| 0 التعليقات ]



يعد كتاب "العمل قدرة وإرادة"، المطبوع لأول مرة عام 1980، من الكتابات التي توجه بها الأستاذ جودت سعيد إلى الصحوة الإسلامية بهدف ترشيدها. وإذا كان كتابه "مذهب ابن آدم الاول" قد عالج قضية العنف ومدى شرعية ومشروعية استثماره كوسيلة لتحقيق أهداف العمل الإسلامي؛ وكان كتابه "حتى يغيروا ما بأنفسهم" قد لامس قضية الإيمان بسنن التغيير (=تغيير المحتوى الداخلي للأنفس من أفكار ومشاعر وظنون) التي لا بد من تفعيلها في أوساط "القوم" قبل انتظار تغيير الله.
إذا كان الكتاب الأول الذي صدر عام 1965، وكان الثاني قد صدر عام 1972؛ فإن الكتاب الثالث "العمل قدرة وإرادة" (الذي يقع في 302 صفحة) قد عاد إلى الاشتباك المعرفي مع الثغرة التي جعلت الاسلاميين في فترة من الفترات يؤمنون بأن "العنف هو الطريق" وبأن "الله سينصر أولياءه عاجلا أم آجلا"... إلخ. إنها ثغرة آتية من نسيان أركان "العمل الصالح" وهي: الإخلاص، ولكن مع الصواب.
إن القائمين على العمل الاسلامي في عقد السبعينيات وما قبله في كل أرجاء العالم الإسلامي كانوا حسب الكاتب يُلفتون نظر المتحمسين من الشباب إلى أن المطلوب فقط هو الإخلاص. وبعبارة أخرى، ما هو واجب هو الارتباط بالغايات فقط أما الوسيلة فلا تهم طبيعتها حسب هذا التصور الذي جعل جاء جودت سعيد لبيان خطورته.
ولهذا سقطوا في مقاتل عديدة منها: الإيمان بالعنف كوسيلة للتغيير؛ والاكتفاء بالدعاء والصلاة والانتظار كوسائل دون القيام بأي خطوات عملية ملموسة  من أجل التغيير. إن الكاتب يؤكد على أن الاسلام حريص على مدى "صواب الوسيلة" بقدر ما هو حريص على وجود "الإخلاص في الغاية"  ليكتمل العمل الصالح.
وفي هذا السياق يشير الكاتب إلى أن هدفه من الكتاب هو تغيير نظر المسلم إلى الأمور: إن مسلم اليوم لا يبذل جدا ليرى جانب الخطأ الذي وقع فيه مفكرو المسلمين، بل ـمع الأسف ـ يعتقد أن هؤلاء المفكرين والعاملين قد توضحت لهم كل شروط النجاح ومارسوها، إلا أنهم لم ينجحوا، ولا ضير إذ: (علينا أن نسعى وليس علينا إدراك النجاح)، وإن الأمر ليس بيدهم وإنما هو بيد القدر الأعلى!! وإن اعتقاد المسلمين بأن النجاح ليس نتيجة حتمية للسعي الصالح؛ هو من أشد المعوقات التي تمنع المسلمين من مراجعة أعمالهم ونقدها، لأنهم لا يفرضون فيها الخطأ، بل يفرضون أنها كانت صائبة، ولكن لم تأت النتيجة المطلوبة لأمر أراده الله. (ص:107).
يصرح الكاتب في ثنايا الكتاب بأن العنوان الاصلي للكتاب هو (الإخلاص والصواب). والمقصود ب"الإرادة" هو "الإخلاص" بشكل مباشر، كما أن المقصود ب"القدرة" هو "الصواب.
وفي هذا الصدد يقول: ووجهة نظري أن الذي ينقص المسلمين ليس من جانب الإرادة، وإنما من جانب القدرة. ولكن نظرهم في هذا له مداخلات بحيث يعطل قيمة الإرادات؛ هذا ما أردتُ شرحه في هذا الكتاب، ومهما يكن فإن تحديد الموضوع بهذا الشكل له قيمة، ولهذا رأيت أن أجعل عنوان بحث الكتاب (القدرة والإرادة)، وإن أول ما تبلور عندي كان تحت عنوان (الإخلاص والصواب)، وكلا المصطلحين مما استخدمه المسلمون في بحوثهم وهما واردان في القرآن.
