| 0 التعليقات ]



يعد كتاب "حتى يغيروا ما بأنفسهم" أحد أشهر كتب الأستاذ جودت سعيد. نُشر عام 1972 ضمن سلسلة "أبحاث في تغيير النفس والمجتمع"، بتقديم الأستاذ مالك بن نبي. يقع الكتاب، في طبعة عام 1993 الخاصة بالمغرب والموزعة من طرف المكتبة السلفية، في 223 صفحة.
يعالج الكتاب قضية مركزية تتصل بضرورة الإيمان بالسنن التي تحكم الاجتماع البشري في صعوده وأفوله. وحسب الكاتب فهي قضية حاسمة في طريق النهوض والخروج من العتمة والتخلف.
حرص الكاتب في فصول عديدة من الكتاب على مخاطبة وجدان المسلم المعاصر بالخطاب الذي ينصت إليه. هكذا نجده في فقرات كثيرة معنيا باستدعاء شواهد كثيرة من القرآن والسنة لتأصيل قضية "السنن الاجتماعية" التي تحابي أمة دون أخرى، من قبيل قول الله تعالى: "لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". سورة يونس:49.
يتوزع الكتاب، بالإضافة إلى المدخل، على 17 فصلا: سنة عامة للبشر؛ سنة مجتمع لا سنة فرد؛ سنة دنيوية لا أخروية؛ في الآية تغييران؛ مجال كل من التغييرين؛ الجانب المهم هو التغيير الذي يقوم به القوم؛ ما بالقوم نتيجة لما بالنفس؛ لتحقيق التغيير لا بد من تغييرين؛ مفهوم التغيير عند الآخرين؛ علم النفس الفردي والاجتماعي؛ العلاقة بين سلوك الإنسان وما بنفسه؛ يظهر أثر ما بالنفس ولو كان وهما؛ ما بالنفس يتفاوت في الرسوخ؛ كيف تلقى السنن القبول؛ العقل والسنن في القرآن؛ الفعل والانفعال؛ المنهج والتطبيق.
إن الخلاصة المحورية التي يسعى الكاتب لترسيخها لدى القارئ هي أن التغيير بشكل عام في مسائل الدنيا رهين بسنن (=قوانين) لا بد من تَحريها لكي يُغير الله الواقع إلى وضع أفضل. أهم هذه السنن هي تغيير ما بالأنفس كما جاء في الآية الكريمة التي عَنوَن بها الكتاب. والمراد بما بالأنفس هو: الأفكار، والمفاهيم، والظنون، في مجالي الشعور واللاشعور. (ص:51)
ويؤكد الكاتب على فكرة هامة تستتبع الخلاصة المحورية السابقة وهي أن تمكُن الإنسان من استخدام سنن التغيير، يمنح الإنسان سيطرة على سنة التاريخ، وسيطرة على صنعه وتوجيهه. بل ويلح على أن الإنسان لا يندفع نحو العمل المفيد ما لم يقتنع أن هناك خطوات لا بد من اتباعها لبلوغ الهدف والوصول إلى الحل. وفي المقابل يصير الإنسان مشلول الحركة والمبادرة إذا آمن أن هناك عوامل خارقة هي التي تتدخل لحسم النجاح.
يقول الكاتب: "إن اندفاع الإنسان للحركة المُجدية، مرهون باقتناعه أن لكل مشكلة طريقة لحلها. فكذلك المسلمون لا يمكن لهم أن يتحركوا بجدية لتغيير واقعهم، ما لم يقتنعوا أن مشكلتهم تخضع لقوانين وسنن. أما إذا بقي لديهم شعور أن المشكلة لن تحل إلا بالمهدي المنتظر، أو بأن الزمن شارف على الانتهاء، فإن المشكلة تبقى دون حل، بل تزداد تعقيدا. وما لم نتمكن من معرفة تغيير ما بالنفس، وما معرفة ما ينبغي أن نغير كما وكيفا، فسنظل ننتظر المهدي فعلا وإن نفينا عن أنفستنا ذلك نظريا. إن الإيمان بفكرة ما ـبشكل منحرف ـ يؤدي إلى مواقف سلبية. (ص:120ـ121)
