| 0 التعليقات ]




في نقاش حامي الوطيس مع مجموعة من الإخوة الأفاضل حول الأسئلة الوجودية الضخمة والأدوار المنوطة بالإنسان، هاج هائج أحد الإخوة فصاح: نحن جئنا لنطبق شرع الله، ونغير هذا الطاغوت الذي يسود في الواقع..
أتفق في المنطلق مع صاحبي. فالمولى جل وعلا جعلنا خلائف الأرض –أرضه- ولا مناص لأي نائب أو ممثل أو خليفة من أن يتبع خُطا مستخلفه ويستنير بشرعه وتوجيهاته. أي بعبارة أخرى لا مهرب له من أن يبحث عن مُراد الذي ناب عنه. ولله المثل الأعلى ! 
لكن الجديد في نيابة الإنسان واستخلافه أنه كائن كان أكثر شيء جدلا، قبل بحمل أمانة عظمى هي (حرية الاختيار)، كائن مطبوع بالتمرد والانطلاق من القيود والرفض والانتفاض. لهذا جاء "شرع" المستخلف (أي المولى جل وعلا) مستحضرا لطبيعة هذا الكائن. جاء "شرع" المولى مكتفيا بوضع للإطار العام لعلمه بمقدرة الإنسان على الاقتراب من مُراد الله بقدر توغله في ميادين المعرفة وإنصاته لنداء الفطرة.  "فالشريعة صامتة لا تتكلم إلا حين يوجه الناس إليها الأسئلة منتظرين أجوبتها، ولا تُفهم إلا إذا أدخلوها في حنايا عقولهم وأسكنوها مع غيرها من الساكنين. يطرح البشر التي تناسب علومهم، ويفهمون إجابات الشريعة فهما منسجما وعلومهم، ولذا فإنها لا تخاطب الجميع بالطريقة ذاتها. إن الدين، وإن كان صامتا، وإذا تكلم فإنما يقول كلامه هو وليس كلام الآخرين". (عبد الكريم سروش، القبض والبسط في الشريعة، دار الجديد: بيروت، الطبعة الثانية، 2010، ص:32)
نعم، نحن خلفاء الله على أرضه ومهمتنا هي تطبيق شرعه. لكن أمر استكناه شرع الله والاقتراب من مراده سبحانه ليس أمرا ناجزا وجاهزا وثابتا. إنما هو أمر يرافق الإنسان والإنسانية في رحلة الكدح إلى الله. وما الكدح سوى جهد الإنسان وكبده وصبره ومعاناته في سبيل الاقتراب من هذا المراد الذي لن ينجلي إلا يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
قد يعن للإنسان فهم مفاده أن مُراد الله واضح في آية سورة الذاريات وهو إخلاص العبادة للحي القيوم. إن الإشكال لم يتم و لن يتم رفعه بهذا القول، لأن فهمنا لمرامي العبادة يتجدد؛ صحيح أن هناك عبادات موقوتة قارة تتغي التزكية الروحية للإنسان، لكن هناك مجال شاسع فسيح للتفكر والتأمل في كنه العبادة، لأنه باختصار: الله جل في علاه لا يمكن أن يخلقنا لمجرد صلوات قد تستغرق ساعة في 24 ساعة أو صيام شهر ضمن 12 شهرا أو إنفاق أموال محدودة.. فالبحث عن المُراد من العبادة يبقى مستمرا متجددا ورهينا بأفق الإنسان المعرفي ومدينا للعالم الجُواني للإنسان المحفوف بالأسرار والبدائع بلا انقطاع.
إن مطلب تسييج شرع الله، وإن كنت أستحسن الحديث عن مُراد الله، مطلب عسير المنال. فهو مرتبط بقدر استعداد الإنسان والعقل الجمعي لالتقاط لطائفه وإشاراته. فهذا الإمام ابن القيم الجوزية يخصص كتابا كاملا (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية أو الفراسة المرضية في أحكام السياسة الشرعية) ليعلل فكرة بديعة مفادها أن فراسة الإنسان تقربه من مراد الله في مسألة من المسائل اللصيقة بحياة الناس.
يقول: "السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه رسول، ولا نزل به وحي". (ابن القيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، دار الحديث القاهرة، الطبعة الأولى، 2002، ص:17)
هنا يتضح، أن الإنسان بالخبرة التي راكمها والتجارب التي خاضها والمعارف التي توصل إليها والفطرة التي لا يصمت نداؤها بإمكانه أن يقارب مُراد الله في المسائل التي تعرض له في الحياة وهو مستغن عن الوحي، لأن الوحي يحوي إشارات فقط تكتفي بوضع الإطار العام ولا دخل له في التفاصيل والمستجدات.
ويقول في نص آخر: "إن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات. فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه. وقد بين سبحانه بما شرعه من الطرق، أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين." (ابن القيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، دار الحديث القاهرة، الطبعة الأولى، 2002، ص:18)
هنا يؤكد بجلاء أن مراد الله أو شرعه ليس ناجزا ولا الطريق إليه  واحد. فهو حسب أفقه الإدراكي وباستحضاره للنص القرآني (الآية 25 من سورة الحديد) يذهب إلى أن شرع الله أو مراده أو غاية غاياته من الاستخلاف هو إقامة العدل. وأينما ثم العدل فثم شرع الله.
قبل فض الكلام، نعم جئنا، يا صاحبي، لنطبق شرع الله. لكن جئنا كذلك، أولا وأخيرا، لنكدح ونجتهد ونتعلم ونعاني في رحلة البحث عن مراد الله. وفي هذه الرحلة، رحلة الكدح إلى الله، تجلو المعادن النفيسة و يذهب الزبد جفاء ويمكث ما ينفع الناس في الأرض وتكتمل إنسانيتنا. ولا يحق لأحد أن يصادر مطلب الإنسان في أن يبدأ رحلته من أية نقطة انطلاق شاء، فالمهم أن نقترب من نقطة الوصول، حيث أنوار الله تشع وإنسانيتنا تشرق، والخير يعُم ويفيض !



