| 0 التعليقات ]



 " لقد كان التعاطي مع ملف التعليم و الفقر في المغرب تعاطيا تقنوقراطيا صرفا، و عرف هذان الملفان تعثرا بينا رغم كل الجهود التي بذلت و تبذل.. و لكن ألا يبدو أن من أسباب التعثر: السعي إلى إسكاب الواقع في قوالب جاهزة و عدم ربط التعليم بمنظومة أخلاق و ثقافة المجتمع؟
ليست المسألة هينة أو سهلة، و لكن أليس اعتماد مقاربات كمية سواء فيما يتعلق بعدد المتمدرسين و عدد الأساتذة و المنقطعين يحجب نوعية التعليم الذي يراد تلقينه و الذي يغيب وسط جلبة من الأرقام.. ما معنى أن ندفع بجودة التعليم كما لو أنه بضاعة؟ ("مرآة الغرب المنكسرة"، حسن أوريد، ص: 179. الطبعة الأولى:2010).
إن المنهج التقنوي الجاف هو عنوان إخفاقاتنا في المسلسلات الإصلاحية التعليمية. فالتردد في تحديد أي تلميذ/طالب نريد اليوم ؟ و بالتالي: أي مجتمع نريد في الغد القريب؟ هو أم المزالق و المشكلات.
و لا شك أن الهروب من السؤال الحقيقي الذي يطرح البعد الكيفي و الاستعاضة عنه بالغرق في المقاربات الكمية باعتماد النهج التقنوي في التعاطي مع هذا الملف الساخن: راجع أساسا إلى درجة حرارة المسألة الديمقراطية في هذا الوطن.
فإذا حسمنا فعلا في الاختيار الديمقراطي و كنا نطمح حقا لمجتمع ديمقراطي قوامه إنسان متحرر من كل ألوان الوصاية و الاستلاب، متمتع بكرامة إنسانية و قدرة مُقَدرة على التمييز و الاختيار بين الخطوط و التوجهات، إنسان يجيد لغتين: لغة "لا" إلى جانب لغة "نعم". فالسياسة التعليمية ستتجه رأسا نحو هذا المثال المنشود و ستُمكن التلميذ/الطالب من الاطلاع على: مختلف الأفكار و تاريخها، أهم الفلسفات و مراميها، رسالة الحركات الاجتماعية و السياسية و شعاراتها، التحولات الجارية و ما تحمله في أحشائها،  فلسفة العلوم و تاريخها و كدح الإنسانية الطويل الساعي للتحرر من كل أوهاق الطغيان و الاستعباد و الاستبداد.. هكذا بهذه المعرفة و الرؤية الشاملة –التي من الواجب تغذيتها بالمطالعة الحرة- بإمكان التلميذ/الطالب أن يكون مواطنا حرا كريما قادرا على الاختيار و الإسهام في الرقي و البناء عصيا على مساعي المغالطة و الاستغفال.
أما إذا كان التردد حليف المسألة الديمقراطية ببلدننا؛ فأكيد أن التخبط سيلازم تناولنا للمسألة التعليمية، و لتغطية الشمس بالغربال سنَضيع – و نُضَيع معنا الأجيال- مرة أخرى و مرات وسط جلبة الأرقام –كما قال د.أوريد-  و نبقى أسرى المقاربة التقنوية: نحصي عدد الأساتذة و المتمدرسين و عدد المقاعد.. و نقوم باستدعاء الاختيار التقنوقراطي؛ حيث ننتج كائنات بشرية تجيد لغة واحدة هي المدح و التصفيق، تعيش من أجل اللهث وراء المادة و تنسى الحرية و الكرامة، لا تحلم نهائيا بحياة أخرى خارج نسق سدنة التحكم و أباطرة الفساد و الاستبداد، تعدم  حس التساؤل  ناهيك عن إحساس التطلع لمحاسبة المسؤول  و ممارسة الدور الرقابي في البرلمان بالشكل المطلوب.  

