| 0 التعليقات ]





التصور المادي "ألأحادي" هو الذي ينطلق، في دراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية بشكل عام، من مسلمة بارزة هي أن أصل كل الاشياء في الكون يرجع إلى المادة. وبالتالي، فالإنسان أيضا كائن لا نوازع له خارج إطار المادة.  ماذا يعني هذا الكلام المجرد؟
باختصار؛ إن ما يحرك الإنسان، حسب التصور المادي "الأحادي"، هو المنفعة والمصلحة الذاتية أوالفئوية الضيقة. ما يعني أن أي سلوك اجتماعي/سياسي يقوم به الإنسان فهو لا ينبع إطلاقا من الاستجابة لمضامين "العقيدة" أو جواذب "الفكرة" أو أشواق "المبدأ" أو سحر "الحق" ... إلخ.
إن الإنسان يتحرك دائما تحت تأثير البحث عن l’utilité optimale بلغة الاقتصاد السياسي. إنه يسعى إلى صيانة مصالحه بأي ثمن، ومن ثَم فإن حياته الاجتماعية ستكون مسرحا لصراع لا ينتهي.
يبدو أن الغلط الذي يسقط فيه نقاد هذا التصور المنعوت ب"المادي الأحادي" هو افتراضهم أن أصحابه يريدون تكريس صورة إنسان غير مفارق لعالم "الطبيعة" و"الغابة" تحكمه قوانينها: الصراع الدائم حتى الموت، الاستماتة الجنونية من أجل لقمة العيش ... إلخ.
إن أصحاب التصور "المادي" لا يقومون بأكثر من رصد ووصف وتقرير لواقع الإنسان كما هو، لا كما ينبغي أن يكون. طبعا، قد يكون بعضهم جانحا إلى التطرف فيضع الفرضية العلمية في مقام النتيجة المعللة المبرهنة، ولكن من البديهيات أن الجموح سمة تطال خطاب بعض المنتمين إلى كل الأطياف والمناهج ولا تلغي في ذات الوقت النغمة العليا لأي منهج.
إن الذين ينعتون بأنهم "ماديون"، ليسوا كذلك لأنهم يحبون الاكتفاء بمحرك "المادة" في التحليل، وإنما لأن ما توصلوا إليه من خلال ملاحظاتهم التي تلاحق الواقع الموضوعي اثبتت لهم أن ما وراء تحركات الناس وصخبهم هو البحث عن "المنفعة" التي تتسم غالبا بطبيعتها ب"الندرة"، مما يحتم الصراع الاجتماعي!
على نقيض هذا التصور المادي، يسود تصور آخر يفترض بأن ما يحرك الناس هو عقائدهم وليس مصالحهم. هكذا يرى دعاة هذا التصور النقيض أن الصراع بين العالمين هو صراع مبني على الخلاف العقائدي والديني والثقافي. أي أن الناس يريدون إشاعة أديانهم وثقافتهم ومحو الاتجاهات الدينية والثقافية المقابلة، ولأجل ذلك يدفعون الأموال ويبذلون الأرواح.
هذا التصور "غير المادي" ينطلق من أن ما يؤطر سلوك الإنسان هو "الحق" وليس "المنفعة". والخلاف الديني والثقافي هو تعبير عن التفاوت القائم على مستوى تقدير طبيعة "الحق". ما يعني أن الإنسان يتخاصم مع أخيه الإنسان لأنه يؤمن بأن هناك "حقا" معينا يقتضي أن نتوجه إليه بالخدمة والرعاية والنصرة والدفاع ... إلخ.
طبعا المقصود بدائرة "الحق" هو عالم المُثُل والقيم والمبادئ والعقائد والأفكار ... إلخ. يختلف الناس، حسب التصور غير المادي للحياة، ويتصادمون فيما بينهم؛ لأن كل "جماعة من الناس" تحاول "الدعوة" إلى الإيمان ب"المبدأ" الذي تلتئم حوله، وتسعى إلى "التبشير" ب"المُثُل" التي تعتنقها، وتقوم ب"الدعاية" لأفكارها. وبالتالي، فكل جماعة "عقائدية" تهدد تلقائيا وجود الجماعة الأخرى. وبالتالي، ف"التدافع" هو ميسم الحياة حسب هذا المنهج.
 من المفيد التنبيه في هذا المقام إلى أن هذا التصور غير المادي هو بدوره منهج "أحادي"، ينطلق من منطلق وحيد في تصوير محركات الإنسان في الحياة تماما كما ينطلق التصور المادي الأحادي من جانب وحيد في الجهة المقابلة. كما انه من الجدير بالتنبيه ايضا أن القائمين على هذا التصور إنما ينطلقون من بعض وقائع التاريخ (الحروب الصليبية، مخططات الصهيونية المسيحية، الحروب الشيعية السنية ... إلخ)، أي ينطلقون "إلى حد ما" من واقع الإنسان كما هو، وإن كان هاجسهم هو ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان كذلك من: الاجتهاد في البحث عن الحق، نصرة الفكرة، الوفاء للقيم، الاستماتة من أجل صيانة بيضة المبادئ ... إلخ.

يبدو أن العالم راح ضحية التصورين معا. ومن المحقق أن التصور غير المادي الأحادي هو الذي كان سيد الموقف لقرون طويلة من مسيرة البشرية. واليوم صار التصور المادي الأحادي بدوره النغمة التي لا يشوش عليها أحد في القرنين الأخيرين لأنه تلفع بعباءة "العلم". 

0 التعليقات

إرسال تعليق