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




ثمة علامات شتى توحي بأن طوفانا جارفا على الأبواب. إنه عالم جديد يتغلغل شيئا فشيئا في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والفكرية بالخصوص. نحن على مشارف عهد جديد، قد يطول لعقود معدودة، لكنه يحمل مفاجآت قاسية، ما لم ننتبه. إن الأحداث السياسية لا تلعب دورا مهما سوى في تسريع وتيرة الانقلابات على مستوى البنى الاجتماعية والفكرية، وإن كان يعتقد كثيرون أن العكس هو الصحيح؛ الزلزال الفكري ينتقل إلى البنية الاجتماعية لينقلب السطح السياسي.
 على كل حال، إن حراك 2011 وإن لم يحقق أهدافه المباشرة المرجُوة فإنه أحدث شروخا قوية في البنى الفكرية والاجتماعية التقليدية. إن جيلي وأمثال جيلي؛ واجب علينا أن نحمد المولى جل وعلا أن قدر أن نكون وأن نبدأ رحلة التفكير في الوقت الذي تزامن مع هذا الحراك (كاتب هذه السطور، أول مقالة فكرية كتبها في نونبر 2010 شهر قبل بداية حراك الشباب التونسي). نعم، إنها لنعمة عظيمة أن تتزامن لحظات انبثاق وعينا مع هذه المرحلة التاريخية الدقيقة، حتى لا نكرر نفس الأخطاء ونستفيد من الدروس التي يحكيها الواقع كل يوم وننتبه لأغلال كان من الصعب الانتباه إليها فيما مضى، هي أغلال الإيديولوجيا.
لقد دأب الناس على الاستهانة بكل أمر جديد، إذا كان مخالفا لتقاليدهم ومعتقداتهم القديمة. ولكنهم لا يكادون يعتادون عليه حتى يتعصبون له مثلما كانوا يتعصبون ضده قديما. ولله في خلقه شؤون! (علي الوردي، أسطورة الأدب الرفيع، شركة دار الوراق، الطبعة الثالثة،2015، ص:140)
وإن كنت أنسى كثيرا فلن أنسى الأيام الأولى التي يضيق فيها الأفق وينعدم فيها التفكير الجاد وتعلو فيها العاطفة الجياشة ويخفتُ فيها صوت العقل الرزين. لن أنسى يوما وجدت فيه أحد الأصدقاء وكان يتحدث بشكل عادي عن الموسيقى وكيف يتسرى بجميل إيقاعاتها الهادئة في بعض أوقاته، فلم يكن مني إلا أن خاطبتُه –أنا وأحد زملائي- بما نتصوره موقفا متوترا للشرع بخصوصها، ساعتها تفاجأ الصديق بالموقف الجديد وهو الذي كان متدينا يحافظ على صلاة الفجر في المسجد منذ آنذاك إلى يوم الناس هذا. بعدها أصبحتُ مائلا إلى المرونة أكثر في التصور المفترض عن الموقف المتوتر للشرع بخصوص الموسيقى وغيرها (بعد تراكم المقروء وتأملات ونقاشات)، وأمسيتُ متعبا في إقناع صاحبي بالموقف الجديد، فهو قد بات معتبرا نفسه من حراس موقف الشرع ينعى على الناس والمحيط تسلل بعض الكلام الجميل إلى آذانهم!
قصص كثيرة لا تُنسى شبيهة بالسالفة الذكر. قصة أخرى بخصوص مسالة المصافحة. أعرف أصدقاء كُثر لم يكن لديهم أدنى علم بالإشكال الذي تثيره، كلهم متدينون محافظون على صلاة الفجر في المسجد ومازالوا –بفضل الله- إلى اليوم على نفس الطريق. في نقاش معين يجري الحديث مجرى إثارة هذه المسالة، يستصعبون بادئ ذي بدء الموقف الجديد على أسماعهم وأذهانهم، ثم أجدهم بعد ذلك من كبار المنافحين بل المتشدقين بالامتناع عن المصافحة.
هذه قصص في مسائل بسيطة محدودة جدا بالنظر إلى تحديات الحياة وأسئلة الراهن وإشكالات الفكر والسياسة والاقتصاد.. كلها تؤشر على أن الإنسان ضعيف وينبغي أن يتواضع. الإنسان يقبل في البدء ما يدخل ضمن مألوفاته الإدراكية وعوائده الفكرية، وكلما أخبرته بموقف جديد سرعان ما ينتفض ويرفض.. إلا أنه بعد حين يتمسك بالموقف الجديد ويتعصب له ويفسد علاقاته الاجتماعية وقد يقطع رحمه من أجل الوافد الجديد على بنيته الذهنية.
 السنوات المقبلة، الله أعلم بما تحويه أحشاؤها من مفاجآت صادمة، لكن المؤكد أن الفكر التقليدي الذي يعزف على أوتار عاطفة الناس سيحتضر و سيوارى الثرى. لأن تحولات الواقع وتموجاته في تفاعلها مع الأفكار والتصورات (عن مواقف الشرع في مسائل تدخل في نطاق حياة الإنسان المتغيرة) ستتمخض لا شك عن رؤى مغايرة.
إن الفترة السابقة، ما قبل 2011 (بالمناسبة، حدث 2011 يعتبره العديد من الأكابر ضمنهم الفيلسوف أبي يعرب المرزوقي: ثاني ثورة هامة بالنسبة للأمة بعد الثورة النبوية، بعد البعثة)، كانت فترة تأسيس طبع عليها بل غلب عليها طابع ردود الأفعال إزاء صدمة الاستعمار واكتشاف العالم الحديث. والمرحلة التي نعيش فيها اليوم، بعد 2011، هي استمرار لحالة الفوضى والتيه ومزيد من التجريب، أقصد هنا الجانب الفكري والاجتماعي الذي لا ينتبه الناس إلى ما يعتمل فيه من تغيرات جذرية تفوق هزات الوضع السياسي.
ولا شك أن مرحلة الاستقرار والحياة في أمن وأمان قادمة لا محالة. لكن المحتوى الفكري والنموذج الاجتماعي الذي سيتقمصه المجتمع القادم سيكون مباينا بشكل كبير لما نتصوره. لأن أغلب تصوراتنا الفكرية والاجتماعية نجمت عن ردود أفعال ولم تكن تفكيرا في مرحلة الاستقرار يُستحضر فيه روح الإسلام وتحديات العصر بعيدا عن هاجس الهوية والاستلاب وشبح أفول الأنا وصعود الآخر. والأكيد أن الآراء التي تعتبر اليوم شاذة في شؤون الفكر والاجتماع هي التي ستسود، لأنها لم توصف بالشذوذ إلا لكونها شذت عن منطق ردود الأفعال وهجسها الصواب ولم تبالي بالآخر بل التفتت كل الالتفات إلى كيف سيكون برنامجنا نحن لا كيف سنكون في برنامجهم.
صحيح، أن البعض قد لا يستشعر خطورة الطوفان الذي أتحدث عنه. والإنسان عدو ما جهل. وأنعم بها من جنة وراحة وطمأنينة يفرزها الجهل! الإنسان مادام جاهلا بمعنى لا يملك الدراية بما يجري في الساحة الفكرية وتأثيرات ذلك على الساحة الاجتماعية فإنه سيكون مطمئنا وسيكون حالما وهو صادق. لكن مع الأسف الشديد، الأمر ليس كذلك. فما لم ننتبه قبل فوات الأوان سيكون الطوفان القادم جارفا سيقتلعنا من جذورنا وسينتزع منا أرواحنا وسنقف مشدوهين أمام الإلحاد والانتحار وغيرهما من الملاذ الذي سيسعى إليه الإنسان لرفع التعارض بين ما في واقعه الذهني وما في الواقع الخارجي.

