| 0 التعليقات ]




يثار نقاش محتدم وغير مسبوق، إثر المستجدات السياسية الأخيرة، داخل حزب العدالة والتنمية. يمكن تكثيف مضامين هذا النقاش في تباين "المقاييس" التي يقيس عليها كل فرد نجاح أو فشل المسار الجديد. هذه المقاييس يطلق عليها في المعجم الحزبي ب: "المنهج".
لا يمكن فهم السلوك السياسي لحزب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة من دون الانتباه إلى التفاعل القائم والدينامية المتجاذبة بين منهجين. المنهج الأول هو الأصيل يعود إلى انتساب الحزب إلى الحركة الإسلامية؛ فكرة ونشأة ومشروعا. المنهج الثاني هو الطارئ، لعل بداياته النظرية ترجع إلى سنة 2008 وتطبيقاته العملية تتصل بسنة 2011، ويرتبط بارتباط الحزب بالحركة الديمقراطية؛ ممارسة وأهدافا وأفقا.
ومن الجدير بالإشارة، أن خصوم الحزب سواء على المستوى الأفقي [=الخصومة الإيديولوجية] أو على المستوى العمودي [=الخصومة السياسية] غالبا ما يثيرون الزوابع والتوابع الإعلامية على "خطيئة النشأة" الخاصة بالحزب بصفته منحدرا من رحم الحركة الإسلامية. والحال أن انتساب الحزب إلى منهج حركة إسلامية [=حركة التوحيد والإصلاح] لا يضر هؤلاء الخصوم في شيء.
فهذا المنهج يقوم على جملة من القواعد المسكوكة: "المشاركة لا المغالبة" و"التعاون لا التنازع" و"التدرج وكسب الثقة" و"دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة"... إلخ. وهي قواعد متفرعة عن التصور العام الذي كان يؤطر المشاركة السياسية للحركة الإسلامية وهو تحصين "المكاسب التربوية" وصيانة جهود "إقامة الدين في المجتمع".
بعبارة أخرى؛ يعتبر العمل السياسي، حسب هذا المنهج، مجرد باب من أبواب "إقامة الدين وإصلاح المجتمع". ولكنه باب مهم يشكل حصانة للجهود "التربوية والثقافية" الهادفة لبناء الإنسان الصالح المصلح. على سبيل المثال: تنهض الحركة بأعباء التأطير التربوي والثقافي لفائدة التلاميذ [=بهدف إشاعة قيم العفة والحياء وزرع الحاجز النفسي ضد الصهيونية ... إلخ]، ولكن التلفزة المغربية تقوم من جهتها بتأطير مضاد [=لا تنشغل بالبعد الأخلاقي في المنتج الفني السينمائي، لا تكترث لقضية "التطبيع" مع العدو الصهيوني ... إلخ]. الحصيلة: أن جهود الحركة تصبح في مهب الريح. الحل: هو اقتحام العمل السياسي بهدف التمكن من امتلاك القرار الذي يقف وراء الخيارات الثقافية والقيمية لمنابر التأطير العام التي في حوزة الدولة مثل الإعلام العمومي والأنشطة الثقافية التي تحظى بالدعم العمومي.
من المفيد في هذا السياق التذكير بأن استهداف منابع القرار السياسي ليس نابعا من قناعة تؤمن بالتنميط والاستبداد وصناعة المواطنين على المقاس. بل هو راجع إلى الإيمان بأن وسائل الإعلام العمومي ـمثلاـ هي التي تكرس وتروج لنموذج أحادي وبالتالي فتلقيحها وإمدادها بعروض ثقافية وقيمية متنوعة يخفف على الأقل من حدة التناقض بين القيم الدينية والثقافية التي تريد الحركة [=جزء من المجتمع] أن تشيع في أوساط المواطنين وبين القيم الرائجة في وسائل التعبئة والبناء الثقافي التي تمتلكها الدولة [=المدرسة، والإعلام].
يتبين من خلال هذا التوضيح البسيط أن منهج الحركة الإسلامية ودوافعها الأولى للمشاركة السياسية هي بسيطة. ولا شك أن "الدولة"، على الرغم من حاجتها إلى هذا "التوأم" لتعميق شرعيتها الدينية وتعزيز تقدير المواطنين لها، طالما أظهرت حساسية مفرطة من مرامي المشاركة السياسية للحركة الإسلامية. صحيح أن "الدولة" تروج لنموذج آخر من التدين هو المتصل بالطرق الصوفية. ولكن الحقيقة هي أن "الدولة" لا يهمها مضمون أي تدين وليس لديها "مشروع متدين مغربي"، إنما الذي يهمها بالدرجة الأولى هو أن يكون هذا "المتدين" خارج السياق وغائبا عن التاريخ والجغرافيا وبعيدا عن نقاش الثروة والديمقراطية.
والواقع أن "الدولة" تسلط الأضواء على بعض الثغرات والهفوات الكائنة في خطاب وممارسة الحركة الإسلامية المشاركة في العمل السياسي، عبر وسائلها الإعلامية المأجورة [الأحداث المغربية، الأخبار، هسبريس ... إلخ]، لاستفزاز خصوم الحزب على المستوى السياسي والإيديولوجي بهدف تعميق التناقضات الزائفة على المستوى الأفقي. والحال أن الحركة الإسلامية، تجربة بشرية، تعبر في الأصل عن احتجاج جزء من المجتمع على "مشروع التدين" الذي تفرضه الدولة قسرا بوسائلها القوية.
