| 0 التعليقات ]



إذا كان السياق التاريخي الذي شهدته البشرية لقرون طويلة قد أفرز تقاطبا حادا حول "العقائد"، أدى إلى اندلاع حروب وصراعات دامية خلفت مآسي كبيرة؛ فإن العالم الحديث والمعاصر أثبت أن الناس لا يمكن لهم أن يتصارعوا إلا إذا اشتبكت "مصالحهم" وما العقائد إلا حصون يحتمون بها للتمويه والمغالطة أو لشحذ همم الأنصار.
كان التقابل قائما لفترة ليست بالقصيرة بين "الأسطورة" (=عقيدة وضعية) بما تحيل عليه من صياغة معتقدات تضم خرافات تدور حول الآلهة والموت والحياة ... إلخ، و"التوحيد" (=عقيدة ربانية) بما يعني من إيمان بأن هناك إلها واحدا يرسل أنبياء ورسلا ويختبر الناس في الدنيا أيهم أحسن عملا ليحاسبهم في الدار الآخرة.  
كانت "العقيدة" بما هي نظام فكري، أي في الذهن، صورة لما ينبغي أن يكون عليه الواقع. لهذا كان الأنبياء يركزون على ترسيخ عقيدة "التوحيد" مُوقنين بأن السلوك ثمرة تابعة لما يجول في الذهن والخاطر.
لهذا كان الصراع محتدما حول مجال "العقيدة"؛ لأنَ من يحوز السلطة على هذا المجال صار قاب قوسين أو أدنى من حيازة السلطة المادية (=السياسية والاقتصادية بالدرجة الأولى). وفي هذا الإطار نفهم الحرب الضروس التي واجه بها حراس "المعبد القديم" الأنبياء والرسل دعاة العقيدة الجديدة. وهنا تبدو لنا "الدعوة" إلى تبني "العقيدة" عملا رائجا وقويا.
إن العقيدة أمر هائل عند الله -سبحانه- وأمر هائل في حساب هذا الكون، وقدر الله الذي يصرفه، وأمر هائل في تاريخ "الإنسان" وحياته في هذه الأرض وفي الدار الآخرة كذلك .. والمنهج الذي تشرعه العقيدة يغير أسلوب الحياة البشرية بجملتها. وأمر له هذه الخطورة عند الله، وفي حساب الكون، وفي طبيعة الحياة وفي تاريخ "الإنسان" .. يجب أن يؤخذ بقوة، وأن تكون له جديته في النفس، وصرامته وحسمه. ولا ينبغي ان يؤخذ في رخاوة، ولا في تميع، ولا في ترخص، ذلك أنه أمر هائل في ذاته، فضلا عن أن تكاليفه باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص، او من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر. (1)
إذا تأملنا في المناخ السائد في العالم المعاصر سننتبه حتما إلى أن هناك تقابلات جديدة: من جهة أولى؛ بين عقائد سماوية تعرضت ل"لأسطرة" بدورها سواء في النص المقدس (اليهودية والمسيحية) أو في تفسيراته وتأويلاته (الإسلام)، ونزعة التجديد في "عقيدة" التوحيد التي تسعى لنفض الغبار عن رواسب "الأسطرة" التي لحقت صفاء العقيدة مع مرور السنين. من جهة ثانية؛ بين العقائد السماوية والوضعية (التوحيدية والأسطورية)، وبين العقل وما ينتجه من علم دنيوي مادي (=مدرسة الحداثة بكل ألوانها). من جهة ثالثة؛ بين المؤمنين بالعقل (سواء من داخل الدين أو من خارجه)، والشاردين عنه (=دعاة ما بعد الحداثة).
طبعا، يتفاعل المسلمون مع كل هذه التقابلات الجديدة بأقدار متفاوتة. ولا شك أن التقابل الأول مازال مسرحا لتنازع "الدعوات"؛ إذ مازالت الكنائس حول العالم تنفق الأموال الطائلة على المبشرين للنهوض بأعباء "الدعوة" و"التبشير" في مختلف أنحاء العالم وخاصة في أدغال إفريقيا. ومازال الكيان الصهيوني يتظاهر بدعم الخطوط اليهودية التي تتلاءم مع أفقه السياسي. ومازالت الدولة السعودية تدعم بكل ثقلها المادي والمعنوي الخط الوهابي وتأويلات وقراءاته للنص الديني وتحارب كل من يقدم ويدعو إلى قراءة أخرى خارج النسق الوهابي (سواء قراءة مدارس الصوفية، أو قراءة مدرسة الإخوان المسلمين). ومازالت الدولة المغربية تقف إلى جانب الطرق الصوفية وتروج لنموذج التدين الذي تقدمه هذه الأخيرة للناس.
أما دعوة "التجديد" العميق الذي ينشد استرداد الصفاء المفقود في "العقيدة" (=دين الفطرة) فمازال التضييق الشديد ضدها ساريا ومن كل الجهات، ومازالت منحصرة في جهود فردية قليلة ومُحاصرة في مجلات ومشاريع فكرية نخبوية. ولعل محاولة احتواء جزء منها مؤخرا من طرف دولة الإمارات العربية وبعض دوائر النفوذ العالمية بغرض تصفية الحسابات مع دعوة مدرسة الإخوان المسلمين أفقدها بريقها ومصداقيتها.
 أما التقابل الثاني فقد تم إحياء الصراع فيه في المجال التداولي الإسلامي في العقود الأخيرة بصيغ مختلفة مع جيل من المفكرين المنتسبين إلى المدرسة الإسلامية التجديدية (بيغوفتش، المسيري، الحاج حمد، العلواني، راجي الفاروقي ... إلخ). أما التقابل الثالث، وهو الأخطر، لأنه يهم مصير الجميع؛ فمازال الالتفات إلى أهمية الانحياز إلى العقل منحسرا ومتأثرا بآثار التقابل الثاني.
يبدو أن واجب الوقت هو الانحياز إلى خط التجديد لاستعادة صفاء العقيدة المفقود في مسائل الغيب (=دين الفطرة) حيث الإيمان الناصع بالله جل في علاه وباليوم الآخر وتبعاته وبالأنبياء وأفضالهم. إلى جانب التحيز للعقل والعقلانية في الدنيا ورفض دعوات العبث واللامعنى في التعاطي مع مسائل عالم الشهادة. إنها "الدعوة"  التي تستحق منا بذل الجهود الواسعة فكريا لتعميقها وعمليا لإشاعتها!
لنعد ترتيب مشهد "الدعوة" كما هو كائن عبر التاريخ، وعلى ضوء ما يعترضه من تحديات في السياق المعاصر:
1)  ما هي الدعوة وما مضمون "الدعوات" عبر التاريخ؟ الدعوة تتجه إلى نشر عقيدة لا إلى تصحيح سلوك، لأن سلوك الإنسان كان إلى حد ما ثمرة لما يعتمل في ذهنه من نظام فكري ومنظومة قيم.
2)  أهم تحد يقف حاليا أمام "الدعوات" بشكل عام هو شرود سلوك الإنسان المعاصر عن عقيدته، بمعنى أن "المصلحة" هي ما يحركه فأينما ولت المصالح الذاتية يولي الإنسان وجهه ولو كان ذلك على حساب العقائد.
3)  ما هو المضمون المطلوب في "الدعوة" في السياق الحالي؟  الدعوة المطلوبة في الوضع الراهن في مجالنا التداولي هي التي تتجه إلى تثبيت الإيمان بالله جل في علاه واليوم الآخر في مسائل الغيب علاوة على الاتصال بالعقلانية في مسائل عالم الشهادة والدنيا.
4)  كيف ندعو؟ لا بد من تعميق النظر أولا في التصور الجديد تأملا وكتابة وبحثا. ولا يمكن إشاعته إلا بالآليات المعروفة: الكتب، المجلات، المقررات، المحاضرات أي باختصار مختلف وسائل التعليم والإعلام.

قد يقول قائل: إن العقيدة "ربانية" المصدر فلماذا نبحث عن تصور جديد لها. المسألة هنا هي أن صياغة تصورات (=فهوم) عن مضامين "العقيدة" (بما هي نظام فكري ومنظومة قيم موضوعة على المستوى الذهني) أمر موكول للإنسان حسب السقف المعرفي في الزمان والمكان. طبعا هذه المضامين هي "ربانية" (قرآنية) ولكن صياغتها في لغة بشرية متاح للإنسان فقط. وللإشارة فكلمة "العقيدة" غير واردة في النصوص الشرعية، وقد ترد بصيغة الفعل في بعض الأحاديث.