من هذا المنطلق، يعتبر الكاتب أن مشكلتنا بالدرجة الأولى رهينة عالم الأفكار أي متصلة بالتصورات التي ننظر بها إلى العالم. ويؤكد أن الأمراض الفكرية التي يعاني منها العالم الإسلامي فتاكة بل مميتة. ويقول في ذلك: إن الأمراض التي نعيشها في مجال  الفكر، أمراض مميتة، قاطعة لطريق الحياة. إن ضغط إرهاب القرون الماضية في الفكر، سيف مسلط على رؤوسنا. وإزالة هذا الكابوس، لن تتم إلا بجهود عظيمة: الدأب في الدرس، وفتح الأبصار والبصائر، والسير في الأرض والنظر إلى ما خلق الله، وكيف بدأ هذا الخلق. وهذه كلها لم نتعود عليها بعد، بل لا نرى فيها كثيرا من الجدوى، مهما تكرر النداء في آيات القرآن، وبعث الهمم إليها.ص: 176ـ177
إن الغرور الذي نظر به المسلمون إلى أنفسهم بلغ مبلغا كبيرا. وإن نزوعهم نحو الاكتفاء بالنصوص الشرعية لقراءة سنن بناء الإنسان والعمران صارت غير محتملة، إذ تبقى الحاجة ملحة إلى كشف سنن الآفاق والأنفس لتسخيرها في بناء النهضة المأمولة. يقول الكاتب: يكفي ما نظرنا فيه إلى أنفسنا بالغرور، من أننا ورثة علم الأولين والآخرين! ...، وأننا لم نعد في حاجة إلى أن نشد رحلا لطلب علم،   أو نخصص وقتا لإعمال الفكر، أو أن يكون في العالم أحد، يمكن أن يكون مظنة أن يكشف سنة من سنن الله في الكون، أو يرى آية من آياته في الآفاق والأنفس، سواء كان من أهل الكتاب أو لم يكن. ص: 177


إن كتاب (حتى يغيروا ما بأنفسهم) هو صرخة الأستاذ جودت سعيد التي عبر فيها عن أن المسلمين بعيدون عن اعتبار السنن الكونية بشكل عام، التي تطال الآفاق (الطبيعة والعمران) والأنفس (الإنسان)، والتي لا يتحقق النجاح من دونها في الدنيا. ولذلك فالكاتب يدعو إلى أخذ هذه السنن بعين الاعتبار بمعنى تحقيق التغيير على مستوى الأنفس لكي يتحقق تغيير الله.  


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



يعد كتاب "العمل قدرة وإرادة"، المطبوع لأول مرة عام 1980، من الكتابات التي توجه بها الأستاذ جودت سعيد إلى الصحوة الإسلامية بهدف ترشيدها. وإذا كان كتابه "مذهب ابن آدم الاول" قد عالج قضية العنف ومدى شرعية ومشروعية استثماره كوسيلة لتحقيق أهداف العمل الإسلامي؛ وكان كتابه "حتى يغيروا ما بأنفسهم" قد لامس قضية الإيمان بسنن التغيير (=تغيير المحتوى الداخلي للأنفس من أفكار ومشاعر وظنون) التي لا بد من تفعيلها في أوساط "القوم" قبل انتظار تغيير الله.
إذا كان الكتاب الأول الذي صدر عام 1965، وكان الثاني قد صدر عام 1972؛ فإن الكتاب الثالث "العمل قدرة وإرادة" (الذي يقع في 302 صفحة) قد عاد إلى الاشتباك المعرفي مع الثغرة التي جعلت الاسلاميين في فترة من الفترات يؤمنون بأن "العنف هو الطريق" وبأن "الله سينصر أولياءه عاجلا أم آجلا"... إلخ. إنها ثغرة آتية من نسيان أركان "العمل الصالح" وهي: الإخلاص، ولكن مع الصواب.
إن القائمين على العمل الاسلامي في عقد السبعينيات وما قبله في كل أرجاء العالم الإسلامي كانوا حسب الكاتب يُلفتون نظر المتحمسين من الشباب إلى أن المطلوب فقط هو الإخلاص. وبعبارة أخرى، ما هو واجب هو الارتباط بالغايات فقط أما الوسيلة فلا تهم طبيعتها حسب هذا التصور الذي جعل جاء جودت سعيد لبيان خطورته.
ولهذا سقطوا في مقاتل عديدة منها: الإيمان بالعنف كوسيلة للتغيير؛ والاكتفاء بالدعاء والصلاة والانتظار كوسائل دون القيام بأي خطوات عملية ملموسة  من أجل التغيير. إن الكاتب يؤكد على أن الاسلام حريص على مدى "صواب الوسيلة" بقدر ما هو حريص على وجود "الإخلاص في الغاية"  ليكتمل العمل الصالح.