إن الاستعداد للطوفان القادم يبدأ من العودة بجد إلى متابعة ما يدور في المكتبة. إن هذا الاستعداد ينطلق أولا من إعادة قراءة الكتابات التي طالما ثلبها مفكرونا وصارت أفكارها اليوم ضمن دائرة المقبول. إن إعادة قراءة الكتابات التي طُمست أفكارها بفعل الصراع الإيديولوجي من شأن ذلك أن يعطينا صورة عن الأفكار التي سنتقبلها بسرعة ودون مرارة بعد عشر سنوات. إذن، حتى لا نُضيع سنوات أُخر فلنبدأ القراءة من الآن ولنتأمل من الآن، حتى نحتفظ بروحنا ونصون جوهرنا في  مستقبل الأيام، فالطوفان قادم ليس محالا!


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]







حسن البنا، معلم بسيط أقامت دوائر الامبريالية والاستعمار في أمريكا احتفالات بهيجة، فيها هز البطون ودق الطنبور ورائحة الخمور، لمقتله و إعلان نهاية حياته. أسس الرجل تنظيما صارما لم يُقدر لأي تنظيم في العالم العربي-على الأقل- أن يُعمر مثلما عمر واستمر. العالم كله، اليوم، لا حديث له سوى هذه الظاهرة "الإسلامية" التي يقال أنها من نسله؛ تُصرف الأموال الطائلة على مراكز الأبحاث والدراسات لمعرفة هذا "الأخطبوط" المرعب أو للاقتراب من حقيقته على الأقل.
يتم التوقف طويلا عند يافطة التطرف الديني وخطابات العنف والإكراه والتكفير التي شاعت كثيرا في الآونة الأخيرة ويمتطي صهوتها زمرة من الأميين بدعم مفضوح من الدوائر الاستخباراتية العالمية التي تريد إشاعة صورة نكراء عن الإسلام السمح. فلا يتوانى المتوقفون من ربط جذور ما يجري وما يشيع من جرائم باسم الدين، من ربط كل ذلك بحسن البنا وجماعته. حسن البنا الذي لم يتورط إطلاقا في دعوة ملغومة إلى العنف، حسن البنا الذي اعتبر الأفراد المتورطين في التنظيم الخاص السري الذي باشر اغتيالات محدودة في نهاية الأربعينات "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين".  حسن البنا، سنقف في هذه السطور مع بعض إضاءاته و نُثارات من إشراقاته لنعيد اكتشاف حسن البنا ولنؤكد أن من اتخذ الصادقين الحكماء المتبصرين قدوة لن ينتسب إطلاقا لجوقة الأميين الذين يعتلون المنابر ويجيدون التحريض والتصنيف.  

1-      عدم الإكراه على الانتماء إلى التنظيم:


