| 0 التعليقات ]





يعد مفهوم الإيديولوجيا من المفاهيم الكبيرة التي أثارت أقلاما عديدة في الساحة الفكرية العربية خاصة بعد النصف الثاني من القرن العشرين. ولا عجب في هذا الاهتمام المثير بالمفهوم خاصة إذا فهمنا محوريته في إدراك الممارسات التي يقوم بها الأفراد الحاضنون لانتماء معين. كل هذه الكتابات توجهت بالنقد والنقض للإيديولوجيا وكأنها تدعو الجميع إلى التحرر من أغلالها.
ما الإيديولوجيا، أولا؟ إنها معتقد يغشى الإنسان ويتسرب إلى ذهنه ويتسلل إلى نفسيته فينطلق من خلاله ليفسر كل شيء وليقيس كل ما أمامه. إنها فكرة عاطفية تتملك الإنسان ومن خلالها ينظر إلى الكون والإنسان والحياة. إنها منظار يرى الإنسان من خلاله الحياة ولا يشوبه أدنى شك في أنه الصواب الذي لا صواب بعده والحق الذي ليس بعده إلا الضلال. إنها تحتل رؤية الإنسان بدون أدلة عقلانية بل هي مؤطرة بمحض مصادفات نفسية وعوامل خارج إرادة الإنسان.
غير أن الإيديولوجيا تتميز بميزة خاصة فهي نظرا لانتسابها لعالم الاعتقاد والإيمان تعد وقود حركة الإنسان ودليل عمله. إنها الدافع الرئيس لنشاط الناس وحيويتهم. إنها وراء المنجزات المذهلة التي يحققها بعض قادة الحركات الإيديولوجية حينما يجمعون بين الكتابة والخطابة والمهنة والتخصصات المتباعدة في زمن قياسي.
وهذا أمر مفهوم؛ فالإنسان المؤمن بفكرة ما إن يعتقد في صلاحها وفي إمكان إخراج الناس من الضياع بواسطتها، حتى يفعل المستحيل ويعرض نفسه للخُطوب ويركب المشاق ويسهر الليالي ليرى لفكرته مصداقا في الواقع. وغالبا ما تكون الفكرة بعيدة عن الواقع ولا مستقبل لها في الحياة، فيزداد صاحبها تعبا وكدحا ويبذل مجهودا مضاعفا من أجل مطمحه. وفي أثناء هذه الرحلة القاصدة وهذا الطريق الطويل يحقق صاحب الإيديولوجيا (أو الحركة الإيديولوجية) "المعجزات" –حسب مقاييس الإنسان المحروم من الإيديولوجيا- من عطاء فكري وإبداع فني.. 
وتتميز حركة صاحب الإيديولوجيا باستهدافها لعدو بعينه (عدو تحقق الحلم الإيديولوجي). ولهذا لا يمكن أن تجد صاحب إيديولوجيا بدون أعداء. فقد يكون العدو هو "الإسلاموي" أو "العلماني" أو "الغرب" أو "الإسلام" أو "الاشتراكية".. وحركة العدو وكيفية تصورها هو الأمر الذي يزيد لهب "المؤدلج" اشتعالا ويضفي على عمله الحيوية والتألق.
لكن ثمة دائرة أخرى سادت في العصر الحديث هي دائرة العلم والمعرفة. وهي دائرة تقف على طرفي النقيض مع دائرة المعتقد والإيديولوجيا. لأن هذه الدائرة مبنية على الدليل العقلاني والتجربة العملية.
ويحدث أن ينجذب المرء إلى صوت الدائرة الثانية. آنذاك تندك أركان الإيديولوجيا شيئا فشيئا. وآنذاك يقف الإنسان ويحبس الحركة والعمل لينغمر في التأمل والفكر والدرس العلمي لعله يفوز بمعان تنير له "ظلمات" الحيرة التي دخل إلى لُججها. وآنذاك يودع الإنسان الفراش الوثير والراحة الهنيئة التي كان يعيش فيها في ظل الإيديولوجيا. وآنذاك لا منقذ للإنسان من وحش "السؤال" وأفعى "الحيرة" وذئب "الشك".. لاهثا خلف نقطة الثبات ووراء صواب يثبته العلم وتزكيه التجربة.
