| 0 التعليقات ]





في الوقت الذي نُحدث فيه أنفسنا باطمئنان عن كوننا نعيش في المغرب. في بلد يسعى لأن يقدم نموذجا في تدبير الخلاف السياسي بين أبناء الوطن بالأدوات الديمقراطية. بلد يقول بأن الوطن للجميع. بلد  أكرمه المولى سبحانه و تعالى بالنجاة من طاحونة الطائفية و الاصطفافات غير الوطنية المخدومة. بلد لا يضيق بالتنوعات. في هذا الوقت، الذي كدنا ننسى فيه حكاية التسميات و التقسيمات المُموهة و المغالطة (هذا إسلامي، هذا علماني..). يطل علينا السيد سعيد لكحل - أحد الصحفيين الذين لا يخفون توجههم العلماني منذ أكثر من عقد من الزمان – بحديث أقل ما يمكن أن يُقال عنه أنه كلام يجر إلى تمزيق النسيج الوطني و استدعاء نموذج (بنعلي) التونسي و استثارة الصراعات الوهمية و المعارك الجانبية التي لن تفيد الوطن لا بباع و لا ذراع في هذه المرحلة بالذات.
في ندوة، من المفترض أن تزين بالأحاديث الراقية و النقاشات الجادة التي تترفع عن خطاب العوام و ترتقي بالمستوى الفكري للرأي العام، بالمكتبة الوطنية بالرباط. هناك، تلفظ سعيد بما يلي: "شي أسر كاتشوف ولدها بدا كايصلي و كاتقول مزيان راه هداه الله.. و هو في الحقيقة عاد نحارف".
أ لهذا الحد يا سعيد؟ أ لهذا الحد تجلو شهوة الاستئصال؟ أ لهذا الحد ينطق المخبوء فيك؟
في هذا المقام و هذا المقال، لا تهمنا الجهة المنظمة للندوة. لأنها ببساطة لا تستحق حتى الذكر. لأنها جهة تلطخت بمخازي المخزنة و مساعيها الدنيئة للإجهاز على مسار الانتقال الديمقراطي في هذا الوطن. لأنها ضد الديمقراطية و احترام التعددية و حق الاختلاف. لأنها راعية السلطوية في هذا البلد. لأنها تتغيا تنمية بلا شعب.
لكن، أنت يا سعيد ! عهدناك كاتبا جريئا يصول و يجول و يكشف عورات الحركات الإسلامية و عثراتها في المسألة الديمقراطية و قضية الحريات. ما بالك انقلبت على اختيارك (العلماني) الذي نحترمه؟ ما بالك استحلت شرطيا يوزع تهم الانحراف على "ولد تقَصَد طلب رحمة الرحمان و توجه إلى الصلاة".
لك يا سعيد أن لا تصلي. فهذا اختيارك و تلك إرادتك. لكن أن تستحيل الصلاة انحرافا. فهذا لعمري، كلام لا ينحو نحو مجافاة وجدان قرابة ملياري مسلم فحسب بل يصادم البشرية أي كل المؤمنين من شتى الديانات الذين يمارسون طقوسا فيها نسائم الروح تنعت  الصلاة.