(1) سيد قطب، في ظلال القرآن، الطبعة الشرعية التاسعة، ص: 1370)

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



تساءل أحد الأساتذة الفضلاء تعقيبا على نقاش "الحرية قبل التدين"، قائلا: هل البلاغ يعني بالضرورة الإحراج أو الإلزام؟ ماذا كان يفعل الأنبياء والمرسلين مع الناس؟
ثمة لُبس كبير لا بد من رفعه، وطالما يعاينه المتتبع للخطاب "الدعوي" المعاصر، يتصل أساسا بالمقايسة الدائمة بين التجربة المعاصرة والتجارب النبوية وتجارب المرسلين عموما. إذ ينبه "الداعية" على الدوام التلاميذ ـمشاريع دعاة الغدـ بأنهم في هذا العمل ينخرطون في سلسلة ممتدة إلى الأنبياء بل إلى أب البشر وأب الأنبياء آدم عليه السلام.
أن تكون المقايسة بمعنى أن أي "نبي" فهو يدعو إلى معاني الخير والأجيال المعاصرة بدورها تحمل مشعل "دعوة" الناس إلى الخير؛ فلا بأس! ولكن أن تكون المقايسة بمعنى المماثلة أو حتى المقارنة على مستوى مضمون الخطاب وطريقة تصريفه؛ فذلك سقوط حر في عملية القفز على ملابسات الزمان والمكان والإنسان!
إن الأنبياء جاؤوا إلى وسط مازال الإنسان بعيدا فيه عن مراكمة خبرات نافعة في تدبير شؤون الدنيا بله التفكير في مسائل الغيب والآخرة والأشواق الكبرى. ولهذا جاؤوا بخطاب عقائدي يفترض أن صلاح تصور الإنسان لوحدانية الله وقدرته علاوة على عدم نسيانه للمعاد أمران كفيلان بإحداث صلاح في معاش الإنسان في الدنيا.
وكم كان تعليق الشهيد سيد قطب موحيا، في "معالم في الطريق"، حينما قال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وجد أمامه واقعا "جاهليا" ملوثا بأمراض أخلاقية واجتماعية واقتصادية، ورغم كل ذلك لم يعلنها ثورة أخلاقية ولو فعل لجمع الناس، ولم يعلنها ثورة ضد الظلم الاجتماعي ولو فعل لجمع من حوله الأنصار، ولم يعلنها ... إلخ. وإنما أعلنها ثورة عقائدية تصحح رؤية الإنسان لله وللوجود وللإنسان نفسه. لأن الإنسان الذي كان يتحرك في ذلك الوسط يتحسن سلوكه تلقائيا بعدما تتغير عقيدته ورؤيته الكونية.    
إذن، عموما فدعوة الأنبياء لم تكن تكترث بالتفاصيل السلوكية للناس وإنما هي مشدودة إلى بناء "عقيدة" سليمة، بمجرد أن تترسخ في وجدان الناس تتحول إلى سلطان على سلوكهم فيتغيرون بشكل تلقائي. وهكذا كانت موازين النجاة في الآخرة مرتبطة أولا بالمحتوى الداخلي ل"العقيدة".
ينبغي أن لا ننسى أن الإنسان على مدار قرون طويلة كان المحتوى الداخلي ل"عقيدته" متنازعا بين: "الأسطورة"؛ وهي عقائد يصنعها الإنسان حول الآلهة والآخرة ونظام العلاقات ... إلخ. و"دين التوحيد"؛ وهي عقيدة موحى بها من الله إلى الأنبياء ليبلغوها للناس.
للإشارة، الاستبداد والطغيان كان دائما نصير عقائد "الأساطير" لأنها تشرعن للظلم وتُشَرع لتعدد الآلهة وتغطي على الفساد والجور وتصوغ نظام علاقات يسود فيه الحيف. لهذا كانت معركة الأنبياء من أجل عقيدة "التوحيد" هي في ذات الوقت معركة ضد الطواغيت من أجل "العدل". إنها معادلة بسيطة: التوحيد على مستوى العقيدة يؤسس للعدل في الحياة الاجتماعية؛ لأن ثمة إلها واحدا عدلا شديد العقاب.
ولهذا فمعركة الأنبياء كانت بالدرجة الأولى من أجل انتزاع حق عرض "العقيدة" الجديدة الأصيلة أمام الناس ليختاروا. وفي هذا السياق ترد الآثار التي تقول: (خلوا بيني وبين الناس). لأن مسألة الاختيار تكون ذات معنى حينما تكون العروض متنوعة. أما فرض "أساطير" وضعية على الناس بالحديد والنار لاستدامة واقع الظلم فتلك سنة الطغاة!  
لننتبه مجددا لحادثة "الخمر" أو قضية "الزي"؛ أسلم الصحابة ومازال بعضهم يحتسي الخمر بل أحيانا يصلي وهو مخمور دون أن يثير ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه يعلم أن "العقيدة" التي تمكنت من نفوسهم ستؤهلهم للإقلاع عن الخمر بمجرد نزول النهي عن شربه. وهذا ما حدث! في مشهد لافت سالت فيه "المدينة" بسوائل الخمر بعدما استجاب الصحابة للنهي الإلهي!
لنستجمع الخلاصات التالية:
1)  عاش الأنبياء في زمن كان فيه التقابل صارخا بين الأسطورة (=عقيدة وضعية) و"التوحيد" (=عقيدة ربانية)، وكانت "الأسطورة" هي السند الديني ل"الاستبداد" والوعاء النظري ل"الظلم الاجتماعي" و"الانحراف الأخلاقي".
2)  كانت معركة الأنبياء هي السعي نحو تبليغ أقوامهم والوصول إلى فئات واسعة ولهذا كانوا يحثون "حوارييهم" و"صحابتهم" على مساعدتهم في مهمة البلاغ (بلغوا عني ولو آية ... إلخ). وذلك حتى يتمتع الناس بعروض عقائدية ودينية متنوعة، بما يُمَكنهم من الاختيار.
3)  كانت دعوة الأنبياء والمرسلين تتجه أولا إلى ترسيخ العقيدة السليمة ولا تهتم أساسا بالتفاصيل السلوكية لأنها فرع عن أصل. فالعقيدة هي المعيار في الآخرة.
4)  كان السلوك منسجما مع العقيدة؛ فحينما يؤمن الفرد ب"الأسطورة" (=الشرك، الخرافة، الشعوذة... إلخ) ينتج عن ذلك سلوك معين قد يقبل من "السيد" أن يمارس الرذيلة. ولكن بمجرد أن يؤمن ب"التوحيد" ينخرط تلقائيا في المنظومة التربوية التي تُوَحد الله وتوحد الناس في المنشأ والمحاسبة والمصير والتكاليف، ولهذا الرذائل محرمة على الجميع.

أما اليوم فالوضع يختلف تماما؛ على مستوى "التقابل" الكائن، على مستوى معركة الزمن الراهن أو واجب الوقت، على مستوى دور التصدي للتوجيه والإرشاد. ولهذا أخطأ الشهيد سيد قطب بل في الحقيقة أخطأت الحركة الإسلامية كلها (ليس كأفراد بل كفكرة) في تقدير مقدار "المماثلة" بين دعوة الأنبياء والدعوة الإصلاحية الجديدة المنبعثة في القرن العشرين مع الشهيد حسن البنا.




...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




فوجئت، ونحن في نقاش جماعي، بأخت فاضلة مازالت تدعو إلى تنظيم "جولات دعوية" لثني الشباب والشابات الذين يتسامرون عن فعلهم. لعل هذه المسألة دالة وقد تدفعنا للإطلالة على نقاش أعمق يتصل بكنه التدين ودلالة الالتزام بالأخلاق.
لنفترض جدلا أن الفتى والفتاة قد انصاعوا للقائمين على "الجولة الدعوية" وعدلوا عن السمر استجابة ل"موعظة" و"نصيحة" و"دعوة" الدعاة. هل عدول الفرد عن سلوك معين خوفا أو خجلا من "بشر" أو "مجتمع"، سيفيده في ميزان الآخرة؟ هل معيار "التقوى" صار يعنى به "تقوى المجتمع" أم "تقوى الله جل وعلا"؟
 لست أدري كيف أن هؤلاء الدعاة، رغم كل التجارب والخبرات التي راكموها بعد مسار طويل في "الدعوة"، لم ينتبهوا إلى أن الأفراد الذين يوجه إليهم "النصح" وتلقى على مسامعهم "المواعظ" خاصة منهم الذين بلغوا 20 سنة أو أكثر، يعرفون جيدا مضامين النصيحة بل يتقنون أحيانا تدبيج المواعظ وصياغة الإرشادات.
لست أدري كيف أن هؤلاء الدعاة، لم ينتبهوا يوما إلى أن الفرد من شبه المستحيلات أن تتغير حالته أو تتبدل قناعته خاصة إذا تعرَض ل"الإهانة" و"الإحراج" أمام الملإ.
لست أدري كيف أن هؤلاء الدعاة، لم ينتبهوا إلى أن عدول الفرد عن سلوك أو مشهد في الفضاء العام تحت "الإكراه" أو بفعل "الإحراج"؛ لا يخدم قضية الدعاة الأصيلة أي نجاة الفرد في الدار الآخرة بمعنى الزحزحة عن النار ودخول الجنة، كما جاء في سورة آل عمران: (كل نفس ذائقة الموت وإنما تُوفون أجوركم يوم القيامة فمن زُحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز).
إن أهم شيء في الطريق إلى الآخرة، وهو ما ينبغي أن ينتبه له الحريصون حقا على نجاة الجميع في الدار الآخرة، هو "النيات" و"الإرادات" و"الدوافع" و"القصد" ... إلخ.
إن من يفكر بمنطق "الجولات الدعوية" للتقليل من بعض المشاكل "الأخلاقية"، يسقط من حيث لا يدري في توجيه "إرادة" الناس نحو الاستجابة لمطالب "الدعاة الميدانيين" إرضاء لإرادة "الدعاة" (=جزء من المجتمع).
فالأمور التي يكون الفرد مجبرا أو مُحرجا على أدائها تكون النية من وراء الاستجابة للتوجيهات الأخلاقية فيها موجهة لإرضاء المجتمع (=الدعاة) وليس لإرضاء الله جل في علاه.
للتوضيح أكثر: قد يحدث أن يكون الفرد صابرا على الجوع طيلة اليوم (من الشروق إلى الغروب)، وقد يكون ذلك راجعا لعدة أسباب: أولا؛ قد يكون صاحبنا فقيرا، ليس لديه ما يقتات عليه طيلة اليوم. ثانيا؛ قد يكون صاحبنا قاطنا مع جماعة من الناس صاموا ذلك اليوم انطلاقا من إيمان يحركهم بأن الصوم وسيلة للتقرب إلى الله، فتحرج صاحبنا من الأكل فصبر على الجوع طيلة اليوم إلى أن حان وقت تناول الفطور بشكل جماعي بعدما مالت الشمس إلى المغيب.
إذن، نحن أمام صوم (=صبر على الجوع من الفجر إلى المغرب) ولكن إما تحت "الإكراه" (الفقر) وإما تحت "الإحراج" (العيش مع جماعة من الأفراد الصائمين). هل يفيد هذا الصوم الفرد في الآخرة؟ طبعا، لا ندري علم الغيب عند الله. ولكن، لا أحد ينكر بأن الأعمال كلها، وضمنها الصوم، أساس النظر إلى مقبوليتها هو الباعث على القيام بها. وقد تبين أن بواعث الفرد في كلا الحالتين ليس فيهما باعث "إرضاء الله".
هكذا يبدو أن كنه التدين ودلالة الالتزام الأخلاقي لا وجود لهما خارج الحرية. فحينما يتحرر الإنسان من القيود المادية (الفقر، السجن، التعذيب، الإكراه) والقيود المعنوية (الإحراج، الإهانة، السخرية) آنذاك يكون لأي سلوك يقوم به طعم.