وفي هذا السياق يشير الكاتب إلى أن هدفه من الكتاب هو تغيير نظر المسلم إلى الأمور: إن مسلم اليوم لا يبذل جدا ليرى جانب الخطأ الذي وقع فيه مفكرو المسلمين، بل ـمع الأسف ـ يعتقد أن هؤلاء المفكرين والعاملين قد توضحت لهم كل شروط النجاح ومارسوها، إلا أنهم لم ينجحوا، ولا ضير إذ: (علينا أن نسعى وليس علينا إدراك النجاح)، وإن الأمر ليس بيدهم وإنما هو بيد القدر الأعلى!! وإن اعتقاد المسلمين بأن النجاح ليس نتيجة حتمية للسعي الصالح؛ هو من أشد المعوقات التي تمنع المسلمين من مراجعة أعمالهم ونقدها، لأنهم لا يفرضون فيها الخطأ، بل يفرضون أنها كانت صائبة، ولكن لم تأت النتيجة المطلوبة لأمر أراده الله. (ص:107).
يصرح الكاتب في ثنايا الكتاب بأن العنوان الاصلي للكتاب هو (الإخلاص والصواب). والمقصود ب"الإرادة" هو "الإخلاص" بشكل مباشر، كما أن المقصود ب"القدرة" هو "الصواب.
وفي هذا الصدد يقول: ووجهة نظري أن الذي ينقص المسلمين ليس من جانب الإرادة، وإنما من جانب القدرة. ولكن نظرهم في هذا له مداخلات بحيث يعطل قيمة الإرادات؛ هذا ما أردتُ شرحه في هذا الكتاب، ومهما يكن فإن تحديد الموضوع بهذا الشكل له قيمة، ولهذا رأيت أن أجعل عنوان بحث الكتاب (القدرة والإرادة)، وإن أول ما تبلور عندي كان تحت عنوان (الإخلاص والصواب)، وكلا المصطلحين مما استخدمه المسلمون في بحوثهم وهما واردان في القرآن.
 ويستشهد بالأستاذ مالك بن نبي الذي يستخدم في كتابه (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) هاتين الكلمتين كقانون رياضي ومعادلة لبحث قانون حركة المجتمع فيقول: "إن إرادة المجتمع وقدرته تضفيان على وظيفة الحضارة موضوعية وفعالية، أي أن جملة العوامل المعنوية والمادية اللازمة لتحقيق تقدم الفرد تصبح موضوعية؛ وذلك بأن تتحول إلى سياسة وتشريع، فيمثلان عالم الأفكار في هذا المجتمع على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي تمثيلا مباشرا". (جودت سعيد، العمل قدرة وإرادة، دار الفكر المعاصر، لبنان، الطبعة الثانية، 1993، ص:24ـ25)
يتوزع محتوى الكتاب على خمسة فصول؛ الأربعة الاولى مخصصة للمصطلحات والفصل الأخير للتطبيقات. يعتبر الكاتب أن "العمل" هو حركة بقصد؛ لهذا فهو يتولد ضرورة من الإرادة والقدرة معا. وكما يتكون العمل من زوجين لأن الله أودع في الكون مبدأ الزوجية؛ فإن الإرادة تتكون من "المثل الأعلى" و"عقل الإنسان". بينما القدرة هي استطاعة أداء العمل وهي طاقة تحيل على بعدين؛ القدرة الفهمية (المعرفة والأفكار التي تتيح تسخير القدرات المادية)، والقدرة المادية (قوة العضلات، كثرة الأشخاص، سعة الأراضي التي يملكها الشعب، الثروات التي في باطن الأرض من نفط ومعادن ... إلخ).
إن ما ينقص العالم الإسلامي اليوم، حسب الكاتب، هو القدرات الفهمية لا القدرات المادية، أي معرفة سنن تسخير إمكانيات العالم الإسلامي المادية والبشرية. والقدرات الفهمية يتم تحصيلها بتفاعل "العقل" و"سنن الكون".
في الفصل الأخير الخاص بتطبيقات أفكار الكتاب على واقع العالم الاسلامي يلح الكاتب على أن العالم الاسلامي يملك إرادة واضحة تتمثل في أنه يريد أن يعيش حياته وفقا للإسلام، ولكن سبب إحجام المسلم عن التضحية بالنفس والمال هو عدم وضوح جدوى التضحية، أو جهل الطريقة المجدية للبذل. ويختلف الكاتب مع الذين يتحدثون عن مصائبنا وهزائمنا، ويرون السبب في عدم الإيمان أو نقص الإرادة، لأن النصر في زعمهم لا يحتاج لغير الإيمان الذي انتصر به الصحابة، وبهذا يرفعون عن كاهل الجيل الجيل مسؤولية عبء الدرس لتحصيل القدرات الفهمية التي يحتاج إليها العالم الاسلامي ليخرج من محنته.