ربما الفضاء كان يسمح بذات الكلام. ففيه سدنة الانقلاب على الاختيار الديمقراطي للشعب المصري و فيه خدام المشروع السلطوي و إعاقة الانتقال الديمقراطي في هذا الوطن. و ربما أحاديثهم حطمت كل المقاييس في بلوغها قمم النشاز. فهل أردت الإسهام بكلام يقطر استئصالا أكثر من كلام سادة الندوة؟
من فضلك يا سعيد، إذا أردت حلما مبتورا فلك ذلك. لكن لا تتهم من رمق حلما مزدوجا. لا تقم بدور شرطي تونس (في عهد بنعلي) فتعد المصلي في عداد المنحرفين؟
فالمصلي الساعي للاتصال بالعلي الأعلى، إنما يسعى نحو حلمه المزدوج. أي حلم عمودي، يروم الفردوس الأعلى و النجاة في الدار الأخرى. و حلم أفقي، يستهدف الفوز بحسنة الدنيا: توطيد أركان الديمقراطية بمشمولاتها (الحرية، الكرامة، العدالة الاجتماعية) إلى جانب التنمية الشاملة الواقفة على أساس البحوث العلمية و الحفريات المعرفية.
سعيد ! إذا اكتفيت بحلم أفقي وحيد فذاك اختيارك. إذن، فلنتعاون جميعا –كمواطنين- عليه. و لنكن لسدنة المشروع السلطوي و أصحاب المشاريع الانقلابية على الاختيارات الديمقراطية بالمرصاد. و لنسعى بشكل جاد لغرس بذور ثقافة قبول الآخر و الإيمان بنسبية الرؤى و الأفكار في المناخ العام بالأحاديث الفياضة بالعمق و الملتفة للأسئلة الحقيقية المؤرقة. و لنقل "لا" للسطحية و التفاهة و المعارك الجانبية. و لنلح على أن الوطن للجميع. و "لا" لاستئصال و استعداء أي مصل أو مدبر عن الصلاة: فكلهم مواطنون.
على أن العاقل يا سعيد، يتطلع دوما للخيرين فيعمل للدنيا دون إغفال الدار الآخرة. و لا يوجد عاقل تُعرض أمامه جائزتين و يكتفي بواحدة.
قبل فض المقال، لا أتمنى  يا سعيد أن تكون بهكذا حديث ذلك الإنسان الأفقي الذي قال عنه الفيلسوف المغربي  طه عبد الرحمن: لا عجب أن يأخذ النسيان يتداعى عند هذا الإنسان الأفقي بعضه إلى بعض، حتى يبلغ أقصى مداه، فلا يعود يذكر أنه مخلوق، فضلا عن أنه لم يُخلق عبثا، و لا حتى أنه إلى زوال محتوم إلى حين أن يأتي أجله على حين غرة؛ و يا ليته نسي و وقف عند حد نسيانه !