واضح، إذن، أن الإنسان بين نارين: نار الإيديولوجيا التي تجعله أعمى لا يرى الحياة إلا بعين واحدة ولا يجيب سوى على مشاكل نفسية خاصة، بل تجعله متعصبا لا يستطيع العيش بدون تحديد أعدائه. ونار أخرى هي نار العلم الذي لا يعرف السكون ولا يعرف الطمأنينة ولا يقبل الجاهز ويتنكب سبيل الحقائق الناجزة.
لكن، هذان الاختياران الصعبان يحويان فوائد خاصة. فإذا كان فضل الإيديولوجيا يتجلى في دفعها للإنسان إلى الحركة والعمل وتقديم شيء (ولو اختلف في تقدير موضوعه) للمجتمع والوطن. فإن الانتساب إلى دائرة المعرفة واللهاث وراء الأدلة النسبية يجعل الإنسان منبعث الإنسانية فائضا بالتسامح والتواضع والانفتاح (نتكلم هنا عن مُؤدَى هذا الطريق أصالة؛ أما انحراف بعض النماذج عنه وسقوطهم في نزعة "علموية"، فهذا لا شيء آخر).
إذن، فما عسى الإنسان فاعلا؟ وما عسى المثقفون النقاد فاعلين: هل يدعون الناس إلى الاستغناء عن الإيديولوجيا كلية، والانخراط في النهل من الفكر العلمي؟ وهل يمكن في هذه الحال الاستغناء عن الإيديولوجيا؟
يبدو أن الإقلاع التام عن عالم الإيديولوجيا له تكلفة باهظة، ليس أقلها أن يقف الإنسان عن الحركة ويبقى مشلولا بدون عطاء. أو ليس تاريخ العلم، ابتداء، تاريخ أخطائه؟ إذن، فليعمل الإنسان مستنيرا بإيديولوجيته ولكن.. من الواجب تلقيح الإيديولوجيا بجرعات قوية من مواد التخصيب والتنسيب حتى يسعى الإنسان نحو تصحيح الأخطاء التي يقع فيها أثناء العمل بوحي الإيديولوجيا.
إن نزوع الإنسان نحو الإيمان بمعتقد (هنا لا نتحدث عن الدين، وإنما أفكار يمكن أن يدخل ضمنها فهومات معينة للدين: يرى من خلالها الإنسان الحياة) نزوع أصيل. ف"أيا يكن العرق والزمن المأخوذ بالاعتبار ودرجة الجهل أو الثقافة فقد أظهر الإنسان دائما التعطش ذاته للإيمان. ويبدو الاعتقاد غذاء نفسيا، ضروريا جدا. وما شك ديكارت الشامل إلا خيال عقلي، فقد يمر الإنسان أحيانا بمرحلة الشك لكنه لا يظل عندها طويلا. صحيح أن الفيلسوف لا يؤمن بالأشياء ذاتها التي يؤمن بها الجاهل لكنه يقبل أشياء غير مبرهنة بما يكفي".(غوستاف لوبون، الآراء والمعتقدات: نشوؤها وتطورها، دار الفرقد، سوريا، الطبعة الأولى، 2014،ص:273-274)
إن دائرة العلم تدعونا لأن نتريث قبل أن نتبنى فكرة حتى نتحقق ونمتلك الدليل، لكن يبدو أن هذا الأمر مستحيل. "واستحالة التحقق من صحة مجموع معارفنا تجعل نصيحة ديكارت المعروضة في كتابه "خطاب في المنهج"، نصيحة خيالية: "لا أقبل إطلاقا بصحة أي شيء لا أعرف بوضوح أنه كذلك، وأرفض كل الأشياء التي يمكن أن يتملكني أدنى شك بها". ولو كان ديكارت قد حاول تطبيق تعاليمه لما كان سيعتبر بعض الأمور التي باتت تثير ضحكنا اليوم، بأنها واضحة. لقد كان مثله مثل جميع معاصريه وعموم خلفائه، خاضعا للاعتقاد.
يقول لوك: "إن ذاك الذي لا يرغب في أمور الحياة العادية بقبول أي شيء إن لم يكن مبنيا على تفسيرات واضحة ومباشرة، فإنه لن يكون واثقا من أي شيء سوى من موته بعد زمن قصير جدا. لأنه لن يجد أي طعام يأكله أو شراب يشربه يمكنه أن يجازف بتناولهما".