إن العلم المطلوب هو الذي يغير ما بالنفوس، ولكن جهود المسلمين في العصر الحديث اتجهت في الغالب إلى تصحيح العقيدة والدفاع عن الاسلام وتمجيده. ولكن لِمَاذا لم يصل المسلمون إلى بناء قدراتهم طالما أنهم يتمتعون بإرادات صلبة؟ يجيب جودت سعيد في ثلاث نقط:
أولا: لأن المسلم فقد العلم والمعرفة لما يقوم به ويؤديه على الوجه الصحيح حتى يحقق إرادته، ولهذا فإن الإخلاص مع الجهل لا يجدي. ومع الجهل فقدان المقياس الموضوعي الذي يميز به المسلم النافع من الضار، وهذا يؤدي إلى الخوف والانكماش أمام كل جديد وإن كان يحمل النفع.
ثانيا: الفهم الخاطئ لقدر الله، وذلك أن المسلم زهد في بذل الجهد حين رأى أن إرادته لا تتحقق بجهده الشخصي وإنما بأمر الله، فتبقى إرادته لا تحمله على السعي لإيجاد القدرات.
ثالثا: نظر المسلم إلى أحداث الكون والحياة نظرا يخلو من البحث عن القانون والسبب وبداية الأمور وتكوُنها. (ص:296) 
في الختام، هذا الكتاب يسعى غلى تقريب أهمية تحري الصواب في حركة المسلم وعمله. إنه يكشف العلاقة السليمة بين الإنسان وخالقه بالعبودية، وبين الإنسان والإنسان بالعدل والإحسان، وبين الإنسان والكون بالتسخير. والقدرة الفهمية هي التي توصل إلى كشف هذه العلاقات عن طريق دراسة آيات الآفاق والأنفس التي تشهد لآيات الآفاق.



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



اهتم مالك بن نبي بمشكلة الثقافة ومشكلة الأفكار في العالم الإسلامي لأنه انتبه مبكرا إلى أن محور القوة في عالم القرن العشرين يكمن في الأفكار. شرع في كتابة كتابه (مشكلة الأفكار) منذ عام 1960 لكن لم يُكتب له النشر إلا في مطلع السبعينيات قبل وفاته بقليل.
يتوزع الكتاب على 17 فصلا علاوة على مقدمة وخاتمة:
في الفصل الأول (الإجابتان على الفراغ الكوني)، افترض الكاتب الحالة التي يكون فيها الإنسان عندما يكون منعزلا حيث ينتابه شعور بالفراغ الكوني، ليصل إلى أن الإجابة عن هذا الشعور بالفراغ  هي التي تحدد طراز حضارته وثقافته.
هناك إجابتان لملء هذا الفراغ: الأولى هي أن ينظر الإنسان إلى الأرض أي أن يرتبط بعالم الأشياء. وينشأ عبر هذه الطريقة نموذج من ثقافة السيطرة على الوسائل والأشياء. الإجابة الثانية هي أن يرفع بصره نحو السماء اي يرتبط بعالم الأفكار. وينشا عبر هذه الطريقة نموذج من ثقافة حضارة ذات جذور أخلاقية وغيبية.
تكون الحضارة في الأوج حينما تتركز الأشياء حول فكرة حينا، وحينا تبلغ الأوج حضارة أخرى تتركز فيها الأفكار حول الشيء.
يؤكد الكاتب أن الأدب وعاء لمضمون ثقافي يعبر عن رؤية كونية. وبمقارنة بسيطة بين قصة "حي بن يقظان" وقصة "روبنسون كروزو" نكتشف حجم التباين الكائن بين رؤيتين كونيتين. في القصة الأولى، يجعلنا ابن طفيل نتتبع صعود ذهنه لكي يكتشف شيئا فشيئا (الروح) ثم (خلود الروح) وأخيرا فكرة (خالق). أي أن عالم "ابن طفيل" هو عالم الأفكار والغايات الكيفية لمواجهة الوحدة. بينما في القصة الثانية، يصور لنا "سيكار" كيف امتلأ روبنسون بصنع "طاولة"، أي أن عالم "روبنسون" هو عالم الأشياء والوسائل الكمية  للتغلب على الوحدة.
في الفصل الثاني (الطفل والأفكار) تناول الكاتب مسار اندماج الطفل في المجتمع: 1ـ العمر الذي يكتشف فيه تلقائيا عالم الأشياء، وهو يلعب بأصابعه ومصاصته. ويتم هذا الاكتشاف بامتلاك الأشياء التي يحملها تلقائيا إلى فمه. 2ـ العمر الذي يكتشف فيه تدريجيا عالم الأشخاص. 3ـ العمر الذي يكتشف فيه اخيرا عالم الأفكار. ويبدأ من اللحظة التي يتمكن فيها من تكوين روابط شخصية مع مفاهيم تجريدية.
