| 0 التعليقات ]



يسود سؤال قابلية حزب العدالة والتنمية للانشقاق في المرحلة الحالية على النقاش العمومي الراهن. طبعا، خصوم الحزب سواء على المستوى العمودي (الدولة بمختلف أحزابها: حزب الداخلية، حزب الأصالة والمعاصرة، حزب التجمع الوطني للأحرار، حزب الحركة الشعبية، حزب الاتحاد الدستوري، والملحق الجديد حزب اتحاد لشكر) أو على المستوى الأفقي (فيدرالية اليسار الديمقراطي، حزب النهج الديمقراطي، جماعة العدل والإحسان، الحركة الأمازيغية) ينتظرون تلك اللحظة بفارغ الصبر وكل له مآرب في ذلك.
أكيد أن الخصوم الذين يقفون في الصف الأفقي سيسعدون لنهاية المصباح، لأنهم رهنوا نجاحهم بفشله: فنهاية العدالة والتنمية تدل على نهاية أوهام الإصلاح داخل المؤسسات، نهاية مشروع "الإسلام السياسي" في المغرب، نهاية الإصلاحية، نجاعة البديل الأمازيغي، نجاعة خيار الثورة ... إلخ.
الخصم العمودي (الدولة) سيسعد بضعف وهوان مشوش ذكي يقاوم باستماتة ولكن باستبصار. وهذا الخصم، على مدار تاريخ المغرب المعاصر، لم يترك حزبا قويا دون أن يسارع إلى إنضاج تناقضاته الداخلية وتفجير نقط ضعفه. 
لنتذكر أن حزب الاستقلال الذي كان يضم في فجر الاستقلال، حسب تقديرات لها اعتبار، حوالي مليون فرد من الأنصار؛ أثار طبعا حنق الدولة، فسارعت إلى تأسيس حزب الحركة الشعبية بزعامة عامل إقليم الرباط آنذاك لتقليص نفوذ الحزب في البوادي على الأقل وذلك سنة 1958. غير أن هذه الاستراتيجية مُنيت بفشل ذريع، فلجأت الدولة إلى تفجير التناقضات الداخلية داخل حزب الاستقلال (وهي: صراع الأجيال، وصدام الأفكار والمرجعيات) وذلك بتعيين أحمد بلافريج (الذي يمثل مرجعية معينة وجيلا محددا  من داخل الحزب) في ماي 1958 على راس على رأس الحكومة مع إضعاف حضور حزب الاستقلال على رأس القطاعات الوزارية الهامة. فسارع الأستاذان عبد الله إبراهيم والمهدي بنبركة إلى تنظيم محاضرات طيلة صيف 1958  لشجب التوجهات "المحافظة"  للحكومة، فسقطت في الأخير، وتولى عبد الله إبراهيم رئاسة الحكومة، فانشق حزب الاستقلال.
الدولة أعادت نفس السيناريو مع الحركة الاتحادية سواء في نسختها الأولى أو الثانية. ففي عهد حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قامت الدولة بتأسيس حزب "جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية" في مارس 1963 لعزل الخط الاتحادي بدون جدوى. فلجأت أخيرا إلى تعذيب بعض القادة النقابيين الاتحاديين (عمر بنجلون) بينما تساهلت مع آخرين (المحجوب بنصديق) وذلك لتعميق الهوة بين المنتمين إلى نفس الحزب، الأمر الذي تُوج بانفصال مجموعة الرباط عن مجموعة الدار البيضاء في 30 يوليوز 1972، وهي المجموعة  التي أسست لاحقا حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
العجيب هو أن الدولة كانت دائما تلعب  على نفس التناقض: انقسام الحزب إزاء قضية التعامل مع عروض الدولة وحول الثقة في صدقيتها. الدولة استدعت قائد حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ سنة 1974 (عبد الرحيم بوعبيد)؛ مر المؤتمر الاستثنائي بنجاح، استعاد الاتحاد في نسخته الثانية امتداده في أوساط الجماهير الشعبية، ولكن سرعان ما انفجر الصراع الداخلي بين اللجنة الإدارية والمكتب السياسي أنهك الاتحاد (كان سببا في استقالة الراحل محمد عابد الجابري من المكتب السياسي للحزب) وخُتم بانفصال رفاق عبد الرحمان بنعمرو الذين رأوا في السلوك السياسي للاتحاد انبطاحا زائدا وثقة مفرطة في دولة لا تهمها سوى مصالحها الفئوية!
