| 0 التعليقات ]










يتحرك كل فرد يوميا لتحقيق مصالح قريبة ثلاثية الأبعاد هي استجابة لثلاثة محركات أو دوافع شاءت حكمة الله جل في علاه أن تقود سلوك الإنسان.

يرتبط المحرك الأول بالغذاء/القوت. يجري الفرد يوميا ليُوفر من المال ما يغطي به تكاليف الغذاء. ليس عيبا أن يُحَصل المرء المال ويسعى لإسكات جوعه باعتدال، ولكن ثمة عيب في أن تكون طريقة تحصيل أمواله غير مشروعة (السرقة، نهب المال العام، النصب والاحتيال... إلخ) أو في أن يكون من أهل الشح والبخل في الإنفاق أو في أن يكون من المسرفين/المبذرين. وتعد الدراسة بشواهدها المتفاوتة (سواء في المعاهد العليا، أو معاهد التكوين المهني، أو الكليات) المدخل الوحيد المتاح ل"الجميع" لكسب المال.

يتصل المحرك الثاني بالجنس. ليس عيبا أيضا أن يسعى المرء للاستجابة لهذا المحرك عبر القناة المشروعة (مؤسسة الزواج)، ولكن ثمة تحفظات (شرعية واجتماعية وقانونية) على الاستجابة المفتوحة (خارج الزواج).
يدور المحرك الثالث حول نزعة الاعتراف (الجاه في معانيه الواسعة)، وهي حسب "هيغل" تعد محرك التاريخ وهي أيضا المرتكز النظري لتحليلات "فرنسيس فوكوياما" في كتابه الشهير "نهاية التاريخ". ومفادها، حسب سياقنا، أن كل فرد يرغب في أن يحظى بالتقدير والثناء من طرف المحيطين به، ويختلف الأفراد في الطرق التي يختارونها لإثارة الانتباه وجذب الأنظار وتشييد "سُلَطهم" على الآخرين. على سبيل المثال، يختار بعض المراهقين/المراهقات الطريق السهل وهو محاولة تشييد "سلطة جمالية" وسط أقرانهم في الثانوية أو الحي، فيعمدون إلى الدوران حول تسريحات الشعر اللافتة أو الملابس المثيرة أو المساحيق الجذابة. 

بينما يختار آخرون العمل على بناء "بروفايل" آخر متصل ب"السلطة السياسية" (من مستشار جماعي إلى وزير) في إطار حزب معين  للحظوة بالاعتراف والتقدير لدى المحيطين بهم بدءا بأهل الحي وانتهاء بالمواطنين في مختلف ربوع الوطن. كما يعمد هواة الوعظ والإرشاد إلى تشييد مسار خاص يراهن على جواذب "السلطة الدينية" لانتزاع الاعتراف والتميز من طرف من يحيط بهم من مرتادي المسجد أو متابعي الدروس. بينما تجد فئة أخرى نفسها بصدد بناء "السلطة المعرفية" برهانها على شواهدها وإصداراتها العلمية.

هذه المحركات الثلاثة تدفع الناس للتنافس على الاستجابة لهذه المصالح القريبة (المال، الجنس، الجاه)، فتجد المنافسة بينهم محتدمة في الاختبارات الدراسية المصيرية بوصفها البوابة الأولى نحو تأمين مستقبل مريح من الناحية المادية، حيث يُحَصل الإنسان حاجياته من الغذاء ويستطيع الإقدام على خطوة الزواج، أي يضرب عصفورين بحجر واحد (المال، الجنس).

وقد تلفي الصراعات المبتذلة بين أعضاء الحزب في منطقة نائية حول الترشيحات لعضوية المجلس الجماعي باعتباره القناة الوحيدة لصناعة "جاه" محلي. وقد تجد الصراع ينتقل بين المتصدين للمنابر حول الجمهور، فتجد أحدهم يُقدم على تشويه سمعة زميله الذي يعتلي المنابر والفضائيات خوفا من سريان خطابه وسط الناس فيُسحبُ بذلك البساط من تحت قدميه.

إنها المصالح الشخصية القريبة التي أودع الله جل في علاه محركاتها في كل الناس بتباين مُقدر.

لكن، إذا انصهر الناس في مصالحهم القريبة ما قام للناس إنتاج جماعي فيه لمحة من التسامي، وما قامت للعلاقات الإنسانية قائمة، وما كان مفهوم المجتمع في عداد الأحياء!

إن المنجزات الباهرة التي وصلت إليها البشرية ما كانت لتكون لولا خروج الناس من الانكفاء على مصالحهم الشخصية القريبة إلى العمل على المصالح المشتركة البعيدة. صحيح أن نزعة الاعتراف والتميز قد تكون دافعا قويا وراء ابتكار اختراع جديد من طرف المخترع، ولكن لولا تلقيحه بجرعة من الإيمان بالمصالح المشتركة البعيدة لما استطاع الصمود في  مسيرة السهر والبحث خاصة وأن أمامه تجارب شائعة لم تتعب وحققت أهدافها الشخصية القريبة.

إن النبهاء ينبهون إلى أن النجاح الكبير يكمن في تربية الناس منذ صغرهم على تحقيق المصالح القريبة في إطار المصالح البعيدة. فمن يعمل مثلا بجد على إنتاج علمي معين في تخصصه، أكيد أنه سيستجيب لمحركاته الثلاثة (سيُحصل قوت يومه، وسيتمكن من الزواج، وسيعترف به الناس) وفي نفس الوقت سيسهم بإنتاجه في نماء المجتمع وفي تقدم الإنسانية جمعاء. وقس على ذلك كل النماذج، فمن يبذل جهده ليتعمق في "المعرفة الدينية" ويحيط بالحد الأدنى من المعارف الأخرى، سيقدم خطابا متزنا في تهذيب السلوك وتصويب الرؤى، أكيد أنه سيستجيب لدوافعه الحيوية الملحة بوعي وبصيرة وفي نفس الوقت سيكون قد قدم خدمة تربوية مفيدة للأجيال.

0 التعليقات

إرسال تعليق