إن المسألة التعليمية و المسألة الديمقراطية بينهما ارتباط وثيق؛ فإما الاختيار الديمقراطي حيث نوجه التعليم نحو تأهيل إنسان حر كريم عميق الانشداد إلى هويته الأصيلة و تربته المغربية العزيزة و ملتحم  بشدة بأسئلة التحولات الجارية. و إما الاختيار التقنوقراطي حيث تكون عملية التعليم  ماثلة نحو تخريج كائن بشري كفء –نعم- لكن قابل ليعيش الضيم في ظل مناخ التحكم و الاستلاب و الاستبداد.    


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



يخرج صديقي –أستاذ متدرب في مادة الرياضيات- من الثانوية مع زملائه الأساتذة، فينخرطون في النقاش حول الشأن العام وبعض القضايا الفكرية، ينتصر صديقي في مداخلاته دوما للطرح القائل: إن الإسلام و المعاصرة صنوين لا يفترقان لا ضدين –كما يشاع- لا يلتقيان.. يفاجأ صديقي بقابلية زملائه لاحتضان أية فكرة و سرعة تبنيهم لما يدندن حوله من أفكار و طروحات.
يعبر لي  بنبرة صادقة مقرونة بالإشفاق الخالص: لا يسعدني حال هؤلاء، رغم  تبنيهم لما أدندن حوله و أدور، لأنهم قابلون للمغالطة و التضليل، و ما ينتصرون له من قيم و أفكار رهين بطبيعة السباق إلى مخاطبتهم؛  فلو كان مخاطبهم يتحيز لفكرة أخرى لصفقوا –على عجل- لما يقول. مضيفا: إنهم ضحايا سياسة تعليمية منتكسة تنتج آلات : تشتغل وفق الزر الذي يضغط عليه لأول مرة، و تغير وجهتها بعد الضغط على زر آخر..
تلك قصة توحي بشكل واضح عميق بطبيعة الخلل الذي يجثم على السياسة التعليمية. إنها إرادة صارخة لإنتاج كائنات قابلة لتبديل قناعاتها بعد إشعار قصير دون السعي وراء عملية الغربلة و التمحيص. إنها محاولة مكشوفة لتخريج جيل "لا يفكر بشكل مختلف عن ما يريد المتنفذون"، جيل مُدجن؛ لا يستطيع أن يقول "لا": للظلم و الطغيان و الفساد و الاستبداد و التسلط و التخلف و الفجور و الخمول، جيل ممزق الشعور و مستلب الاختيار في كل الأمور..(من مقدمة "هموم تلميذ").
إن الخلل، يمكن تكثيفه باختصار فيما يلي: جزء كبير من المتدخلين في صياغة السياسة التعليمية لأوطان –ما بعد الاستعمار بالخصوص-  يبتغون حرمان الأجيال الصاعدة من الحس النقدي..
لأنهم يعلمون أن المتعلم (طالبا كان أو تلميذا)، إذا مُكن: من أدوات التفكير الناقد، من حس التأني قبل التبني، من الغربلة قبل المصادقة، من الاطلاع على المنظورات المتنوعة للقضايا المطروحة، من التمسك بالمقاصد قبل الوسائل. إذا مُكن من هكذا أدوات و موازين و تملك ملكة التمحيص و التحليل قبل المدح و التبرير، لا ريب، أنه بدأ يشق الطريق نحو التحرر و المعافاة من أمراض نفسية و اجتماعية فتاكة: الإمعية، الآبائية، النظرة الإطلاقية، النزعة الوثوقية، القابلية للاستغفال و التخدير و الوقوع في أسر هواة التحكم و التلاعب و التضليل..  
