| 0 التعليقات ]






في نقاش راق مع  ثلة من الإخوة الأفاضل، همس في أذني أخ فاضل: إن الدكتور سعد الدين العثماني يعيش أزمة هوية؛ أي لم يعُد يدري أين سيتموقع، هل في صف العلمانية أم في صف الإسلام؟!
هنا لا يُهمني التوقف عند قراءتي لهذه الثنائية المُضللة والمغالطة. إنما قصدي هو الإطلالة على سؤال هام: من يعيش فعلا أزمة هوية؛ هل هو العثماني أم بقية الإخوان الذين لا يشاطرونه نفس التوجه التمييزي بين الدين والسياسة؟
لا شك أن الدكتور العثماني له أياد بيضاء في صياغة الورقة المذهبية لحزب العدالة والتنمية. ومعروف أيضا أنه من القيادات الأولى للحزب التي انحدرت من الحركة الإسلامية، ما يعني أنه واكب نموه واشتداد عوده. وللدكتور كتابات ومقالات كُتبت قبل قٌرابة عشر سنوات يتحدث فيها عن المنحى الذي يتجه نحوه الحزب وهو-في نظره- المنحى السليم.
بعد أن وصل الحزب إلى موقع الإسهام في تدبير الشأن العام؛ يتابع العديد من جنوده ومناضليه مسيرته بنزعة تبريرية تنم عن أن هناك خللا ما لدى بعضهم في استيعاب رسالة الحزب. فبعد أزيد من أربع سنوات من الانخراط الفعال والمتميز في التدبير الحكومي (بالإضافة إلى المحلي)، بإمكان أي متتبع أن يلحظ انحسار المضمون الديني والهوياتي في الخطاب السياسي للحزب بالإضافة إلى تبنيه لسياسة النعامة في التعامل مع المعارك الهوياتية المفتعلة.
السؤال المطروح هنا: هو كيف يستسيغ من كان مُعولا على الحزب في تنزيل "مشروع إسلامي!" هذا التحول الذي بدا على الحزب وجعل منه حزبا تدبيريا عاديا يستند إلى شرعية الإنجاز وليس شرعية المرجعية والهوية؟
يبدو من خلال التجوال على صفحات الفايسبوك –مثلا- أن العديد من مناضلي الحزب ينتشون بالكلمات النارية التي يطلقها قادة الحزب على "التحكم" وحزبه البائس. كما لا يخفى أن المناضلين (أبناء الحركة الدعوية) يتحدثون عن منجزات الحكومة وأوراش الإصلاح التي تباشرها في قضايا تدبيرية.
والإشكال الذي غفل عنه هؤلاء: إن الحزب الذي كان في خاطرهم ليس هو ذاك. لأن الوقوف في وجه التحكم وإن كان شرفا للحزب أن يحمل لواء ذلك في هذه المرحلة، فقد وقف الاتحاديون ضد ما هو أخطر وأقسى في مرحلة سابقة. وإن المنجزات التدبيرية والإصلاحية  يشترك فيها الحزب مع أحزاب أخرى (وزارة الصحة مع التقدم والاشتراكية نموذجا).
وإذا كانت العلمانية –الجزئية- في أبسط معانيها وجوهر دلالاتها تعني استقلال الدين عن السياسة؛ أي أن السياسة لها أدواتها العقلانية والدين شأن خاص له صلة بالخلاص الفردي. فإنه بدون شك نجد الممارسة السياسية للحزب تستبطن "علمانية صامتة" لأنها تؤمن بذات الاستقلال ولا تستدعي الشؤون الدينية نهائيا إلا بمقدار استدعاء باقي الأحزاب لها. إن العلمانيين طالما نادوا بفكرة واحدة: إن السياسة هي مجال دنيوي زمني لتدبير شؤون الناس، ولا إكراه في الدين ولا شأن للدين بالسياسة. وعمليا الحزب يسلك مسلك العلمانيين. والسؤال المستمر: كيف يفهم جنود الحزب (من أبناء الحركة والمرتبطين بالمرجعية الإسلامية) هذه التحولات؟ كيف يبررون هكذا سلوك سياسي؟ (تذكير: هنا لا أدلي برأيي في هذا التحليل، ما يهمني هو الوقوف على من يعيش أزمة هوية).
نأتي إلى الدكتور سعد الدين العثماني؛ إنه لا يعرف مثل هذه التمحُلات. فهو منذ سنوات كتب مقالات جُمعت في كتابه (الدين والسياسة: تمييز لا فصل)   عن "تفاعل خطابي التدبير والهوية: عند حزب العدالة والتنمية" يشير فيها إلى أن التحولات التي يعرفها الحزب إيجابية تدفعه نحو تمحيض هوية: حزب تدبيري بامتياز. وكان منذئذ واعيا بكون تركيز الحزب على قضايا التدبير في سعتها وشموليتها أكبر خدمة لقضايا الهوية. فتحقيق مقاصد الدين من إعادة الاعتبار لكرامة الإنسان وحقوقه والعدل والمساواة وبناء دولة الحق والقانون وغيرها يخدم قضايا الهوية بصورة مباشرة وغير مباشرة. (سعد الدين العثماني، الدين والسياسة: تمييز لا فصل، الطبعة الأولى، 2009، ص:129)
إن الأيام صدقت حقا مقولة العثماني. وإن كان هناك متسائل حول المرجعية الإسلامية التي ينادي بها العثماني، ما محلها من الإعراب. فإن العثماني واضح مع نفسه، دقيق في اختياراته كان يصدع منذ زمن بأن "المرجعية الإسلامية" تلعب دور  catalyseur "الحفاز" وتقوم بتقوية قيم الديمقراطية الداخلية وغرس ثقافة الشفافية والنضالية، والوفاء بالتزامات الحزب تجاه المواطنين. ففي كلماته أمام المرشحين كان يُذكرهم بقوله تعالى (لا نريد منكم جزاء ولا شُكورا، إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) لكي تنتقل الشعلة الإيمانية وتشع وتنعكس على السلوك السياسي والعمل اليومي فيتحرى المنتخب خدمة المواطنين بلا أخذ.
أضف إلى هذا الوضوح عند العثماني. فهو بالإضافة إلى كونه سياسيا تقدميا فهو مسلم رباني. الكلمات القليلة التي يلقيها حول المعاني الإيمانية المفيدة للفرد في الخلاص الأخروي علاوة على تقوية التزامه الاخلاقي؛ تومئ إلى أن صاحبها رباني عارف بالله. (1: أنظر الرابط أسفله)
إن الخلاصة التي بالإمكان أن نخرج بها هنا هي أن الدكتور سعد الدين العثماني سياسي منحدر من الحركة الإسلامية (عميق التدين) ومنسجم مع نفسه واختياراته وتنظيراته ولا يعيش البتة أزمة هوية بل نجد منحى الحزب يساوق ما رسمه له هو في كتاباته؛ بالمقابل، نرى العديد من "الإخوان" المتحفظين –وهذا حقهم- على تنظيرات العثماني وآرائه يسقطون في نزعة تبريرية غير مفهومة وتناقض ساطع بين ما يدور في واقعهم الذهني وما يجري في الواقع الخارجي: لهذا لعلهم  يعيشون أزمة خانقة ويريدون رمي العثماني بدائها (رمت بدائها وانسلت!).