قد يقول قائل: إن وجود القيود مسألة حتمية، فلا وجود لحياة مثالية. قد نتفق! ولكن الذي لا يمكن سوى أن نعترض عليه هو إسهام "الدعاة" في توسيع دائرة القيود وتحريف الإرادات وتغيير وجهة النيات. لأننا نريد صدقا أن يتم إنقاذ الجميع في الدار الآخرة!
يقول الاشتراكيون: لا حرية مع الفقر! ويقول الليبراليون: لا حرية مع القهر!
ويلزمنا أن نقول أيضا: لا تدين بلا تحرر من الفقر والقهر!


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




يأتي على الناس زمن فينسون فيه الأصل ويطمسون فيه عقد الازدياد. ربما سبب ذلك هو شعور يساورهم، فيحاولون إخفاءه ويحاولون استبعاده كلما حل شبحه في مخيلتهم: إن لحظة توثيق عقد ألازدياد كانت لحظة ارتجال وكانت مغامرة مفتعلة بامتياز!  
ليس عيبا أن نرتجل في لحظة ما، إذ أن محطات الحياة غنية بالدروس التي تفيد أنه لولا الارتجال في البداية ولولا المغامرة الأولى ما وصل الإنسان إلى وصل إليه. ولحظات الارتجال الأولى قد تلد مشاريع كبيرة تتمدد شعبيا وتتضخم على أصحابها.
ما هي الحركة الإسلامية؟
إنها ثمرة لموجة سرت في أوساط مجموعة من الناس مفادها أن الإسلام لم يأت ليقبع في الضمائر والقلوب ولا ليبقى رهين الشعائر والطقوس؛ إنه جاء ليهيمن على الحياة، ليكون سيد الاقتصاد وضابط الاجتماع وموجه السياسة. قد يطلق على شعار الحركة: "الاسلام هو الحل"، وقد يخفف هذا اليقين إلى وصفة: "الإسلام هو الهدى". ولكن الجوهر واحد هو أن الإسلام لا ينبغي أن يُحصر شعبيا في المساجد ولا رسميا في الأوقاف.
إن الحركة الإسلامية هي قطب جذب للناس نحو "واجب"، قد يُختلف في حقانيته ولكنه على كل حال "واجب" بالنسبة للمؤمنين به، هو "إخراج الإسلام إلى الحياة العامة" بدل الركون إلى "واقع" عنوانه الأبرز: "اكتفاء الإسلام بالحياة الخاصة للأفراد: العقائد والشعائر والمساجد".
السؤال الجوهري: إلى أي حد الحركة الإسلامية، اليوم، وفية لعقد ازيادها وفكرتها الأساس؟
قد تتحدث الحركة الإسلامية عن المراجعات، ولكن مفاد المراجعات هو الوفاء الضمني لعقد الازدياد واستعادة متجددة للأصل. والمراجعة هي نقيض القطيعة على كل حال. إذن، محاكمة سلوك الحركة الإسلامية إلى عقد ازديادها يبدو أمرا مشروعا بل مطلوبا للاستيقاظ من الغفلة السارية.
أبرز فكرتين تطويان أعمال ومناشط وشعارات إحدى الحركات الإسلامية المغربية، في العقد الأخير بعد "المراجعات"،هما: أولا؛ الانخراط في معركة التدافع من أجل القيم. ثانيا؛ ترشيد التدين.
يبدو أن "الانخراط في معركة التدافع من أجل القيم" هو محاولة، على مستوى الخطاب على الأقل، للوفاء بمقتضيات عقد الازياد بصيغة تعبيرية تلائم الوضع الجديد فيما يخص حضور الإسلام على مستوى الاجتماع والاقتصاد والإعلام والسياسة. ومن المفيد الإشارة إلى أن ما كان يطلق عليه في السابق "الشريعة" وضرورة تطبيقها، حل محله عنوان جديد هو "القيم"، فجدلية الفكر والممارسة قادت "العقل الإسلامي" إلى الانتباه إلى استعصاء: إغلاق الحانات والخمارات، أو فرض الشرطة الأخلاقية على الشواطئ، أو إغلاق البنوك، أو وقف الإشهارات، أو حظر كازينوهات القمار، أو استدعاء العقوبات الجنائية المنصوص عليها في القرآن ... إلخ.  
أما "ترشيد التدين" فهو منحى جديد يعبر عن تحول عميق ينبئ بان هناك تقابلا جديدا في "العقل الإسلامي" (=فكر الحركة الإسلامية) ينظر به إلى "العقل المسلم" (=فكر المجتمع المسلم). فبعد أن كان مبرر الوجود والاستمرار هو دفع الناس إلى الإيمان بأن الإسلام ليس "شعيرة" فقط بل هو "شريعة" أيضا. صار التقابل الجديد هو بين "العبادات" التي قد يجتهد الناس في أدائها في غفلة تامة أو جزئية عن الإحسان في "المعاملات".  
إذن، لا يمكن أن نعتبر الحركة الإسلامية خائنة لميثاقها الأول غير المكتوب، لأن القناتين الجديدتين اللتين اختارتهما لتصريف مبرر وجودها "سيادة الإسلام على الحياة" لا غبار عليهما من ناحية الشكل. ولكن من ناحية المضمون هناك محدودية في الأفق لسبب بسيط هو أن الناس الذين فكروا في القنوات الجديدة لتصريف الشعار، انطلقوا من الممارسة التي بينت لهم استحالة القنوات الأولى (= تطبيق "الشريعة" على مستوى الدولة و"الشعيرة" على مستوى المجتمع).
أما من سيملأ القنوات الجديدة بمضمون عامر وعميق، فيحتاج إلى أن يقرأ الميثاق الأول جيدا قراءة نقدية ثم عليه أن يستوعب ثانيا التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية الطارئة بعد لحظة الميلاد سواء في بعدها المحلي والعالمي أو في بعدها الفلسفي والديني.. وإلا فإنه سيكرر نفس الأخطاء الأولى. وللأسف، هذا ما وقع!
إن الخلاصة التي سينتبه لها من استوعب روح فكرة الحركة الإسلامية، أي الخروج من هموم "الواقع" الفردية الذاتية إلى رحابة هموم "الواجب" الكبيرة وذلك بالعمل المتواصل على إشاعة نَفَس الإسلام في كل أرجاء الحياة، هي أن المراجعات التي قامت بها قيادة الحركة لتكييف مقتضيات عقد الازدياد مع المستجدات والتحولات كانت وفية على مستوى الشكل: القناة والهيكل والشعار ... إلخ. ولكن المضمون وطريقة تنزيله من طرف أبناء الحركة فيهما شلل لا يوصف!  
أخاف أن أقول اليوم: إن فكرة الحركة الإسلامية تقودنا إلى التسليم بأنها؛ "حركة مستحيلة"!
قد تكون موجودة وقائمة وذات هيئات منعقدة وأوراق وأدبيات منشورة، بل قد تتلقى التهاني والتبريكات بأنها صاحبة تجربة استثنائية. ولكن "الواقع" الذي يقرره أبناؤها، لا غيرهم، يذهب إلى هذا المذهب.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