ويمكن أن نضيف أيضا –يقول غوستاف لوبون- أن التحليل النقدي لآرائنا وليقيننا ربما يجعل وجود المجتمع مستحيلا. إن دور الاعتقاد (=الإيديولوجيا) هو بالضبط أن يجنبنا هذه التحليلات". (غوستاف لوبون، الآراء والمعتقدات: نشوؤها وتطورها، دار الفرقد، سوريا، الطبعة الأولى، 2014،ص:313-314)  

هكذا، نذهب إلى أنه من العسير الاستغناء الكلي عن الإيديولوجيا. لكن نؤكد مجددا أن زمن الإيديولوجيات المحنطة والمغلقة انتهى. إن أي حلم إيديولوجي اليوم يروم استقطاب الناس وتعبئتهم ينبغي تلقيحه وتصفيته من مرض الدغمائية القاتلة. إن المهم هنا هو الاحتفاظ بإيديولوجيا تحرك الإنسان وتدفعه نحو الفعل دونما سقوط في تعصب مقيت أو استعداء للآخرين.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





كنت سابحا في عوالم (معتقل الصحراء) للعلامة محمد المختار السوسي، حيث يحكي ما كان يدور في المعتقل الذي ضم كبار رجالات الحركة الوطنية سنة 1952. إن ما حكاه –والذي يعز المقال عن استعادته كله- ليومئ بحق إلى كون الوطنيين كانوا إخوانا مسلمين بدون اسم أو شعار!
قرأتُ فيما مضى (في السنة الثالثة إعدادي) سيرة العلامة الغيور يوسف القرضاوي "ابن القرية والكُتاب"؛ إذا قلتُ إني ذاكر لما جاء فيها فلن يكون ذلك سوى ومضات من الملحمة البطولية التي سطرها الإخوان في السجن في 1948-1949 في عهد الملك فاروق. نعم، لن أنسى الكلمات الجامعة التي علق بها الدكتور يوسف على المشاهد المنيرة التي شهدها في السجن بمعية كبار رجالات الإخوان وعلمائهم. "حولنا السجن إلى جامعة للعلم وجامع للعبادة ومنتدى لتلاقح الأفكار وناد للرياضة.. وكل ذلك على حساب إدارة السجن".
أنعم به من سجن كان فيه القيام زينة الليل والفجر موعد الرجال والذكر ملازم الشفاه وصاحب فقه السنة (سيد سابق) أستاذ فترة الصباح والفقيه النبيه (محمد الغزالي) متكلما عن الاستبداد والاستغلال وموقف الإسلام. فقد كانوا يستيقظون قبل الفجر فيركعون للمولى ما شاء لهم أن يركعوا ثم يقبلون بعد صلاة الصبح على الأوراد والذكر والقرآن وبعد ذلك يتوجهون نحو الرياضة (لعلها بقيادة المهدي عاكف: أسنُ قيادات الإخوان والذي كان مرشدا إلى غاية سنة 2010 ودخل السجن في عهد فاروق وفي عهد عبد الناصر وربما مبارك وهو الآن قابع فيه في عهد السيسي، وقد بات على مشارف التسعين فهو من مواليد سنة 1928)، ثم تتكرم عليهم إدارة السجن بالفطور! فيتحلقون حول محاضرات سيد سابق في الفقه ثم تتكرم عليهم إدارة السجن مرة أخرى بوجبة الغداء فيأخذون وقتا للاستراحة والقيلولة ثم ينطلقون إلى محمد الغزالي لمدارسة الإسلام والاستبداد السياسي والأوضاع الاقتصادية.. وهكذا.
إنه الفردوس الأرضي؛ إذا تم الاتفاق على أن ما يحقق سعادة الإنسان في الدنيا أمران: إذا وجد ما يسد رمقه ويسكت لظى الجوع. وإذا فاز بما يروي عطشه العقلي والمعرفي. فالطعام كان بالمجان والمعرفة (الفقهية والفكرية) –رغم إمكان الاختلاف في تقدير محتواها بمقاييس اليوم- كانت تفيض عليهم ليل نهار.
