| 0 التعليقات ]




يأتي على الناس زمن فينسون فيه الأصل ويطمسون فيه عقد الازدياد. ربما سبب ذلك هو شعور يساورهم، فيحاولون إخفاءه ويحاولون استبعاده كلما حل شبحه في مخيلتهم: إن لحظة توثيق عقد ألازدياد كانت لحظة ارتجال وكانت مغامرة مفتعلة بامتياز!  
ليس عيبا أن نرتجل في لحظة ما، إذ أن محطات الحياة غنية بالدروس التي تفيد أنه لولا الارتجال في البداية ولولا المغامرة الأولى ما وصل الإنسان إلى وصل إليه. ولحظات الارتجال الأولى قد تلد مشاريع كبيرة تتمدد شعبيا وتتضخم على أصحابها.
ما هي الحركة الإسلامية؟
إنها ثمرة لموجة سرت في أوساط مجموعة من الناس مفادها أن الإسلام لم يأت ليقبع في الضمائر والقلوب ولا ليبقى رهين الشعائر والطقوس؛ إنه جاء ليهيمن على الحياة، ليكون سيد الاقتصاد وضابط الاجتماع وموجه السياسة. قد يطلق على شعار الحركة: "الاسلام هو الحل"، وقد يخفف هذا اليقين إلى وصفة: "الإسلام هو الهدى". ولكن الجوهر واحد هو أن الإسلام لا ينبغي أن يُحصر شعبيا في المساجد ولا رسميا في الأوقاف.
إن الحركة الإسلامية هي قطب جذب للناس نحو "واجب"، قد يُختلف في حقانيته ولكنه على كل حال "واجب" بالنسبة للمؤمنين به، هو "إخراج الإسلام إلى الحياة العامة" بدل الركون إلى "واقع" عنوانه الأبرز: "اكتفاء الإسلام بالحياة الخاصة للأفراد: العقائد والشعائر والمساجد".
السؤال الجوهري: إلى أي حد الحركة الإسلامية، اليوم، وفية لعقد ازيادها وفكرتها الأساس؟
قد تتحدث الحركة الإسلامية عن المراجعات، ولكن مفاد المراجعات هو الوفاء الضمني لعقد الازدياد واستعادة متجددة للأصل. والمراجعة هي نقيض القطيعة على كل حال. إذن، محاكمة سلوك الحركة الإسلامية إلى عقد ازديادها يبدو أمرا مشروعا بل مطلوبا للاستيقاظ من الغفلة السارية.
أبرز فكرتين تطويان أعمال ومناشط وشعارات إحدى الحركات الإسلامية المغربية، في العقد الأخير بعد "المراجعات"،هما: أولا؛ الانخراط في معركة التدافع من أجل القيم. ثانيا؛ ترشيد التدين.
يبدو أن "الانخراط في معركة التدافع من أجل القيم" هو محاولة، على مستوى الخطاب على الأقل، للوفاء بمقتضيات عقد الازياد بصيغة تعبيرية تلائم الوضع الجديد فيما يخص حضور الإسلام على مستوى الاجتماع والاقتصاد والإعلام والسياسة. ومن المفيد الإشارة إلى أن ما كان يطلق عليه في السابق "الشريعة" وضرورة تطبيقها، حل محله عنوان جديد هو "القيم"، فجدلية الفكر والممارسة قادت "العقل الإسلامي" إلى الانتباه إلى استعصاء: إغلاق الحانات والخمارات، أو فرض الشرطة الأخلاقية على الشواطئ، أو إغلاق البنوك، أو وقف الإشهارات، أو حظر كازينوهات القمار، أو استدعاء العقوبات الجنائية المنصوص عليها في القرآن ... إلخ.  
أما "ترشيد التدين" فهو منحى جديد يعبر عن تحول عميق ينبئ بان هناك تقابلا جديدا في "العقل الإسلامي" (=فكر الحركة الإسلامية) ينظر به إلى "العقل المسلم" (=فكر المجتمع المسلم). فبعد أن كان مبرر الوجود والاستمرار هو دفع الناس إلى الإيمان بأن الإسلام ليس "شعيرة" فقط بل هو "شريعة" أيضا. صار التقابل الجديد هو بين "العبادات" التي قد يجتهد الناس في أدائها في غفلة تامة أو جزئية عن الإحسان في "المعاملات".  
إذن، لا يمكن أن نعتبر الحركة الإسلامية خائنة لميثاقها الأول غير المكتوب، لأن القناتين الجديدتين اللتين اختارتهما لتصريف مبرر وجودها "سيادة الإسلام على الحياة" لا غبار عليهما من ناحية الشكل. ولكن من ناحية المضمون هناك محدودية في الأفق لسبب بسيط هو أن الناس الذين فكروا في القنوات الجديدة لتصريف الشعار، انطلقوا من الممارسة التي بينت لهم استحالة القنوات الأولى (= تطبيق "الشريعة" على مستوى الدولة و"الشعيرة" على مستوى المجتمع).
أما من سيملأ القنوات الجديدة بمضمون عامر وعميق، فيحتاج إلى أن يقرأ الميثاق الأول جيدا قراءة نقدية ثم عليه أن يستوعب ثانيا التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية الطارئة بعد لحظة الميلاد سواء في بعدها المحلي والعالمي أو في بعدها الفلسفي والديني.. وإلا فإنه سيكرر نفس الأخطاء الأولى. وللأسف، هذا ما وقع!
إن الخلاصة التي سينتبه لها من استوعب روح فكرة الحركة الإسلامية، أي الخروج من هموم "الواقع" الفردية الذاتية إلى رحابة هموم "الواجب" الكبيرة وذلك بالعمل المتواصل على إشاعة نَفَس الإسلام في كل أرجاء الحياة، هي أن المراجعات التي قامت بها قيادة الحركة لتكييف مقتضيات عقد الازدياد مع المستجدات والتحولات كانت وفية على مستوى الشكل: القناة والهيكل والشعار ... إلخ. ولكن المضمون وطريقة تنزيله من طرف أبناء الحركة فيهما شلل لا يوصف!  
أخاف أن أقول اليوم: إن فكرة الحركة الإسلامية تقودنا إلى التسليم بأنها؛ "حركة مستحيلة"!
قد تكون موجودة وقائمة وذات هيئات منعقدة وأوراق وأدبيات منشورة، بل قد تتلقى التهاني والتبريكات بأنها صاحبة تجربة استثنائية. ولكن "الواقع" الذي يقرره أبناؤها، لا غيرهم، يذهب إلى هذا المذهب.

0 التعليقات

إرسال تعليق