يعيش الإنسان جدلا مستمرا: بين "الواقع" و"الواجب"، بين "ما هو كائن" و"ما ينبغي أن يكون"،  بين "المصالح" و"المبادئ" ، بين "المنفعة" و"القيم"، بين "الغنيمة" و"العقيدة"، بين "الطبيعة" و"الثقافة"  ... إلخ. قدَرُه أن يكون هذا الجدل محتدما ودائما. قدره أن بنية تكوينه مزدوجة؛ يشده بُعدها الطيني المادي الطبيعي إلى "الواقع" بكل حمولاته المنحدرة، وتعيده الإشراقة الروحية العميقة إلى الآفاق والمعالي الرحبة.
ويتخذ "الواجب الإنساني" عناوين متعددة: الشريعة، الإصلاح، الديمقراطية، الحرية، الكرامة، العدل، النظام، الوفاء، العفة ... إلخ، تختلف حسب اختيارات الإنسان وتحيزاته الوجدانية والمعرفية. بينما يلح "الواقع الطبيعي" على طبيعة الإنسان الطينية الضاغطة التي لا تفارق طبائع الكائنات التي تعيش في الطبيعة المفتوحة: الاستماتة من أجل "الغذاء" بأي ثمن، ممارسة "الجنس" بلا معيار، اقتراف الجرائم في حق الناس بلا ضابط من ظلم وعنف لفظي أو مادي، التوحش والطغيان والاستئساد ... إلخ.
غالبا ما ينصرف "الواجب" إلى مسائل معنوية داخلية جوانية غير محسوسة مثل: الدين، الحرية، الكرامة، التضحية ... إلخ. بينما يتجه "الواقع" صوب فوائد ملموسة من ناحية "اللذة": الغذاء، الجنس، السلطة (التحكم).
يعاني الإنسان في الحياة بحثا عن التوازن بين الوفاء للواجب والاستجابة المشروعة للواقع. ومن الوسائل الكفيلة بجعله يرتفع عن "الواقع" وينجذب نحو "الواجب": الانتماء إلى الحركات الاجتماعية.
كل الحركات والتيارات والأحزاب والتنظيمات والتوجهات التي تنبثق من رحم الناس (=المجتمع) في أي بقعة من بقع الدنيا، والتي لم تُفرض من جهات "فوقية" ولم تخضع لإملاءات "عليا" في نشأتها، لا يمكن أن تكون إلا ملتقى لحماية ورعاية "الواجب"، أي واجب، لأن الناس لا يمكن أن يلتئموا هكذا بدون توجيه معين إلا إذا أحسوا بأن هناك خطرا محدقا ب"إنسانيتهم" من اللازم القيام بخطوات عملية لمحاولة صيانتها.  
ولكن الحاصل هو أن أصحاب "المصالح" الكبرى و"اللوبيات" النافذة محليا وعالميا يحاولون دائما اختراق أي تجمع شعبي أو أي نسيج اجتماعي بهدف توظيفه في معارك "قذرة" وذلك لتزييف وعي الناس وتفجير حروب هامشية صغيرة وأفقية بين التشكيلات المختلفة النابعة من رحم المجتمع والتي وُجدت كلها لخدمة عقائد ومبادئ وقيم مختلفة تصب في خدمة إنسانية الإنسان (دينا، ولغة، وحرية، وكرامة ... إلخ).
 وهي استراتيجية مكشوفة لإلهاء الناس عن المعركة الكبرى في الحياة؛ أي محاولة الوفاء ـ قدر المستطاع ـ للواجب الإنساني. والطريق إلى ذلك معروف وهو: استمالة مكونات داخل ذلك التجمع البشري (=الحركةالاجتماعية/الحزب السياسي) وإغواؤها وإغراؤها ب"غنائم" و"مصالح" حتى تقوم بأدوار أخرى تشوش بطريقة ذكية على الوظيفة الاساس التي خُلق من أجلها التجمع البشري.
لهذا إذا عدنا إلى الاتجاه العام للتنظيمات في زمن ولادتها نجد أنها بالفعل لم تأت إلا لخدمة قضية عادلة، وقد يحدث أن تكون محاميا فاشلا لها. ولكن معظم الحركات الاجتماعية، على اختلاف ألوانها، تعتبر محضنا خصبا للناس الذين يحاولون الوفاء "الواجب". وقد يحدث أن يكون التطرف سيد الموقف، وهو الغالب في بدايات الحركات، حيث يكون الفرد مشحونا بفكرة "خدمة الواجب" فيغالي في استعداء "الواقع" و"استبعاده" من جملة الحسابات، رغم أن الواقع ملازم للإنسان لأنه جزء من بنية تكوينه المزدوجة.  
إن الحركات الاجتماعية التي تعانق قضية مبدئية من القضايا المتصلة بالناس (الدين، اللغة، الكرامة، العدالة ... إلخ) هي مدارس لمساعدة الفرد على الوفاء ب"واجب" من "الواجبات" والسمو قليلا عن الواقع الطبيعي الذي يصر باستمرار على جذب الإنسان إلى الاكتفاء ب: المهنة ذات الدخل المريح فقط، والزوجة الحسناء فقط؛ لتغطية مطالب الجسد (غذاء وجنسا) في أفق تربية الأبناء على الاندماج في نفس المنظومة والسعي نحو التماهي مع "الواقع" والاستجابة لذات المطالب فقط.   
إن أمراض الحركات الاجتماعية والتجمعات البشرية معروفة ومشتركة وأبرز عنوان لها هو الانغلاق. ولكن أمام هجمة "الواقع" و"الطبيعة" و"المادة" و"الرخاوة" و"الخمول" ليس أمام الفرد إلا البحث عن وسائل تخفف من وطأة هذا الواقع وتقذف به في مسار خدمة "الواجب"؛ والانتساب إلى هموم إحدى الحركات الاجتماعية، على مساوئها، أفضل من الانتساب إلى هموم الواقع فقط.
على كل حال، هذا مقترح أثبت التاريخ جدوائيته نسبيا؛ الحركات الاجتماعية تساعد الفرد على تحريك معادلة "الواقع" و"الواجب"، بالتأكيد لا يمكن لها أن تقوم بموازنة معادلة صعبة من هذا الطراز، معادلة تختزل قصة معاناة الإنسان على الأرض.

بكلمة، الانتساب إلى حركة اجتماعية وسيلة، تنضاف إلى وسائل أخرى أهمها "القراءة"، تُقرب الإنسان من هموم "الواجب" بعدما غرق في هموم "الواقع".