وإذا بي أقرأ ذكريات العلامة محمد المختار السوسي في كتابه (معتقل الصحراء)، لاح لي التشابه الكبير بين ما عاشه الإخوان سنة 1949 في (مصر) وما عاشه الوطنيون سنة 1952 في (تنجداد وأغبالو نكردوس). يقول المختار (ص:144): وقلت في صبيحة وقد أجلتُ عيني فيما نحن فيه من نعم على نعم، حتى لندهش أحيانا من كثرة ما يتوالى علينا من أفانين العيش الرغيد، وتنوع إخوان الصفاء، وما أقل شكر الإنسان، فلا يكاد يستمتع بنعمة حتى يُسرع إليه الملل، فيعتاده الوجوم:

أم  معتقل يا قوم أم جنة الخلد        متى كانت الأسماء تقلب للضد؟
فأنى تقلبنا نرى ما نرى وقد         عرت تخم ثرت بها راحة السعد
دروس وإخوان لطاف ونعمة        نقلب منها في أفانين من رغد
نظل ونمسي ثم نصبح ألفة           إلى ألفة، لا ركز يصدر عن حقد
أعن خطأ كان العدو مهيئا            لنا كل هذا أم عن العمد للكيد

ويتحدث المختار السوسي في موضع آخر لافتا الانتباه إلى مدى التزام الوطنيين بالشعائر الدينية في المعتقل، ويذهب في كلام عجيب إلى أن تشبث الوطنيين بهذا الشكل بأهداب الدين سيدخلهم في غمار المنافسة مع الإخوان المسلمين.
"إن كان كل معتقل من معتقلات المغرب المتوزعة في أرجائه يقوم بشعائر الدين كما يقوم به معتقلنا، وصارت الفكرة الدينية عملية كما هي عليه عندنا؛ فإن المغرب لعلى أبواب جديدة من الانقلاب إلى ما يفوق ما نسمعه عن الإخوان المسلمين..  فقد كنا في المعتقل القديم في صبارة الشتاء، لا تكاد تجد من يتخلف عن الصف، بل يتزاحم على الصف الأول أو يكاد يقتتل عليه، وليس هذا في غير الصبح فقط بل حتى في الصبح حين يتكالب الجو بما يفيض منه من قوارص الصر الشديد، والعجيب أننا كثيرا ما نصلي في الساحة العارية ومع ذلك لا يفلت شبابنا الحي الحضور في الصف". (ص: 185)
ويذكر العلامة المختار أن عددا منزورا لا يتعدى أربعة أفراد هم الذين كانوا يتخلفون لأعذار مقبولة أو غير مقبولة عن الصلاة. فنظم تحت عنوان "اعمل لدنيا... ولآخرتك..." ووطأ لذلك النظم بما يلي: خاطبتُ بعض الإخوان الذين يحرصون على أن يكونوا أول الحاضرين في وقت الرياضة ولا يحرصون مثل ذلك الحرص على التبكير لصلاة الصبح فقلت (ص:104-105):

يا من يبكر للرياضة      هل تبكر للصلاة؟
هذي الحياة، وما تعد    إلى الذي بعد الممات؟
أو عاقل من ليس         ينظر للذي بعد الممات؟
هاتوا الرياضة           والصلاة معا تكونوا من هداة
فإذن تكونوا خير       نشء يقتفى في المعضلات

أما عن المحاضرات الملقاة في أوساط المعتقلين فهي تذكرة حقا بما جرى مع الإخوان المسلمين، بل تومئ إلى أن أولئك فاقوا الإخوان فجمعوا إلى جانب الفقه والفكر علم الجبر وعلم الاجتماع وعلوم اللغة.. إن إعادة قراءة تاريخ الحركة الوطنية بشكل مستنير لاستجلاب الدروس المفيدة للأجيال الصاعدة تتجلى هنا. وإذا كانت هناك كلمة تجمع ما قام به هؤلاء الرواد فهي "الجدية"، إنهم كانوا يعملون بجد على مختلف الجبهات والصعد والميادين.
"كثيرا ما أفكر في معتقلنا فأقول: هل الواقع أن هذا معتقل حقيقة فأين آثار الاعتقال، وأين هموم الاعتقال، أنحن وكلنا سابحون في نعم زاخرة، وآلاء باطنة وظاهرة، نستحق في الواقع أن نسمى معتقلين، ثم إلى ناحية القيام بشعائر الدين والاهتبال بها، وإلى المروءة السائدة، وإلى الحياء الذي يسود الوجوه، وإلى اشتغال كل إنسان بخويصة نفسه، حتى أنني لأشهد بأن مسمعي ما ولجت فيه قط عبارة سفه أوما يُستحيا من قوله، فأقول: هذه زاوية من زوايا الصوفية، لو كان فيها شيء من الهدوء، وجهر بالأذكار التي تؤلف من الزوايا، ثم أنظر ناحية أخرى، فأرى دروسا قائمة، ومطالعات دائمة، ومباحث تحرر، وتواريخ تسطر، ومحاضرات تتوالى واستفادات، وإفادات يحرص عليها، يملأ ذلك كل طرفي النهار حتى لا تقع إلا على أستاذ أو تلميذ، أو مطالع، أو منقب بين الكتب عما يعوزه من تحرير مسألة.