(1) https://www.youtube.com/watch?v=3lHqv6hNASQ

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




حينما يتأمل الإنسان الحياة ويسترجع تاريخ الذكريات ويتملى ما وراء الأحداث؛ لا شك أنه سيُبصر معنى جليلا وسنة ساطعة وقانونا ساريا ودرسا بليغا: إن ما عندنا ينفد وما عند الله باق.
إن الحياة الدنيوية هي محطة في نهاية المطاف. إنها مسرحية مُخاتلة. إنها موطن لصقل إنسانية الإنسان (كنت أقول مازحا لبعض الأصدقاء إنها فرصة لتجريب التنازع حتى نعرف أهمية التعايش: الذي ستحلو به الحياة في الجنة). كانت ومازالت لاختبار الأعمال الجادة المُتصدية لأعباء الاستخلاف. إن السعادة الكاملة "وهم" كبير في الدنيا. إن اللذة الحقيقية "أكذوبة" مكشوفة في هذه الحياة. إن الشوق يملأ الإنسان دوما إلى عالم أفضل حيث يجتاز هذه المشاق وهذه المصاعب التي تَحُول دون حيازته للذة الحقيقية وللسعادة العميقة.
إن السر العجيب المتصل بروح السعادة وجوهر اللذة يكمن في هذا الطريق: طريق البحث نحو عالم أفضل. لأن العالم "المثالي"؛ الدنيا لم تُخلق لتوفيره. لهذا فاستشعار اللذة واستنشاق عبير السعادة أمر يكون في الطريق. لأنه لا وجود لمحطة الوصول هنا. إن نقطة الوصول هي عند الله. إنها هناك: في الفردوس الأعلى.    
يُخيل لأحدنا أنه سوف يكتفي اكتفاء تاما إذا توافرت لديه بضع حاجات معينة. فهو يتصور مثلا القصر الزاهي والحديقة الغناء والزوجة الجميلة والسيارة الفارهة والرزق الموفور فيعتقد أنه سيكون سعيدا بذلك فلا يحتاج إلى شيء آخر وراءه. إنه مخطئ، وهو يتوهم ذلك عندما يكون محروما من تلك الحاجات الرائعة، و لكنه لا يكاد يفوز بها حتى يسأم منها ويأخذ بالتطلع إلى اليخت الباذخ أو الطائرة الهادرة، أو إلى معالي الوزارة و الجاه العظيم.
يصور لنا مؤلف رواية "طريق الفيلة" فتاة تقفز فجأة من عاملة أجيرة في إحدى مخازن الكتب في لندن إلى أميرة تعيش في قصر يشبه قصور ألف ليلة وليلة. وهناك تجد الفتاة نفسها في عالم جميل رائع يحُف بها الخدم والحشم ويرعاها زوج أنيق، وتنحني لها الدنيا بكل ما فيها. وما هي إلا مدة قصيرة  حتى نرى الفتاة تسأم من هذه الحياة وتتطلع إلى حب جديد ومنظر جديد. (علي الوردي، مهزلة العقل البشري. دار الوراق.2014. ص: 113(
يُخيل للإنسان أنه لن يطلب شيئا آخر إذا رد ديونه أو استكمل بناء منزله أو نجح في اختبار الوظيفة.. هيهات.. هيهات أن تكون الحياة بهذا الاختزال وهذه البساطة. إن الوظيفة إذا تم تحصيلها والمنزل إذا تم بناؤه والديون إذا تم تسديدها؛ إن ذلك إيذان بحلول متاعب جديدة وظهور مشاكل أخرى. والشعور باللذة كامن في ذلك الطريق الذي يحاول فيه الإنسان التغلُب على منغصات لحظة من لحظات الحياة؛ وكلما اقترب من رفع مشكل كان أكثر سعادة وغبطة وسرورا. لكن ما إن يحقق مطلبه ويفوز بمبتغاه إلا وعليه الاستعداد للتصدي بنفس الحماس لمشكل جديد. هذه هي الحياة. ما على الإنسان إلا أن يكون واعيا بهكذا قانون وهذه السُنة السارية؛ وإلا عاش حزينا متحسرا على ما فاته مما أصاب الآخرين من فلاح ونجاح.
ما المعمول؟ في ظل هذه الحياة التي تطارد السعادة أينما حلت. إنه لا عزاء سوى الوعي بأن الدنيا هكذا طبيعتها: مدرسة للإعداد، محطة للتكوين، موطن للتعب والكبد.. هي طريق بلا محطة استراحة. ولكن ينبغي الانتباه إلى أن هذا الإدراك قد يُسقطنا في سلبية قاتلة يستفيد منها هُواة انتشار العزائم الخائرة للاستفراد بالموائد الدسمة.. إن الحياة نضال مستمر لتحسين ظروف الإنسان ولكنه نضال بلا نهاية. هذا هو الدرس. إن النضال ضد الاستبداد وانتزاع إنسانية الإنسان وضد سوء توزيع الثروة والسلطة هو نضال دائم. إن البشرية اليوم إذا تمكن شق كبير منها (الغرب) في إشاعة جو من العدل على المستوى الداخلي؛ فإن النضال مازال مطلوبا للعمل على تدويل العدل ليسُود على المستوى الدولي. أما نحن، أي أوطاننا، فمازلنا في مد وجزر مع الظلم والاستبداد على المستوى الداخلي.
إن المعمول هنا هو الوعي بطبيعة الحياة بالموازاة مع العمل على تغيير الأوضاع. إن الوعي بان ما عند الإنسان ينفد لا محالة إلى جانب العمل على ممارسة الرياضة الروحية (العبادات أولا) في أفق طلب السعادة الباقية (الفردوس الأعلى)؛ كل هذا كفيل بتخفيف حدة الحيرة والنكسات النفسية التي يعرفها الإنسان بخصوص انفلات السعادة العميقة بين يديه. ولكن هذا لا يُعفي الإنسان من العمل والمكابدة والمعاناة في سبيل تحقيق اكتفائه الذاتي من المطالب والمصالح المادية. إنهما خطان متوازيان.