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



 إذا كان الناس في العالم القديم يؤمنون بأن محور الصراع هو "العقائد"، لأن ما يحرك الإنسان هو الحق والغيرة على مكانته. وإذا كان العالم الحديث قد أثبت أن ما يفجر الصراع "الحتمي" بين الناس هو "المصالح". فإن إصرار بعض الجماعات الإنسانية على الإيمان "الدغمائي" بعقيدة ما كيفما كانت، بل وتمسكها بالنظر إلى اليافطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على أنها مجرد أقنعة يتخفى وراءها أصحاب عقائد معينة يريدون لها أن تشيع وتسود لوحدها.  
إن هذا الإصرار هو الذي قام بتوليد مفهوم "الإيديولوجيا" بدلالاته السلبية. لأن المفهوم قد ينطوي من ناحية على مدلول إيجابي يرمز للإيمان بعقيدة وفكرة وقضية ورؤية وهي أمور لا بأس عليها إجمالا شريطة أن تسمح لصاحبها بمساحة معتبرة للتهوية الفكرية وتوسيع دائرة الإدراك والنظر بنسبية إلى الذات وبإنصاف إلى الأفكار الأخرى. ولهذا فالمقصود هنا ب"الإيديولوجيا" هو الدال الذي يدل على مدلول قدحي يشير إلى: الوعي المزيف والمقلوب.
إن من يؤمن اليوم بأن الصراع بين الاحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والدول المجاورة والقوى الدولية هو صراع على قاعدة تعارض المبادئ والقيم والأفكار والعقائد يوصم من طرف من تشرب ذهنية العالم الحديث بأنه حامل لإيديولوجيا. ماذا يعني هذا الكلام؟
بمعنى أن الفرد قد يعتبر نفسه مؤمنا بفكرة ومدافعا عنها بقوة، بينما هو في الحقيقة يعبر عن مصلحة مادية ملموسة في صورة فكرة. بعبارة أخرى، إنه يقول شيئا غير مطابق للواقع إطلاقا. إنه الوعي المزيف أو الفكر المقلوب.
إن هذا التحليل هو الذي كان مفرق الطرق بين الحركة الإسلامية زمن الـتأسيس وخصومها من اليسار بالذات. طبعا، أبناء الحركة الإسلامية كانوا في غفلة مطلقة عن مفهوم "الإيديولوجيا". بينما، اليسار كانوا واعين بدلالات المفهوم، وكانت قياداتهم الفكرية بالخصوص واعية بأن عائلة اليسار تحمل "إيديولوجية واعية" مناضلة وتقدمية. كيف؟
حركة اليسار وعت منذ البداية بأن الصراع اجتماعي هو قائم بالدرجة الأولى بين الطبقة أو الجهة المستغلة (بكسر الغين) والطبقة أو الجهة المستغلة (بفتح الغين)، وبالتأكيد كانت الجهة المستغلة هي (الدولة) والجهة المستغلة في مقدراتها هي (المجتمع). ولهذا فهي حركة تحمل إيديولوجية واعية أي غير مزيفة لأنها استطاعت أن تنفذ إلى طبيعة المعركة القائمة. وهي إيديولوجية مناضلة وتقدمية لأنها أولا تنبه المناضلين المؤمنين بها بحقيقة الصراع، كما أنها تشحذ هممهم من جهة ثانية للنضال للحد من استغلال (الدولة) وذلك من أجل بناء مستقبل متقدم موسوم بالعدل والمساواة.
أن يكون اليسار وفيا لأهدافه الأولى فتلك قضية أخرى، سيجيب عنها التاريخ الذي كُتب البارحة ويكتب اليوم وسيكتب غدا.
في المقابل، كانت الحركة الإسلامية تدعو إلى عقيدة التوحيد ومقتضياتها "التشريعية"، وكان تصورها منحصرا في أن الجميع يخاصم هذه العقيدة بدء من (الدولة) وصولا إلى (اليسار). لننظر كيف كان ينظر اليسار الذي يظن أنه أدرك مرامي "الإيديولوجيا" إلى الحركة الإسلامية.
من الواضح أن الحركة الإسلامية تُعَرف نفسها في البداية بأنها تشكيل جمعوي جاء لصيانة بيضة العقيدة في عالم لا يريد لهذه العقيدة أن تعيش وتكون بله أن تسود. انطلاقا من هذا الخطاب تمكنت الحركة الإسلامية في ظرف قياسي من جذب العديد من الشرائح المجتمعية إلى دائرتها.
بالتأكيد، كان اليسار يرى في الحركة الإسلامية حاملة لإيديولوجيا رجعية وذلك من ثلاث نواح: أولا؛ لأنها تنشر تفسيرا للتاريخ يرجع إلى العالم القديم. ثانيا؛ لأنها تقوم بتهديد العمق الاجتماعي لحركة اليسار بخطابها "الشعبوي" و"العاطفي" الرجعي. ثالثا؛ لأنها تنشر وعيا مقلوبا ومزيفا في وسط قواعدها حينما تشير إلى أن غاية القيادة هي نشر العقيدة ومقتضياتها لا غير، في حين أن ما يحرك القيادة هي مصلحة مادية واضحة هي طلب السلطة وذلك عبر تكثير سواد الحركة بالأتباع والأنصار الذين يمكنهم الانقلاب المباشر على (الدولة) أو التحول إلى حزب سياسي سيفوز حتما بالسلطة في الانتخابات أو عبر لعب دور الجماعة الضاغطة التي تبتز السلطة لتيسر لها مصالحها وبرامجها ومخططاتها.
ولهذه الاعتبارات، دأب اليسار على اتهام الحركة الإسلامية باستغلال الدين في السياسة.
والخلاصة هي أن اليسار يعتبر أن الحركة الإسلامية تشكيل اجتماعي لا يدافع عن عقيدة وإنما جاء للتعبير عن مصلحة مباشرة (السلطة). ولهذا قد تجد جزءا من اليسار لا مشكلة له نهائيا مع العقيدة، وقد تجد جزءا آخر سقط في فخ ردود الأفعال المتطرفة فصار عدوا للعقيدة.
ولكن، ما يهم هنا هو أن ننتبه إلى أن اليسار لم يقم ليقف ضد العقيدة. نعم هو يقوم بأعمال أخرى خارج إطار العقيدة، لأن العقيدة حسب تحليله للواقع خارج التناقض الحقيقي اللهم إذا كانت موَظفة من طرف المستغلين لتكريس واقع الاستغلال بطريقة رجعية. باختصار شديد، العقيدة لم تشكل لليسار مبرر وجود، بل هي مستقلة عن مجال اشتغاله (دائرة الصراع الاجتماعي) وليست مناقضة له. فاستقلال مجال الاشتغال؛ لا يعني الفصل ولا يعني التقابل كما لا يعني الوصل ولا يعني التطابق.
وكلما انتبه اليسار إلى أن الحركة الإسلامية توظف العقيدة لأغراض "رجعية" تصب في خدمة الاستغلال والجهة المستغلة (بكسر الغين) أي (الدولة) عبر نشر مزيف يؤخر مسيرة التحرر؛ تظهر النزوعات المتطرفة في الضفة الاخرى التي تدعو إلى استئصال هذه العقيدة أو على الأقل إهمالها في أفق موتها.  
لنختم ما قيل: كَشَف الدرس الاجتماعي الحديث والمعاصر على أن العالم الحديث مبني في بنيته على الصراع حول "المصالح". غير أنه في ظل هذا العالم ظهرت حركات تقدم نفسها على أنها حاملة ل"عقائد" و"مبادئ". لم يصدقها الخطاب المهيمن فاعتبرها حركات حاملة ل"إيديولوجيا": بمعنى أنها تقدم نفسها على أنها في خدمة عقيدة في حين أنها في خدمة مصلحة. والحركة الإسلامية ضمن تلك الحركات التي اتهمها اليسار زمن الولادة بهذه الاتهامات لأنه ينهل من الدرس الاجتماعي المعاصر ويعي جيدا دلالة الإيديولوجيا.
هل هذا صحيح؟
طبعا، اليسار ينطلق في مجمله من تصور أحادي مادي يعتبر أن اتهاماته محققة وأن التاريخ قد أثبت صحتها. بينما الحركة الإسلامية التي تنطلق في مجملها من تصور أحادي غير مادي تعتبر اليسار عدوا للعقيدة ومحاربا للدعاة إليها ومهاجما للعاملين على نشرها، لهذا فهو لا يريد لمقتضيات العقيدة (أي الشريعة) أن تعرف موقعا مرموقا ضمن الحياة التشريعية ولهذا فهو يكيل تُهم استغلال الدين في السياسة ويدعو إلى فصل السياسة عن الدين.
يبدو أن التصور المركب عن الحياة الذي ينطلق من أن الإنسان ذو تكوين مزدوج قد يدفعه الإيمان بالعقيدة في بداياته إلى التسامي والفناء في قضيته الأولى، ولكن سرعان ما تتجاذبه جواذب الطين والمصلحة والمادة والسلطة ... إلخ. وهكذا أبناء الحركة الإسلامية المتشربين لفكرتها؛ لا ينبغي أن ننكر عنهم الصدق في الإيمان والدعوة إلى عقيدتهم، بقدر ما لا يمكن أن ننفي عنهم انشدادهم إلى السلطة وماديات الدنيا.


من المفيد الإشارة إلى أنه لا وجود اليوم لليسار أو للحركة الإسلامية بالمعنى المذكور والرهان المشروح في الأسطر أعلاه. إنما هو صراع تاريخي، اقترحنا أن نفتحه لنكتشف مضمون مفهوم "الإيديولوجيا".   

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



إن بناء أي تصور عام عن الحياة لا بد له من أن ينهض على مقدمات/فرضيات. وإذا تبين ان العالم ذهب ضحية تصورات أحادية لقرون وقرون، فإن المخرج سيكون لا محالة انطلاقا من بناء تصور مركب يؤمن بالواقع الموضوعي كما هو ولكن بسعي دائم نحو الارتقاء منه والارتفاع عنه.
إن التصور المركب؛ من المفترض ان يستند إلى المنطلقات الآتية:
ـ إن الإنسان كائن مزدوج التكوين تشكل المادة (الطين) لحمته وسداه كما تعبر روحه عن جوهر أشواقه ولب غاياته وسر حياته وعمق وجوده.
ـ إن الطبيعة الطينية (المادية) للإنسان تجعله منتسبا إلى بقية الكائنات الموجودة في عالم الطبيعة، بينما جوهره الروحي يجعله منتميا إلى عالم مفارق راغب عن الاستكانة لجواذب الطين وهواتف المادة.
ـ إن الطبيعة المادية للإنسان تثقله بضغطها وتستقدم معها تقاليد عالم الطبيعة إلى حياته فتراه مندفعا إلى التصارع من اجل الغذاء ومستكينا إلى الاستجابة لنداء الجسد بلا معيار.. أما الطبيعة الروحية فتشده شدا إلى عالم التأمل والإدراك والفهم والتعمق وتقفي أدبار الأفكار وصياغة العقائد ومحاولة البحث عن القيم التي لا تبلى مع الزمان.
ـ إن ازدواجية تكوين الإنسان تحيل أساسا على حيرته المستمرة وتقلبه الدائم بين الخضوع لطبيعته المادية كما هي أو النزوع نحو الحياة كما ينبغي ان تكون على مقاس القيم والعقيدة والأفكار والتأملات.
إن أكبر تحد يفرضه الإيمان بهذا التصور هو مدى قدرة الإنسان على ملء المسافة الكائنة بين رغباته المادية المتجذرة وأشواقه الروحية العارمة.
إن الإنسان يميل إلى الاغتناء وحيازة اموال الدنيا بحكم طبيعته المادية، ولكن عالمه الروحي يدفعه نحو التسامي والزهد والقناعة والعفاف.
إن الإنسان يميل إلى العدوان والحرب والصراع بموجب طبيعته المادية الشبيهة بطبيعة الكائنات التي تعيش في الغابة، ولكن عالمه الآخر يطالبه بالصبر وكف الأذى وتغليب منطق التعاون والرفق والتسامح.
إن الإنسان يميل إلى الركوع أمام نداء الجسد فيندفع نحو تصريف الطاقة الجنسية كيفما اتفق وعبر أي قناة تماما مثلما تفعل الكائنات التي تعيش في الطبيعة المفتوحة، ولكن الإنسان بفعل هواتف الروح يؤنبه ضميره ويفكر في تصريف طاقة ضاغطة عبر القنوات المشروعة.
يبدو أن معركة كل فرد هي تغليب الأشواق السامية والقيم السامقة على الطبائع الجاذبة والتكوين المادي الجاف. إنها معركة حقيقية: كيف يكون الفرد نبيلا وصادقا ومتواضعا وعادلا ورحيما ومتسامحا وكريما ...؟
 إن النبل والصدق والعدل والرحمة والتضحية والتسامح والكرم والتواضع وغيرها من القيم والأفكار والأشواق كلها من نتاج عالم الروح. فنحن بصدد عالم -لا كما يصور في الكتابات الدينية واللاهوتية التقليدية- هو مفجر الأسئلة في ذهن الإنسان وحاميه من البلادة الواطئة ومنشط الهموم ومحرك التأملات ودافعه إلى السعي نحو الفهم والإدراك، وذلك حسب أعمق التفسيرات التي طالت الآيات القرآنية التي تحدثت عن دلالات النفخة الروحية الربانية في الطين.  
إن قضية الوفاء ل"ما ينبغي أن يكون" سائدا في حياة الإنسان من القيم والأفكار من: النبل والصدق والعدل والرحمة والتضحية والتسامح والكرم والتواضع ... إلخ؛ هي أم القضايا التي ينبغي ان تلاحق كل فرد على الدوام.
ولكن على صعيد المجتمع ثمة حكاية أخرى. يبدو أن المطلوب ابتداء هو الاعتراف بطبيعة المجتمع البشري كما هي: الصراع من أجل صيانة مصالح الغذاء (رؤوس الأموال، منابع الريع، السلطة السياسية بصفتها ذات عوائد مادية محترمة وذات فوائد أمنية تُحصن صاحبها ... إلخ). وبعد ذلك، ينبغي تدبير الصراع الاجتماعي والسياسي بالأدوات العقلانية (=الديمقراطية، الانتخابات، التداول السلمي على السلطة، آليات الرقابة، القضاء النزيه، إحداث المجالس العليا للحسابات، الصحافة المستقلة ... إلخ).
وهذا لا يمنع أنه بالموازاة مع ذلك، يتم العمل على تربية الافراد منذ نعومة أظافرهم على الانشداد إلى "ما ينبغي أن يكون"، أي إلى قيم القناعة والأمانة والصدق والارتباط بالأفكار والقيم ولم لا الاتصال بمتطلبات الدار الآخرة!
إن التصور المفيد لحياة الإنسان يذهب إلى أنه لا بد من الاعتراف بأن هناك عالمين يتنافسان على الإنسان: عالم طيني مادي، "ما هو كائن"، يشد الإنسان إلى الترسب، إلى التسفل، إلى الهبوط، إلى الركود، إلى الهمود، إلى الخمود، أي إلى كل ما هو دُون. وعالم روحي متسامي، "ما ينبغي أن يكون"، يشد الإنسان إلى السمو، إلى الرقي، إلى الشموخ، إلى التحليق في أجواء الصفاء والنقاء والقيم والافكار.