أنظر إلى كل هذا فأقول إن هذه مدرسة تؤدي وظيفتها، وينبوع معارف يكرع من نميرها، ثم إذا تخللت الثنايا، ووقعت على هذا يتخصص في العربية كدروس عليا، وذلك في الفرنسية أو الإنجليزية، أو وقفت إزاء من يتوفرون إزاء لغة الشلحة و أمثالها ومشتقاتها، أو على اللغة الأمازيغية يحررون من عباراتها، ويقايسون ما بينها وبين أختها الشلحة. أو اندفعت إلى مجلس آخر يتقن فيه علم الجبر، وتقويم البلدان، وكيفية تخطيط الكرات الأرضية، وكيف يوازن علم الاجتماع ما بين زيادة الأهالي وبين تموينهم، أو لفت نظري أصحاب العلم الدقيق حول الحشرات والنباتات على اختلاف أنواعها.
إني أنظر إلى كل هذا فأقول إن هذه جامعة عظمى، وإنها لتعطس بين الجامعات بأنف شامخ. ذلك هو معتقلنا، وإن كنت أنا أسميه جنتنا التي لا لغو فيها ولا تأثيم ولا أحزان ولا هموم، فيها إخوان على سرر متقابلين". (ص:194-195)
إن ما تضمنته شهادة العلامة المختار لمن الأهمية بمكان بخصوص دراسة سمات جيل التحرير. إن إشارته إلى عكوف بعض المعتقلين على اللغة الأمازيغية ولهجة الشلحة للدراسة والمقارنة يحبل بدلالات كثيرة لعل أبرزها نفي التهمة الملصوقة بالحركة الوطنية على أنها جاءت من أجل محاربة الأمازيغية وإماتتها. صحيح أن قراءة التعامل غير العادي مع ظهير 16 ماي 1930 والتأريخ به لنقطة انطلاق العمل الوطني المدني والسياسي يحتاج إلى مزيد من الوقفات النقدية؛ لكن اتهام الحركة الوطنية –كل الحركة- باعتبارها عدوة الأمازيغية أمر ينفيه حيازة بعض الوطنيين لقصب السبق في الاهتمام بمسألة اللغة الأمازيغية والمرادفات التي تغتني بها بل جعلها لغة قائمة في مصاف اللغة الفرنسية والإنجليزية والعربية من خلال تخصيص أوقات لدراستها بنفس القدر الذي تُدرس به اللغات الأخرى. بل كان الوطنيون الكبار (أمثال المهدي ابن بركة..) متعطشون لتعلم الأمازيغية وفعلا فقد "تمزغ" و"تشلح" حسب شهادة المختار السوسي. "تلك من أنباء الدروس في معتقلنا، ولم أتتبع كثيرا الدروس المفردة لأنها كانت تستغرق الجميع؛ عربية أو فرنسية أو إنجليزية أو شلحية، حتى ابن إدريس وابن بركة تشلحا". (ص:203)
إن هذه الشهادة العفوية تحمل يقينا مفاجآت للعديد من أولئك الذين يفكرون عبر مُسبقات معينة وفق إطار تفسيري جاهز، فأن يتصدى الوطنيون في المعتقل لتعليم نحو الأمازيغية في وقت لم تظهر فيه الحركة الامازيغية المعاصرة بعد ولم يبدأ الحديث عن  التدوين ونقل التراث الشفهي إلى الورق أمر يدعو العديد من الفاعلين في الحركة الامازيغية وفي غيرها إلى مراجعة مواقف الحركة الوطنية في القضية الامازيغية بعيون أخرى.