إن الإدراك الحقيقي لطبيعة الدنيا وكونها موطنا لعابر سبيل هو الإنسان. إن من شأن هذا الإدراك، أن يجعل الإنسان آملا يعيش على الأمل. ولا شك أن السعادة العميقة كائنة على طريق الأمل (وليس طريق الأماني). "فالأمل هو الاستعداد الذهني الذي يجعلنا نؤمن بتحقق رغبة ما. إنه شكل من اللذة قيد التوقع، والذي يعتبر في طوره الحالي من الانتظار، تعويضا غالبا ما يكون أكبر من التعويض الناتج عن تحققه. والسبب في ذلك واضح. فاللذة المحققة تكون محددة كمية واستمرارا. في حين أن لا شيء يحُد من عظمة الحلم الذي يخلقه الأمل. قوة الأمل وسحره هي في تضمُنه لكل احتمالات اللذة. يُشكل بذلك نوعا من عصي سحرية قادرة على تحويل كل شيء. لم يقم المصلحون سوى بإبدال أمل بآخر". (غوستاف لوبون، الآراء والمعتقدات: نشوؤها وتطورها، دار الفرقد، سوريا، الطبعة الأولى، 2014، ص:44)
 (ما عندكم ينفد وما عند الله باق)، صدق الله العظيم. مادام كل شيء يحيط بنا في هذه الدنيا إلى زوال من حيث مفعوله المعنوي أو تَجسُده المادي؛ فلا ينبغي للإنسان أن ينتكس إذا لم يحس بالأحاسيس الجميلة السامية إذا تحققت مطامحه المادية.
إن معنى الحياة غير قابل للتحديد، هذا أمر أكيد. لكن يمكن القول، إن العيش على أمل مزدوج سيُقرب الإنسان من ملامح معنى الحياة.  من جهة، الأمل في تحقُق مطالب الدنيا والجهد المبذول لأجل ذلك يجعل الإنسان سعيدا لأنه يرتبط بنقطة وصول يتصورها بخيال خصب. ومن جهة ثانية، الأمل في ما عند الله من نعيم يجعل الإنسان غير متحسر بشكل كبير على  سقطاته وكبواته لأنه يرمق ويستقبل أمرا باقيا ويستدبر أمرا فانيا محدودا.


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



كان الأستاذ راشد الغنوشي قد أشار بسرعة إلى مسألة في غاية الأهمية في كتابه المميز (المرأة بين القرآن وواقع المسلمين). تتصل هذه المسألة بتصوراتنا السائدة عن الآية القرآنية 14 من سورة آل عمران (زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المُسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا). ذلك أن الذهنية الذكورية تستدعي هذه الآية الكريمة لممارسة "إرهاب" فكري لا يخفى على الأنثى؛ إذ يتم استغلال الآية لتذكيرها دوما بكونها من فتن الدنيا وحجر عثرة على طريق الآخرة. وفي إطار ذلك الفهم السائد، تبتلع الأنثى هذه التهمة لأنها مذكورة بفصاحة في كتاب خالقها! وإذا حصل فعل من قبيل تحويل البديهيات إلى الأسئلة، وراحت الأنثى تتساءل عن العدالة الإلهية في تقسيم الأدوار بهذا الشكل (رجل  يستعيذ بالله من فتنة  النساء حتى تصلح آخرته؛ وأنثى تمارس دورها الشيطاني في الكيد والإيقاع..)؛ سيتحطم كل شيء، وسيغادر هذا الدين أفواج من النساء وخاصة فتيات في زهرة العمر، وليس بعيدا أن يكون هذا حاصلا في هذا القُطر أو ذاك.
إن السؤال إذا تسلل إلى البديهيات، لن يملك صاحبه خط الرجعة ولن يرضى بالاطمئنان الكاذب ولا إيمان العجائز. وهنا تكمن خطورة المسألة التي يتجاهلها الخطاب التقليدي غير المتحرر من النَفَس الذكوري.
الأستاذ راشد الغنوشي، من موقعه كغيور على هذا الدين وكتابه العزيز: أن يتعرضا لعملية اختطاف وأن ينساقا وراء أهواء الذكور، تساءل بدوره: لماذا التفاسير لم تنتبه إلى أن الخطاب موجه للناس عامة (زُين للناس)؛ والنساء بطبيعة الحال يندرجن ضمن الناس. لكن واضح أن الذهنية الذكورية لا تنتبه لهذا المعطى ولا تعرف انتسابا للنساء إلى دائرة الإنسانية؛ وهي ذهنية منطبعة لدى النساء بقوة: وقد حاربتها أمنا سلمة مع الجارية في الحديث المشهور "إني من الناس". إن هذا السؤال كان مدخلا لمساءلة القضية كلها. هل يمكن أن يكون المقصود هو أن النساء يقعن في حب نساء أُخر (رائحة "السحاق"!). هل يمكن أن يكون النساء بهوية غير هوية الإنسان.
إن هذه أسئلة مشروعة وكفيلة بزلزلة الموروث التقليدي غير المُمحص. وهنا بالإمكان إثارة قضية أهم: إنها قضية الحور العين.
لا يخفى أن بعض الوُعاظ يكُثرون من الدعوة بالويل والثبور وكل عظائم الأمور واستنادا إلى القول المأثور: الويل لنساء الطين وشوقا إلى الحور العين؛ يُكثرون من هذه الدعوات التي تلاحق المرأة وهي التي لا تدري –المسكينة- ذنبها فقد خُلقت هكذا امرأة تفوح جمالا وإنسانية وجدية ورقة وحنانا! يظن الوعاظ أنهم بهذه اللغة المسبوكة بإتقان والعازفة على أوتار غرائز للرجال سينقذون الناس من النار وسيُبعدونهم عن شرور النساء وسيبعثونهم إلى حيث الحور العين.
إن المفارقة صارخة في هذا الخطاب. إن المعنيين بخطاب هؤلاء الوعاظ هم الرجال؛ فهم الذين يملأهم الشوق إلى الحور العين، وهم رجال "أسمى" من رجال الطين. والسؤال المطروح: هل الجنة أعدت للمتقين (من المؤمنين والمؤمنات) أم هي مُعدة للذكور فقط يجدون فيها ما لذ وطاب من الحور العين اللائي يُمتعنهم متعة لا يظمأون بعدها أبدا!
أما المرأة؛ هل هي محرومة من الجنة ومُتعها؟ هل الوُعاظ نسوها وتناسوا أنها تريد أيضا احتجاز مقعد لها في رياضها؟ هل لا تشفع لها التقوى، التي هي معيار الاستحقاق عند الباري تعالى، في الاستمتاع بما يقدم الحور العين من ملذات خيالية غير متصورة؟
إن سدنة العقلية الذكورية مستمرون في حراسة التخلف والنظرة الدونية غير الإنسانية إلى المرأة الإنسان. إن أفكار هؤلاء السدنة مدسوسة في الكتابات التي تملك قيمة رمزية عالية لدى المسلمين. لهذا لا غرابة أن نجد هذه الذهنية الذكورية تنتعش باستمرار، رغم أن البشرية قطعت مع إرث أسود ثقيل تم فيه السطو على إنسانية المرأة وتكريس مكانتها "الذيلية" ووضعها "الدوني" بالنسبة للرجل الذكر الذي ينبغي أن يرتاح دوما على أكتاف عذابات المرأة وشقائها.
