| 0 التعليقات ]





يعد مفهوم الإيديولوجيا من المفاهيم الكبيرة التي أثارت أقلاما عديدة في الساحة الفكرية العربية خاصة بعد النصف الثاني من القرن العشرين. ولا عجب في هذا الاهتمام المثير بالمفهوم خاصة إذا فهمنا محوريته في إدراك الممارسات التي يقوم بها الأفراد الحاضنون لانتماء معين. كل هذه الكتابات توجهت بالنقد والنقض للإيديولوجيا وكأنها تدعو الجميع إلى التحرر من أغلالها.
ما الإيديولوجيا، أولا؟ إنها معتقد يغشى الإنسان ويتسرب إلى ذهنه ويتسلل إلى نفسيته فينطلق من خلاله ليفسر كل شيء وليقيس كل ما أمامه. إنها فكرة عاطفية تتملك الإنسان ومن خلالها ينظر إلى الكون والإنسان والحياة. إنها منظار يرى الإنسان من خلاله الحياة ولا يشوبه أدنى شك في أنه الصواب الذي لا صواب بعده والحق الذي ليس بعده إلا الضلال. إنها تحتل رؤية الإنسان بدون أدلة عقلانية بل هي مؤطرة بمحض مصادفات نفسية وعوامل خارج إرادة الإنسان.
غير أن الإيديولوجيا تتميز بميزة خاصة فهي نظرا لانتسابها لعالم الاعتقاد والإيمان تعد وقود حركة الإنسان ودليل عمله. إنها الدافع الرئيس لنشاط الناس وحيويتهم. إنها وراء المنجزات المذهلة التي يحققها بعض قادة الحركات الإيديولوجية حينما يجمعون بين الكتابة والخطابة والمهنة والتخصصات المتباعدة في زمن قياسي.
وهذا أمر مفهوم؛ فالإنسان المؤمن بفكرة ما إن يعتقد في صلاحها وفي إمكان إخراج الناس من الضياع بواسطتها، حتى يفعل المستحيل ويعرض نفسه للخُطوب ويركب المشاق ويسهر الليالي ليرى لفكرته مصداقا في الواقع. وغالبا ما تكون الفكرة بعيدة عن الواقع ولا مستقبل لها في الحياة، فيزداد صاحبها تعبا وكدحا ويبذل مجهودا مضاعفا من أجل مطمحه. وفي أثناء هذه الرحلة القاصدة وهذا الطريق الطويل يحقق صاحب الإيديولوجيا (أو الحركة الإيديولوجية) "المعجزات" –حسب مقاييس الإنسان المحروم من الإيديولوجيا- من عطاء فكري وإبداع فني.. 
وتتميز حركة صاحب الإيديولوجيا باستهدافها لعدو بعينه (عدو تحقق الحلم الإيديولوجي). ولهذا لا يمكن أن تجد صاحب إيديولوجيا بدون أعداء. فقد يكون العدو هو "الإسلاموي" أو "العلماني" أو "الغرب" أو "الإسلام" أو "الاشتراكية".. وحركة العدو وكيفية تصورها هو الأمر الذي يزيد لهب "المؤدلج" اشتعالا ويضفي على عمله الحيوية والتألق.
لكن ثمة دائرة أخرى سادت في العصر الحديث هي دائرة العلم والمعرفة. وهي دائرة تقف على طرفي النقيض مع دائرة المعتقد والإيديولوجيا. لأن هذه الدائرة مبنية على الدليل العقلاني والتجربة العملية.
ويحدث أن ينجذب المرء إلى صوت الدائرة الثانية. آنذاك تندك أركان الإيديولوجيا شيئا فشيئا. وآنذاك يقف الإنسان ويحبس الحركة والعمل لينغمر في التأمل والفكر والدرس العلمي لعله يفوز بمعان تنير له "ظلمات" الحيرة التي دخل إلى لُججها. وآنذاك يودع الإنسان الفراش الوثير والراحة الهنيئة التي كان يعيش فيها في ظل الإيديولوجيا. وآنذاك لا منقذ للإنسان من وحش "السؤال" وأفعى "الحيرة" وذئب "الشك".. لاهثا خلف نقطة الثبات ووراء صواب يثبته العلم وتزكيه التجربة.
واضح، إذن، أن الإنسان بين نارين: نار الإيديولوجيا التي تجعله أعمى لا يرى الحياة إلا بعين واحدة ولا يجيب سوى على مشاكل نفسية خاصة، بل تجعله متعصبا لا يستطيع العيش بدون تحديد أعدائه. ونار أخرى هي نار العلم الذي لا يعرف السكون ولا يعرف الطمأنينة ولا يقبل الجاهز ويتنكب سبيل الحقائق الناجزة.