بل إنه يمكر ليل نهار من أجل أن يرى غيره ينسى مثلما نسي، متوسلا بكل أدوات النسيان، ترغيبا و ترهيبا، حتى إنه أضحى يعلن بغير حق و لا حياء، أنه لا يطيق أن يذكر اسم الله و لا إجلاله و لا تكبيره و لو في غير مجلسه؛ و إذا أحد سواه لم يبق في قلبه التفات إلى غير الله في سراء أو ضراء، فصدح بالتهليل و التكبير، متفانيا في حب ربه، ضج هذا الإنسان الناسي بالشكوى من تهديدات التطرف الديني، مناديا على الإنسانية بالويل و الثبور و عظائم الأمور ما لم تحزم أمرها و تعلنها حربا لا هوادة فيها على هذا التطرف، كأن نسيانه حق لا باطل معه و خير لا ضرر فيه، و ذكر غيره باطل لا حق فيه و شر لا نفع معه. (طه عبد الرحمن. روح الدين، ص:15 . الطبعة الثانية:2012. المركز الثقافي العربي)


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





في الذكرى الأولى لرحيل الكبير المهدي المنجرة (رحمه الله)، يحسن بنا الوقوف عند شذرات من مواقفه و أفكاره تعكس بحق العبقرية المغربية في أجلى تجلياتها.
المهدي المنجرة، قبل أن يكون له موقف أو يصوغ فكرة، هو كفاءة مغربية عز لها نظير. يكفي أنه ساهم مؤلفات تُدرس في جامعات الدول المتقدمة؛ كتابه (نظام الأم المتحدة) الصادر سنة 1973 يُدرس في جامعات الدول الأنجلوساكسونية كما أنه ساهم في كتاب (تاريخ اليابان) الذي يُدرس لطلبة المستوى الإعدادي في اليابان.
المهدي المنجرة  رمز للعبقرية المغربية؛ إذ يحوي تراثه الفكري مقاربات بإمكان كل الأطياف السياسية و الحساسيات الثقافية و الحركات الاجتماعية  الوطنية أن تجد ذاتها فيها.
التيار القومي و اليساري الوطني، لا شك أن تنديد ذ.المنجرة المستمر –بشكل علمي  يستند إلى حقائق و معطيات موثقة- بالاستعمار الجديد و فضحه للتخاذل العربي في دعم النضال الفلسطيني من أجل التحرر من ربقة الاحتلال الصهيوني و دفاعه المستميت عن الحريات و حقوق الإنسان و شجبه الدائم للفوارق الشاسعة بين الفقراء و الأغنياء و دعوته المستمرة للاتحاد و التواصل بين دول العالم العربي و مناداته بالوحدة على المستوى المغاربي على الأقل .. لا شك أن كل هذه  التوجهات الوحدوية و الملتفتة للمسألة الاجتماعية و القضايا القومية و التحررية و الحقوقية تجد صدى واسعا داخل التيار القومي و اليساري الوطني. و لا غرابة، إذن، أن نجد أحد رموز هذا التيار، الدكتور أحمد ويحمان، يهدي كتابه (العزوف السياسي بالمغرب) الذي صدر 2007 للمثقف الأصيل المهدي المنجرة.
الحركة الأمازيغية الوطنية، لا يمكن لها –كذلك- إلا أن تنظر بعين الرضا و التقدير لمثقف كبير كان له قصب السبق ضمن طائفة المثقفين في الدعوة إلى الاهتمام باللغة الأمازيغية، منذ سنة 1976، معتبرا حرمان الطفل من اللغة الأم التي يسمعها في بطن أمه من باب الحرام. و المهم عند البروفسور المهدي –في المسألة اللغوية- هو أن تكون اللغة الوطنية هي رافعة التنمية، كما جاء في كتابه (الإهانة في عهد الميغا-امبريالية)، إما أن تكون العربية أو الأمازيغية أو هما معا فالباقي كله تفاصيل على حد  تعبيره؛ ما يعني أن موقفه ليس متصلبا بل فيه جرعات كبيرة من المرونة تُسهل إمكانية التفاهم و الحوار و النقاش العلمي مع  أبناء الوطن في الحركة الأمازيغية. لكن الذي يرفضه ذ.المهدي بإطلاق هي نزوعات صهينة المسألة الأمازيغية و تحويلها إلى حصان طراودة لتمزيق النسيج الوطني و الهرولة إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني. 