في الفصل الثالث (المجتمع والأفكار) يعتبر الكاتب أن المجتمع خاضع لنفس مسار تطور الطفل في علاقته بالعوالم الثلاثة (عالم الأشياء، ثم الأشخاص، ثم الأفكار). ويلح على أن المجتمع المتخلف موسوم بافتقاره للأفكار. ويستحضر نموذج المجتمع الجاهلي الذي كان يدور في فلك الصنم (= الشيء) ثم تطور إلى التمركز حول القبيلة أي عالم الاشخاص إلى أن أضاءت فكرة في غار حراء. ص:39
في الفصل الرابع (الحضارة والأفكار) يعود الكاتب إلى مفهوم الحضارة بوصفها "جملة من العوامل المادية والمعنوية التي تتيح لمجتمع ما ان يُوفر لكل عضو فيه الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره (=لتنمية الفرد)" ويشير في عبارة بليغة إلى أنها "القدرة على القيام بوظيفة أو مهمة معينة" ؛ ولهذا يرى أن الأفكار لها دور وظيفي فيها.
في الفصل الخامس (الطاقة الحيوية والأفكار) يحذرنا الكاتب من الانجرار وراء التحرر الحيواني للطاقة الحيوية معتبرا إياه إيذانا بنهاية الحضارة. ويضيف الكاتب أن الفكرة الاسلامية تُمكن المتشبع بها من احتواء الطاقة الحيوية بشكل إيجابي مبرزا مثالا دالا وهو تحريم الخمر وكيف كانت الفكرة الاسلامية المغروسة في أعماق وجدان المسلمين الأوائل سببا في نبذهم له وهو ما عجز عنه القانون الأمريكي عام 1929. أما في الفصل السادس (عالم الأفكار) فقد وضح فكرة هامة مفادها أن الأفكار المخذولة التي تتعرض للخيانة؛ تنتقم لنفسها. هذه الفكرة أعاد توضيحها من زاوية أخرى في الفصل الأخير (انتقام الأفكار المخذولة).
وفي الفصل السابع (الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة) تناول بالدرس والتحليل إسقاطات هذين المفهومين على العالم الإسلامي. يقول الكاتب: تلقى المجتمع الإسلامي رسالته المطبوعة منذ 14 قرن على هيئة وحي، فانطبعت في ذاتية الجيل المعاصر لغار حراء. على المستوى المادي: رسمت الرسالة نتائج اجتماعية جديدة (كالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار). أما على المستوى الفكري: فقد تم إيجاد مقاييس جديدة في أسلوب التفكير. وفي الإطار النفسي والأخلاقي تعرضت الطاقة الحيوية لاستقطاب مهم في مراكز جديدة (نموذج بناء الخندق). كما صار فعل العقوبة على الجسد اخف وطأة من فعل الخطيئة في الضمير. ص:71ـ72
في الجو الاسلامي الأول كانت الأفكار المطبوعة تضع بصماتها على جميع الأفكار الموضوعة فلم يعد هناك شيء دنيوي. وحين تطغى الأفكار الموضوعة على المطبوعة يتفتت المجتمع لأنه لم تعد لدى دوافع مشتركة.
في الفصل الثامن (جدلية العالم الثقافي) يناقش الكاتب معوقات الإقلاع الحضاري للعالم الإسلامي الناتجة عن عدم التماسك في عالم الأفكار أمام طغيان عالم الأشخاص وطغيان عالم الأشياء (حيث نجد أنه: على المستوى الفكري، التركيز على عدد صفحات الكتاب وليس محتواه. وعلى المستوى الاجتماعي، التصدي للمشكلات في جانبها الكمي. وعلى المستوى السياسي، استلاب قدرات المجتمع في التخطيط عند مواجهة التخلف).
في الفصل التاسع (جدلية الفكرة والشيء) يحيل الكاتب على أبعاد المشكلة ذات الطابع المزدوج حيث نجد أنه في بلد متخلف يفرض الشيء طغيانه بسبب ندرته، ويتم الميل نحو التكديس الذي يصبح في الإطار الاقتصادي إسرافا محضا. بينما في بلد متقدم وطبقا لدرجة تقدمه: يسيطر الشيء بسبب وفرته وينتج نوعا من الإشباع. ولهذا يخلص الكاتب إلى أن الشيء يطرد الفكرة حين يطردها من وعي الشبعان والجائع معا.