إن المنطق الضيق الأفق هو الذي يوجه أصحابه  إلى اعتبار عدم انتماء الأقرباء والأصحاب والناس عامة إلى تنظيمهم وجماعتهم جنحة من الجنح بل جريمة الجرائم. يكون، حسب هذا المنطق، الشخص غير المنتمي لنفس الجماعة والذي اختار تنظيما آخر والانحياز لفكرة أخرى مدعاة للتجريح والنفور والكلام في النيات والأعراض.. إن هذا المنطق الأعوج  الذي يعتبر من ليس معي فهو تلقائيا عدوي و ضدي وهو خائن وهو متكبر ومتعالي وباحث عن البروز (بقاعدة "خالف تُعرف")؛ إن هذا المنطق المريض لم يعرف سبيله إلى منهج إمام الدعاة في العصر ومجدد الهمم والعزائم الأستاذ حسن البنا. وإن كان هناك أحد قد يُسمح له –سهوا- بتبني هذا المنطق خاصة مع أقربائه ومحيطه فهو الأستاذ البنا باعتباره قائدا، في سن مبكرة، لتنظيم فيه مئات الألوف يتسابقون لخدمة الأفكار التي طورها. الأستاذ حسن البنا لم ينهج هذا المنهج ولم يتبنى هذا المنطق حتى مع أصغر إخوته بل تلميذه الذي درس عنده في الصف الابتدائي وهو شقيقه جمال البنا الذي ولد سنة 1920 أي يصغر حسن ب14 سنة، فالأستاذ البنا من مواليد 1906.
اختار جمال البنا الشقيق الأصغر والتلميذ النجيب طريقا آخر ولم يختر "الإخوان"، بل كتب كتابات تحمل مضامينها نقدا مضمرا للاتجاه الفكري لمدرسة "الإخوان". غير أن الأستاذ حسن البنا ذي الأفق الواسع والصدر الرحب لم يحقد على شقيقه ولم يُصنفه ضمن زمرة الخصوم والأعداء والخونة بل راح يدعو الإخوان لقراءة كتابات شاب مشاغب لم يتجاوز 25 ربيعا وراح يستحث هممهم لمحو أميتهم في قضايا السياسة والشأن العام بمطالعة رسائل الشاب جمال البنا الذي اختار تأسيس حزب جديد هو حزب العمل الوطني الاجتماعي.
 يحكي الأستاذ جمال البنا قصته المثيرة مع الأستاذ حسن البنا بضمير الغائب. كان حسن البنا يدرك أن في أخيه تميُز "الرسالية" الذي توافر فيه كما توافر للوالد، وكان هذا سر تقريبه رغم الاختلاف، أو كأنما كان يقرب جمال البنا مثلما يحب شاب أشقر فتاة سمراء، فالاختلاف أدى إلى الترابط لا إلى التنافر. وقد لمح حسن البنا لشقيقه الصغير برغبته إلى أن يعمل إلى جانبه في مناسبتين:
كانت الأولى عندما حديث عن علاقة السيد رشيد رضا الشيخ محمد عبده، ثم علاقته بابن عمه الذي كان يحمل اسم "عاصم" ويتولى إدارة أعماله، و لكن جمال البنا صمت، فكان عزيزا عليه أن يرفض هذه الثقة، و في الوقت نفسه فإنه لا يستطيع القبول، وأدرك حسن البنا الموقف بألمعيته وذكائه فغير الحديث، وفي مناسبة أخرى عندما قبض البوليس على جمال البنا وبعض أعضاء حزب العمل الوطني الاجتماعي بعدما قاموا بتوزيع منشور عن ذكرى ضرب الأسطول البريطاني للإسكندرية بالمدافع تمهيدا للاحتلال. وأرسل الأستاذ حسن البنا بأحد أعوانه فقابل سليم زكي حكمدار القاهرة الذي أصدر أمره فورا بالإفراج عنه، و لما عاد قال له: "أنت تكدح في أرض صخرية صلدة، ونحن لدينا حدائق تثمر أشجارها فواكه تتساقط وتحتاج لمن يلتقطها"، ورد جمال البنا بأن فواكه الإخوان ليست هي الثمار التي يريدها، ولم يتأثر حسن البنا بهذا الرد، ولكنه نصح شقيقه بتغيير اسم "حزب" إلى "جماعة" حتى لا يصطدم الحزب الناشئ بالحكومة وهو في نشأته، وهو ما أخذ به جمال البنا.
ويصور هذا سعة أفق حسن البنا وحُسن إدراكه وفهمه لشقيقه الصغير، وكان جمال البنا يدلي بتحفظاته على فكر الإخوان للإمام البنا، وكانت عن المرأة والفنون والسياسة... ، وكان هو يسمع، ويبتسم ولكنه لا يعقب، فما ذكره جمال البنا ليس جديدا عليه، فقد كان حسن البنا مطلعا على الكتابات الحديثة، ولكنه كان قائدا للجماهير، وقائد الجماهير بقدر ما أنه يقودها ويدفعها، فإن الجماهير تمسكه وتقيد خطوه بمستوى فهمها بحيث لا يجاوز هذا الفهم إلا قليلا، كما أن حسن البنا كان يعمل بسياسة المرحلي ويؤمن بأن الزمن جزء من العلاج، و أن لكل مشكلة وقتها، فقد كان مؤمنا بإعطاء المرأة حقا أكبر من الحرية، ولكن في وقت معين، ولو ترك لأصلح الكثير مما لم يفسح له المجال لإصلاحه. (قضية القبلات وبقية الاجتهادات وكذلك من هو جمال البنا؟ وما هي دعوة الإحياء؟، جمال البنا، دار الفكر الإسلامي القاهرة، الطبعة الأولى، 2008، ص: 132-133-134).


2-      الإيمان بحرية الإنسان:

