| 0 التعليقات ]



الجواب على سؤال "لماذا يتعثر مسار الانتقال الديمقراطي ببلداننا ؟"- حسب عالم الاجتماع العراقي  علي الوردي- يقتضي أن نفهم طبيعة مرحلة الانتقال التي تمر بها هذه البلاد، إذ هي تمر اليوم بنفس المرحلة التي مرت بها البلاد الراقية في مفتتح القرون الحديثة. فالناس هنا لا يزالون يعيشون القرون القديمة، و يسيطر عليها المنطق القديم، منطق الحق المطلق الذي يحتكره فريق من الناس دون فريق. فإذا قلت لأحدهم "إنك مخطئ" ظن انك تقول له "إنك غبي" و يمسي و قد أضمر لك حقدا لا ينساه حتى ينتقم منك.
ما ذهب إليه الدكتور الوردي صحيح إلى حد بعيد. فالنزوع الوثوقي و الرؤية الإطلاقية التي لا تعرف المنطقة الرمادية؛ أمراض موروثة من عصور الانحطاط و عهود الجهل مازالت تحتل مساحات واسعة في العقل الجمعي للأمة. و لاشك أن الذي أدى إلى استدامة هذه الأمراض المعطلة لحركة الترقي في الحياة هو الجهل المركب، هو النظر إلى الحياة من زاوية واحدة فقط، هو عدم إبصار الطرق الأخرى المؤدية إلى المقاصد و الغايات الجامعة.
قديما كان الجاحظ يقول: "الحلم بالعلم". لن يتأتى لك التخلق و التحقق بأخلاق الشموخ: الحلم، الرفق، الرحمة، التسامح و التواضع.. إلا إذا كنت ذا أفق رحب نابع من معرفة واسعة و علم غزير يُشَكل حصيلة تجربة عميقة في الحياة و تأملات ثاقبة في مختلف الكتابات و شتى المجالات. لا يمكن –إذن- أن تكون حليما مع خصمك إلا إذا كنت على دراية عميقة  بتاريخه و تطوراته و مقاصده و مراميه، إلا إذا وقفت على بينة من قضيته و صدقه و شرفه و نزاهته.
إن الكبار،  لم يشتهروا بميزة كالأناة عند إصدار الأحكام و التوقف قبل إطلاق الكلام و إنصاف الخصوم قبل الخلان. و ما ذلك إلا لوعيهم بكون هذه الحياة أخس من أن تُعمر بالعداوات و الاصطفافات، و أنها أجدر بلم الشمل و تقريب الصف و ردم الهوة لتحقيق مقصد الاستخلاف في التنافس على "أيكم أحسن عملا" و البدار إلى إصلاح الأرض و عمرانها.
الملاحظ باستمرار، في عالم اليوم، أن العديد من الفرقاء السياسيين و الفكريين يجهلون بشكل فاقع التطورات المتسارعة الكثيفة التي تمر بها التنظيمات المباينة لهم في الخط و الشعار. فالنعوت التي مازالت تلحق الحركة الإسلامية من قبيل "الظلامية" (زعيم حزب سياسي يساري في حوار مؤخرا مازال مُصرا على توظيف ذات النعت)  تنم – على الأقل، إذا افترضنا حسن النية- على الجهل المطبق بالتحولات الفكرية العميقة السارية و المستمرة في الصف الإسلامي : التحولات التي تسير نحو الأخذ بالأفكار المتعلقة بالبعد الإنساني و الاجتماعي التي طالما نادى بها خصومه سابقا. نعت "الظلامية"، قد يكون مقبولا في السبعينيات، حيث تعيش الحركة الإسلامية مرحلتها الجنينية الموبوءة بالتحيز للنهج الانقلابي و استعداء المخالفين. لكن و الحال أن الحركة –اليوم- تتبرأ من صبيانية المنهج الانقلابي و ترفع شعار التغيير الحضاري و "التعاون مع الغير على الخير" و تقوم –باقتدار- بالمساهمة في خط المسار الديمقراطي؛ و الحال هذه بات من السذاجة و الاستغفال  استقدام ذات النعت و خصوصا في مرحلة دقيقة من الانتقال الديمقراطي.
إن تعثر المسار الديمقراطي في بلداننا، راجع بالأساس، إلى غياب كتلة وطنية (من شتى الأطياف) ملتحمة على ذات المقاصد و الغايات. و المساهم في تغييب هذه الكتلة استمرار حالة الجهل (أو التجاهل) بشكل مفجع بباقي فرقاء الوطن مما يؤدي إلى  ديمومة عيب التخوين في الخطاب و السجال (فهم "إنك مخطئ" على أنها "إنك غبي"، كما قال الوردي).

و أمام هشاشة الصف الداخلي و تشرذم وجهاته يسهل على "التدخل الخارجي" الذي ليس له مصلحة في نجاح الانتقال الديمقراطي الإجهاز على البناء برمته.

0 التعليقات

إرسال تعليق