في الفصل العاشر (صراع الفكرة ـ الوثن) يبين الكاتب كيف أن الفكرة إذا تم ربطها بالشخص، تصير في مستوى معين "وثنا". ويرى في الفصل الحادي عشر (أصالة الأفكار وفعاليتها) أن هناك فكرة أصيلة دون أن تكون فعالة والعكس صحيح أيضا. وينبه إلى خطورة دسائس الصراع الفكري حيث يتم إيهام شبابنا الجامعي بالمقابلة بين أصالة الفكرة الإسلامية وفعاليتها، إذ يصبح متوسط الدخل الفردي (=مؤشر من مؤشرات قياس الفعالية) حجة لهدم اصالة الفكرة الإسلامية في عقل المثقف المسلم.
في الفصل الثاني عشر (الأفكار وديناميكا المجتمع) يستعيد الكاتب بعض مضامين الهدي النبوي التي تختزن إشارات دالة مفادها أن منطق الفعالية أولى أحيانا من منطق الأصالة (في غزوة تبوك، على سبيل المثال، التي كانت وسط رمضان وكانت مشقة الصوم كبيرة حينها؛ نجد المصطفى يعزو الفضل في الانتصار إلى الذين أفطروا ذلك اليوم قائلا: "ذهب المفطرون بالأجر"). وفي هذا الإطار توصل الكاتب إلى أنه: من أجل أن يثبت العالم الإسلامي بمنطق العصر بأن أفكاره صحيحة لا توجد غير طريقة واحدة هي إثبات قدرته على تأمين الخبز اليومي لكل فرد. ص:113
في الفصل الثالث عشر (الأفكار والاطراد الثوري) يبين الكاتب فكرة هامة مفادها أن الاستعمار يعرفنا أكثر من أنفسنا؛ إذ يعلم جيدا أن فينا نزعة تقودنا إلى صياغة الأحكام طبقا لعالم الأشخاص وليس وفق قوالب عالم الأفكار. ويشير في الفصل الرابع عشر (الأفكار والسياسة) إلى (النزاهة والكفاءة) باعتبارهما الأفكار البارزة التي ينبغي أن تؤطر تفكيرنا أثناء اختيار رجل السياسة. بينما نجده في الفصل الخامس عشر (الأفكار وازدواجية اللغة) يلح على أن ازدواج اللغة يمكن أن تتولد عنه نتائج مناقضة للثقافة الوطنية.
في الفصل السادس عشر (الأفكار الميتة والأفكار المميتة) يؤكد الكاتب على التمييز بين "الفكرة الميتة" و"الفكرة المميتة". فالفكرة الأولى هي التي خذلت الأصول وانحرفت عن مثلها الأعلى، أما الفكرة الثانية فهي التي فقدت هويتها وقيمتها الثقافيتين بعدما فقدت جذورها التي بقيت في مكانها في عالمها الثقافي الأصلي. 

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



يشكل كتاب "مشكلة الثقافة" للأستاذ مالك بن نبي أحد أهم كتاباته. ولقد جاء الكتاب تتويجا للنقاشات التي كان مالك يفتحها مع الطلاب في القاهرة عام 1959 حول مفهوم "الثقافة" كما وظفه في كتابيه "شروط النهضة" و"فكرة الإفريقية الآسيوية".
يقع الكتاب في 152 صفحة وفق طبعة دار الفكر في دمشق. أهداه الكاتب إلى "الشباب المتطلع إلى العودة بالمجتمع الاسلامي إلى حلبة التاريخ".
منذ مقدمة الكتاب، يصرح الكاتب بأن أزمة العالم الاسلامي هو عدم إيمانه بأن "محور القوة" في العالم المعاصر يكمن في "عالم الأفكار" لا في "عالم الأشياء". وفي هذا الصدد يقول: المسلم بسبب عقدة تخلفه يرد المسافة التي تفصله عن البلدان والشعوب المتقدمة إلى نطاق الأشياء أو هو بتعبير آخر يرى أن تخلفه في نقص ما لديه من مدافع وطائرات ومصارف. وبذلك يفقد مركب النقص لديه فاعليته الاجتماعية، إذ ينتهي من الوجهة النفسية إلى التشاؤم، كما ينتهي من الوجهة الاجتماعية إلى التكديس لا البناء.ص:15
يتوزع الكتاب، بالإضافة إلى المقدمة، على خمسة فصول:
في الفصل الأول المعنون ب"تحليل نفسي للثقافة" حرص الكاتب على تأصيل مفهوم الثقافة من الناحية التاريخية مشيرا إلى أنه ثمرة لعصر النهضة وما كان فيه من ازدهار أدبي وفني وفكري. كما عاد إلى العلوم الإنسانية، وبالأخص علم النفس وعلم الاجتماع، التي رفعت مفهوم الثقافة إلى مستوى "الفكرة العلمية". وخلص في الأخير إلى أن الرؤى التي تناولت الثقافة؛ إما أنها غربية (تُغَلب الجانب النفسي) تعتبر "الثقافة" ثمرة فكر الفرد، وإما أنها ماركسية (تُغلب الجانب الاجتماعي) تعتبر "الثقافة" ثمرة دينامية المجتمع.