كثيرا ما يمتعض الممتعضون من تقصير الناس في أداء حقوق الله جل في علاه. لكن أحيانا لا يكون الامتعاض نابعا من قصد سليم وغيرة حارة صادقة. فالذي يرى شقيقه أو ابنه تاركا للصلاة؛ إذ يمتعض من هذا الشرود، لا ينطلق من خوف صادق على مصيره في الدار الآخرة ولا من حسرة جادة على فقدانه لمورد لا يُعوض من موارد التزكية ورفع المعنويات والاتصال بالعلي الأعلى، إنما يهجسه هاجس الاعتبار الاجتماعي وما يقوله الناس أي أن يعرف محيطه ومعارفه وأصدقاءه أن ابنه تارك للصلاة وأن شقيقه لا يعرف إلى أبواب المساجد طريقا.. ولو كانت الغيرة الصادقة على مصير الأحبة في الدار الآخرة، الذي لا يعلم أحد كيف هو إلا الله، لدعا مع أخيه وابنه بظهر الغيب دعوات حارة يومية ملحاحة ليكون من المهتدين والمصلين. وأحيانا يترتب على هذا التفكير الذي ينصرف إلى الاعتبار الاجتماعي أو الطقس التعبدي الشكلي سلوكات ناشزة من قبيل إكراه الراشدين (الأبناء والأشقاء) على الذهاب إلى المساجد أو صلاة الجماعة في البيت؛ وكل هذا يؤشر على افتقادنا لجوهر العبادات وما تدل عليه من حرية الإنسان الباطنية أي من حيث استعداده الحر للاتصال مع ملك الملوك ومناجاته بأشواق المعرفة والوصول.
حسن البنا إمام الدعاة الواسع الأفق لم يكن من هذه الطينة التي تُكره الناس على الصلاة ليتسمى بأن "فلان صلى بعدما دعوته للصلاة". بل كان يدعُ الناس وحالهم ويكتفي بالتذكير الذي هو وظيفة كل داعية مرب أصيل موصول بسيرة المصطفى الأمين. لم يُكره شقيقه الأصغر على صلاة الجماعة وإنما كان يدعه وحاله لأنه يعلم أن "المحاضرات" الرتيبة التي قد يلقيها على مسامعه قد يجيد جمال حبك وعرض ما يفوقها.
حسن البنا مؤمن كبير بحرية الإنسان، وكيف لا يؤمن بالحرية من يتمسك بأهداب روح الإسلام الذي "إذا نظرنا إلى شريعته نجد أنها تعتمد قبل كل شيء على وجدان الإنسان لا على قوات السلطان؛ فبعض التنظيمات القضائية أو الدولية ليست في نظره إلا وسائل تنظيم إداري، تتعلق بالاهتمام بشؤون الناس أكثر مما تتعلق بحكمهم. إنها ذات مهمة هي إسعاد الناس وتدبير مصالحهم؛ لا مراقبتهم والتدخل في شؤونهم الخاصة". (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، علال الفاسي، منشورات مؤسسة علال الفاسي، الطبعة الخامسة، 2008، ص:11)
 يحكي جمال البنا بضمير الغائب ما يؤكد ما ذهبنا إليه. عندما شغل جمال البنا منصب إدارة مطبعة الإخوان، لم يلتزم بما كان يلتزم به العاملون في "الدار" من آداب وتعاليم إسلامية سواء كان في أداء الصلاة أو في الحرص على قربات...، فكثيرا ما كان معاون الدار الشيخ عبد البديع صقر يأتي إليه مؤذنا لصلاة الظهر ليصلي جماعة، وكان جمال البنا يصرفه لانشغاله الشديد بتصحيح بروفة حتى لا تتوقف عجلات ماكينة الطباعة، وعندئذ يهرع إلى الأستاذ حسن البنا ويقول: إن غرفة جمال البنا وكر تاركي الصلاة، فيقول له: "دعه وحاله".
وكان حسن البنا يتابع تقدم شقيقه، وروى الشيخ عبد العزيز الخياط وزير الأوقاف الأسبق بالأردن أنه عام 1946 كان يطلب العلم في الأزهر، ودخل مع مجموعة من إخوانه على المرشد فوجدوه يقرا في كتاب "على هامش المفاوضات"، فقال لهم: "تعلموا السياسة من هذا الشاب، لقد أصدر حمال رسالة حسنة عن المفاوضات"، ولم يصده عن ذلك أنها كانت تصدر باسم "حزب العمل الوطني الاجتماعي". (قضية القبلات وبقية الاجتهادات وكذلك من هو جمال البنا؟ وما هي دعوة الإحياء؟، جمال البنا، دار الفكر الإسلامي القاهرة، الطبعة الأولى، 2008، ص:135).

إن سعة الأفق ثمرة طبيعية للاطلاع الواسع والانفتاح على مختلف ألوان الحكمة البشرية وفتوحات العلوم الإنسانية كما أنها سمة تسم كل من يتعلق بروح الإسلام وغاياته قبل أشكال وسائله وطقوس عباداته. لا غرو، إذن، أن نجد حسن البنا القارئ النهم الذي يلتهم جديد المترجمات في علم الاجتماع وعلم النفس وغيرهما، كما يقول الدارسون المحققون لحياته، مدركا للمعاني والجواهر ومتجنبا لمنطق استعداء الآخر المختلف ورافضا لسبيل الإكراه والإلجاء على أداء العبادات.

إن حسن البنا ذي الأفق الرحب حري بالجماعات الإسلامية التي تزعم صلة لها به أن تعيد اكتشافه وتجدد صلتها بإشراقاته وإلماعاته، وجدير بالباحثين في جذور العنف والإرهاب باسم الدين أن يعيدوا النظر في الأحكام الجاهزة التي يتفوهون بها في حقه، كما أنه حقيق بهم أن يسلطوا الضوء على أمثال هذه الإشارات المتنورة لصد تيار الغلو والتطرف الذي يقتات من التضييق على الصور المنيرة للتدين المتنور والرباني العميق في ذات الوقت.