"اقترح علي مصطفى الشرفي الولوع بكل استفادة أن أقرأ معه فنونا من النحو التصريف واللغة والأدب، وأراوده بما أستطيعه من إملاءات وفوائد متفرقة، وكان أيضا مولعا بتعليم المبتدئين؛ فيعلم الشريف مولاي أحمد التبر المبادئ العربية، كما يعلمني الفرنسية، وقد كان بوده أن يأخذ الدروس من كل الفنون عربية وفرنسية وإنجليزية وشلحية، بل شرع في كل واحدة منها متنقلا: فيأخذ النحو في الأمازيغية عن الأستاذ محمد الفاسي ويتذاكر في الإنجليزية مع الأستاذ الحمداوي، كما أن مصطفى يأخذ عن المهدي ابن بركة من علومه التي تخصص فيها". (ص:201)
إن الذين كانوا مع المختار السوسي وحكى عن عطاءاتهم وتدينهم وجديتهم ووطنيتهم ليسوا فقط من الكهول ومن خريجي التعليم الأصيل في القرويين، وإنما يوجد ضمنهم لفيف من الشباب عانق الثلاثين من أبرزهم رجل نعته العلامة المختار في مواضع كثيرة ب"نابغة" الشباب أو "النشيط" المهدي بن بركة. إن هذه الشهادة ترفع الستار عن أمر أثار جدلا  –وهو أمر خاص وشأن فردي على كل حال-: كيف كانت علاقة المهدي بن بركة بالدين؟ وما ثناء المختار السوسي المتكرر على المهدي –وهو الذي ينطلق من مقاييس الدين في الحكم على الناس-  سوى شهادة  إلى جوار شهادات أخرى تدل على أن خط المهدي لم يكن مخاصما للدين وإنما كان مخاصما للتقاليد البالية والرجعية المميتة. "وكثيرا ما يستوعب بالترجمة إلى العربية، من مقالات شتى من الصحف، أو مما يبلغه من هنا وهناك، فيأتي باللب، فيلقيه علينا بعبارة فصيحة. وقد قلت له مرة أباسطه: إنني أرى فيك لوزارة الخارجية ملامح، فأنت أقدر الناس على أن تلاقي كل واحد بما تريد أن تلاقيه به، وذلك من مزايا الوزارات الخارجية. وأنا أُكبر هذا الشاب، وأرى له مستقبلا، وكم دعوت الله أن لا ينقصه شيء". (ص:211)
إن الخلاصة التي بالإمكان الخروج بها في هذا السياق؛ إنه واهم من يعتقد أن الإخوان المسلمين جاؤوا مع الحركة الإسلامية المعاصرة للإيحاء بكونهم دخلاء. إن الإخوان المسلمين تمثلوا أحسن تمثيل في سلوك الوطنيين. إن الإخوان المغاربة عاشوا محنة الاعتقال في نفس الزمن الذي عاشها الإخوان المصريين. إن الإخوان المغاربة قرؤوا سيد قطب وأحمد أمين وجرجي زيدان قبل ميلاد إخوان ابن كيران..إذ كانوا يهرعون  إلى "عشرات فعشرات من أفذاذ الكتب: مجموعة روايات جرجي زيدان، ومجموعة فجر الإسلام لأحمد أمين، والإسلام في مفترق الطرق لمحمد أسد، ومجموعة مؤلفات سيد قطب مما ألفه حول الإسلام" (ص:208)، ومعلوم أن سيد قطب كان إلى حدود 1952 قد أصدر كتابات رائقة تدور حول التفكير الاجتماعي في الإسلام (العدالة الاجتماعية في الإسلام، الإسلام ومعركة الرأسمالية، السلام العالمي والإسلام..). باختصار، إن الإخوان المغاربة متجذرون في تربة الوطن كما أن إخوان بنبركة (الاتحاديون) متجذرون فيها كما أن إخوان إبراهيم أخياط  متجذرون فيها أيضا. ولهذا ليس غريبا أن تكون أصوات جزء من المجتمع العميق من نصيبهم.