إن المنحى الذي تتجه إليه السياسة التعليمية؛ الانتصار لنموذج التقنوقراط أو الإنسان التقنوي الذي ينحصر أفقه في العمليات التي يُطالب بإنجازها و الآلات المفروض عليه أن يتعامل معها: الإنسان الذي لا يهجسه  سؤال: لماذا؟ الإنسان الذي لا يتطلع لفهم الفلسفة التي تؤطر العملية التي ينجزها و لا الفكرة التي كانت وراء إبداع الآلة التي يشتغل عليها. هذا المنحى يستهدف بشكل صريح إغراق الإنسان في عالم صم بكم (عالم التقنيات)  لا علاقة له –بالمناسبة- مع العلم و لا فلسفة الحياة بشهادة العالم الفيزيائي جيمس تريفل: " إن القدرة على برمجة جهاز تسجيل فيديو كاسيت ، أو إصلاح سيارة، أو فهم وظيفة جميع أزرار جهاز التشغيل: يمكن أن يكون قدرة مفيدة في العصر الحديث، لكن لا علاقة لها البتة بالمعارف الأولية العلمية. إن المعارف الأولية العلمية قيمتها و دورها في أن نفهم بنية الكون الذي نسكنه، و يمكن أن تقترن أو لا تقترن بالمهارة التقانية اللازمة لتشغيل الأجهزة الالكترونية".( "لماذا العلم؟"، جيمس تريفل، سلسلة عالم المعرفة: الكتاب 372. ص: 57-58).
نموذج التقنوقراط يناقض تماما نموذج الحس النقدي؛ لأنه ببساطة من يُعمل عقله و تفكيره لا بد و أن تكون له أيضا وجهة نظر فيما يُطرح من أسئلة و قضايا و نقاشات؛ وجهة نظر  لن تروق دائما سدنة الاستبداد: هواة التنميط و الرأي الواحد. لهذا السبب –إذن- تتحيز السياسة التعليمية  لنموذج التقنوقراط و تخشى من سيادة نقيضه صاحب الحس النقدي.
بعبارة جامعة؛ إن السياسة التعليمية تقف على خيارين: إما النزوع التقنوي أو النزوع نحو الحسالنقدي. النزوع الأول، يروم إنتاج الإنسان ذي البعد الواحد (بتعبير الفيلسوف  ماركوز) و بالتالي تشكيل المجتمع ذي البعد الواحد حيث لا هَم إلا التصفيق و التبرير لكل السياسات و الفلسفات الرائجة من طرف الطبقة المهيمنة؛ هذا النزوع يتوسل توجيه اهتمام الطلاب و التلاميذ إلى العمليات و المسائل التقنية بعيدا عن الفكر و المعارف العلمية لإعدام أي ذراع محتمل أن يكون لهم في ميدان المعارف الإنسانية و الاجتماعية التي تتصل بالحياة العامة.  أما النزوع الثاني، فهو يستهدف بناء طراز من الإنسان يمتلك حاسة النقد و يعشق السؤال، يراجع المسالة قبل أن يصفق لأي جواب عليها، يحوي قاموسه كلمة "لا" إلى جانب كلمة "نعم": مواطن بحق ليس رقما كباقي الأرقام.


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



كثيرا ما ألتفت إلى كون سبب اتجاه المنظومة التربوية صوب تضييق التخصص و حصر مجال الاهتمامات و التركيز على التقنيات، لا يرجع -حسب ما يشاع- إلى إكراه التأهيل لسوق الشغل فقط. إنما ذلك نابع من سياسة تروم تخريج تلميذ/طالب محروم من الرؤية الإدراكية الفسيحة، قابل -بعد إشعار قصير- لتبديل القناعات و الخيارات، قابل للتوظيف و الحوسلة و الاستعباد و قابل للصب في أي قالب مُعد.
قبل عقود، كان الرهان على أمية الشعوب و المجتمعات (الأمية التقليدية: أمية الحروف و الأرقام). فالأمي كالأعمى –إلا من رحم الله- من اليسير حمله على طريق  لم يكن يقصده، من اليسير العبث بفكره، من اليسير توظيفه لفائدة أجندة من الأجندات. و لهذا السبب؛ أي الرغبة في استدامة نوع من العبودية في أوساط الناس و الخوف من تحررهم من زيف الوصايات. تم انتهاج سياسة المماطلة و التذبذب و التردد إلى أن وصلنا في القرن الواحد و العشرين إلى حالة تستمر فيها نسب مًقَدرة من الأمية كان بالإمكان أن تنعدم منذ سنوات سحيقة.