إن معركة الفرد هي البحث عن السبل الكفيلة بموازنة تلك المعادلة الصعبة من دين وتفكر. أما معركة المجتمع فهي الاعتراف أولا بطبيعة البشر كما هي والانتقال إلى سن (القوانين) الكفيلة بضبط النزوعات الطاغية على البشر، إلى جانب الحرص على تربية الأفراد على تهذيب طبائعهم والاقتراب من الأشواق الإنسانية السامية.


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





التصور المادي "ألأحادي" هو الذي ينطلق، في دراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية بشكل عام، من مسلمة بارزة هي أن أصل كل الاشياء في الكون يرجع إلى المادة. وبالتالي، فالإنسان أيضا كائن لا نوازع له خارج إطار المادة.  ماذا يعني هذا الكلام المجرد؟
باختصار؛ إن ما يحرك الإنسان، حسب التصور المادي "الأحادي"، هو المنفعة والمصلحة الذاتية أوالفئوية الضيقة. ما يعني أن أي سلوك اجتماعي/سياسي يقوم به الإنسان فهو لا ينبع إطلاقا من الاستجابة لمضامين "العقيدة" أو جواذب "الفكرة" أو أشواق "المبدأ" أو سحر "الحق" ... إلخ.
إن الإنسان يتحرك دائما تحت تأثير البحث عن l’utilité optimale بلغة الاقتصاد السياسي. إنه يسعى إلى صيانة مصالحه بأي ثمن، ومن ثَم فإن حياته الاجتماعية ستكون مسرحا لصراع لا ينتهي.
يبدو أن الغلط الذي يسقط فيه نقاد هذا التصور المنعوت ب"المادي الأحادي" هو افتراضهم أن أصحابه يريدون تكريس صورة إنسان غير مفارق لعالم "الطبيعة" و"الغابة" تحكمه قوانينها: الصراع الدائم حتى الموت، الاستماتة الجنونية من أجل لقمة العيش ... إلخ.
إن أصحاب التصور "المادي" لا يقومون بأكثر من رصد ووصف وتقرير لواقع الإنسان كما هو، لا كما ينبغي أن يكون. طبعا، قد يكون بعضهم جانحا إلى التطرف فيضع الفرضية العلمية في مقام النتيجة المعللة المبرهنة، ولكن من البديهيات أن الجموح سمة تطال خطاب بعض المنتمين إلى كل الأطياف والمناهج ولا تلغي في ذات الوقت النغمة العليا لأي منهج.
إن الذين ينعتون بأنهم "ماديون"، ليسوا كذلك لأنهم يحبون الاكتفاء بمحرك "المادة" في التحليل، وإنما لأن ما توصلوا إليه من خلال ملاحظاتهم التي تلاحق الواقع الموضوعي اثبتت لهم أن ما وراء تحركات الناس وصخبهم هو البحث عن "المنفعة" التي تتسم غالبا بطبيعتها ب"الندرة"، مما يحتم الصراع الاجتماعي!
على نقيض هذا التصور المادي، يسود تصور آخر يفترض بأن ما يحرك الناس هو عقائدهم وليس مصالحهم. هكذا يرى دعاة هذا التصور النقيض أن الصراع بين العالمين هو صراع مبني على الخلاف العقائدي والديني والثقافي. أي أن الناس يريدون إشاعة أديانهم وثقافتهم ومحو الاتجاهات الدينية والثقافية المقابلة، ولأجل ذلك يدفعون الأموال ويبذلون الأرواح.
هذا التصور "غير المادي" ينطلق من أن ما يؤطر سلوك الإنسان هو "الحق" وليس "المنفعة". والخلاف الديني والثقافي هو تعبير عن التفاوت القائم على مستوى تقدير طبيعة "الحق". ما يعني أن الإنسان يتخاصم مع أخيه الإنسان لأنه يؤمن بأن هناك "حقا" معينا يقتضي أن نتوجه إليه بالخدمة والرعاية والنصرة والدفاع ... إلخ.
طبعا المقصود بدائرة "الحق" هو عالم المُثُل والقيم والمبادئ والعقائد والأفكار ... إلخ. يختلف الناس، حسب التصور غير المادي للحياة، ويتصادمون فيما بينهم؛ لأن كل "جماعة من الناس" تحاول "الدعوة" إلى الإيمان ب"المبدأ" الذي تلتئم حوله، وتسعى إلى "التبشير" ب"المُثُل" التي تعتنقها، وتقوم ب"الدعاية" لأفكارها. وبالتالي، فكل جماعة "عقائدية" تهدد تلقائيا وجود الجماعة الأخرى. وبالتالي، ف"التدافع" هو ميسم الحياة حسب هذا المنهج.
 من المفيد التنبيه في هذا المقام إلى أن هذا التصور غير المادي هو بدوره منهج "أحادي"، ينطلق من منطلق وحيد في تصوير محركات الإنسان في الحياة تماما كما ينطلق التصور المادي الأحادي من جانب وحيد في الجهة المقابلة. كما انه من الجدير بالتنبيه ايضا أن القائمين على هذا التصور إنما ينطلقون من بعض وقائع التاريخ (الحروب الصليبية، مخططات الصهيونية المسيحية، الحروب الشيعية السنية ... إلخ)، أي ينطلقون "إلى حد ما" من واقع الإنسان كما هو، وإن كان هاجسهم هو ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان كذلك من: الاجتهاد في البحث عن الحق، نصرة الفكرة، الوفاء للقيم، الاستماتة من أجل صيانة بيضة المبادئ ... إلخ.

يبدو أن العالم راح ضحية التصورين معا. ومن المحقق أن التصور غير المادي الأحادي هو الذي كان سيد الموقف لقرون طويلة من مسيرة البشرية. واليوم صار التصور المادي الأحادي بدوره النغمة التي لا يشوش عليها أحد في القرنين الأخيرين لأنه تلفع بعباءة "العلم". 

