| 0 التعليقات ]



لعل من بين التوصيات المخصوصة بترداد غير قليل في القرآن الكريم؛ توصية " اتقوا ربكم"، توجه تارة إلى الناس و تارة إلى الذين آمنوا. و معلوم أن مقياس التفاضل بين الناس في ميزان الله هو  "التقوى". مما ينبئ  بالمكانة الهامة التي تحتلها  هذه القيمة الخلقية في التوجيه القرآني لحياة الإنسان. من باب الفضول المحمود، لماذا "التقوى" تنال هكذا حظوة في رسالة القرآن الكريم؟
التقوى، هي شعور دفين نابع من الأعماق يردع صاحبه عن تجاوز حد من حدود  رب العالمين، هي ارتباط بتوجيهات العلي الأعلى دونما حاجة لرؤية جزاء أو عقاب في الدنيا، هي مصداق الإيمان بالذات المطلقة و بوجود عالم الغيب فوق عالم الشهادة، هي تجل صادق للارتماء في التساؤل عن المصير و اليوم الآخر و أشواق الإنسانية العليا، هي برهان دامغ على تحرر الإنسان من وشائج الطين و دنس الوصايات السفلى.
. التقوى: عنوان ارتقاء الكائن البشري

يريد الله سبحانه، من وراء انتهاء الإنسان عن نهي من النواهي أو الائتمار بأمر من الأوامر، أن يتوقف على مدى ارتباط العبد  به و درجة استحضار لمراقبته: هل فعلا يخاف الله بالغيب.
على سبيل المثال؛  الصيد البري أثناء الإحرام؛ هو محرم بشكل صريح في آيات سورة المائدة، لكن ما المراد من تحريم ما يلذ للإنسان من طعام يتحصل عليه بيسر من الصيد أيام الإحرام؟  يقول تعالى : (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم و رماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم). سورة المائدة:96. إذن الغرض من هذا الابتلاء  و الاختبار  -تحريم  اصطياد  فريسة  طالما اشتهاها الإنسان، و هو غير مُحرم،  و الآن صارت بين يديه يمكنه بيسر الإيقاع بها- هو تمحيص الصفوف و الأفئدة "ليعلم الله من يخافه بالغيب".
يقول صاحب الظلال في ما تنطوي عليه الآية الكريمة من معان عظيمة: إن مخافة الله هي القاعدة الصلبة التي يقوم عليها بناء العقيدة، و بناء السلوك، و تناط بها الخلافة على الأرض بمنهج الله القويم..
إن الناس لا يرون الله؛ و لكنهم يجدونه في نفوسهم حين يؤمنون.. إنه تعالى بالنسبة لهم غيب، و لكن قلوبهم تعرفه بالغيب و تخافه. إن استقرار هذه الحقيقة الهائلة –حقيقة الإيمان بالله بالغيب و مخافته- و الاستغناء عن رؤية الحس و المشاهدة؛ و الشعور بهذا الغيب شعورا  يوازي –بل يرجح- الشهادة؛ حتى ليؤدي المؤمن شهادة: بأن لا إله إلا الله. و هو لم ير الله..
إن استقرار هذه الحقيقة على هذا النحو يعبر عن نقلة ضخمة في ارتقاء الكائن البشري، و انطلاق طاقاته الفطرية، و استخدام أجهزته المركوزة في تكوينه الفطري على الوجه الأكمل؛ و ابتعاده –بمقدار هذا الارتقاء- عن عالم البهيمة التي لا تعرف الغيب –بالمستوى الذي تهيأ له الإنسان- بينما يعبر انغلاق روحه عن رؤية ما وراء الحس، و انكماش إحساسه في دائرة المحسوس، عن تعطل أجهزة الالتقاط و الاتصال الراقية فيه، و انتكاسه إلى المستوى الحيواني في الحس "المادي" !
(في ظلال القرآن: 980/)

2. إعلاء شأن التقوى: إعلاء شأن حرية الإنسان

القرآن الكريم، إذ يسلط الأضواء و يوجه الأبصار إلى قيمة "جوانية" معنوية تنتسب لما في داخل الإنسان (التقوى)، إذ يفعل هذا فإنما يعلي من شأن حرية الإنسان: فلا معنى لوصاية، لا عمق لمحاولات الإكراه، لا شرعية للغة القوة و الحديد و النار، لا مشروعية لحمل راشد(ة) على أمر من الأوامر أو ترك نهي من النواهي دون اقتناعه و رضاه.
يقول لنا القرآن: أعوادكم ينبغي أن تكون ماثلة إلى تربية الإنسان على الخوف من الرحمان وحده لا الخوف من الُمكرهين هواة الوصاية على ضمائر الناس، لأن يوم الحساب يحاسب فيه المرء على قناعاته و مدى صدق نواياه و يومئذ لا معنى لصلاة و لا زي و لا سلوك لم يُمحض فيه المرء الخشية لله جل في علاه.
هذه الفكرة المركزية التي تكمن وراء إعلاء قيمة "التقوى" في القرآن الكريم كفيلة لوحدها بإحداث انقلاب في موازين التفكير لدى العديد من الناس. فأن ترى إنسانا لا يأتمر بأمر الصلاة و لا ينتهي عن الفحش من الكلام و لا منكور الألبسة و الأزياء: لا فائدة ترجى من إكراهك له على الصلاة في حضرتك إذا رغب عن الصلاة في خلوته و جلوته، لا طًعم لتدثًره  أمام أنظارك بما تهوى إذا مازال متشوفا لما أنكرت عليه.. لأنه ببساطة، إن كنت حقا تغار على آخرتك و آخرته، فهناك في الدار الأخرى سيحاسب على ما وقر فيه قلبه من خشية و إيمان  قبل أن يحاسب على ما تظاهر به من مظاهر و أشكال.