...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





يعمد كثير من الخائضين في الشأن العام إلى الإشارة إلى كون ما نحتاج إليه اليوم هو مواطن يتمتع بعقل. من يلتقط أحاديث الناس سينتبه –أيضا- إلى كونهم يثلبون حياتنا ويُرجعون أصل أدوائنا إلى غياب الغائب الأكبر:العقل. إذن، ثمة شبه إجماع على أن المطلب الأول الذي ينبغي العمل على تحقيقه في جدول أعمال الانتقال التاريخي المنشود هو إشاعة العقل وبناء مواطن يفكر بروية وعقل. لكن يبقى السؤال الأكبر، هو: أيُ عقل نريد؟
طورت المدرسة الغربية النقدية  الشهيرة "فرانكفورت" تمييزا دقيقا بين عقلين: العقل الأداتي الموجود، في مقابل العقل النقدي المفقود. ومن منطلق إيمانها بوظيفتها النقدية لم تتردد المدرسة على لسان العديد من روادها في إدانة المناخات التربوية المُهيمنة والمنظومات التعليمية السائدة لكونها تتقصد إنسانا-آلة يدور مع التفاصيل أينما دارت ويغرق في أوحال الجزئيات مهما تناقضت وتشعبت، وليس بمقدوره أخذ مسافة مع الخطاب السائد والدعايات الرسمية.
هكذا، فالعقل الذي يريد كل صاحب سلطة –مهما تظاهر بإيمانه بالعقل ودعوته إلى التعقل- سواء كان في الغرب أو الشرق هو هذا العقل الأداتي. إنه العقل المهادن الذي لا يُزعج الأصوات الرسمية ولا أصحاب المراكز المهيمنة. إنه العقل الذي لا يقض مضجع هواة الاستئثار بالسلطات (السياسية والمعرفية). إنه العقل الذي يقوم بتعميق وعي زائف لدى صاحبه؛ يتوهم معه أن بملاحقته للمعلومات المتناثرة وبمتابعته لأسئلة المسائل الرياضية التجريدية وبانتباهه مع نُظم تشغيل الأجهزة والآلات المستحدثة؛ أن بالتحامه بهكذا أوراش وبارتباطه بهكذا أعمال قد اكتسب عقلا صار له بمثابة السراج المنير والمنقذ من الضلال. 
وعليه، فقد نهضت مدرسة فرانكفورت ونهض معها كل مثقف (وكل مؤسسة ثقافية) يحمل رسالة الإنسان بالدور المطلوب وهو إعادة الاعتبار للوظيفة النقدية للعقل. ورغم ذلك فقد بقي صدى هذه الدعوات  خافتا ومحصورا في أوساط النزر اليسير من المتنورين.  ولهذا، فالعقل المفهوم من خطابات الناس وبعض الخائضين في الشأن العام هو هذا العقل المُسيج وهذا العقل المحدود؛ أي العقل الأداتي. 
في كتابه (العقل والحرية، المنشور سنة 2009 ضمن منشورات الجمل) يقودنا الدكتور عبد الكريم سروش إلى تمييز هام بين مفهومين للعقل، يمكن الاستهداء بهذا التمييزأيضا لمقاربة سؤال: أي عقل نريد؟
ينتصر سروش للرأي الذي يرى العقل موجودا متحركا وأداة لفهم الحدث وتشخيص الواقع ولا يرى مشكلة في أن يصيبه الزلل والخلل في طريق طلب الحقيقة لكون مسيرته زاخرة بالتخبط بين الصواب والخطأ. هذا التصور للعقل يقف على النقيض من منظور يرى العقل بمثابة مخزن للحقائق ويتلخص في جمع الحقائق وحفظها. (ص:30)
يضيف سروش مبينا الفروق الكائنة بين العقلين: عندما يرى الإنسان بأن شرف العقل هو كونه مخزنا للحقائق، فحينئذ لا يهمه من أين حصل العقل على هذه الحقائق وكيف دخلت إلى ذهنه، فالمهم بالنسبة له أن تسكن هذه الحقائق في ذهنه ويكون عقله واجدا لها. فلا فرق لديه أن تدخل هذه الحقائق إلى ساحة الذهن بأدوات الجبر والفرض من قبل الآخرين، أو أن الإنسان يتحرك على مستوى تحصيلها بأدوات التأمل الحر. المهم أن تكون هذه الأفكار حقة وأن يحتوي عقله على هذه الأفكار الحقة من أي طريق حصل عليها.
ولكن إذا كان تصورك للعقل بأنه موجود متحرك وغربال وطالب للحقيقة، فالمهم بالنسبة لك ليس الحقيقة ذاتها بل كيفية الوصول إلى هذه الحقيقة واقتطافها.(ص:31)
هكذا، يبدو العقل على نحوين –حسب تحليل سروش-: الأول، يعتبر العقل بمثابة المقصد. والثاني يراه طريقا.