أما دفاع صاحب (قيمة القيم) عن مركزية القيم في معادلة النهوض و اعتزازه العميق بالأصالة و الهوية و الحضارة الإسلامية و شجبه القوي للانسلاخ الفكري و الاستلاب الثقافي و انتماؤه المعلن في كتاب (الإهانة في عهد الميغا-امبريالية.ص: 223224) إلى السلفية التحررية النهضوية ( سلفية: محمد عبده و رشيد رضا و علال الفاسي و المختار السوسي..) و تحيزه الساطع لصف –نعته في كتاب (الإهانة)- بالتيار الإسلامي التنويري ( المنتسب لمدرسة مالك بن نبي و محمد الغزالي..) و انحيازه المطلق لخيار الانتفاضة و المقاومة في القضية الفلسطينية.. فذلك كله ذات الخطاب الذي تروم الحركة الإسلامية أن تبصم به الساحة الثقافية و الاجتماعية في هذا الوطن !
إن المهدي المنجرة  مؤسسة علمية – كما نعته بذلك ذ.يحيى اليحياوي في تقديم كتابه (حوار التواصل)- تنصهر في بوتقتها كل الأطياف الفكرية و الحركات الاجتماعية الوطنية؛ يمكن لفكره أن يشكل نقطة انطلاق لبناء كتلة وطنية منيعة تحصن عملية الانتقال الديمقراطي و بناء النموذج التنموي في بلدنا.
من الواضح أن الذين تتمعر وجوههم إثر قراءة خطاب: المثقف الملتزم بقضايا الأمة و الإنسانية و الوطن، المفكر غير المحسوب على طيف من الأطياف و لا توجه من التوجهات؛  هم عصابات الفساد و شبكات المصالح الشخصية الضيقة و أباطرة المخدرات و الذين يعيشون على فُتات موائد الاستعمار..
فكر المنجرة –كذلك- لا يعرف  حدودا بين الأمة و الوطن بل هناك ترابط بين قضاياهما معا؛ خذ مثلا القضية الفلسطينية، بصددها يؤكد قائلا: "لن نهزم الكيان الصهيوني إلا بتوحد و تلاحم القيادة و الشارع العربيين عبر مصداقية السلطة المخلصة لشعوبها و ليس لمستعمريهم عبر المشاركة الشعبية و الديمقراطية الفعالة، عبر انتخابات نزيهة و احترام القيم و الحريات و التمسك بالهوية، عبر الاهتمام بالعنصر البشري و بالبحث العلمي و تشجيع الإبداع و الخلق و الاعتماد على الذات و الكفاءات المحلية...". (المهدي المنجرة، "انتفاضات في زمن الذلقراطية"، ص:120).
قبل الختم، إذا كان الفيسلوف الأمريكي هربرت ماركوز قد ألهم الشباب في العالم الغربي بالخصوص في فترة من الفترات و خاصة الشباب الجامعي في انتفاضة 1968 للاحتجاج ضد تجليات اللامعنى و غلواء الحياة المادية و النزعة الاستعمارية الامبريالية (في الفيتنام..). فإن كتابات البروفسور المغربي المهدي المنجرة و مواقفه العملية، بإمكانها أن تُلهم الشباب المغربي (و الشباب العربي عموما) و تصقل حسه النقدي و تؤطر رؤيته الإدراكية و تساهم في تحديد بوصلته الفكرية في المرحلة الراهنة و المقبلة. ففيها تجلو مصداقية قول "لا" دونما سقوط في دوامة العدمية؛ "لا" التي تقال للظلم و الفقر والفساد و الاستبداد  و الأمية و التجهيل و الاستلاب و الاغتراب و العمالة للمستعمر و التكبر و الصلف و الخمول و الغرور .. فهو الذي استبطن "لا" من الشباب الباكر، و يتذكر ذلك قائلا: المهدي بن عبود رحمه الله علمني شيئا و أنا ابن17 سنة في أمريكا، عندما يخاطبني أقول له "نعم" سيدي، فالتفت إلي و قال: " تعلم أن تقول لا، قل "لا" أولا و إذا اتضح أن هناك مبررات لقول "نعم" فلا باس، أما إذا تعودت على قول نعم فيصعب عليك قول "لا" بعد ذلك. ( "الإهانة في عهد الميغا امبريالية". ص: 258 