 ويستشهد بالأستاذ مالك بن نبي الذي يستخدم في كتابه (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) هاتين الكلمتين كقانون رياضي ومعادلة لبحث قانون حركة المجتمع فيقول: "إن إرادة المجتمع وقدرته تضفيان على وظيفة الحضارة موضوعية وفعالية، أي أن جملة العوامل المعنوية والمادية اللازمة لتحقيق تقدم الفرد تصبح موضوعية؛ وذلك بأن تتحول إلى سياسة وتشريع، فيمثلان عالم الأفكار في هذا المجتمع على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي تمثيلا مباشرا". (جودت سعيد، العمل قدرة وإرادة، دار الفكر المعاصر، لبنان، الطبعة الثانية، 1993، ص:24ـ25)
يتوزع محتوى الكتاب على خمسة فصول؛ الأربعة الاولى مخصصة للمصطلحات والفصل الأخير للتطبيقات. يعتبر الكاتب أن "العمل" هو حركة بقصد؛ لهذا فهو يتولد ضرورة من الإرادة والقدرة معا. وكما يتكون العمل من زوجين لأن الله أودع في الكون مبدأ الزوجية؛ فإن الإرادة تتكون من "المثل الأعلى" و"عقل الإنسان". بينما القدرة هي استطاعة أداء العمل وهي طاقة تحيل على بعدين؛ القدرة الفهمية (المعرفة والأفكار التي تتيح تسخير القدرات المادية)، والقدرة المادية (قوة العضلات، كثرة الأشخاص، سعة الأراضي التي يملكها الشعب، الثروات التي في باطن الأرض من نفط ومعادن ... إلخ).
إن ما ينقص العالم الإسلامي اليوم، حسب الكاتب، هو القدرات الفهمية لا القدرات المادية، أي معرفة سنن تسخير إمكانيات العالم الإسلامي المادية والبشرية. والقدرات الفهمية يتم تحصيلها بتفاعل "العقل" و"سنن الكون".
في الفصل الأخير الخاص بتطبيقات أفكار الكتاب على واقع العالم الاسلامي يلح الكاتب على أن العالم الاسلامي يملك إرادة واضحة تتمثل في أنه يريد أن يعيش حياته وفقا للإسلام، ولكن سبب إحجام المسلم عن التضحية بالنفس والمال هو عدم وضوح جدوى التضحية، أو جهل الطريقة المجدية للبذل. ويختلف الكاتب مع الذين يتحدثون عن مصائبنا وهزائمنا، ويرون السبب في عدم الإيمان أو نقص الإرادة، لأن النصر في زعمهم لا يحتاج لغير الإيمان الذي انتصر به الصحابة، وبهذا يرفعون عن كاهل الجيل الجيل مسؤولية عبء الدرس لتحصيل القدرات الفهمية التي يحتاج إليها العالم الاسلامي ليخرج من محنته.
إن العلم المطلوب هو الذي يغير ما بالنفوس، ولكن جهود المسلمين في العصر الحديث اتجهت في الغالب إلى تصحيح العقيدة والدفاع عن الاسلام وتمجيده. ولكن لِمَاذا لم يصل المسلمون إلى بناء قدراتهم طالما أنهم يتمتعون بإرادات صلبة؟ يجيب جودت سعيد في ثلاث نقط:
أولا: لأن المسلم فقد العلم والمعرفة لما يقوم به ويؤديه على الوجه الصحيح حتى يحقق إرادته، ولهذا فإن الإخلاص مع الجهل لا يجدي. ومع الجهل فقدان المقياس الموضوعي الذي يميز به المسلم النافع من الضار، وهذا يؤدي إلى الخوف والانكماش أمام كل جديد وإن كان يحمل النفع.
ثانيا: الفهم الخاطئ لقدر الله، وذلك أن المسلم زهد في بذل الجهد حين رأى أن إرادته لا تتحقق بجهده الشخصي وإنما بأمر الله، فتبقى إرادته لا تحمله على السعي لإيجاد القدرات.
ثالثا: نظر المسلم إلى أحداث الكون والحياة نظرا يخلو من البحث عن القانون والسبب وبداية الأمور وتكوُنها. (ص:296) 
في الختام، هذا الكتاب يسعى غلى تقريب أهمية تحري الصواب في حركة المسلم وعمله. إنه يكشف العلاقة السليمة بين الإنسان وخالقه بالعبودية، وبين الإنسان والإنسان بالعدل والإحسان، وبين الإنسان والكون بالتسخير. والقدرة الفهمية هي التي توصل إلى كشف هذه العلاقات عن طريق دراسة آيات الآفاق والأنفس التي تشهد لآيات الآفاق.



0 التعليقات

إرسال تعليق