ولكن الكاتب يميل إلى أن "الثقافة" تنعكس في مظهر مزدوج هو المظهر النفسي الفردي والمظهر الاجتماعي الجماعي. ويستحضر مثالا دالا: طالب الطب المسلم الذي يذهب للدراسة بأوروبا، يحصل على الدبلوم نفسه الذي يحصل عليه زميله الإنجليزي مثلا، بل كثيرا ما يتفوق عليه إذا كان أكثر استعدادا وذكاء؛ لكنه لا يحصل غالبا على فاعليته، أي طريقة تصرفه أمام مشكلات الحياة. لأن الفاعلية الاجتماعية لا علاقة لها بمنهج الكلية، بل تعتمد على أسلوب الحياة في مجتمع معين. ص:42
وتتكون الثقافة، حسب الكاتب، من عنصرين هما: الفكرة، والشيء. يرتبط العنصران ويتعاونان تعاون الذراع والعجلة في الآلات التي تغير حركة أفقية إلى حركة دائرية؛ فالذراع هو الفكرة والعجلة هي الشيء. ص:45
ختم الكاتب هذا الفصل الأول بالإشارة إلى أن "ثقافة" المجتمع هي التي تصنع "المقاييس الذاتية" التي تحدد السلوك الاجتماعي للأفراد والمتمثلة في قول: (هذا جميل) و(ذاك قبيح) و(هذا خير) و(ذلك شر). ويؤكد الكاتب مجددا أن الفرد منذ ولادته غارق في عالم الأفكار والأشياء يعيش معها في حوار دائم.
أما في الفصل الثاني المعنون ب"تركيب نفسي للثقافة" فنجد الكاتب حاسما في مشكلة العالم الإسلامي معتبرا أنها غير منحصرة في محاولة فهم "الثقافة" وإنما في تحقيقها بصورة عملية. ويتطلب هذا التحقيق ربط صلة شخصية بالعوالم الثلاثة: (عالم الأشياء)، (عالم الأشخاص)، و(عالم الأفكار). وفي هذا السياق يستشهد الكاتب ب"تفاحة نيوتن" (التي تنتمي إلى عالم الأشياء)، التي لم تتحول اعتباطا إلى نظرية في الجاذبية الأرضية، لو لم تكن له بهذه العناصر شخصية استثنائية.
وإذا كانت الثقافة ـفي الإشارات السابقة ـ هي القالب الذي يحدد طبيعة العلاقة بين الشخص والأشياء والأفكار التي من حوله، فإنها في عبارة أخرى تعد تركيبا عاما لتراكيب جزئية هي: الأخلاق، والجمال، والمنطق العملي، والصناعة. إنها محيط يحيط بالإنسان، وإطار يتحرك داخله ويغذي جنين الحضارة داخله. إنها الوسط الذي تتكون فيه جميع خصائص المجتمع.
في الفصل الثالث المعنون ب"تعايش الثقافات" أثار الكاتب مسائل وقضايا في غاية الأهمية والراهنية خاصة بعد ذيوع خطاب يراد له أن يكون سيد الموقف وهو خطاب "صراع الحضارات" و"نهاية التاريخ" الذي يتم به استهداف تدمير البنى الثقافية وتنميط العالم وجعله تابعا لثقافة أحادية ولحضارة واحدة.
اعتبر الكاتب أن اتجاه العالم إلى تأسيس منظمة "اليونسكو" كان يهدف إلى السيطرة على عملية من نوع آخر هي إحداث تكامل بين العناصر الثقافية لتركيب ثقافة إنسانية على المدى البعيد. وهو أمر نابع من قناعة راسخة لدى الجميع بأن مصير الإنسان رهين بثقافته؛ لأن مشكلة الإنسان تعني مشكلة حضارته ومشكلة حضارته تعني مشكلة ثقافته.