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




تحل الذكرى السابعة و الستين لاستشهاد أحد أبناء هذه الأمة البررة. تحل هذه الذكرى ومشروع هذا الابن البار الذي جعل عمره القصير (حوالي 42 عاما) فداء له؛ يتعرض لحملات هنا وهناك، شعارها الأوحد: أصل كل الشرور ومنبع كل الحرائق والتفجيرات ومصدر كل العنف والإرهاب ومبعث كل التطرف والتخلف هو هذا المشروع القروسطوي اللعين والماضوي السحيق: مشروع الحركة الإسلامية.. ومشروع أم الحركات: الإخوان المسلمون. كل من بدأ واجدا قلمه مائلا إلى الكتابة والتحرير يسمي نفسه باحثا في حركات الإسلام السياسي ويختزل كل مطبات المجتمعات والحكومات في العالم العربي، على الأقل، في مشروع أحفاد حسن البنا. بل هناك منهم من يصر، استبلادا للقراء والمتلقين، على أن أحفاد حسن البنا تحالفوا مع أمريكا ودوائر الامبريالية العالمية لإحداث ما سُمي بالربيع الديمقراطي (في 2011-2012-2013) للانقضاض على السلطة والحكومات.
استكثروا على أحفاد حسن البنا أن يكونوا في السلطة في عقر دارهم سنة غير مكتملة: قالوا عنهم ما لم يقَل في الشيطان. بل حتى الشيطان؛ أمهله الله جل في علاه إلى يوم القيامة وأتاح له الحرية الكاملة ليقيم مشروعه على الأرض القائم على الإغواء والوسوسة والإغراء. لكن الإخوان الكرماء (والناس يشهدون بخدماتهم الاجتماعية التي يقل نظيرها في العالم) ربما لا يستحقون من أبناء وطنهم ما استحق الشيطان من الله العلي الكريم (وإن كنت أنسى فلن أنسى معطى هاما يؤشر على مقدار الحقد الذي يكنه البعض للإخوان والشماتة التي يستشعرها وهو يرى الانقلاب الدموي الظالم على التجربة الديمقراطية الفتية؛ فغداة يوم الانقلاب حوالي مستهل يوليوز 2013 ذهبتُ إلى الثانوية بهدف رؤية النتائج فإذا بي أصادف أحد أساتذتي الذي ينتمي إلى حزب الاتحاد الاشتراكي يخاطب أحدهم بكلام يتقطر شماتة وحقدا وبأسلوب ساخر ويخبره بسقوط طائرة الإخوان). حتى أقرباؤهم في تونس الصغيرة (النهضة)، عز عليهم أن يستمروا في قيادة حكومة بتراء فراحوا ينسفون ويٌفجرون ويؤلبون لتستقيل الحكومة مرات ومرات. وجاءت داعش بجرائمها النكراء في حق الإنسانية فراحوا يبحثون لها عن جذور ولم يفهموا أبدا أن التضييق المستمر على الإخوان كحركة اجتماعية وطنية مسالمة  تخترق مجموعة من المجتمعات في العالم لن يفرز سوى داعش بل أسوأ من داعش لا قدر الله.
دعونا نتساءل، أين كان هناك مشروع ناضج لدى حزب من الأحزاب أو حركة من الحركات في أوطاننا لنحاسب الإخوان وعموم الحركة الإسلامية على محدودية فهمها لطبيعة الدولة والسلطة وأسئلتهما والأجوبة الملائمة لإشكالاتهما؟ أين كان هذا؟
هل عند الحركة الاتحادية –التي طالما عبرنا عن تقديرنا غير المحدود لمدرستها وفكرتها النبيلة- التي تورطت في بداياتها، في الستينات بالخصوص، في أحداث عنف وأحلام من هذا القبيل.. هل هناك من يعتبر الحركة الاتحادية حركة سياسية رجعية وهل هناك من يتهمها بالعقم على مستوى النظر السياسي (من حيث إدراكها لطبيعة تناقضات الدولة ومآلات العنف والثورة)؟ لا طبعا، لأنها قامت بنقد ذاتي جريء ومشهود في منتصف السبعينات وقدمت للوطن من مدخل النضال الديمقراطي الشيء الكثير.
هل هناك من تجرأ مثلا وقال إن حركة أقصى اليسار (اليسار الجديد) التي تنحدر منها أغلب الأحزاب اليسارية المبدئية القابضة على جمر الوفاء للديمقراطية كمبدأ وممارسة؛ لا تُجيد السياسة وتملك مشروعا تدميريا للوطن.. لأنها كانت في نهاية الستينات وبداية السبعينات تعتقد سبيل العنف الثوري كسبيل واحد ووحيد لإحداث التغيير أو أنها كانت ضعيفة من ناحية التحليل السياسي وإدراك مآلات المواقف غير المحسوبة في القضايا الرمزية الحساسة كقضية الوحدة الترابية. لا أحد، بإمكانه أن يقول هذا. ولا أحد بإمكانه أن يشير إلى أن هذه الأحزاب اليسارية، التي فيها صفوة أساتذة العلوم السياسية، ذات مقدرة تفسيرية أو تحليلية للوضع السياسي تتسم بالقصور؛ لأنه، باختصار، حركة أقصى اليسار  دشنت بدورها مسلسلا هاما من النقد الذاتي: انطلقت به إلى رحابة العمل السياسي الحزبي المدني وشاطئ النضال الديمقراطي والحقوقي.
وقس على هذا، حركات وأحزاب المشرق: لن تجد أكثرها قد بدأ عمله بالنضج اللازم للسياسة بل لن تلفيها إلا وهي غارقة في الطوباويات والأحلام الكبيرة الفاقدة لأي صلة بالواقع الموضوعي الذي تعيش فيه.
إذن، فمن حق الحركة الإسلامية أن تُخطئ كما أخطأ غيرها. ومن واجبها تدشين عصر جديد من النقد الذاتي. ولكن النقد الذاتي لن يكون موجها إلى الوجهة الصحيحة إلا إذا تم السماح لها بممارسة حقوقها المشروعة في التدبير و السلطة، كي تطعم الممارسة النقدية النظرية بدروس التجربة العملية (والحركة الإسلامية في تونس والمغرب رائدتين في مضمار النقد الذاتي: لكن مازالت الحاجة إلى إعادة النظر في مجموعة من الأمور قائمة بشكل كبير). متى نؤمن، يا سادة، أن الوطن يحتاج إلى الحركة الإسلامية وإلى الحركة الأمازيغية وإلى حركة اليسار الجديد وإلى روح الحركة الاتحادية. وسائر أوطاننا تحتاج إلى هذه الشراكة.
إن كان من حسنة لربيع 2011 وما خلفه من زهور معدودة، فهي حسنة النقاش بصوت مرتفع في كل الموضوعات التي كان يتعسر الخوض فيها بهذه الجدية في الفترة السابقة.