كان بالإمكان الاحتفاء بالقضاء على الأمية –على الأقل- سنة 1975، استنادا إلى ما  أدلى به الدكتور المهدي المنجرة. ففي سنة 1965، يقول الدكتور المنجرة، انعقد مؤتمر الوزراء الأول و الأخير لمحاربة الأمية، و باعتماد دراسات لخبراء تم بيان إمكانية القضاء على الأمية في عشر سنين، لكن الأمية مازالت مستمرة إلى اليوم..
يلفت المنجرة النظر إلى كون سدنة الاستبداد في أوطاننا و ورثة الاستعمار في الدول الغربية: يقفون دون إشاعة نور العلم و العرفان و ضد دق أخر مسمار في نعش الأمية و الظلام. إنهم يخافون من تحرر الشعوب و انبثاق وعيها السياسي.
لكن تحالف الغزاة و الطغاة أدرك أن حبل المماطلة قصير و أن تعلم الحروف و الأرقام بات قدر الجميع خصوصا في القرن الواحد العشرين. فسارع إلى البحث عن مخدر جديد يقوم بالدور الذي أنيط بالأمية منذ عشرات السنين؛ أي تطويع الجيل الجديد و جعله قابلا للاستعباد و المغالطة و التضليل. فنسب الأمية (التقليدية)، رغم أنها مازالت مقدرة إلا أن  القضاء عليها بات مسألة وقت رهين بظهور جيل أو جيلين أو ثلاثة أجيال على أكثر تقدير، فحتى الهدر المدرسي المشاع في أوساط البوادي بشكل كثيف لن يمنع التلاميذ من تعلم الحروف و الأرقام إلى حدود مستوى السادس ابتدائي على الأقل.
فما هي –إذن-  الأمية (الحديثة) التي أراد حلفاء الظلام (الطغاة و الغزاة) التمكين لها لأداء ذات الدور الخسيس: الوصاية على الجيل الجديد؟   
الجواب عند العبقري الكبير ألبرت إنشتاين (في كتابه: كيف أرى العالم؟): " لا يكفي تعليم الإنسان تخصصا معينا؛ ذلك أنه بهذا الشكل، يصير آلة قابلة للاستعمال و لا تصبح له شخصية. و من المهم أن يكتسب إحساسا و حسا عمليا تجاه ما هو جميل و ما هو حق أخلاقيا؛ و إلا فإنه يشبه بمعارفه المهنية كلبا عارفا.. إن إفراطات نظام المنافسة و التخصص السابق لأوانه تحت الذريعة الخداعة للفعالية، تقتل العقل و تمنع كل حياة ثقافية، بل و تلغي حتى التقدم في علوم المستقبل.. و الحال إن إثقال العقل من خلال نظام التنقيط، يعيق و يحول البحث إلى سطحية و غياب للثقافة، و ينبغي للتعليم أن يتمثل في كون من يتلقاه، يستقبله كهبة ثمينة، و ليس كإكراه قاس أبدا".
إذن إغلاق المتمدرسين في سياجات التخصص الضيق حيث الأرقام الصماء فقط و الرموز الجوفاء فحسب و حيث الغياب التام لفلسفة العلوم و المنظورات الكلية المؤطرة لأسئلة التقنيات و مختلف الفنون؛ هو المدخل الجديد نحو أمية (حديثة) تجعل خريج المنظومة –كما قال إنشتاين- آلة قابلة للاستعمال و الاستعمار و التوظيف و التضليل و الاستغلال. فالمنكفئ على أسوار فرع واحد من فروع المعرفة، المفتقد لإحاطة عامة بأحوال الإنسان و الاجتماع و  ما يتعلق بصياغة الأحلام و الوجدان و القانون لن يكون عصيا على البيع و الشراء و التلاعب و الارتشاء و التطبيع و الخذلان. إذ أن التخصص يعمل على نمو الفرد من جهة واحدة و يعطله من سائر الجهات. و السؤال هنا: هل التخصص أمر لازم، نعم- يقول د.علي شريعتي في كتابه "النباهة و الاستحمار"-.. إنه أمر لازم، و لا ينبغي أن نعدمه، لكنه، علينا في الوقت الذي نتخصص فيه في فروع مختلفة، أن نحفظ "كليتنا الإنسانية" و "كليتنا الاجتماعية".