الأعجب هو أن الدولة لا تغير وصفتها نهائيا: فقبل انغمارها في تشجيع نضوج التناقضات الداخلية الاتحادية والسعي نحو تفجيرها؛ أسست حزبا اسمه (التجمع الوطني للأحرار) سنة 1977   الذي "أجهز" على الحكومة كما أجهز سلفه حزب "الفديك" (الذي يضم حزب الحركة الشعبية) على الحكومة الناتجة عن انتخابات 1963، ولكن الجماهير بقيت  وفية لخط الاتحاد واستمر الكفاح السلمي وتألقت المعارضة الجادة التي لم ينسها المغاربة، التي كان عريسها: فتح الله ولعلو وأمثاله في البرلمان، واتحاديون آخرون خارج البرلمان في الثقافة والنقابة والإعلام... إلخ.
لم يكن لإحداث (التجمع الوطني للأحرار) سنة  1977  ولا لاصطناع (الاتحاد الدستوري)  سنة 1984  ولا حتى لانشقاق جماعة بنعمرو أثر كبير على الاتحاد، لأن الاتحاديين ظلوا قابضين على الجمر وأوفياء لفكرة الديمقراطية. ولكن الذي كان له الأثر العميق في جسم الاتحاد هو القبول بالمشاركة في إطار عرض الدولة المتمثل في حكومة اليوسفي وذلك بعد انتخابات مزورة لصالح الاتحاديين هذه المرة! بعبارة أخرى، القبول بعرض الدولة والثقة العمياء فيها في غياب ضمانات حقيقية (ولا يمكن أن تكون إلا ضمانات دستورية بفتح ورش الإصلاح الدستوري العميق آنذاك). وهو الأمر الذي تأكد بإغلاق قوس التناوب بطريقة مهينة سنة 2002 وبمنهجية موغلة في البشاعة والإهانة والخيانة سنة 2017 .
نجم عن القبول بهذا العرض ـبثقة عمياءـ انفصال ثلة من الاتحاديين الذين اعتبروا أنفسهم أوفياء للديمقراطية وأسسوا جمعية الوفاء للديمقراطية التي تحولت إلى حزب اليسار الاشتراكي الموحد وبصيغة أبرز إلى فيدرالية اليسار الديمقراطي.
الشاهد عندنا هو أن الدولة، على مدار تاريخ المغرب المعاصر، كانت تلجأ إلى وسيلتين لتحجيم الأحزاب الوطنية الديمقراطية:
ـ تأسيس أحزاب الدولة وهي بالترتيب: الحركة الشعبية (1958)، جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (1963)، التجمع الوطني للأحرار (1977)، الاتحاد الدستوري (1984)، الاصالة والمعاصرة (2008)؛ بدون إغفال ملحقات يتم توظيفها عند الحاجة: الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حاليا (2016)، الاستقلال سابقا (2013)، حزب التكنوقراط (على الدوام).
ـ تفجير التناقضات الداخلية المتصلة بمسألة متجددة هي الثقة في صدقية عروض الدولة وكيف السبيل إلى التعاطي معها.
حزب العدالة والتنمية، اليوم، إذا نظرنا إلى سلوكه السياسي على ضوء انتسابه إلى الحركة الديمقراطية العريقة في المغرب، والتي يمكن تكثيف عناوينها، حسب الأستاذ علي أنوزلا، في ثلاث محطات: التئام حزب الاستقلال حول فكرة الاستقلال قائدا بذلك تيارا مجتمعيا واسعا، اجتماع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حول فكرة الديمقراطية، تعاقد حزب العدالة والتنمية مع المغاربة على فكرة الإصلاح.
إذا نظرنا إلى المصباح من هذه الزاوية، فإن الرهان على تفجيره من الداخل يندرج ضمن حكاية متكررة، مع أمثاله من الأحزاب الديمقراطية المتجذرة شعبيا، في السجل السياسي  المغربي منذ 1956 إلى اليوم. فالأمر يتعلق باختبار تفاعل الدينامية المتنوعة التي تشتغل داخل الحزب مع العرض الذي قدمته الدولة بإزاحة بنكيران وتعيين العثماني وتشكيل حكومة: يؤكد العديد من المراقبين أنها نكسة في مسار الانتقال الديمقراطي.
 يبدو أن هذا الرهان لن ينجح في الوقت الراهن مع حزب العدالة والتنمية (1) لأن الحزب بالإضافة إلى ارتكازه على فكرة، أو "عصبية" بلغة ابن خلدون، الإصلاح وهو الأمر الذي يتساوى فيه مع مرتكزات حزب الاستقلال (=فكرة الاستقلال) وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (=فكرة الديمقراطية). علاوة على التئامه حول فكرة جامعة، فإن هناك مرجعية "إسلامية" تشد لحمته وسداه، مازال غالبية أعضائه يؤمنون بها.