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



عاد أحد أصدقائي من فرنسا غير آسف على العودة. عاد بعد سنة ونصف من تجربة الغربة؛ حصل على باكالوريا علوم رياضية يونيو 2014. عاد بعدما انتصر لتحيزات محتواه الداخلي، قائلا: المشكل نفسي بالدرجة الأولى، لم أرتح هناك، الجو لا يلائمني.. لهذا اتخذت قرار العودة. كنت في طليعة المتفوقين في دراستي بل كنت مُتصدر صفي الدراسي. كنت في الشعبة التي يعدها الكثيرون غاية المراد من رب العباد، شعبة الرياضيات في الأقسام العسكرية التي تسمى خطأ ب"الأقسام التحضيرية".
حاولتُ إثناء صاحبي عن قراره الشجاع وغير المسبوق، لكني استسلمتُ لمنطقه الذي يتناغم مع منطقي. إنه المنطق الذي ينتصر للمعنى وينحاز للمحتوى الداخلي للإنسان ويتحيز لنفسيته ومعنوياته. إنه المنطق الذي يُعلي من شأن الراحة النفسية والسعادة الداخلية والطمأنينة الباطنية. إنه المنطق الذي ينفلت من قيود الماديات وأغلال نظرات المجتمع القاصرة. إنه المنطق الذي يتقصد الإنسان، بمنواله، بناء تجربته الخاصة وفق ظروفه وإمكاناته ومؤهلاته  وميولاته الخاصة ويرفض اللهث وراء تكرار واجترار تجارب الآخرين مهما سمت  وكانت شامخة (دون إغفال الاستفادة والتعلم، فالحياة مدرسة)، لأن السعادة باختصار هي تجربة شخصية وجوانية وداخلية. إنه منطق يعلنها بصراحة و بلا هوادة: لا يمكن للآخر أن يتصور كيف سأكون سعيدا مهما بلغت نيته من الصفاء.
عاد صاحبي ومعه أفكار شتى حول المجتمع الفرنسي  وطبيعة الحياة في فرنسا. استوقفته سائلا: لماذا يتقدم المستوى العلمي والمعرفي للمجتمع الفرنسي رغم أن معظم الذين يحتلون المراتب الأولى في الأقسام التحضيرية وغيرها أجانب والمغاربة لا يشق لهم غبار في هذا المضمار؟
أجاب بالإيجاب مبتسما. صحيح أن نسبة مُقَدرة وهامة من الطلبة المغاربة الذين يُجايلونني هم الذين احتازوا المراتب الأولى. لكن ثمة ملاحظتين لا بد من الإشارة إليهما بصدد المقارنة بين المنظومتين اللتين تؤطران الطالب/التلميذ المغربي والطالب/التلميذ الفرنسي:
أولا، ما يمكن تسجيله، دون أدنى مجهود فكري، هو اختلاف التعامل مع الدراسة عموما و مع النقط والدرجات التقييمية بالخصوص. ففي حين نجد طالبنا يتمزق نفسيا وتنتفخ أوداجه حين ينكسر في اختبار معين و حين لا يحالفه النجاح في تحصيل عالي الدرجات. نجد الطالب الفرنسي –على الأقل، كما عاينته في محيطي الدراسي- يتعامل ببرودة مع هذه الخُطوب (أي تحصيل ضعيف النقط والدرجات).
استدركتُ على صاحبي متدثرا بمنطق الطلاب المغاربة و نفسيتهم: إن الطالب المغربي يموت حزنا ويستشيط غضبا إثر خيبته في سباق النقط والدرجات لسبب بسيط هو كونه يستشعر أن مفاتيح سوق الشغل بدأت تسقط من يديه بعد كل خيبة وانكسار. في حين أن الهاجس المهني والمادي لا ندري كيف يتعامل معه الفرنسي.
أجاب صاحبي: تماما صديقي. الطالب الفرنسي –أتحدث عن العينة التي عاينتُ حتى لا نسقط في تعميم مخل- يؤمن بيقين بأن مستواه المتواضع لا بد و أن يوافق مهنة توفرها الدولة، لهذا فهو راض بوضعه وغير آسف كثيرا على مستواه. فصاحب أي مستوى هو مشروع ممتهن لمهنة تلائم ذاك المستوى.
ثانيا، في نفس السياق، لا يفوت المتأمل في التعامل الذي ينطبع به الطالب الفرنسي مع المنافسة في وسطه، لا يفوته أن يسجل كون الفرنسي لا يرتهن كثيرا لمنطق الصراع الأعمى من أجل البقاء: فهو إذ يتحصل على نتائج متواضعة مسبوقة يبهرك بتفاؤل إرادته: لا مشكلة، سأحاول أن أتدارك في الاختبار القادم.. لكن صاحبي لم يفته أن يقول: إن روحه تتقد حماسة ومحتواه الداخلي يشع أملا في تعويض ما فاته من النقط و المراتب والدرجات.
إذن، هذه الروح المتدفقة بالجدية والأمل والحماس والتفاؤل لعلها سر الأسرار ولغز الألغاز ومفتاح المفاتيح الكامنة وراء نجاح الفرنسي دراسيا ومهنيا وماديا. هذه الروح التي تسري في الإنسان رغم طوارئ الفشل وأعراض الانكسار وانثنائه بالخيبات، هي التي تستنهض همته ليستمر في الحياة. فظاهريا قد تجد الفشل لا يفارق الإنسان، لكن جوهره نقي لامع بروح الجدية. هذه الروح هي المطلوب غرسها واستنباتها في أوساطنا. هي روح إذا ما توفرت -وطبعا فهي مصحوبة بإجراءات أخرى: من مهام الدولة أساسا-  فلا خوف على الإنسان من كبوة بل لا خوف عليه من كبوات لأنه يدرك جيدا سبيل النهوض وطريق الاستمرار في مسيرة النجاحات والوثبات. و دور أهل التعليم والتربية المركزي هو تنشيط هذه الروح حتى لا تخمد ولا تخمل. في قضية صلاة الفجر أيضا، المطلوب إشاعة نَفس الجدية في التعامل معها. فالإنسان، سيتعثر لا شك في مسيرة الكدح وسينام لا ريب عنها في يوم ما، لكن روح الجدية تمنعه من التطبيع مع النوم وروح الحرص على بركات الفجر تحول دون ركونه إلى الخمول ودون انتسابه لزمرة النُوام.   




