إرهابية وعنيفة.
يتهم القوميون الحركة الإسلامية بأنها تحقد على الفكر القومي وأنها حركة عولمية غير وطنية، في حين يقذفها الأمازيغيون بأنها حركة قومجية عُروبية لا تُسبح سوى باسم فلسطين واللغة العربية. يتهم القوميون الحركة الإسلامية بأنها تدعو إلى إسلام أمريكاني رخو، في حين أن يرى الأمازيغيون أنها تدعو إلى إسلام قريش الصحراوي الصلب.
يرى القوميون أن الحركة خرجت من المطبخ البريطاني وتشتغل حاليا تحت إمرة السيد الأمريكي، في حين أن السيد الأمريكي والمطبخ البحثي البريطاني لا شغل لهم سوى فك ألغاز هذه الحركة ونشر الدراسات حولها والتشهير بها عبر القوائم الإرهابية وتسليط الضوء على صورة "الإزعاج" الذي تسببه حركة حماس للمستوطنين الصهاينة.  
كما تُتهم من طرف القوميين دائما بأنها تواطأت مع الولايات المتحدة لصناعة "الربيع"؛ في حين أنها مُتهمة من طرف القوى الوطنية الثورية بأنها حركة مترددة لم تلتحق بالثورة إلا يوم 28 يناير في مصر أي بعد ثلاثة أيام من انطلاقتها وإشعاعها، أما في تونس والمغرب فهي حركة ركبت على موجة الأحداث وغيرت بوصلة الانتفاضة.
إذن، الحركة الإسلامية هي: حركة منغلقة ومتشددة وإرهابية وعنيفة ومستبدة ومنمطة ورأسمالية وقومجية وعولمية وغير وطنية ومتصهينة ومتأمركة وعميلة وضعيفة ومهادنة ومحافظة وانقلابية وزائفة ومتسيبة ومتميعة وشاذة ومبتدعة وضالة ومنافقة ومنحرفة وحزبية.
بكل صدق، هذه حركة سماوية خارقة وليست جسما ينتمي إلى كوكب الكرة الأرضية. 
المشكل الأكبر يكمن في أن خلفية التحليل المشتركة لدى أغلب هذه القراءات تنطلق من تحليل مثالي للحركة مفاده هو أن الحركة تنطلق من أرضية عقائدية موسومة بالطابع الفلاني وبالتالي فالسلوك تلقائيا سيكون كالتالي. وهذا وهم كبير حطمته العلوم الإنسانية والاجتماعية. حصة الوعي أو القناعة العقدية والفكرية محدودة جدا في حركة الإنسان وسلوكاته السياسية والاجتماعية. 
إن الحركة الإسلامية هي انعكاس للوضعية التاريخية التي عاشتها مجتمعاتنا، والفروق القائمة بينها على مستوى الأقطار، مرتبطة بالمعطيات السوسيولوجية الموضوعية المختلفة، بل إن الاختلافات الكامنة داخل جسم الحركة راجع بالدرجة الأولى إلى اختلاف الروافد الاجتماعية الحاضنة لكل اتجاه. ولهذا، فتحولات المجتمع حسب اللحظات التاريخية المتعاقبة ستقرر في شأن مستقبل الحركة بشكل موضوعي من دون الجهود الذاتية التائهة لخصومها. 
إن تأجج الخلاف بين الحركة وكل التيارات الوطنية – فضلا عن العوامل الذاتية غير المنكورة - وراءه يد غير خفية هي يد العدو الصهيوني - ورُعاته الإمبرياليين الكبار ووكلائه المستبدين الصغار- الذي زُرع في خاصرة الأمة حتى لا ننام ولا نستيقظ ونبقى أسرى حالة حيص بيص.
 فمتى يتوقف هذا العبث، وننشغل بما هو أهم.
أبشر كل المتلهفين إلى نهاية مسلسل الحركة الإسلامية بأنها كحركة اجتماعية سنواتها معدودة. ولكن، لن تكون النهاية بفعل عوامل خارجية (المقصود هنا مثلا: قياس أثر خطاب ذ.عصيد  على انفضاض جمهور المواطنين عن الحركة)، بل ككل الحركات ستتم بفعل عوامل داخلية بالدرجة الأولى.
إن الحرب الشاملة الممنهجة ضد الحركة هي التي تمدها بإكسير الحياة. وكلما انخفضت وطأة الحرب، كلما رأيت الحركة متراخية وآيلة إلى النهاية المحتومة. إن ما سببه النظام السلطوي في مصر، مثلا، للحركة هو مدعاة لإطالة أمد حياتها.
ولكن، لنفترض أن الحركة ذهبت إلى رحمة الله. ماذا أعددتم جميعا لنا؟ أو بالأحرى، ماذا أعددنا لما بعدها؟

°هي مجرد خواطر تداعت ليلا فأردتُ تسجيلها، وللحديث بقية في كتابات أكثر رصانة.


...تابع القراءة