لكن، هذان الاختياران الصعبان يحويان فوائد خاصة. فإذا كان فضل الإيديولوجيا يتجلى في دفعها للإنسان إلى الحركة والعمل وتقديم شيء (ولو اختلف في تقدير موضوعه) للمجتمع والوطن. فإن الانتساب إلى دائرة المعرفة واللهاث وراء الأدلة النسبية يجعل الإنسان منبعث الإنسانية فائضا بالتسامح والتواضع والانفتاح (نتكلم هنا عن مُؤدَى هذا الطريق أصالة؛ أما انحراف بعض النماذج عنه وسقوطهم في نزعة "علموية"، فهذا لا شيء آخر).
إذن، فما عسى الإنسان فاعلا؟ وما عسى المثقفون النقاد فاعلين: هل يدعون الناس إلى الاستغناء عن الإيديولوجيا كلية، والانخراط في النهل من الفكر العلمي؟ وهل يمكن في هذه الحال الاستغناء عن الإيديولوجيا؟
يبدو أن الإقلاع التام عن عالم الإيديولوجيا له تكلفة باهظة، ليس أقلها أن يقف الإنسان عن الحركة ويبقى مشلولا بدون عطاء. أو ليس تاريخ العلم، ابتداء، تاريخ أخطائه؟ إذن، فليعمل الإنسان مستنيرا بإيديولوجيته ولكن.. من الواجب تلقيح الإيديولوجيا بجرعات قوية من مواد التخصيب والتنسيب حتى يسعى الإنسان نحو تصحيح الأخطاء التي يقع فيها أثناء العمل بوحي الإيديولوجيا.
إن نزوع الإنسان نحو الإيمان بمعتقد (هنا لا نتحدث عن الدين، وإنما أفكار يمكن أن يدخل ضمنها فهومات معينة للدين: يرى من خلالها الإنسان الحياة) نزوع أصيل. ف"أيا يكن العرق والزمن المأخوذ بالاعتبار ودرجة الجهل أو الثقافة فقد أظهر الإنسان دائما التعطش ذاته للإيمان. ويبدو الاعتقاد غذاء نفسيا، ضروريا جدا. وما شك ديكارت الشامل إلا خيال عقلي، فقد يمر الإنسان أحيانا بمرحلة الشك لكنه لا يظل عندها طويلا. صحيح أن الفيلسوف لا يؤمن بالأشياء ذاتها التي يؤمن بها الجاهل لكنه يقبل أشياء غير مبرهنة بما يكفي".(غوستاف لوبون، الآراء والمعتقدات: نشوؤها وتطورها، دار الفرقد، سوريا، الطبعة الأولى، 2014،ص:273-274)
إن دائرة العلم تدعونا لأن نتريث قبل أن نتبنى فكرة حتى نتحقق ونمتلك الدليل، لكن يبدو أن هذا الأمر مستحيل. "واستحالة التحقق من صحة مجموع معارفنا تجعل نصيحة ديكارت المعروضة في كتابه "خطاب في المنهج"، نصيحة خيالية: "لا أقبل إطلاقا بصحة أي شيء لا أعرف بوضوح أنه كذلك، وأرفض كل الأشياء التي يمكن أن يتملكني أدنى شك بها". ولو كان ديكارت قد حاول تطبيق تعاليمه لما كان سيعتبر بعض الأمور التي باتت تثير ضحكنا اليوم، بأنها واضحة. لقد كان مثله مثل جميع معاصريه وعموم خلفائه، خاضعا للاعتقاد.
يقول لوك: "إن ذاك الذي لا يرغب في أمور الحياة العادية بقبول أي شيء إن لم يكن مبنيا على تفسيرات واضحة ومباشرة، فإنه لن يكون واثقا من أي شيء سوى من موته بعد زمن قصير جدا. لأنه لن يجد أي طعام يأكله أو شراب يشربه يمكنه أن يجازف بتناولهما".
ويمكن أن نضيف أيضا –يقول غوستاف لوبون- أن التحليل النقدي لآرائنا وليقيننا ربما يجعل وجود المجتمع مستحيلا. إن دور الاعتقاد (=الإيديولوجيا) هو بالضبط أن يجنبنا هذه التحليلات". (غوستاف لوبون، الآراء والمعتقدات: نشوؤها وتطورها، دار الفرقد، سوريا، الطبعة الأولى، 2014،ص:313-314)  

هكذا، نذهب إلى أنه من العسير الاستغناء الكلي عن الإيديولوجيا. لكن نؤكد مجددا أن زمن الإيديولوجيات المحنطة والمغلقة انتهى. إن أي حلم إيديولوجي اليوم يروم استقطاب الناس وتعبئتهم ينبغي تلقيحه وتصفيته من مرض الدغمائية القاتلة. إن المهم هنا هو الاحتفاظ بإيديولوجيا تحرك الإنسان وتدفعه نحو الفعل دونما سقوط في تعصب مقيت أو استعداء للآخرين.

0 التعليقات

إرسال تعليق