يشير الكاتب إلى أن محور واشنطن_موسكو وحتى طوكيو يُظهر تبادلا ثقافيا في نطاق علاقة حضارية واحدة رغم التوتر السياسي بينهما. لأن الثقافة في مهمتها التاريخية تقوم بالنسبة للحضارة بوظيفة الدم بالنسبة للكائن الحي، فالدم ينقل الكريات البيضاء والحمراء التي تصون الحيوية والتوازن في الكائن، كما تُكوِن جهاز مقاومته الداخلية. ص:104
وفي الجهة المقابلة، يوجد محور طنجة_جاكترا حيث تقف الهندوسية إلى جانب الإسلام كخلفيات ثقافية للمجتمعات التي تنتمي إلى هذا المحور. وفي هذا السياق، نجد الكاتب يدعو إلى صياغة ميثاق أخلاقي بينهما، ليتخذوا وجهة دولية واحدة. ويبدأ ذلك بالاتجاه نحو الأخلاق وفلسفتها لتحديد مَثلها الأعلى، ثم نحو الصناعة لخلق وسائلها إلى هذا المثل الأعلى. فإنقاذ الإنسان من البؤس والفاقة على محور طنجة_جاكرتا، وإنقاذه من حتمية الحرب على محور واشنطن_موسكو، هما بالنسبة لنا الضرورتان المحددتان للمشكلة كلها: مشكلة بقائه، ومشكلة اتجاهه، وهذه الضرورة المزدوجة تسيطر بصورة طبيعية على تحديد ثقافته، وبالتالي تسيطر على تحديد منهجه الأخلاقي. ص:108
وفي الفصل الرابع الذي يحمل عنوان "الثقافة في اتجاه العالمية"، اعتبر الكاتب أن الحربين العالميتين أعطتا مشكلات الثقافة معنى أبعد مدى، حين أنشأت بصورة ما مجالا ثالثا، هو المجال الذي يتحتم فيه على كل ثقافة أدركت حقيقة مشكلاتها الداخلية (التي تتصل بوجود مجتمع معين) والاتصالية (التي تتصل بتعايش مجتمعين أو أكثر)، أن تدرك حقيقة مشكلات أخرى على مستوى عالمي.
وفي هذا الإطار، اعتبر الكاتب أن المثقف المسلم ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي. ويستحضر في نفس السياق نموذج (غاندي) الذي لم يكن يتصرف في صاروخ كوني، أي في "شيء" ذي مستوى عالمي، وإنما كان يملك ضميرا وسع العالم. ص:116
يؤمن مالك بن نبي بفكرة مركزية تحدد معالم تفكيره في القضية المتصلة بدور الثقافة الإفريقية؛ وهي أنه بقدر ما ترتفع النخبة الإفريقية بالجماهير الإفريقية إلى مستوى الحضارة فإنها ترتفع بالضمير الأوروبي إلى مستوى الإنسانية. وقد حدد المهام التي ينبغي أن تواجهها الثقافة الإفريقية في ثلاث (ص:123):
1ـ الارتفاع بمستوى الرجل الإفريقي المتحرر من الاستعمار أو الذي لا يزال يرسف في أغلاله إلى مستوى الحضارة.
2ـ الارتفاع بالرجل المتحضر الذي لا يزال ضميره ملطخا بإثم الاستعمار إلى مستوى الإنسانية.
3ـ إدخال الشخصية الإفريقية في المسألة الرئيسية للسلام.
في الفصل الخامس (ما ضد الثقافة)، جعل الكاتب من استقالة الثقافة من النهوض بأدوارها السياسية والاجتماعية عنوانا على ما سماه (ضد الثقافة) أي على عنوانا لكل ما هو نقيض لجوهر الثقافة.
اعتبر الكاتب أن تأكيد السيادة قد تحقق بدماء أولئك الذين قادوا معركة التحرير وطردوا الاستعمار، ولكن توطيد السيادة في الحياة العامة يقع على عاتق الأحياء؛ إذ يرتكز على جلدهم في العمل، على النظام، على وعلى حماستهم في مهماتهم اليومية. وبكلمة واحدة على ميزة ثقافتهم. وبتعبير آخر، فالثقافة تستطيع أن تمنحنا اللحظات الممتعة، إذ توحي إلينا أن ننشد أحيانا مجتمعين، وأن نرقص مجتمعين، ونضحك مجتمعين؛ والأداء الحسن لذلك كله ظاهرة مشجعة وجمالية ينبغي عدم الاستخفاف بها. ولكن دورها الأساسي أن تعلمنا العيش المشترك والعمل المشترك وخاصة الكفاح المشترك. ص:134
لهذا فكل عمل من شأنه تخفيض منسوب العيش المشترك والكفاح المشترك ينسبه مالك بن نبي إلى "ضد الثقافة".

...تابع القراءة