إن ابن خلدون كان يؤكد على أن نجاح "العصبة" في الوصول إلى الغاية التي تجري إليها وهي الملك لن يتم سوى بتحقق أمرين: أولا؛ قوة "العصبية"، وهي الرابطة السيكولوجية والاجتماعية التي تجمع بين أفراد "العصبة" وتحفز هممهم. ثانيا؛ "الدعوة الدينية" وهي خلفية دينية ثاوية في ضمائر أفراد العصبية تشدهم إلى الوحدة والتعاون وتؤلف بين قلوبهم وتبعدهم عن التصارع والتنابز.
يشرح الدكتور محمد عابد الجابري مفاد هذه الفكرة في أطروحته للدكتوراه (العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الاسلامي؛ المنشورة حاليا في إطار منشورات مركز دراسات الوحدة العربية): لا بد لكي تجتمع كلمة أصحاب العصبيات المتفرقة على المطالبة وبناء عصبية عامة جامعة من عامل يُذهب منهم الغلظة والتنافس والأنفة ويَزَعُهم عن  التحاسد والتنافس. هذا العامل هو الدين، أو على الأصح الدعوة الدينية، سواء كانت نبوة أو رسالة أو دعوة إصلاحية تعتمد في نشاطها على مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". مفعول "الدعوة الدينية" في هذا الصنف من البدو:
من جهة يعمل الدين على "جمع القلوب وتأليفها"، ومتى تم ذلك ذهب التنافس وقل الخلاف، وحسن التعاون والتعاضد، وتحققت الوحدة الكبرى التي يسعى الدين دوما إلى تحقيقها. من جهة ثانية: الدعوة الدينية تصرف "طبيعتهم العدوانية" التي تتجسم في حياة الغزو والنهب إلى الجهاد من أجل نشر الدين وتعاليمه وإقامة مجتمع أفضل. ص:187.
إن "العصبة" التي يتحدث عنها ابن خلدون، ليست في إطار الدولة الحديثة سوى "الحزب السياسي". بينما "العصبية" ليست سوى الفكرة التي تؤطر وتحرك معظم أعضاء "العصبة" (=الحزب) للعمل المشترك من أجل رسالة معينة. وتأتي المرجعية الدينية لتلعب دور الحفاظ على الصف الداخلي وتهذيب نوازع الصراع والزيغ عن "العصبية" (=الفكرة الأم).
حزب العدالة والتنمية، ولهذا يُتهم دائما بسبب مرجعيته الاسلامية من طرف كل الخصوم رغم أنها تلعب أدوارا داخلية فقط يمكن العودة إلى التفصيل فيها في مقال مستقل، مازال يتمتع برجالات يؤمنون بهذه المرجعية. ولهذا من الصعب أن يسيئوا الظن كثيرا في زملائهم.
في الحقيقة هذا هو مفرق الطرق بين الحزب (حاليا وسابقا!) وبقية الأحزاب الديمقراطية؛ فالسبب في انفجار الوضع الداخلي للأحزاب هو انخراط بعض أفراد الحزب في ظنون تذهب إلى أن قبول فئة من القيادة بعروض الدولة هو استجابة لمصالح شخصية وخيانة للفكرة (العصبية). هذه الظنون قد تكون صحيحة، ولكن الضمير الديني، خاصة ذلك الذي تتمتع به الأجيال الأولى التي انحدرت من رحم الحركة الإسلامية، ينهل من مرجعية  تقول (إن بعض الظن إثم) وتحذر من الفضول المذموم وتدعو إلى العمل بدل من الانشغال بما لا يفيد (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ... إلخ.
لكل هذه الأسباب: من الصعب أن يحدث انشقاق داخل حزب العدالة والتنمية. ولكن عدم حدوث الانشقاق والنجاح في عرقلة مشروع الأصالة والمعاصرة لا يعني بأنه ليست هناك مؤشرات دالة على مستقبل غير مشرق بالنسبة لحزب العدالة والتنمية.

 (1) ولكن الانشقاق ليس مستحيلا بل ليس بعيدا: انظر مقال "مساء يوم العيد.. يبدأ المأتم" في هذه المدونة المنشور في غشت 2016. 2  http://ayoub-bouakhaden.blogspot.com/2016/08/blog-post_21.html.


0 التعليقات

إرسال تعليق