الفيزيائي الحائز على نوبل "جيمس تريفل" في سياق حديثه على خطورة الانكفاء فقط على التخصص الضيق في كتابه الشهير (لماذا العلم؟) أورد قصة معبرة تختزل البعد الذي نستهدف توضيحه في هذه الأسطر. يقول:"إنني لا أعتقد أن أيا من طلاب الجامعات الأمريكية اطلع على قدر كاف من الإنسانيات أو العلوم الاجتماعية، و ثمة قصص مروعة على ذلك، مثل قصة الطالب الذي ظن أن تورنتو هي عاصمة إيطاليا". هذا طالب جامعي أمريكي لم يكلف نفسه عناء الاطلاع و التأكد من عاصمة دولة غربية نتيجة غرقه في التخصص، فكيف ستكون درايته بالحركات السياسية و الاجتماعية و تاريخها و مراميها و الفروق بينها.. هذا، من السهل –إذن- على عصابات المافيا و الحركات الهدامة شراء ذمته و توظيف كفاءته و ذكائه و تدجين تحيزاته و خياراته.
قطب رحى حديثنا، إن الذين يملكون السلطان في العالم (ورثة الاستعمار) و الكثير ممن يملكونه في بلداننا (سدنة الاستبداد)  لا يريدون لهيمنتهم الاحتضار، لهذا فهم عاكفون على تأبيد المغالطة و التضليل و الاستعباد و التمويه في أوساط الجماهير. قديما راهنوا على الأمية التقليدية التي تقبع فيها الشعوب و اليوم قالوا فلنجعلهم آلات لا يمتد وعيها إلى ما سوى تخصصها. فالحذر الحذر من هذا النزوع التقنوي المقرف البئيس ! فنتاجه لن يكون سوى آلات طيعة لا أناس أحرار !
...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



الجواب على سؤال "لماذا يتعثر مسار الانتقال الديمقراطي ببلداننا ؟"- حسب عالم الاجتماع العراقي  علي الوردي- يقتضي أن نفهم طبيعة مرحلة الانتقال التي تمر بها هذه البلاد، إذ هي تمر اليوم بنفس المرحلة التي مرت بها البلاد الراقية في مفتتح القرون الحديثة. فالناس هنا لا يزالون يعيشون القرون القديمة، و يسيطر عليها المنطق القديم، منطق الحق المطلق الذي يحتكره فريق من الناس دون فريق. فإذا قلت لأحدهم "إنك مخطئ" ظن انك تقول له "إنك غبي" و يمسي و قد أضمر لك حقدا لا ينساه حتى ينتقم منك.
ما ذهب إليه الدكتور الوردي صحيح إلى حد بعيد. فالنزوع الوثوقي و الرؤية الإطلاقية التي لا تعرف المنطقة الرمادية؛ أمراض موروثة من عصور الانحطاط و عهود الجهل مازالت تحتل مساحات واسعة في العقل الجمعي للأمة. و لاشك أن الذي أدى إلى استدامة هذه الأمراض المعطلة لحركة الترقي في الحياة هو الجهل المركب، هو النظر إلى الحياة من زاوية واحدة فقط، هو عدم إبصار الطرق الأخرى المؤدية إلى المقاصد و الغايات الجامعة.