"يُصاب المرء بالحيرة حينما يجد في كُتب التفسير هذا الشطح في تفسير مثل هذه الآية: (فاليوم لا تُظلم نفس شيئا ولا تُجزون إلا ما كنتم تعملون، إن أصحاب الجنة اليوم في شُغل فاكهون، هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون، لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعُون، سلام قولا من رب رحيم). سورة يس. الآية:  54-58
أنقل من تفسير ابن كثير ما يلي:
(.. قال عبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وسعيد المسيب وعكرمة والحسن وقتادة والأعمق وسليمان التيمي والأوزاعي في قوله تبارك وتعالى: (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون)، قالوا: شغلهم افتضاض الأبكار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه (في شغل فاكهون) أي بسماع الأوتار، وقال أبو حاتم: لعله غلط من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار..).
وكذلك قال الطبري:
(..  وقوله تعالى: إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون. اختلف أهل التأويل في معنى الشغل الذي وصف الله جل ثناؤه أصحاب الجنة أنهم فيه يوم القيامة، فقال بعضهم: ذلك افتضاض العذارى. ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود، في قوله: إن أصحاب الجنة اليوم في شُغل فاكهون قال شغلهم افتضاض العذارى.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ إن أصحاب الجنة اليوم في شُغل فاكهون: قال: افتضاض الأبكار.
حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال: حدثنا أبو النضر، عن الأشجعي، عن وائل بن داود، عن سعيد بن المسيب، في قوله: إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون، قال: في افتضاض العذارى..).
لاحظ أن جميع التفسيرات أعلاه ليس فيها رواية واحدة منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولقد فات على هؤلاء وأمثالهم أن "أصحاب الجنة" هم "ذكور" و"إناث" والآية ذكرت "... هم وأزواجهم... " فكيف يكون نعيم النساء في الجنة هو افتضاض بكارة العذارى؟؟ وإن كانت "أزواجهم" هنا تعني زوجاتهم (وهي لا تعني ذلك وإنما تعني الأزواج المتشابهة سواء أبين أهل الجنة أهل النار لأن زوجة فرعون لن يكون مصيرها معه وكذلك زوجة لوط)، فهل تستمتع الزوجات بأزواجهن الذكور ويفضون أبكار العذارى؟ أم أن أصحاب الجنة من المؤمنات سيُبعثن سحاقيات؟؟ وحتى لو سلمنا بهذه الفكرة الشاطحة، فهل افتضاض الأبكار متعة يتوق لها كل الذكور؟؟ إن الفكرة ليست مقززة فحسب ولا تحط من قدر كلام الله تعالى فقط ولكنها لا تدع مجالا للشك أن من كتب كُتب التفسير هذه ونسبها للمفسرين أصحاب الاسم، ساقط العدالة إما لأنه لا يعقل ما يقرأ، أو أنه يبث عمدا سموما في كتب العلماء تحط من قدرهم وقدر أصحاب النبي الكريم وتحط من قدر كلام الله". (عماد محمد بابكر حسن، أمي كاملة عقل ودين، دار الوطن الرباط، الطبعة الأولى 2014، ص:99-100)
إذا أردنا اختصار مفاعيل العقلية الذكورية في الموروث الديني فلن نجد عبارة أدق: إنها عملية نزع مفضوحة لكرامة المرأة الإنسان. إنها تصوير مُشين تومئ إلى أن المرأة مُسخَرة للتسلية والقيام بوظائف تلعب فيها دور المفعول به دائما.
إن الموروث الديني بحاجة إلى مراجعة عاجلة، بحاجة إلى تصفية صارمة تقتلع العناصر الخاضعة لأهواء الناس وخاصة تلك التي لها صلة بالعقلية الذكورية. وإلا سنجد أمامنا جيلا جديدا من الفتيات والشباب يطرحون في البداية أسئلة بريئة مؤداها في ظل هذا الموروث البئيس هو:  الإلحاد، أو الانتحار. إن تمثُل الفتاة للصور التي تُصور بها وظيفة المرأة في هذا الموروث والتي لا تتجاوز خدمة الرجل جنسيا و"مناولته" ما يحتاج إليه ليعيش في رخاء؛ يشكل -هذا التمثُل- قنبلة قابلة للانفجار في أي وقت.

لفتت  قريبتي انتباهي إلى مسألة في غاية الأهمية.  كانت آنذاك تدرس في نهاية السلك الإعدادي (بل ربما ختمته) وهي الآن في الثانوي. تعيش الفتاة في بيئة هي ظاهريا حديثة من حيث الفضاء (المدينة) والوسائل (سيارة ممتازة، "آيباد"..) والاهتمامات (الاصطياف على شاطئ البحر..)؛ لكنها في العمق بيئة مثخنة بالتقاليد الراكدة والسلوكات الشاطحة والجهل المركب. ذات مرة، هتفت بمكنون صدرها: كل شيء جميل في هذا الدين؛ إلا أني لا أدري لماذا لم يساو بين الرجل والمرأة؟ أو لماذا المرأة ليست كالرجل منزلة وحقوقا ومكانة؟
الظاهر، أن السؤال عادي ليس فيه جديد، لكن ما وراءه هام: إنه فعل تحويل البديهيات إلى أسئلة. إنه استنطاق للمألوف. إنه بوح ومصارحة صادقة بالآلام المعيشة. كنت آنذاك، زمن طرح قريبتي لسؤالها، أسير أوهام. كنت واثقا من نفسي أن لي إجابة شافية على سؤالها العميق الدلالات. كنت أظن أن بسردي لنصوص وآيات تؤكد المساواة بين الرجل والمرأة في القيمة والمنشأ والجزاء، قرأتها هنا وهناك عند محمد عمارة "التحرير الإسلامي للمرأة" أو محمد الغزالي "المرأة بين التقاليد الوافدة والتقاليد الراكدة" أو سعد الدين العثماني "قضية المرأة ونفسية الاستبداد" أو كتابات عدة ليوسف القرضاوي أو إطلالات خاطفة على موسوعة عبد الحليم أبوشقة "تحرير المرأة في عصر الرسالة" أو مقالات لعلي عزت بيغوفتش "عوائق النهضة الإسلامية" أو ردود قوية لمحمد وسيد قطب على "شبهات حول الإسلام" وفي"الإسلام ومشكلات الحضارة". كنت أظن أن باستحضاري لهذه المرافعات البليغة التي قدمها رهط كبير من رجالات الفكر والدعوة حول تهافت دعوى دونية مكانة المرأة في الإسلام كما صور ذلك المستشرقون وغيرهم، كنت أظن أنني بهذا سأرفع الإشكال وسأقول إن الإسلام يرفض المساواة الميكانيكية ويريد العدل (التعادل بين الحقوق والواجبات). كنت أعتقد أن هكذا كلمات ستجيب على سؤال طرحته فتاة لم تتجاوز 16 أو 15 ربيعا عن براءة  تُحسد عليها (براءة لا دخل  فيها لتأثير الأنترنت، أو التلفاز..). كنت أُقدر أن توضيح التمايز القائم بين الدين والتدين سيحُل المعضلة.