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



لعل من بين التوصيات المخصوصة بترداد غير قليل في القرآن الكريم؛ توصية " اتقوا ربكم"، توجه تارة إلى الناس و تارة إلى الذين آمنوا. و معلوم أن مقياس التفاضل بين الناس في ميزان الله هو  "التقوى". مما ينبئ  بالمكانة الهامة التي تحتلها  هذه القيمة الخلقية في التوجيه القرآني لحياة الإنسان. من باب الفضول المحمود، لماذا "التقوى" تنال هكذا حظوة في رسالة القرآن الكريم؟
التقوى، هي شعور دفين نابع من الأعماق يردع صاحبه عن تجاوز حد من حدود  رب العالمين، هي ارتباط بتوجيهات العلي الأعلى دونما حاجة لرؤية جزاء أو عقاب في الدنيا، هي مصداق الإيمان بالذات المطلقة و بوجود عالم الغيب فوق عالم الشهادة، هي تجل صادق للارتماء في التساؤل عن المصير و اليوم الآخر و أشواق الإنسانية العليا، هي برهان دامغ على تحرر الإنسان من وشائج الطين و دنس الوصايات السفلى.
. التقوى: عنوان ارتقاء الكائن البشري

يريد الله سبحانه، من وراء انتهاء الإنسان عن نهي من النواهي أو الائتمار بأمر من الأوامر، أن يتوقف على مدى ارتباط العبد  به و درجة استحضار لمراقبته: هل فعلا يخاف الله بالغيب.
على سبيل المثال؛  الصيد البري أثناء الإحرام؛ هو محرم بشكل صريح في آيات سورة المائدة، لكن ما المراد من تحريم ما يلذ للإنسان من طعام يتحصل عليه بيسر من الصيد أيام الإحرام؟  يقول تعالى : (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم و رماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم). سورة المائدة:96. إذن الغرض من هذا الابتلاء  و الاختبار  -تحريم  اصطياد  فريسة  طالما اشتهاها الإنسان، و هو غير مُحرم،  و الآن صارت بين يديه يمكنه بيسر الإيقاع بها- هو تمحيص الصفوف و الأفئدة "ليعلم الله من يخافه بالغيب".
يقول صاحب الظلال في ما تنطوي عليه الآية الكريمة من معان عظيمة: إن مخافة الله هي القاعدة الصلبة التي يقوم عليها بناء العقيدة، و بناء السلوك، و تناط بها الخلافة على الأرض بمنهج الله القويم..
إن الناس لا يرون الله؛ و لكنهم يجدونه في نفوسهم حين يؤمنون.. إنه تعالى بالنسبة لهم غيب، و لكن قلوبهم تعرفه بالغيب و تخافه. إن استقرار هذه الحقيقة الهائلة –حقيقة الإيمان بالله بالغيب و مخافته- و الاستغناء عن رؤية الحس و المشاهدة؛ و الشعور بهذا الغيب شعورا  يوازي –بل يرجح- الشهادة؛ حتى ليؤدي المؤمن شهادة: بأن لا إله إلا الله. و هو لم ير الله..
إن استقرار هذه الحقيقة على هذا النحو يعبر عن نقلة ضخمة في ارتقاء الكائن البشري، و انطلاق طاقاته الفطرية، و استخدام أجهزته المركوزة في تكوينه الفطري على الوجه الأكمل؛ و ابتعاده –بمقدار هذا الارتقاء- عن عالم البهيمة التي لا تعرف الغيب –بالمستوى الذي تهيأ له الإنسان- بينما يعبر انغلاق روحه عن رؤية ما وراء الحس، و انكماش إحساسه في دائرة المحسوس، عن تعطل أجهزة الالتقاط و الاتصال الراقية فيه، و انتكاسه إلى المستوى الحيواني في الحس "المادي" !
(في ظلال القرآن: 980/)

2. إعلاء شأن التقوى: إعلاء شأن حرية الإنسان

القرآن الكريم، إذ يسلط الأضواء و يوجه الأبصار إلى قيمة "جوانية" معنوية تنتسب لما في داخل الإنسان (التقوى)، إذ يفعل هذا فإنما يعلي من شأن حرية الإنسان: فلا معنى لوصاية، لا عمق لمحاولات الإكراه، لا شرعية للغة القوة و الحديد و النار، لا مشروعية لحمل راشد(ة) على أمر من الأوامر أو ترك نهي من النواهي دون اقتناعه و رضاه.
يقول لنا القرآن: أعوادكم ينبغي أن تكون ماثلة إلى تربية الإنسان على الخوف من الرحمان وحده لا الخوف من الُمكرهين هواة الوصاية على ضمائر الناس، لأن يوم الحساب يحاسب فيه المرء على قناعاته و مدى صدق نواياه و يومئذ لا معنى لصلاة و لا زي و لا سلوك لم يُمحض فيه المرء الخشية لله جل في علاه.
هذه الفكرة المركزية التي تكمن وراء إعلاء قيمة "التقوى" في القرآن الكريم كفيلة لوحدها بإحداث انقلاب في موازين التفكير لدى العديد من الناس. فأن ترى إنسانا لا يأتمر بأمر الصلاة و لا ينتهي عن الفحش من الكلام و لا منكور الألبسة و الأزياء: لا فائدة ترجى من إكراهك له على الصلاة في حضرتك إذا رغب عن الصلاة في خلوته و جلوته، لا طًعم لتدثًره  أمام أنظارك بما تهوى إذا مازال متشوفا لما أنكرت عليه.. لأنه ببساطة، إن كنت حقا تغار على آخرتك و آخرته، فهناك في الدار الأخرى سيحاسب على ما وقر فيه قلبه من خشية و إيمان  قبل أن يحاسب على ما تظاهر به من مظاهر و أشكال.