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



في حوار صريح مع قناة أبو ظبي، على إثر تتويجه بشخصية العام الثقافية، أفصح الدكتور عبد الله العروي، أو المثقف العربي  الحداثي رقم 1 كما يحلو لبعض متتبعيه أن يلقبوه، عن جملة من الخلاصات الفكرية المبثوثة عبر كتبه العامرة، لعل أهمها:
 » الحداثة المادية؛ أي المتجلية في عالم المواصلات والاتصالات ... الكل يتفق مع وجودها وأهميتها بالنسبة لمجالنا التداولي. ولكن "الحداثة الوجدانية"؛ أي التي تختزن النظرة إلى الدين والعلم والإنسان والطبيعة والأخلاق والمشاعر والحياة ...، مازالت مرفوضة. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل بالإمكان تحصيل أسباب الحداثة المادية نفسها بدون امتلاك الإطار الفكري والذهنية التي صنعتها أي باختصار بدون الانغمار في بحر الحداثة الوجدانية «. يجيب الدكتور العروي قائلا: أشك في ذلك.
للإشارة، الحداثة المادية، ليست شيئا آخر غير ما يتحدث عنه السياسيون والمنتخبون والمواطنون من أهدافنا المشتركة التي تهُم مصيرنا الجمعي، تحت عنوان: التقدم، الازدهار، التنمية ... إلخ. 
يورد الدكتور العروي مثالا دالا بالنسبة لمجالنا التداولي، إنه تركيا. يومئ في حديثه إلى أن أسباب النهضة التركية تعود بالأساس  إلى تثبيت أركان الحداثة الوجدانية، ولو بشكل قسري، مع تركيا الكمالية.
فعلا، المثال الذي أورده العروي سيكون صادما للغاية بالنسبة لكثيرين. فتركيا الكمالية تعني: الحداثة على ظهر الدبابة! كانت تونس البورقيبية، على الأقل، شبيهة بالمثال السابق، ولكن التونسيين عادوا بخفي حنين من تلك التجربة، وامتلأت الزنازين بالمواطنين!  ولكن مهلا! فزرع أتاتورك "الوجداني" لم يحن حصاده إلا بعد وفاته بعقود وعقود. وهو ما لم يحصل بعد في حالة تونس.
طبعا، قد تكون تركيا المثال الوحيد الذي انطلق إلى "التقدم" من أضيق الأبواب: التحديث الوجداني القسري. وإلا فإن التجربة الأولى في النهوض، أوروبا، قامت بتحديث وجداني تدريجي، اضطلع به جيش من المثقفين والأدباء على مدار عقود بل قرون!
فلا غرو، إذن، في أن نجد الدكتور عبد الله العروي يفصح مجددا في حواره الأخير عن تحميله مسؤولية تقدم أو تعثر التحديث للمثقفين. إنه لا يلوم المسؤولين (الدولة)، لأنهم في نظره يتصرفون تحت إكراهات، وإنما يوجه اللوم لحملة الأقلام والأوراق بحرية تامة: إنهم المثقفون! 
إن هذا النقاش يختصر مشروع الدكتور عبد الله العروي، بل يكثف كل أزماتنا اليوم.
إن التقدم لا يشترط سوى قيام بنيان فيه الأرضية والطابق السفلي فقط:
ـ الأرضية: هي بناء الإنسان (=الحداثة الوجدانية، حسب العروي).
ـ الطابق السفلي: هو بناء العمران (=الحداثة المادية).
إن الحداثة المادية أو التنمية، التي ليست سوى العمران، تحتاج إلى فُرش وأرضية ووعاء لتكون قاصدة ومؤسسة وراسخة: إنه ورش بناء الإنسان الحامل لذهنية متوقدة نافذة إلى العمران الذي يستكمل شروط العصر ويخدم بانيه، أي الإنسان!
الأستاذ العروي يطرح أسئلة جوهرية عميقة ودقيقة حول محتوى ومضمون ورش بناء الإنسان، وينحاز مستنيرا بتجربته وخبرته إلى المحتوى الوجداني الحداثي. قد يختلف معه من له خبرة أخرى أثمرت نظرة مغايرة إلى طبيعة وعاء الحداثة المادية.
لكننا نحن اليوم شاردون عن السؤال أصلا، بله عن الجواب! وتلك طامة الطوام!
إن عناوين السياسة كلها إذا تجلت كما ينبغي، أي: إذا تشكلت حكومة نابعة من إرادة الشعب، وكانت السلط مفصولة ومتوازنة، وكان مبدأ "ربط المسؤولية بالمحاسبة" سيد الموقف، وكان القضاء نزيها، وكانت الصحافة سلطة رابعة في الحقيقة لا في المجاز فقط، وكان الحريات مكفولة ... إلخ. سيقل الفساد الذي كان يستقوي بالاستبداد، وسننوفر المال العام لنقوم ببناء المستشفيات الكافية وتوفير الادوية والمعدات المطلوبة، وتغطية كافة المداشر والقرى بالمدارس والثانويات، وبناء الأحياء الجامعية الإضافية ... إلخ.
كل هذا جميل ومنشود، ولكن كلما قيل يندرج ضمن ورش بناء العمران. إذا تحقق كل ذلك في غياب الإنسان، فلن نكون أفضل من الإمارات من حيث العمارات!
قد يقول قائل: إن السياسة تتصل كذلك بالتعليم والإعلام والمجالس العلمية وخطبة الجمعة، وهي آليات لصناعة الإنسان. طبعا نتفق، ولكن من كان غافلا عن الاهتمام بمضمون التدين المطلوب (ورش الإصلاح الديني) وبمحتوى الثقافة المتنورة (ورش الإصلاح الثقافي)، هل يمكن أن يقدم منتوجا مغايرا من حيث بناء الإنسان!
إن صناعة الإنسان (وجدانيا، دينيا وثقافيا) هو ورش مجتمعي بالدرجة الاولى، ينهض به المثقفون، ويعمل عليه كل المواطنون الذين يتفاعلون مع نصوص المثقفين في الحياة الاجتماعية. وهؤلاء المواطنون، إن ذهبوا إلى السياسة بزاد مقبول، كان عملهم على واجهة بناء الإنسان مقبولا على الأقل! فيستكملون بذلك الجهود المبذولة على صعيد المجتمع!
مهام: بناء الإنسان (الثقافة في أوسع معانيها)، وبناء العمران (السياسة في أضيق معانيها التدبيرية)؛ لا مجال للتأخر عنها على السواء. ومن العيب تسبيق مهمة على أخرى، لأنهما مهمتان متوازيتان. فمشروع النهوض بمثابة طائر لا يطير إذا فقد أحد جناحيه (الثقافة أو السياسة؛ الإنسان أو العمران).
نعم، نعرف تعثرا فاضحا في السياسة، ولكننا نتمتع بوعي متنام بذلك. بالمقابل، نشهد غفلة مريعة عن وعاء العمران أو السياسة: ورش بناء الإنسان، بدون منبه.

وحتى ننتبه، وننخرط في قراءة السؤال، يمكننا آنذاك فقط أن نفهم مرامي المؤرخ والفيلسوف عبد الله العروي.