هيهات.. هيهات أن يكون الأمر بهذه البساطة. إن الفتاة طرحت سؤالها بعدما استكنهت مظاهر التحديث المغشوش التي تحيط بها. إنها لم تسمع بدعاية الحركات النسائية ولا دنا إلى سمعها صوت الحركات المتمركزة حول الأنثى. إنها لا تعرف حكاية الميراث ولا غيرها من الحكايا التي تومئ إلى وجود تمايز  بين الذكر والأنثى. إنها تعرف شيئا واحدا هو ما ينطق به واقعها المعيش. إنها تعرف الخطاب اليومي الذي يتم تصريفه حول المرأة في المناخات التي تعيش فيها. إنها تعرف الأوجاع النفسية  التي تكاد تمزقها حينما تستمع لما يُراد لها أن تكون من فم أمها وخالتها وجدتها وخالها..
إن قريبتي، يا سادتي، لن تعير انتباها للآيات الكريمة ولا للسيرة النبوية العطرة؛ لأنها تتألم في واقعها، فبماذا ستفيدها الآيات والنصوص التي تحمل تصورات إنسانية عن الأنثى بينما واقعها مجروح بذهنية ذكورية: والطامة أن النساء أول من يروج لها. إنها تريد أن يتغير واقعها، تريد أن ترى مساواة حقيقية في المعاملة، تريد أن تحس أنها إنسان كامل الإنسانية..
بهذه المناسبة أسوق طريفة من الطرائف التي حدثت لي هذه الأيام (قبل أقل من أسبوع): اتصلتُ بإحدى قريباتي وهي مسنة على مشارف الثمانين: 78 سنة؛ وعلى غير عادتي حيث لا أجد ما أقول مع غير من يشترك معي ذات الهموم الفكرية والانشغالات التنظيمية والنضالية، بادرتُ بفتح ملف شائك للنقاش معها؛ لما سألتني عن أحوالي: أجبتها –مازحا ومُقهقها- أنها في غاية السوء، ورجوتها أن تبحث لي عن من "يناولني"! وهنا لا أجد الكلمات المناسبة لأعبر عن مقدار سعادتها بطلبي وسرورها اعتدادا بذهنيتها الذكورية  وانبجاس وثوقيتها من جديد بهذه العبارات: أرأيت؟  ألم قل لك إنك ستنزل عند كلامي؟ ها الآن قد وصلت إلى ما رُمته في أحاديثي السابقة معك حينما مازلت تلميذا! جميل يا ابني أن يفكر الإنسان في من "يناوله". لا تخف! تأكد أني سأجد لك من تناسبك. إن والدتك وجدتك قد شاختا ولم يعُد بمقدورهما أن يخدمانك. سأبحث لك عن من "يخدمك" و"يناولك".
إن هذه القريبة المسنة جذع مشترك بيني وبين قريبتي الفتاة –بطلة هذه القصة-؛ واضح مما حدث لي معها في هذا الأسبوع على سبيل المُزحة أنها مدافعة شرسة عن تمثلات ذكورية بائسة لدور الفتاة والمرأة. دور يقول: إنها خادمة ومناولة للرجل في نهاية المطاف. إن الأم والجدة والزوجة لا شُغل لهن سوى "خدمة" هذا الفتى. كأن هذا الفتى منزوع الأطراف وفاقد للبصر حتى يكون محط مساعدات كل هؤلاء النسوة!
لهذا لا عجب أن نجد قريبتي الفتاة تتلظى بهذا الخطاب وتكتوي بآثار هذه العقلية وتحترق أسى على هويتها الإنسانية المفقودة، وتطرح سؤالها في صمت.
إن معالجتنا لقضايا اجتماعية (المرأة)، مازالت موضوعة على رأس جدول أعمال التحديث الذي نتوخاه، تتطلب ألانصراف إلى الواقع بهدف تغييره. إن السؤال هو: كيف سيتم القطع مع إعادة إنتاج التخلف، كيف سيتم الوقوف ضد إعادة إنتاج الخطوط الرجعية الذكورية في ذهنيتنا جميعا رجالا ونساء؟ كيف سيتم إيقاف نزيف الظلم الاجتماعي والنفسي الذي تتعرض له الفتاة الحائرة بين زيف مكشوف لتحديث تقنوي (التكنولوجيا، السيارة، الآيباد، البحر...) وواقع تقليداني ذكوري وبئيس حتى النخاع؟
إن الدين الذي تعرفه قريبتي هو الدين الذي يسري في الواقع ويخترق ذهنيات الناس. إنها غير مكترثة بدين النصوص (القرآن الكريم، السيرة النبوية..)، لأنها لا ترى له أثرا.

إن مراجعة  الموروث الديني والترويج لعقل نقدي متسائل والكف عن استهلاك التكنولوجيا بدون استيعاب والإلحاح على تحويل البديهيات إلى أسئلة في مواطن الدرس؛ إنها خطوات ينبغي البدء بها حتى نخرج من مهزلة "لعن نساء الطين" و"الشوق العنصري إلى الحور العين".



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]






كان الشهيد علي شريعتي يرمي إلى توضيح التمايز بين فكر مرحلتين هامتين، هما: مرحلة الاستضعاف وبذر بذور الثورة والاشتعال بالحركة والحيوية، ومرحلة أخرى هي مرحلة إرساء المؤسسات والبناء والاستقرار. والعجيب أن فكره، هو نفسه رحمه الله، يندرج ضمن المرحلة الأولى؛ فبفضل كلماته الجياشة وأفكاره المشحونة وعباراته المُتقدة قامت الثورة في إيران على طغيان عات لسنوات. فبعد أن تم اغتياله في سنة 1977، لقيت أفكاره الرواج بعدما لقيت محاضراته في حسينية الإرشاد سابقا واسع الإقبال، فصار بذلك رمزا ملهما للثوار للانتفاض في وجه الطغيان والاستبداد. لهذا تجد كتاباته اليوم قبولا واسعا بين هواة العدل والمتحمسين للثورة وكل المتسائلين عن العدالة؛ بدون إدراك لهذه الفكرة المحورية التي تنير سبُل وضع الأفكار في سياقاتها.
