| 0 التعليقات ]



تساءل أحد الأساتذة الفضلاء تعقيبا على نقاش "الحرية قبل التدين"، قائلا: هل البلاغ يعني بالضرورة الإحراج أو الإلزام؟ ماذا كان يفعل الأنبياء والمرسلين مع الناس؟
ثمة لُبس كبير لا بد من رفعه، وطالما يعاينه المتتبع للخطاب "الدعوي" المعاصر، يتصل أساسا بالمقايسة الدائمة بين التجربة المعاصرة والتجارب النبوية وتجارب المرسلين عموما. إذ ينبه "الداعية" على الدوام التلاميذ ـمشاريع دعاة الغدـ بأنهم في هذا العمل ينخرطون في سلسلة ممتدة إلى الأنبياء بل إلى أب البشر وأب الأنبياء آدم عليه السلام.
أن تكون المقايسة بمعنى أن أي "نبي" فهو يدعو إلى معاني الخير والأجيال المعاصرة بدورها تحمل مشعل "دعوة" الناس إلى الخير؛ فلا بأس! ولكن أن تكون المقايسة بمعنى المماثلة أو حتى المقارنة على مستوى مضمون الخطاب وطريقة تصريفه؛ فذلك سقوط حر في عملية القفز على ملابسات الزمان والمكان والإنسان!
إن الأنبياء جاؤوا إلى وسط مازال الإنسان بعيدا فيه عن مراكمة خبرات نافعة في تدبير شؤون الدنيا بله التفكير في مسائل الغيب والآخرة والأشواق الكبرى. ولهذا جاؤوا بخطاب عقائدي يفترض أن صلاح تصور الإنسان لوحدانية الله وقدرته علاوة على عدم نسيانه للمعاد أمران كفيلان بإحداث صلاح في معاش الإنسان في الدنيا.
وكم كان تعليق الشهيد سيد قطب موحيا، في "معالم في الطريق"، حينما قال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وجد أمامه واقعا "جاهليا" ملوثا بأمراض أخلاقية واجتماعية واقتصادية، ورغم كل ذلك لم يعلنها ثورة أخلاقية ولو فعل لجمع الناس، ولم يعلنها ثورة ضد الظلم الاجتماعي ولو فعل لجمع من حوله الأنصار، ولم يعلنها ... إلخ. وإنما أعلنها ثورة عقائدية تصحح رؤية الإنسان لله وللوجود وللإنسان نفسه. لأن الإنسان الذي كان يتحرك في ذلك الوسط يتحسن سلوكه تلقائيا بعدما تتغير عقيدته ورؤيته الكونية.    
إذن، عموما فدعوة الأنبياء لم تكن تكترث بالتفاصيل السلوكية للناس وإنما هي مشدودة إلى بناء "عقيدة" سليمة، بمجرد أن تترسخ في وجدان الناس تتحول إلى سلطان على سلوكهم فيتغيرون بشكل تلقائي. وهكذا كانت موازين النجاة في الآخرة مرتبطة أولا بالمحتوى الداخلي ل"العقيدة".
ينبغي أن لا ننسى أن الإنسان على مدار قرون طويلة كان المحتوى الداخلي ل"عقيدته" متنازعا بين: "الأسطورة"؛ وهي عقائد يصنعها الإنسان حول الآلهة والآخرة ونظام العلاقات ... إلخ. و"دين التوحيد"؛ وهي عقيدة موحى بها من الله إلى الأنبياء ليبلغوها للناس.
للإشارة، الاستبداد والطغيان كان دائما نصير عقائد "الأساطير" لأنها تشرعن للظلم وتُشَرع لتعدد الآلهة وتغطي على الفساد والجور وتصوغ نظام علاقات يسود فيه الحيف. لهذا كانت معركة الأنبياء من أجل عقيدة "التوحيد" هي في ذات الوقت معركة ضد الطواغيت من أجل "العدل". إنها معادلة بسيطة: التوحيد على مستوى العقيدة يؤسس للعدل في الحياة الاجتماعية؛ لأن ثمة إلها واحدا عدلا شديد العقاب.
ولهذا فمعركة الأنبياء كانت بالدرجة الأولى من أجل انتزاع حق عرض "العقيدة" الجديدة الأصيلة أمام الناس ليختاروا. وفي هذا السياق ترد الآثار التي تقول: (خلوا بيني وبين الناس). لأن مسألة الاختيار تكون ذات معنى حينما تكون العروض متنوعة. أما فرض "أساطير" وضعية على الناس بالحديد والنار لاستدامة واقع الظلم فتلك سنة الطغاة!  
لننتبه مجددا لحادثة "الخمر" أو قضية "الزي"؛ أسلم الصحابة ومازال بعضهم يحتسي الخمر بل أحيانا يصلي وهو مخمور دون أن يثير ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه يعلم أن "العقيدة" التي تمكنت من نفوسهم ستؤهلهم للإقلاع عن الخمر بمجرد نزول النهي عن شربه. وهذا ما حدث! في مشهد لافت سالت فيه "المدينة" بسوائل الخمر بعدما استجاب الصحابة للنهي الإلهي!
لنستجمع الخلاصات التالية:
1)  عاش الأنبياء في زمن كان فيه التقابل صارخا بين الأسطورة (=عقيدة وضعية) و"التوحيد" (=عقيدة ربانية)، وكانت "الأسطورة" هي السند الديني ل"الاستبداد" والوعاء النظري ل"الظلم الاجتماعي" و"الانحراف الأخلاقي".
2)  كانت معركة الأنبياء هي السعي نحو تبليغ أقوامهم والوصول إلى فئات واسعة ولهذا كانوا يحثون "حوارييهم" و"صحابتهم" على مساعدتهم في مهمة البلاغ (بلغوا عني ولو آية ... إلخ). وذلك حتى يتمتع الناس بعروض عقائدية ودينية متنوعة، بما يُمَكنهم من الاختيار.
3)  كانت دعوة الأنبياء والمرسلين تتجه أولا إلى ترسيخ العقيدة السليمة ولا تهتم أساسا بالتفاصيل السلوكية لأنها فرع عن أصل. فالعقيدة هي المعيار في الآخرة.
4)  كان السلوك منسجما مع العقيدة؛ فحينما يؤمن الفرد ب"الأسطورة" (=الشرك، الخرافة، الشعوذة... إلخ) ينتج عن ذلك سلوك معين قد يقبل من "السيد" أن يمارس الرذيلة. ولكن بمجرد أن يؤمن ب"التوحيد" ينخرط تلقائيا في المنظومة التربوية التي تُوَحد الله وتوحد الناس في المنشأ والمحاسبة والمصير والتكاليف، ولهذا الرذائل محرمة على الجميع.

أما اليوم فالوضع يختلف تماما؛ على مستوى "التقابل" الكائن، على مستوى معركة الزمن الراهن أو واجب الوقت، على مستوى دور التصدي للتوجيه والإرشاد. ولهذا أخطأ الشهيد سيد قطب بل في الحقيقة أخطأت الحركة الإسلامية كلها (ليس كأفراد بل كفكرة) في تقدير مقدار "المماثلة" بين دعوة الأنبياء والدعوة الإصلاحية الجديدة المنبعثة في القرن العشرين مع الشهيد حسن البنا.




0 التعليقات

إرسال تعليق