إذن، حسب المنهج المعمول به منذ البداية في الحركة الإسلامية، والذي سبق أن وضحنا باختصار بعض قواعده، حزب العدالة والتنمية في المسار الجديد ليس شاردا على المستوى الشكلي على الأقل. بمعنى أن السياسة مازالت مجالا من مجالات الإصلاح، يشارك فيها الحزب بدون مغالبة، مازال مستمرا في "التدرج" [رغم أن جل المراقبين يتحدثون عن انكسار وتراجع!]، يقود 200 جماعة ويحتفظ ب12 حقيبة.
ولكن، الإشكال القائم هنا هو أن استحضار المنهج يكون على المستوى الشكلي [المسطري] فقط. أما المضمون، أي تحصين الجهود التربوية والثقافية، فأكيد أن الحديث غاب بصددها منذ سنوات. لماذا غاب؟
باختصار، لأنه ظهر مضمون جديد للممارسة السياسية أفرز بدوره منهجا مغايرا وليس بالضرورة مناقضا للمنهج الأول. المضمون الجديد، متداول على كل الألسنة، هو محاربة الفساد والاستبداد، أي استهداف الإسهام الجاد في تشييد أركان جديدة لمسار الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. والمنهج المعمول به في هذا الإطار مع تبلور المضمون الجديد هو منهج نابع من أدبيات الحركة الديمقراطية، خاصة منها الاتحادية الأصيلة، أي النضال الديمقراطي والشراكة مع كل القوى الوطنية الديمقراطية في البناء الديمقراطي.
ما هو منهج الحركة الديمقراطية؟ أولا، المرافعة من أجل إصلاح دستوري قوي وعميق يكون قوامه ربط المسؤولية بالمحاسبة. وثانيا، الانحياز الدائم للتأويل الديمقراطي للدستور والحرص على تنزيل مضامينه ومقتضياته بشكل أفضل في كل الممارسات السياسية، والاستنارة بالمبدأ الجامع: ربط المسؤولية بالمحاسبة. هذا المنهج يقتضي الكفاح المستمر والمصابرة والاستعداد لأداء الضرائب الغالية. 
للتذكير، حزب العدالة والتنمية كان حريصا على ما سماه رشيد نيني في أحد مقالاته الأخيرة قبل اعتقال أبريل 2011 على المرافعة من أجل ضخ الدستور المعدل ب"إشراقات ديمقراطية". ورغم كل ما يسجله المراقبون على دستور2011 المؤطر في بنيته بازدواجية غير خافية، إلا أن تنزيله كما هو كان أمرا عسيرا على واضعيه. وهنا خاض حزب العدالة والتنمية، معركة بالرموز ضد الّذين يعملون في الظلام والخفاء وينتجون ممارسة سياسية خارج إطار الدستور.
طبعا، حسب هذا المنهج ما وقع منذ منتصف مارس ردة سياسية مكشوفة ونكوص في المسار وانزياح عن منهج النضال الديمقراطي بقبول إملاءات فوقية. 
لعل هذا المسار الجديد، الذي بدأ الحزب ينحته عبر منهج يغرف من إرث الحركة الديمقراطية شكلا ومضمونا، هو الذي يزعج ويرهق "الدولة" خاصة بعد أن تحول الحزب بفضله إلى "حالة جماهيرية". ولهذا عمدت "الدولة" عبر وسائلها الحزبية والإعلامية إلى محاولة إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء وتذكير خصوم الماضي بالهموم "الإيديولوجية" التي كان يحملها الحزب في بداياته والتي انتهت صلاحيتها بعد أن كانت مبررا لميلاد الحزب. كما اتجهت "الدولة" لتعميق التناقضات الأفقية بين الأحزاب والنقابات والحركات النابعة من رحم المجتمع والتي تنشد نفس الآفاق الديمقراطية في محاولة ناجحة للإلهاء. حينما يتحدث بعض الفضلاء، من الغيورين على شق صف المجتمع، عن أن المرحلة تقتضي ترك الخلافات الإيديولوجية جانبا والانتباه إلى معركة الديمقراطية. من المهم التنبيه إلى أن الهموم الإيديولوجية، على المستوى السياسي، لم يعد لها وجود أصلا حتى تترك جانبا [أما على المستوى المجتمعي، فمازالت الحاجة ماسة إلى صناعة تدين حي مفيد في الدنيا والآخرة].
الخلاصة: يستدعي بعض قادة حزب العدالة والتنمية اليوم المنهج المعمول به منذ المرة الأولى على المستوى الشكلي لتبرير مضامين مغايرة. ويراد الاستمرار في مضمون "المنهج الجديد" بدون شكل المنهج وهو: المصابرة على محاربة الفساد والاستبداد والكفاح من أجل ربط المسؤولية بالمحاسبة [الذي يستشرف كأفق "الملكية البرلمانية"] والاستعداد لأداء الضريبة مهما كانت غالية.

إننا أمام منهج قديم على المستوى الشكلي ومنهج جديد من ناحية المضمون. ولا يستقيمان!  


0 التعليقات

إرسال تعليق