و هذا مقتلُ المراهنين على السلطة لتشييد ما تحطم من قيم الإيمان في حياة الناس. إنهم يتوهمون أنه بالتوسل بالقوة و الإكراه و الإلجاء سيقيمون مبتغى رب العباد. كلا ! فما يفرح الغني عن الناس بمظاهر طاعة تفتقر لركن ركين: إيمان صاحبها بأنه يتقرب بها إلى الله. إن السلطة من شأنها، فحسب، في هذا الجانب: تشجيع العمل التربوي الجاد في صفوف الناس الذي يذكر –بحكمة-  بعقائد الإيمان و يُثبت –بلطف- قيمة التقوى و يحًد – ببصيرة- من تأثير ما يمكن أن يشوش على صورة قيم الإيمان و التوحيد. أما إلجاء الناس و قسرهم على اعتناق توجه أو معتقد و ارتداء زي أو ملبس فذاك لا معنى له  في دين كتابه المرجعي يؤكد أن المناط من كل تكليف جس نبض حس "التقوى" و مدى مخافة الله بالغيب.
إن إكراه الناس على قيم لم ينحازوا لها عن رضا و قناعة، يمكن أن يؤدي إلى نتائج كارثية؛ إذ سيؤسس لمناخات جديدة يتبلور فيها دين جديد يقوم فيه الناس بأداء طقوس "الدين" خوفا من السلطة الرادعة لا خوفا من رب السلاطين و العالمين.

إن المعركة الحقيقية هي تربية الناس على التقوى و خشية العلي الأعلى في السر و العلن، هي التدسس بلطف إلى مغالق عقولهم و شغاف قلوبهم لينهضوا  مما وقعوا فيه من عثرة أو عوج أو انحراف، هي تذكيرهم على الدوام بسر خلق الإنسان و أسئلة الحياة و يوم الحساب. هي درس 13  سنة في مكة (دار الأرقم) و درس 10 سنوات في منبر المسجد في المدينة.
أما حمل الناس بالقوة و الإكراه على تغيير سلوك أو معتقد فذلك لعمري من العبث و هروب جبان من المعركة الأصيلة و تملص من العناية بالصناعة الثقيلة المتمثلة في التربية و التذكير و الترفق في النصح و التوجيه.
إن غرس شعور التقوى بتدرج و ثبات في وجدان الناس هو قطب رحى المعركة الإصلاحية؛ شعور يحرر الإنسان من وهم الارتهان لرضا بني الإنسان على حساب رضا الله؛ شعور يتأسى بذاك المثال الذي استقر في وعي الصحابة و الصحابيات رضوان الله عليهم: إذ نزل التحريم القطعي للخمر؛ يستجيبون للأمر بوحي من إرادتهم دونما حاجة لقوة رادعة و لا إكراه فيُسيلونه في شوارع المدينة في ملحمة عز لها نظير في سرعة الاستجابة للأمر و النذير. كذلك حين نزل الأمر بمواصفات الزي الشرعي؛ أمنا عائشة رضي الله عنها تقول-فيما يرويه البخاري- (يرحم الله نساء المهاجرات، لما أنزل الله: "و ليضربن بخمرهن على جيوبهن"، شققن مروطهن فاختمرن بها)،  هكذا  دونما حاجة لسلطة و لا سيف على الرقاب و إنما استجابة لنداء التقوى الذي يسكن الإنسان.

مسك الختام، إن الحظوة الخاصة التي تنالها قيمة 'التقوى" في كتاب الله إشارة لماحة لأهمية الدور الذي تؤديه إذا ترسخت في النفوس. إنها ترتقي بالكائن البشري، فتؤكد سبق حريته على أي شيء آخر. إنها التفاتة إلى أن الإسلام معناه إسلام الباطن قبل أداء الشعائر و الالتزام بالمظاهر. إنها رسالة ترفض أي وصاية على التدين و المشاعر. إنها تقول "لا" لأي سلطة تتقصد قسر الناس على قناعات لم تنحز لها الضمائر.


0 التعليقات

إرسال تعليق