إن التجربة النبوية عاكسة بجلاء لهذا التقسيم وناطقة بعناية بهذه المراحل. فكل رواة السيرة ميزوا بين مرحلتين لهما دلالات عريضة: المرحلة الأولى؛ هي المرحلة المكية، وهي مرحلة الاستضعاف، لكنها مرحلة تشييد أركان العقيدة وهدم المخيال الذي يقبل التوجه بالقُربات والطاعات للأوثان، إنها مرحلة الانتفاضة، مرحلة التأهب للثورة، مرحلة الإعداد والاستعداد للبناء والاستقرار، إنها مرحلة تتحفز فيها روحية الإنسان، إنها مرحلة التمكين للأيديولوجيا الجديدة. بينما المرحلة الثانية؛ هي مرحلة العكوف على بناء المؤسسات وإعادة ترميم العلاقات وصيانة الاستقرار. والمتأمل الحصيف في المرحلة المدنية، التي دامت أقل من الأولى، لا تخفى عليه مساعي المصطفى لتوطيد دعائم الاستقرار؛ فكل ما يطلق عليه في السيرة ب"الغزوات" كان أساسا اتجاها لدرء المُنغصات والمشوشات التي تتغيى للمسلمين حياة مضطربة أبدا لا مكان فيه لطيب الخاطر وصفاء الفكر والتأملات المتجردة من الردود والسياقات والملابسات.   
إن نشوء الحركات الاجتماعية والمخاضات التي تمُر منها والنجاحات التي تحققها محكومة كلها بهذا التقسيم المرحلي. في الحالة المغربية، بعد الاستقلال، يمكن اعتبار أهم الحركات الاجتماعية هي: الحركة الاتحادية، الحركة الأمازيغية والحركة الإسلامية. وقد يعترض معترض على إدراج الحركة الاتحادية، باعتبارها حركة سياسية فحسب. إن الدارس النابه لا شك أنه سيجد أن الحركة الاتحادية؛ حركة أكثر من سياسية وإن كان عنوانها سياسي فهي حركة ذات أذرع جمعوية هامة ومصحوبة بمشاريع ثقافية طموحة بل عملاقة وذات عمق شعبي كبير.
إن الحركة الاتحادية؛ عاشت مدة طويلة من التشريد والاستضعاف والاضطهاد دامت قُرابة 40 سنة (من 1959 إلى 1998)، لكن فترة هذه النكسات على المستوى السياسي كانت زاخرة بالعطاء الفكري (الجابري، العروي، فتح الله ولعلو، الحبابي، سبيلا، عبد اللطيف، حميش...) وبإنتاج العديد من الأوراق التصورية الاستثنائية (الاختيار الثوري للشهيد المهدي بنبركة، التقرير المذهبي وكتابات هامة للرئيس عبد الله إبراهيم، التقرير الإيديولوجي الذي حرره المفكر الفذ محمد عابد الجابري) كما شهدت تغلغلا لافتا في أوساط الفئات الشعبية. وبعدها، فترت روحية الاتحاديين وخمدت نضالية المناضلين وخفتت جاهزية السابقين، لأن المرحلة الجديدة كانت تتطلب أسئلة جديدة وأجوبة متجددة تكون في مستوى رهانات غير مسبوقة، وفي المرحلة الجديدة ينبغي استلهام روح المرحلة الأولى فقط: روح الصدق والتضحية والإيثار والبذل والوطنية والعطاء،  وينبغي أيضا تجديد الصلة بالمتن الإيديولوجي بإعادة النظر فيه وتكرار التأمل في أفُقه وصلاحيته.
إن الحركة الأمازيغية، كأي حركة اجتماعية متجذرة في تربة الوطن، عاشت وتعيش نفس الحكاية. إنها بدأت بإمكانات محتشمة تُبشر برؤية جديدة للمسألة الثقافية وراحت تتوسل لذلك كل وسيلة؛ اقتحمت الإعلام الورقي منذ أواسط السبعينات بمجلة (أراتن)، وولجت عالم الفن والمسرحيات (بمسرحية "ؤسان صميدنين"، (الأيام الباردة)، للأستاذ الكبير الصافي مومن علي)، كما طرقت باب الموسيقى وأحدثت تطويرا مفصليا في الموسيقى الأمازيغية تطلعت بها إلى مستوى العصر، وناضل مناضلوها من أجل نقل الثقافة الأمازيغية المبعثرة في أفواه الناس إلى بطون الكتب والمجلات "ولإعطاء فكرة على نموذج الصعوبات التي كنا نعانيها في جمع هذا التراث الشفاهي من أفواه الناس، يقول القيدوم  الأستاذ إبراهيم أخياط، فقد اضطررت يوما وفي العطلة الصيفية لسنة 1973 أن أسجل من الأشعار الخاصة بواقعة أيت باها ضد الاستعمار الفرنسي، ودلوني على شاعر بقبيلة أيت باحمان.. فجهز لي أبي بغلته لألتحق بهذا الشاعر المسن، وقال لي أبي: أنت تعرف الطريق حتى واحة "تاركا ن توشكا"، وعند وصولك إليها؛ اطلب أحدا ليخرجك منها.. غير أن بعد خروجي من الواحة، كان الجو حارا وكلما صادفت البغلة طريقا إلا وسلكته، لأنها ترغب في الاستراحة.. (إبراهيم أخياط، النهضة الأمازيغية كما عشت ميلادها وتطورها، ص:51-52). إنها مرحلة الإعداد والتبشير والاستعداد والاحتجاج؛ كانت إبانها الحركة الأمازيغية، في البداية، تتطلع إلى اعتراف محتشم بصوتها، وراحت بعد التوسع والانتشار ترمق الحماية الدستورية للأمازيغية بل وترسيمها. جاءت بشائر المرحلة الجديدة مُلَوحة بإنشاء معهد ملكي يعكف على الجانب العلمي والبيداغوجي لتدريس الأمازيغية؛ ما يعني أن مرحلة تشقيق الكلام انتهت وجاء عهد البناء بما يتطلبه من العمل الدؤوب والجاد، وجاء الترسيم، وكانت القناة... لكن المؤكد أن نضالية الحركة الأمازيغية خارت وأن عزائمها انبطحت؛ ليست مرآة العزيمة ولا النضالية  كائنة في المظاهرات والمقالات (وإن كانت مطلوبة)، إنما هي في التفكير الجاد والعمل اليومي المُضني النابع من الغيرة الصادقة على الحفاظ على إرث الأمازيغية وتداولها الاجتماعي (عبر التعليم، والإعلام، بالدرجة الأولى) خاصة وأن التراجع في عدد الناطقين بالأمازيغية لا يتناسب إطلاقا مع الجهود والنضالات التي قامت الحركة الأمازيغية بتفعيلها على مدار 50 سنة (ففي إحصاء أُجري بعد الاستقلال ببضع سنوات كان عدد الناطقين بالأمازيغية حوالي 85 بالمائة من السكان المغاربة؛ وفي إحصاء 2004 تدحرج الرقم إلى 28 بالمائة، وفي إحصاء 2014 تراجع أيضا: ما يعني أن الأمازيغية مهددة بالانقراض الشفهي، وهنا سيصبح قرار الترسيم بمثابة لعبة صبيان لتزجية الوقت ولا معنى لكل هذا الرصيد، هنا الخطورة إذن، لأنه حينما لا تجد الناس يتحدثون باللغة فكيف سيتذوقون الإبداعات التي تحملها والفنون المصبوغة بصبغتها وكيف سيتابعون إعلامها وكيف تريد أن يتشجعوا على تعلمها إن كان الوسط الاجتماعي جاهلا لها، كيف؟).