و هذا مقتلُ المراهنين على السلطة لتشييد ما تحطم من قيم الإيمان في حياة الناس. إنهم يتوهمون أنه بالتوسل بالقوة و الإكراه و الإلجاء سيقيمون مبتغى رب العباد. كلا ! فما يفرح الغني عن الناس بمظاهر طاعة تفتقر لركن ركين: إيمان صاحبها بأنه يتقرب بها إلى الله. إن السلطة من شأنها، فحسب، في هذا الجانب: تشجيع العمل التربوي الجاد في صفوف الناس الذي يذكر –بحكمة-  بعقائد الإيمان و يُثبت –بلطف- قيمة التقوى و يحًد – ببصيرة- من تأثير ما يمكن أن يشوش على صورة قيم الإيمان و التوحيد. أما إلجاء الناس و قسرهم على اعتناق توجه أو معتقد و ارتداء زي أو ملبس فذاك لا معنى له  في دين كتابه المرجعي يؤكد أن المناط من كل تكليف جس نبض حس "التقوى" و مدى مخافة الله بالغيب.
إن إكراه الناس على قيم لم ينحازوا لها عن رضا و قناعة، يمكن أن يؤدي إلى نتائج كارثية؛ إذ سيؤسس لمناخات جديدة يتبلور فيها دين جديد يقوم فيه الناس بأداء طقوس "الدين" خوفا من السلطة الرادعة لا خوفا من رب السلاطين و العالمين.

إن المعركة الحقيقية هي تربية الناس على التقوى و خشية العلي الأعلى في السر و العلن، هي التدسس بلطف إلى مغالق عقولهم و شغاف قلوبهم لينهضوا  مما وقعوا فيه من عثرة أو عوج أو انحراف، هي تذكيرهم على الدوام بسر خلق الإنسان و أسئلة الحياة و يوم الحساب. هي درس 13  سنة في مكة (دار الأرقم) و درس 10 سنوات في منبر المسجد في المدينة.
أما حمل الناس بالقوة و الإكراه على تغيير سلوك أو معتقد فذلك لعمري من العبث و هروب جبان من المعركة الأصيلة و تملص من العناية بالصناعة الثقيلة المتمثلة في التربية و التذكير و الترفق في النصح و التوجيه.
إن غرس شعور التقوى بتدرج و ثبات في وجدان الناس هو قطب رحى المعركة الإصلاحية؛ شعور يحرر الإنسان من وهم الارتهان لرضا بني الإنسان على حساب رضا الله؛ شعور يتأسى بذاك المثال الذي استقر في وعي الصحابة و الصحابيات رضوان الله عليهم: إذ نزل التحريم القطعي للخمر؛ يستجيبون للأمر بوحي من إرادتهم دونما حاجة لقوة رادعة و لا إكراه فيُسيلونه في شوارع المدينة في ملحمة عز لها نظير في سرعة الاستجابة للأمر و النذير. كذلك حين نزل الأمر بمواصفات الزي الشرعي؛ أمنا عائشة رضي الله عنها تقول-فيما يرويه البخاري- (يرحم الله نساء المهاجرات، لما أنزل الله: "و ليضربن بخمرهن على جيوبهن"، شققن مروطهن فاختمرن بها)،  هكذا  دونما حاجة لسلطة و لا سيف على الرقاب و إنما استجابة لنداء التقوى الذي يسكن الإنسان.

مسك الختام، إن الحظوة الخاصة التي تنالها قيمة 'التقوى" في كتاب الله إشارة لماحة لأهمية الدور الذي تؤديه إذا ترسخت في النفوس. إنها ترتقي بالكائن البشري، فتؤكد سبق حريته على أي شيء آخر. إنها التفاتة إلى أن الإسلام معناه إسلام الباطن قبل أداء الشعائر و الالتزام بالمظاهر. إنها رسالة ترفض أي وصاية على التدين و المشاعر. إنها تقول "لا" لأي سلطة تتقصد قسر الناس على قناعات لم تنحز لها الضمائر.


...تابع القراءة