قديما كان الجاحظ يقول: "الحلم بالعلم". لن يتأتى لك التخلق و التحقق بأخلاق الشموخ: الحلم، الرفق، الرحمة، التسامح و التواضع.. إلا إذا كنت ذا أفق رحب نابع من معرفة واسعة و علم غزير يُشَكل حصيلة تجربة عميقة في الحياة و تأملات ثاقبة في مختلف الكتابات و شتى المجالات. لا يمكن –إذن- أن تكون حليما مع خصمك إلا إذا كنت على دراية عميقة  بتاريخه و تطوراته و مقاصده و مراميه، إلا إذا وقفت على بينة من قضيته و صدقه و شرفه و نزاهته.
إن الكبار،  لم يشتهروا بميزة كالأناة عند إصدار الأحكام و التوقف قبل إطلاق الكلام و إنصاف الخصوم قبل الخلان. و ما ذلك إلا لوعيهم بكون هذه الحياة أخس من أن تُعمر بالعداوات و الاصطفافات، و أنها أجدر بلم الشمل و تقريب الصف و ردم الهوة لتحقيق مقصد الاستخلاف في التنافس على "أيكم أحسن عملا" و البدار إلى إصلاح الأرض و عمرانها.
الملاحظ باستمرار، في عالم اليوم، أن العديد من الفرقاء السياسيين و الفكريين يجهلون بشكل فاقع التطورات المتسارعة الكثيفة التي تمر بها التنظيمات المباينة لهم في الخط و الشعار. فالنعوت التي مازالت تلحق الحركة الإسلامية من قبيل "الظلامية" (زعيم حزب سياسي يساري في حوار مؤخرا مازال مُصرا على توظيف ذات النعت)  تنم – على الأقل، إذا افترضنا حسن النية- على الجهل المطبق بالتحولات الفكرية العميقة السارية و المستمرة في الصف الإسلامي : التحولات التي تسير نحو الأخذ بالأفكار المتعلقة بالبعد الإنساني و الاجتماعي التي طالما نادى بها خصومه سابقا. نعت "الظلامية"، قد يكون مقبولا في السبعينيات، حيث تعيش الحركة الإسلامية مرحلتها الجنينية الموبوءة بالتحيز للنهج الانقلابي و استعداء المخالفين. لكن و الحال أن الحركة –اليوم- تتبرأ من صبيانية المنهج الانقلابي و ترفع شعار التغيير الحضاري و "التعاون مع الغير على الخير" و تقوم –باقتدار- بالمساهمة في خط المسار الديمقراطي؛ و الحال هذه بات من السذاجة و الاستغفال  استقدام ذات النعت و خصوصا في مرحلة دقيقة من الانتقال الديمقراطي.
إن تعثر المسار الديمقراطي في بلداننا، راجع بالأساس، إلى غياب كتلة وطنية (من شتى الأطياف) ملتحمة على ذات المقاصد و الغايات. و المساهم في تغييب هذه الكتلة استمرار حالة الجهل (أو التجاهل) بشكل مفجع بباقي فرقاء الوطن مما يؤدي إلى  ديمومة عيب التخوين في الخطاب و السجال (فهم "إنك مخطئ" على أنها "إنك غبي"، كما قال الوردي).

و أمام هشاشة الصف الداخلي و تشرذم وجهاته يسهل على "التدخل الخارجي" الذي ليس له مصلحة في نجاح الانتقال الديمقراطي الإجهاز على البناء برمته.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]






أهم ما ينبغي على الطالب الاضطلاع به في السنة الأولى بشعبة الاقتصاد خاصة في مادة علم التدبير هو التمييز بين دلالات و مجالات؛ التسيير gestion  و التدبير management.
التسيير، ببساطة، هو الاشتغال على إدارة عمل/ورشة ما لكن في إطار منظومة و نسق محدد سلفا لا يجوز للمسير تجاوزه. بينما، التدبير يتناهى مدلوله إلى امتلاك "المدبر" لآفاق واسعة لابتكار حلول لما استجد من المشكلات دونما الارتهان بقيد من القيود أو نسق من الأنساق. صحيح أنه لا مانع للمدبر من الاسترشاد و الاستعانة بالتوجيهات الموضوعة على طاولة المسير، لكن طبيعة التدبير أساسا تتجه إلى تجاوز الموجود من الأنماط المتبعة في التعامل مع المشكلات التي تعرض لحياة الورشة/ الشركة.