...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



قضيتُ يوما متعبا مع والدتي -أطال الله عمرها- في تنظيف و "إعادة تهيئة" المسكن والفضاء الذي نعيش فيه. طيلة أشغال التنظيف راودتني أسئلة كان قطب رحاها السؤال التالي: الأشغال الشاقة، في حياة الإنسان الفرد والمجتمع، من سيتحملُ أثقالها؟
كان سؤالي نابعا من قناعة  تؤطرني مفادها أن البشرية، عبر تاريخها، تتغيى إنزال المشقة عن الإنسان وتيسير شؤونه وإسعاده على الأقل في الجوانب المادية. من هذا المنطلق، كانت روائح المشقة التي شممتها في تلك الأشغال مدعاة للتساؤل ومبعث للقلق على المعذبين في الأرض (المرأة، عمال البناء و النظافة، المشتغلون في حمل ونقل الأثقال، المتسمرون في  الشمس الحارقة..).
ربما الآباء حينما يحملون هاجس المستقبل المادي والمهني لأبنائهم، بشكل مَرضي، ينطلقون من الشعور الذي يتملكهم حينما يتصورون ابنا لهم أو ابنة وهو يكابد طعنات الدهر وشقاء الحياة. الكل، إذن، يريد أن يكون ابنه طبيبا أو مهندسا أو محاميا أو أستاذا.. و هذا حق مشروع بل واجب مفروض. لكن، لا ينبغي أن ننسى –أتحدث هنا باسم أهل الفكر والثقافة المهمومين بأمر مشروع المجتمع الذي نريد- أن هناك أعمالا لا تقوم الحياة بدونها والحاجة دائمة إليها (البناء، النظافة...)، مازالت أكلافها وتكاليفها (الإنسانية والاجتماعية بالدرجة الأولى) غالية، ولن يكون ضحية لها سوى أحد من إخوتنا و أبنائنا. قد يُقال إن المعني بالأمر هو المسؤول فهو الذي كان متهاونا في صباه في الدراسة لهذا فهو حاصد ثمار الشقاء لا محالة جزاء عمله. نعم، جزء من هذا صحيح. غير أن الفرص المتاحة أمام الجميع في الصبا و الطفولة في التعلم و الدراسة غير عادلة بحكم الظروف الاجتماعية الخارجة عن إرادة المعني بالأمر. و بعد، فهذا ليس موضوعنا و لا مقصودنا، إن الفكرة التي أريد التصريح بها هنا هي أنه إذا افترضنا أن الجميع يدرس لغاية الطب والهندسة والمحاماة والصيدلة –و هذا هو السبيل الذي نحن ننتظم في إطاره-، فهناك مشاغل أخرى لا بد من قائم بها وأكيد انه سيكون أحد الخافقين، لسبب أو لآخر، في السباق نحو الغاية المذكورة.
نظرا لاطلاعي الشحيح والمعدوم على تجارب الدول و الأمم الأخرى في هذه المسألة، فإني سأكتفي بالإشارة إلى كون المشكلة هي إنسانية وكونية وليست مشكلة محلية. لأن البشرية، في تاريخها، تتقصد ترسيخ قيم ثلاث هي العدل والحرية والمساواة. ولا شك أن الوضع الذي يُجيز وجود فئة تعاني الأمَرين في أعمال شاقة وفئة أخرى تعمل في الغرف المكيفة و بكبسات الزر في الحاسوب، ليس وضعا عادلا و لا موحيا بمساواة إنسانية.
إنه لا مناص بمنطق قيم العدل و الحرية و المساواة التي تقرها و تدعو إليها كل الشرائع، من التفكير في سبل تدبير الأشغال الشاقة: سبُل تؤكد إنسانية الإنسان القائم بها وتغرس فيه أحاسيس العزة والكرامة وشعور القائم بمهام التعليم والهندسة والمحاماة.
فلنعد إلى قصتنا، التصور الذي يرى  بأن تقسيم العمل بين الرجل والمرأة فيه عدل ومساواة ورحمة (باعتبار متاعب خارج البيت من نصيب الرجل و مشاغل داخل البيت من حظ المرأة)، تصور يبدو محدودا ولا أثر له في الواقع. لأن الاتجاه العام لطبيعة الأعمال الخارجية، بات يومئ إلى أن العمل بات مريحا و ميَسرا إلى حد ما، باستثناء الأشغال الشاقة التي وقفنا عندها. أما الأشغال المنزلية، ففي فضاء محدود: من وحي التجربة (تجربة والدتي) نقول إنها متعبة حقا و ظالمة صدقا، ناهيك عن الفضاءات الفسيحة، ولا يمكن لأي عاقل(ة) إلا أن يُفضل العمل الذي يقوم به خارج البيت –باستثناء الأشغال الشاقة- بل لا يمكنه إلا أن يُفضل أضعافه في مقابل الانسلاخ من هوية الأشغال المنزلية الرتيبة و المُملة.
كيف ستُدبر، إذن، الأشغال المنزلية في جو تُصان فيه إنسانية ربة البيت ورب البيت؟ هذا هو السؤال الذي شغلني حينها. فهناك من يقول بجلب "الخادمات".. يبدو أن المؤمن بكرامة الإنسان –أي إنسان- سينفر فورا من هذا الخيار لأن الخادمة في نهاية المطاف امرأة أيضا مثل الأم والأخت والزوجة. والنظام العادل الذي يرمقه كل حر لا وجود فيه لمسمى "الخادمات". نعم، قد يعتبر بعضهم هكذا كلام بأنه غرق في عالم المُثل. قد يكون كذلك، لكن المعروف أن المتصدي لأدواء الإنسان والمجتمع لا يبرر الظلم مهما كان الثمن ومهما كانت العاقبة. صحيح، بالإمكان الحديث عن مربية للأطفال في غياب بسبب العمل عن المنزل، لكن القول بأن جلب "الخادمة" للعناية حصرا بالأشغال المنزلية اليومية من تنظيف و كنس و طهي و .. يبدو مردودا.
ربما في انتظار مزيد من التأمل في السؤال والاطلاع على تجارب غيرنا من بني الإنسان، أسوق جواب والدتي أسعدها الله دنيا و آخرة: بالتعاون، بالتعاون، يا بني، تهون كل المصاعب وتنهار كل المشاق..

  

...تابع القراءة