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



يسود سؤال قابلية حزب العدالة والتنمية للانشقاق في المرحلة الحالية على النقاش العمومي الراهن. طبعا، خصوم الحزب سواء على المستوى العمودي (الدولة بمختلف أحزابها: حزب الداخلية، حزب الأصالة والمعاصرة، حزب التجمع الوطني للأحرار، حزب الحركة الشعبية، حزب الاتحاد الدستوري، والملحق الجديد حزب اتحاد لشكر) أو على المستوى الأفقي (فيدرالية اليسار الديمقراطي، حزب النهج الديمقراطي، جماعة العدل والإحسان، الحركة الأمازيغية) ينتظرون تلك اللحظة بفارغ الصبر وكل له مآرب في ذلك.
أكيد أن الخصوم الذين يقفون في الصف الأفقي سيسعدون لنهاية المصباح، لأنهم رهنوا نجاحهم بفشله: فنهاية العدالة والتنمية تدل على نهاية أوهام الإصلاح داخل المؤسسات، نهاية مشروع "الإسلام السياسي" في المغرب، نهاية الإصلاحية، نجاعة البديل الأمازيغي، نجاعة خيار الثورة ... إلخ.
الخصم العمودي (الدولة) سيسعد بضعف وهوان مشوش ذكي يقاوم باستماتة ولكن باستبصار. وهذا الخصم، على مدار تاريخ المغرب المعاصر، لم يترك حزبا قويا دون أن يسارع إلى إنضاج تناقضاته الداخلية وتفجير نقط ضعفه. 
لنتذكر أن حزب الاستقلال الذي كان يضم في فجر الاستقلال، حسب تقديرات لها اعتبار، حوالي مليون فرد من الأنصار؛ أثار طبعا حنق الدولة، فسارعت إلى تأسيس حزب الحركة الشعبية بزعامة عامل إقليم الرباط آنذاك لتقليص نفوذ الحزب في البوادي على الأقل وذلك سنة 1958. غير أن هذه الاستراتيجية مُنيت بفشل ذريع، فلجأت الدولة إلى تفجير التناقضات الداخلية داخل حزب الاستقلال (وهي: صراع الأجيال، وصدام الأفكار والمرجعيات) وذلك بتعيين أحمد بلافريج (الذي يمثل مرجعية معينة وجيلا محددا  من داخل الحزب) في ماي 1958 على راس على رأس الحكومة مع إضعاف حضور حزب الاستقلال على رأس القطاعات الوزارية الهامة. فسارع الأستاذان عبد الله إبراهيم والمهدي بنبركة إلى تنظيم محاضرات طيلة صيف 1958  لشجب التوجهات "المحافظة"  للحكومة، فسقطت في الأخير، وتولى عبد الله إبراهيم رئاسة الحكومة، فانشق حزب الاستقلال.
الدولة أعادت نفس السيناريو مع الحركة الاتحادية سواء في نسختها الأولى أو الثانية. ففي عهد حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قامت الدولة بتأسيس حزب "جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية" في مارس 1963 لعزل الخط الاتحادي بدون جدوى. فلجأت أخيرا إلى تعذيب بعض القادة النقابيين الاتحاديين (عمر بنجلون) بينما تساهلت مع آخرين (المحجوب بنصديق) وذلك لتعميق الهوة بين المنتمين إلى نفس الحزب، الأمر الذي تُوج بانفصال مجموعة الرباط عن مجموعة الدار البيضاء في 30 يوليوز 1972، وهي المجموعة  التي أسست لاحقا حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
العجيب هو أن الدولة كانت دائما تلعب  على نفس التناقض: انقسام الحزب إزاء قضية التعامل مع عروض الدولة وحول الثقة في صدقيتها. الدولة استدعت قائد حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ سنة 1974 (عبد الرحيم بوعبيد)؛ مر المؤتمر الاستثنائي بنجاح، استعاد الاتحاد في نسخته الثانية امتداده في أوساط الجماهير الشعبية، ولكن سرعان ما انفجر الصراع الداخلي بين اللجنة الإدارية والمكتب السياسي أنهك الاتحاد (كان سببا في استقالة الراحل محمد عابد الجابري من المكتب السياسي للحزب) وخُتم بانفصال رفاق عبد الرحمان بنعمرو الذين رأوا في السلوك السياسي للاتحاد انبطاحا زائدا وثقة مفرطة في دولة لا تهمها سوى مصالحها الفئوية!
الأعجب هو أن الدولة لا تغير وصفتها نهائيا: فقبل انغمارها في تشجيع نضوج التناقضات الداخلية الاتحادية والسعي نحو تفجيرها؛ أسست حزبا اسمه (التجمع الوطني للأحرار) سنة 1977   الذي "أجهز" على الحكومة كما أجهز سلفه حزب "الفديك" (الذي يضم حزب الحركة الشعبية) على الحكومة الناتجة عن انتخابات 1963، ولكن الجماهير بقيت  وفية لخط الاتحاد واستمر الكفاح السلمي وتألقت المعارضة الجادة التي لم ينسها المغاربة، التي كان عريسها: فتح الله ولعلو وأمثاله في البرلمان، واتحاديون آخرون خارج البرلمان في الثقافة والنقابة والإعلام... إلخ.
لم يكن لإحداث (التجمع الوطني للأحرار) سنة  1977  ولا لاصطناع (الاتحاد الدستوري)  سنة 1984  ولا حتى لانشقاق جماعة بنعمرو أثر كبير على الاتحاد، لأن الاتحاديين ظلوا قابضين على الجمر وأوفياء لفكرة الديمقراطية. ولكن الذي كان له الأثر العميق في جسم الاتحاد هو القبول بالمشاركة في إطار عرض الدولة المتمثل في حكومة اليوسفي وذلك بعد انتخابات مزورة لصالح الاتحاديين هذه المرة! بعبارة أخرى، القبول بعرض الدولة والثقة العمياء فيها في غياب ضمانات حقيقية (ولا يمكن أن تكون إلا ضمانات دستورية بفتح ورش الإصلاح الدستوري العميق آنذاك). وهو الأمر الذي تأكد بإغلاق قوس التناوب بطريقة مهينة سنة 2002 وبمنهجية موغلة في البشاعة والإهانة والخيانة سنة 2017 .
نجم عن القبول بهذا العرض ـبثقة عمياءـ انفصال ثلة من الاتحاديين الذين اعتبروا أنفسهم أوفياء للديمقراطية وأسسوا جمعية الوفاء للديمقراطية التي تحولت إلى حزب اليسار الاشتراكي الموحد وبصيغة أبرز إلى فيدرالية اليسار الديمقراطي.
الشاهد عندنا هو أن الدولة، على مدار تاريخ المغرب المعاصر، كانت تلجأ إلى وسيلتين لتحجيم الأحزاب الوطنية الديمقراطية:
ـ تأسيس أحزاب الدولة وهي بالترتيب: الحركة الشعبية (1958)، جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (1963)، التجمع الوطني للأحرار (1977)، الاتحاد الدستوري (1984)، الاصالة والمعاصرة (2008)؛ بدون إغفال ملحقات يتم توظيفها عند الحاجة: الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حاليا (2016)، الاستقلال سابقا (2013)، حزب التكنوقراط (على الدوام).
ـ تفجير التناقضات الداخلية المتصلة بمسألة متجددة هي الثقة في صدقية عروض الدولة وكيف السبيل إلى التعاطي معها.
حزب العدالة والتنمية، اليوم، إذا نظرنا إلى سلوكه السياسي على ضوء انتسابه إلى الحركة الديمقراطية العريقة في المغرب، والتي يمكن تكثيف عناوينها، حسب الأستاذ علي أنوزلا، في ثلاث محطات: التئام حزب الاستقلال حول فكرة الاستقلال قائدا بذلك تيارا مجتمعيا واسعا، اجتماع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حول فكرة الديمقراطية، تعاقد حزب العدالة والتنمية مع المغاربة على فكرة الإصلاح.
إذا نظرنا إلى المصباح من هذه الزاوية، فإن الرهان على تفجيره من الداخل يندرج ضمن حكاية متكررة، مع أمثاله من الأحزاب الديمقراطية المتجذرة شعبيا، في السجل السياسي  المغربي منذ 1956 إلى اليوم. فالأمر يتعلق باختبار تفاعل الدينامية المتنوعة التي تشتغل داخل الحزب مع العرض الذي قدمته الدولة بإزاحة بنكيران وتعيين العثماني وتشكيل حكومة: يؤكد العديد من المراقبين أنها نكسة في مسار الانتقال الديمقراطي.
 يبدو أن هذا الرهان لن ينجح في الوقت الراهن مع حزب العدالة والتنمية (1) لأن الحزب بالإضافة إلى ارتكازه على فكرة، أو "عصبية" بلغة ابن خلدون، الإصلاح وهو الأمر الذي يتساوى فيه مع مرتكزات حزب الاستقلال (=فكرة الاستقلال) وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (=فكرة الديمقراطية). علاوة على التئامه حول فكرة جامعة، فإن هناك مرجعية "إسلامية" تشد لحمته وسداه، مازال غالبية أعضائه يؤمنون بها.
إن ابن خلدون كان يؤكد على أن نجاح "العصبة" في الوصول إلى الغاية التي تجري إليها وهي الملك لن يتم سوى بتحقق أمرين: أولا؛ قوة "العصبية"، وهي الرابطة السيكولوجية والاجتماعية التي تجمع بين أفراد "العصبة" وتحفز هممهم. ثانيا؛ "الدعوة الدينية" وهي خلفية دينية ثاوية في ضمائر أفراد العصبية تشدهم إلى الوحدة والتعاون وتؤلف بين قلوبهم وتبعدهم عن التصارع والتنابز.
يشرح الدكتور محمد عابد الجابري مفاد هذه الفكرة في أطروحته للدكتوراه (العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الاسلامي؛ المنشورة حاليا في إطار منشورات مركز دراسات الوحدة العربية): لا بد لكي تجتمع كلمة أصحاب العصبيات المتفرقة على المطالبة وبناء عصبية عامة جامعة من عامل يُذهب منهم الغلظة والتنافس والأنفة ويَزَعُهم عن  التحاسد والتنافس. هذا العامل هو الدين، أو على الأصح الدعوة الدينية، سواء كانت نبوة أو رسالة أو دعوة إصلاحية تعتمد في نشاطها على مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". مفعول "الدعوة الدينية" في هذا الصنف من البدو:
من جهة يعمل الدين على "جمع القلوب وتأليفها"، ومتى تم ذلك ذهب التنافس وقل الخلاف، وحسن التعاون والتعاضد، وتحققت الوحدة الكبرى التي يسعى الدين دوما إلى تحقيقها. من جهة ثانية: الدعوة الدينية تصرف "طبيعتهم العدوانية" التي تتجسم في حياة الغزو والنهب إلى الجهاد من أجل نشر الدين وتعاليمه وإقامة مجتمع أفضل. ص:187.
إن "العصبة" التي يتحدث عنها ابن خلدون، ليست في إطار الدولة الحديثة سوى "الحزب السياسي". بينما "العصبية" ليست سوى الفكرة التي تؤطر وتحرك معظم أعضاء "العصبة" (=الحزب) للعمل المشترك من أجل رسالة معينة. وتأتي المرجعية الدينية لتلعب دور الحفاظ على الصف الداخلي وتهذيب نوازع الصراع والزيغ عن "العصبية" (=الفكرة الأم).
حزب العدالة والتنمية، ولهذا يُتهم دائما بسبب مرجعيته الاسلامية من طرف كل الخصوم رغم أنها تلعب أدوارا داخلية فقط يمكن العودة إلى التفصيل فيها في مقال مستقل، مازال يتمتع برجالات يؤمنون بهذه المرجعية. ولهذا من الصعب أن يسيئوا الظن كثيرا في زملائهم.
في الحقيقة هذا هو مفرق الطرق بين الحزب (حاليا وسابقا!) وبقية الأحزاب الديمقراطية؛ فالسبب في انفجار الوضع الداخلي للأحزاب هو انخراط بعض أفراد الحزب في ظنون تذهب إلى أن قبول فئة من القيادة بعروض الدولة هو استجابة لمصالح شخصية وخيانة للفكرة (العصبية). هذه الظنون قد تكون صحيحة، ولكن الضمير الديني، خاصة ذلك الذي تتمتع به الأجيال الأولى التي انحدرت من رحم الحركة الإسلامية، ينهل من مرجعية  تقول (إن بعض الظن إثم) وتحذر من الفضول المذموم وتدعو إلى العمل بدل من الانشغال بما لا يفيد (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ... إلخ.
لكل هذه الأسباب: من الصعب أن يحدث انشقاق داخل حزب العدالة والتنمية. ولكن عدم حدوث الانشقاق والنجاح في عرقلة مشروع الأصالة والمعاصرة لا يعني بأنه ليست هناك مؤشرات دالة على مستقبل غير مشرق بالنسبة لحزب العدالة والتنمية.

 (1) ولكن الانشقاق ليس مستحيلا بل ليس بعيدا: انظر مقال "مساء يوم العيد.. يبدأ المأتم" في هذه المدونة المنشور في غشت 2016. 2  http://ayoub-bouakhaden.blogspot.com/2016/08/blog-post_21.html.


...تابع القراءة