نأتي إلى الحركة الإسلامية، هي متأخرة نسبيا في النشأة، وبدورها تمر من ذات المرحلتين. ففي الوقت الذي صعدت فيه أسهم الحركة الاتحادية كانت الحركة الإسلامية تتعرض ل"إرهاب" فكري مخزي من أطراف عديدة وتُنعت بنعوت قدحية شتى. عاشت هي الأخرى استضعافا وتنكيلا ومَضايقات –ومازال بعضها مستمرا إلى اليوم-. وبالمقابل كانت تعيش في "السماء" على مستوى الأحلام والتصورات، كان يُصور لها أنها جمعت شتات الخير أينما كان، وأنها "البديل المنتظر" لحل أزمات الروح بل أزمات الدنيا والسياسة والاقتصاد.. واستندت في هذا إلى إرث فكري متناثر في ربوع العالم العربي؛ حاولت تنقيحته وتبيئته فيما بعد. لكن، أغلب هذا الإرث، كان "معرفة سياقية" كما قال الدكتور امحمد جبرون في كتابه الهام (مفهوم الدولة الإسلامية)، تنظر إلى المشكلات الشديدة التعقيد والتركيب على أنها بسيطة أيما بساطة، لا يكاد ينفلت من ردود الأفعال العاطفية المحكومة بايدولوجيا (الإسلام منهج حياة، ونظام شامل، وحل لكل شيء). وجد جزء رئيس من أجزاء الحركة الإسلامية نفسه في اشتباك مع الشأن العام التدبيري فإذا به ينزاح نحو نحو براغماتية تبريرية واضحة في إيجاد الصلة بين الفكر والممارسة. فالسؤال الهام الذي تطرحه الممارسة يوما بعد يوم: ما هي الإضافة التي سيضيفها الدين في الممارسة السياسية، إذا كنا نتحدث عن مرجعية إسلامية تؤطر سلوكنا السياسي؟ أما إذا كان الحزب، سليل الحركة الإسلامية، يطير  طربا لنزاهته ونظافة يد أعضائه والتزامهم بالصدق والصراحة والنأي عن الرشوة والفساد.. فهذه القيم الأخلاقية كانت قوية بشدة عند أطر الحركة الاتحادية –دون أن يُكثروا من الحديث عن المرجعية الإسلامية- وربما اندثرت الآن، لكنها لم تندثر لأن الاتحاديين ليسوا "إسلاميين" يتحدثون عن مرجعية إسلامية، بل تلاشت لكون بعض الاتحاديين خانوا مبادئهم الاتحادية الأولى، خانوا القيم والأفكار والأشواق التي اجتمعوا عليها وهي أشواق إنسانية تنويرية سامقة كانت تدفعهم لحمل لواء الدعوة إلى تخليق الحياة السياسية. أضف إلى هذا، التجربة الغربية، فلا يشك أحد في شيوع قيم سامية تؤطر العلاقات بين المواطنين والمسؤولين وبين المواطنين فيما بينهم: فيها الاحترام، النزاهة، عدم خيانة الأمانة، الصدق، احترام الوقت والمواعيد، القيام بالواجب، ربط المسؤولية بالمحاسبة؛ كل هذا بدون باستدعاء مرجعية إسلامية أو غير إسلامية؛ فهذه قيم تؤكد الخبرة الإنسانية أنها كونية لا اختلاف على صلاحها. وإذا كان الأمر هكذا، فحديث "المرجعية الإسلامية" مجرد دثار -كما يقول خصوم الحركة الإسلامية- لاستمالة أصوات الناخبين (أي استغلال غير مباشر للدين في السياسة)؛ ومن الأفضل من باب الالتزام الأخلاقي أن يُطلق على الحزب (حزب سياسي مدني ديمقراطي بمرجعية قيم المُواطنة). لهذا فالسؤال هو: ما الإضافة التي تقدمها المرجعية الإسلامية غير النكهة الأخلاقية التي تعد أصلا كونية في المجال العام؟
إن هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يكون مدخلا عند النُظار في الحركة الإسلامية للكف عن براغماتية غير مجدية على المدى المتوسط، كما ينبغي أن يكون منطلقا لإعادة النظر في عقد الولادة إن كان يحتاج لتصحيح (فهذه تجارب بشرية محدودة في نهاية المطاف)، كما ينبغي أن يكون نقطة لانطلاق فكر المرحلة الجديدة، مرحلة البناء والاستقرار والتدبير والتعامل مع المشكلات الحقيقية نظرا وعملا. وكل هذا لن يتحقق إلا بالتأمل العميق في المتن المؤسس والزاد الأول. كل هذا واجب لتستمر شعلة الحركة الإسلامية وتضيء الوطن وتكون سببا حقا في تطويره وتحديثه بنياته وتكون نبراسا لخدمة المصالح الروحية للمواطنين؛ حتى لا يؤول مصيرها إلى مصير الحركة الاتحادية والحركة الاستقلالية قبلها والحركة الامازيغية (التي توجد في مفترق الطرق)، وهذا المصير محتمل بشدة. فالتاريخ يسحق من لا يقرأه جيدا.