المتأمل في الطريقة التي يتعامل بها "المنتظم الدولي"؛ مع أي نموذج تنموي صاعد في آسيا أو في العالم الثالث عموما أو مع أي تجربة ديمقراطية ناشئة في المنطقة. المتأمل في النهج المتبع في هذا التعاطي مع محاولات النهوض في المنطقة، لاشك، أنه لن يخطئ في الجزم بان العالم الخارجي المهيمن على القرار الدولي لا يرضى بظهور بذور تجربة ديمقراطية/ نموذج تنموي يتأبى على النسق المعين –باعتباره الوحيد- للتنمية و الديمقراطية.
العالم الخارجي المهيمن على القرار الدولي-إذن- لا يرضى نهائيا بنموذج صاعد يتطلع لا لتسيير تجربته فحسب؛ و إنما يرنو لتدبيرها وفق إمكانياته الذاتية و رصيده التاريخي و موقعه الجيو-سياسي و طبعا دونما إغفال التجربة البشرية الغنية في سبل النهوض لكن دون الارتهان الأعمى لأي نسق من الأنساق.
السبب، واضح، هو أن العالم المهيمن اليوم حريص على مصالحه يسعى لتأبيد هيمنته. ظهور أي تجربة تنزع نحو التدبير خارج نسق المهيمن يعني – من المحتمل- أن تشق طريقها نحو النجاح. و بالتالي، فذلك إيذان ببداية تخلخل التوازن القديم و انطلاقة فعلية لتوازن جديد في العالم يأخذ فيه المهيمن (سابقا) موقعه الطبيعي و تأخذ فيه كل تجربة حقها. و هكذا، يتأسس عالم يسود فيه العدل بين الأمم و التعايش السلمي و العمل المشترك من أجل المصير المشترك لهذا الكوكب. 
مجموعة من الحروب التي نشاهدها ضد دول الجنوب؛ الفكرة المركزية التي تقف وراءها: تدبير أي دولة في الجنوب لشؤونها خط أحمر.. الجنوب قدَرُه التسيير فقط.
إن الوعي بأن "التدخل الخارجي" يفعل فعله في بلداننا لأنه  يريد الديمومة  لنسق معين بإكراه الدول على الاكتفاء بالتسيير فقط في إطار إملاءات معينة (من صندوق النقد و غيره..)، أمر مهم أن يعيَه الذين يستسهلون طريقة صدور قرار سياسي في بلداننا. و إن ترك التجارب الصاعدة تدبر شأنها و تجترح بدائلها، لأمر هام و شرط لا مندوحة عنه لاستتباب الأمن و العدل و السلام و التسامح على ظهر هذا الكوكب.
 نختم مع الدكتور المهدي المنجرة رحمه الله الذي يتحدث –بالمناسبة- عن كون هيمنة المهيمن حاليا لن تدوم أكثر من 15 سنة (يعني لن تستمر إلى أكثر من 2030). و في سياق دفاعه عن إمكانية نجاح نماذج التدبير خارج النسق المحدد، يُلح على نموذج اليابان مرارا و يرى "أن تطور اليابان يعود بالأساس إلى سيرورة اجتماعية ثقافية ذاتية، لعبت فيها اللغة و القيم دورا حاسما. فنجاحات اليابان في المجالات الاقتصادية و العلمية و الثقافية فندت إذن إطروحة الطريق الوحيد (الغربي) نحو التحديث، و هذه السابقة حطمت نهائيا احتكار الغرب للحداثة، و أثبتت أن الحداثة لا يمكن أن تتحقق إلا بواسطة مجهود ذاتي. مضيفا: "إن التخلف ليس إلا العجز عن التعبئة الرشيدة للموارد البشرية و للكفاءات". (من كتابه:"حوار التواصل".ص: 176،177. مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء. الطبعة11  سنة 2005  ) .


...تابع القراءة