| 0 التعليقات ]






تعد فكرة "التخصص" إحدى أهم الأفكار التي أحدثت تحولات مفصلية في تاريخ البشرية. فبعد أن كان اتجاه المتعلمين يميل إلى "الموسوعية" والنهل من كل المعارف، صار الاكتفاء بتخصص دقيق ديدن غالبية النخب بله أفراد المجتمع.

لعل أصول فكرة "التخصص" تعود إلى الرغبة في "تقسيم العمل"؛ بمعنى أن التخصص في "عمل" ما مدعاة إلى التخصص في "التكوين" الذي يؤهل إلى أدائه على أحسن وجه. ومن المعلوم أن التوجه الاقتصادي نحو "تقسيم العمل" لم يتأتَ سوى مع "آدم سميث" في كتابه الأشهر (ثروة الأمم) المنشور عام 1776. ولم يتعمق سوى مع ظهور بذور علم التدبير مع "تايلور" ومدرسته في مستهل القرن العشرين.

إذا انطلقنا من الوصف الذي أطلقه وليم جيمس على العقل البشري بأنه "انتقائي ومتحيز"، نكون قد أغلقنا سر النجاحات التي يقف وراءها التخصص في التكوين العلمي والدقة في الوظيفة العملية. فمفاد هذا الوصف، الصائب جدا، هو أن استيعابنا العميق لمسألة من المسائل رهين بالتركيز عليها والتحيز لها وتدشين مسلسل "التراكم" في التعاطي معها.

بالفعل، قادت فكرة التخصص في التكوين، وقبلها نزعة تقسيم العمل، إلى ظهور نتائج باهرة على مختلف الصعد التقنية والصناعية والعلمية. فقد بات واضحا لكل من يقوم بأدنى مقارنة أن الفعالية الناجمة عن التخصص في إتقان جزئية معينة تكون عالية جدا، كما أن المردودية المصاحبة لها تكون أعلى. وكل الفتوحات الحضارية للبشرية، التي لو صُورت لمن يعيش في الماضي الغابر لاعتبرها صورة عما في الجنة الموعودة، تعد دليلا دامغا على نجاعة هذه الآلية الفعالة المسماة ب"التخصص".

مع ذلك، يمكن تسجيل العديد من الملاحظات التي تصاحب عملية تنزيل فكرة "التخصص":
 أولا، العلاقة "الأبوية" بين الكفاءة في الوظيفة العملية والتخصص في التكوين العلمي، باعتبار الفكرة الثانية ابنة للفكرة الأولى؛ تقود إلى استنتاج هام يفيد أن مجال "التخصص" متصل أساسا بالمعارف العَمَلية أي بالتكوينات العلمية ذات الأبعاد التقنية والصناعية والطبية. من هنا، يتعين العمل على الحيلولة دون امتداد هذه الفكرة إلى خارج مجالها الأصلي.

ثانيا، التخصص في المعارف النظرية (فلسفة القانون، الاقتصاد السياسي، علم المنطق، الفلسفة الأخلاقية، الفلسفة السياسية، تاريخ الأديان... إلخ)، أي ذات الصلة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، ينبغي أن تتقلص فيه هوامش الحدود ما أمكن، لأن هذه الحقول بطبيعتها متداخلة. والإحاطة بمختلف هذه المعارف من شأنه تعميق الفهم وتخصيب الخيال ودفع التفكير إلى الأمام.

ثالثا، يكون الإنتاج عميقا في "المعارف النظرية" في حالة التركيب بين أنساقها المختلفة، بينما تكون الثمرة جيدة في "المعارف العَمَلية" في حالة التركيز على الجزئية التي يتم الاشتغال عليها.

رابعا، التخصص لا ينبغي أن يكون مدعاة لإقامة جزر منفصلة بين أصحاب "المعارف النظرية" وأصحاب "المعارف العملية"؛ لأن الأوائل سيحلقون في السماء والآخرين سيلتصقون بالأرض، في حين أن المطلوب هو النموذج الذي يعيش على الأرض ولكن يتطلع دوما إلى آفاق رحبة (السماء). طبعا، نقر بصعوبة تنزيل هذا التركيب ولكن لا ينبغي أن نقتل هذا الرهان.

خامسا، يقف على رأس المحاذير المحيطة بتنزيل فكرة "التخصص" محذر الانزلاق إلى استغلال الفكرة لأغراض سياسية دنيئة؛ حيث يتم توظيف هذه الفكرة لتنميط الطلاب وتزييف وعيهم واستثمار جهلهم بمختلف الحقول المعرفية لتمرير المغالطات خاصة في التاريخ والمعارف الدينية والرؤى الفكرية.

وتُحكى بهذا الصدد نكتة طريفة عن أحد الحاصلين على شهادة الدكتوراه بامتياز في تخصص دقيق في البيولوجيا في وحدة "سُم الفئران"؛ إذ يعمد الدكتور إلى سياسة "إسقاط الطائرة" أثناء الحديث عن أنماط التدين، عن المستجدات السياسية، عن تاريخ الحضارة الفلانية، عن كرة القدم... إلخ، فلا ينسى استذكار "سم الفئران" في كل الموضوعات. المشكلة ليست في الاستذكار للإسهام في "النقاش" المفتوح، ولكن في تداعيات الانغلاق داخل التخصص على حرية الفرد الفكرية واختياراته الدينية والسياسية خاصة أمام السيل الجارف من المعلومات المنشورة في الفيسبوك!

0 التعليقات

إرسال تعليق