طبعا، لا ينبغي إغفال المناخ الثقافي الذي يتكلم من خلاله سروش ويوجه إليه خطابه النقدي. إن السلطة الدينية الرسمية في إيران؛ إذ تتغيى إشاعة الحقائق التي تؤمن بقدسيتها وإطلاقيتها، تتوسل إلى ذلك سبيل الإلجاء والإكراه وحشو المقررات بشكل مثير بالإيديولوجيا التي تعتنقها. فما يهم الدوائر الرسمية هناك، هو تخريج إنسان عامر بالحقائق الرسمية  ولو كان متنكبا لمقتضياتها وغير مؤمن بها داخليا.
إن ما يُراد للناشئة اليوم في أوساط متعددة هو أن تتمتع بهذا العقل المحشو ببعض الحقائق (= استظهار نصوص قانونية، برنام تشغيل الآلات، حل المسائل الرياضية، التعامل مع التكنولوجيا الجاهزة: الحاسوب، الهواتف الذكية،  قيادة السيارة..) وبعض القناعات الدينية. يتم إيهام الجميع بأن غاية المُنى وسدرة المنتهى هو تحصيل هذه الحقائق والتقاط هذه القناعات. يتم هنا تغييب سافر لمفهوم الإنسان أصالة؛ الإنسان المشاغب الذي قال "لا" منذ أول يوم، الإنسان المسؤول الذي يفكر بلا عُقد  بل يقف من أي مسألة الموقف الذي يعن له بعد تقليب النظر.
يتم بيع الوهم الأكبر للناس مفاده أن التفكير شأن القلة ووظيفة "المختصين" وأن الاكتفاء بالحقائق والقناعات التي تم تلقيها في الجو العام (المدرسة، الإعلام..) هو ما يجب أن يكون. ويتصور خريج هذا الجو العام أن هناك طائفة تفكر مكانه (بدعوى اختصاصها) في مسائل مصيرية وحيوية؛ كان بإمكانه إذا أخذ العزم على نفسه أن يُطور بتأملاته وقراءاته موقفا خاصا فيها، لكن أنى له ذلك وقد خُيل له أن الخوض في هذه المسائل الحيوية والمصيرية من شأن طائفة خاصة "مختصة". وعوض أن يتم الترويج لرأي متوازن يقول بأن الاستنارة بمقولات وأبحاث الخائضين في هذه المسائل الحيوية والمصيرية أمر هام ولكن بلورة موقف خاص (بناء عليه تكون المحاسبة في الآخرة ويكون التعاطي مع إشكالات الدنيا) واجب على كل إنسان مزود بعقل يتأمل ويقارن ويُغربل؛ عوض هذا يتم إيهام الناس بأن لهم فنا (ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب) عليهم الاكتفاء به  ونبذ المسائل الأخرى (فكرية، سياسية، دينية..).
إن دعوى ضرورة ابتعاد الناس عن بلورة آراء خاصة بهم في مسائل حيوية (الفكر والسياسة) ومصيرية (التدين) لا يمكن فهم ما وراءها إلا باستحضار ما يجري اليوم من نزوع نحو التقننة وتوطيد دعائم التكوين المهني وتشجيع الإقبال على التخصصات التقنية بكل ألوانها (فحفظ النصوص القانونية دون إدراك لخلفيتها الفلسفية ولا مساءلة لأفقها القيمي، هو عمل تقني أيضا).
إن جحافل "المواطنين" الذين مالوا –بدوافع ذاتية أو إيمانا صادقا بأهميتها أو استجابة للدعاية الرسمية- نحو هذه التخصصات التقنية المتنامية والواسعة. أكيد أنها إذا أنصتت لصوت يخترق الجو العام ويدعو إلى ترحيل التفكير والاكتفاء بالجاهز والسائد ستفقد حتما العقل باعتباره أداة للنقد ومعيارا للاصطفاء.

إن الحكاية في نهاية المطاف تقود إلى أن هناك "عقل.. وعقل" وشتان بينهما. الأول تنتفي معه وظيفة النقد التي هي ميزة العقل الأصيلة إذ يكتفي باللهاث وراء الحقائق والتفاصيل والمعلومات دون بوصلة ولا خيط ناظم ولا أُفق إنساني نقدي. أما الثاني فهو العقل حقا وهو المنشود صدقا من طرف كل المؤمنين بإنسان حر كريم مستخلف من رب العالمين.


...تابع القراءة