إن الأستاذ محمد حسين هيكل انتبه لنقطة هامة في المنعطف الذي عرفته التجربة النبوية، أي (الهجرة)، لما وقف على سؤال لماذا أصلا الهجرة؛ لماذا بعيدا عن هدف الاستقواء بالمسلمين والناي عن بطش قريش وتامين الدعوة؛ ماذا وراء كل هذا؟ ما هي القيمة المُضافة للتدين في هذه المرحلة الجديدة؟
"وإذا كان الإيمان أقوى سند يجعلنا نستهين بكل شيء ونضحي عن طيب خاطر في سبيله بالمال والراحة والحرية والحياة. وإذا كان الأذى من طبعه أن يزيد الإيمان استعارا؛ فإن في استمرار الأذى والتضحية ما يشغل المؤمن عن دقة التأمل التي تزيد في أفق المؤمن سعة، وفي إدراكه قوة وعمقا. وقد أمر محمد صلى الله عليه وسلم الذين اتبعوه من قبل أن يهاجروا إلى الحبشة المسيحية، وكان بها ملك لا يُظلم عنده أحد؛ فأولى بالمسلمين أن يهاجروا إلى يثرب وأن يتقووا بأصحابهم المسلمين فيها، وأن يتآزروا بذلك على دفع ما يمكن أن يصيبهم من شر؛ ليكون لهم بذلك من الحرية في تأمل دينهم والجهر به وإعلاء كلمته، كما يكفل لهم نجاح الدعوة إليه؛ دعوة لا تعرف الإكراه، بل أساسها الرفق والإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن". (محمد حسين هيكل. حياة محمد. دار المعارف. الطبعة العشرون. ص:172-173)
هكذا، كان المسلمون  يحتاجون إلى مرحلة جديدة فيها استقرار نفسي والتقاط للأنفاس للتأمل أولا وقبل كل شيء في الدين الذي آمنوا به. فالعذابات التي نالوها لم تدعهم ليفكروا بتأن –خارج العاطفة الملتهبة- في ماهية الدين الذي انتسبوا إليه. وعلى هذا المنوال، نفترض أن من أوكد الواجبات على كل سالك مسلك المرحلة الثانية؛ هو  التأمل بعمق وهدوء في المحرك (الإيديولوجي) الذي حركه طيلة المرحلة الأولى وكان سببا في وصوله إلى ما وصل إليه.
لهذا؛ فالحركة الإسلامية، في خضم هذه المرحلة الجديدة مدعوة قبل كل شيء إلى التأمل في مقولاتها كلها على ضوء الواقع الذي احتكت به بعد معاشرة الشأن العام لأزيد من أربع سنوات. فما ذكرناه عن المرجعية بشكل مثير هو مثال واحد، أما إعادة النظر فينبغي أن تنسحب على كل شيء. ففكرنا اليوم يتأرجح بين مرحلتين: إما أن نستبق جرس التاريخ، لنكون في الموعد، وإما أن ننتظر التاريخ لينطق بحكمه علينا ويأتي من يخلُفنا ونبقى كالاتحاديين مثلا بلا قضية حقيقية سوى الهذيان حول (القبلات، الشذوذ..) بعد أن كانوا في طليعة القوى التقدمية الديمقراطية الوطنية الأصيلة.
وفي الأخير، ينبغي أن نفهم أن فكرنا يعيش بين مرحلتين حتى لا نضيع جميعا ويضيع الوطن.



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




كنت سادرا في إعادة قراءة المقال الذي نشره المؤرخ الوطني الكبير علي صدقي أزايكو "في سبيل مفهوم حقيقي لثقافتنا الوطنية" في مجلة "أمازيغ" سنة 1981؛ المقال الذي كان الباب المؤدي للسجن سنة كاملة. لم أجد في المقال سوى كلمات رائقة وأفكارا منيرة تشع وطنية وانحيازا للرصيد التاريخي للوطن.
"وإذا كان القرآن قد نزل بالعربية، فإن الله تعالى حين فعل لم يخلق لغة عربية جديدة لا يفهمها العرب، بل كان ذلك باللغة العربية نفسها التي كانت من قبل، محملة بكل مقومات المجموعة البشرية التي كانت تتكلمها. ورغم التغير الكبير الذي أدخله الإسلام عل حياة العرب فإن الاستمرار الحضاري، في بعض جوانبه على الأقل، شيء لا يمكن نفيه. واللغة عامل قوي في ذلك الاستمرار؛ فالأدب الجاهلي الذي كان شفويا قبل الإسلام، جمع في عهد الإسلام، وقواعد اللغة العربية التي لم تكن مضبوطة قبل الإسلام درست وضبطت بعد الإسلام، وتقاليد العرب وعادات العرب الجاهلين اهتم بها المسلمون أيما اهتمام في أعز عصور الدولة الإسلامية.
فلو كان الإسلام يعني بالكونية محو كل مقومات الشعوب التي تؤمن به، لطبق ذلك أولا وقبل كل شيء على العرب أنفسهم، ولنزل القرآن بلغة جديدة، يعلمها الله لنبيه، ويضطر كل المسلمين إلى ترك لغاتهم، التي أراد الله لها أن تكون متنوعة ومختلفة، وتعلُم اللغة الجديدة!  اللهم إذا اختار الله فعلا أمة العرب وجعلها فوق جميع الأمم الأخرى التي خلقها...؟ ومعلوم أن المقياس الوحيد عند الله تعالى هو التقوى. وباختصار فإن الإسلام ومبدأ القومية لا يكونان أي تناقض، غير أن التناقض يوجد بين قوميتين أو قوميات.
وإذا كنا لا نناقش الجانب الديني، لأنه في نظرنا لا يطرح مشكلا اجتماعيا، لأننا، ولله الحمد، مسلمون؛ فإن المشكل الثقافي ما يزال مطروحا، لأن المغاربة لم يتعربوا جميعا". (علي صدقي أزايكو، معارك فكرية حول الأمازيغية، مركز طارق بن زياد، ص:41)
هي مرافعة بليغة قادها شباب وطنيون، في طليعتهم أزايكو، للفت الانتباه لحقائق مسكوت عنها ومنسية في غمار السياسة وحساباتها الإيديولوجية. قد يختلف المختلفون مع كلام أزايكو، وهذا حق مكفول بل حق مقدس: حق الاختلاف؛ فمن أجله كتب أزايكو ما كتب ومن أجله دفع ضريبة ثقيلة هي سنة كاملة وراء القضبان. لكن، دون تزيُد، فإن الشعور الذي يخالج القارئ هو الأسف: أن يكتب كاتب كلمات فيها رأي؛ حينما يُقرأ يربو الإيمان بعظمة الإسلام ولا ينقص، تزداد جذوة الوطنية اشتعالا ولا تخبو، وفي النهاية تُكال التُهم الجاهزة والكليشيهات الفارغة: "تهديد الوحدة الوطنية"، "محاربة لغة القرآن"..
متى نفهم أن الخناق كان مضروبا على أزايكو وغيره من نشطاء الحركة الأمازيغية (اختطاف بوجمعة الهباز في نفس السنة 1981)، في نفس الوقت الذي كان بنكيران وإخوانه يقضون ليال ذوات العدد في الزنازين ثم يُفرج عنهم فيعودون إليها مرات ومرات. متى نفهم أن أزايكو وبنكيران، على سواء، كانوا أبناء الشعب، كانوا يحملون قضايا تتكامل، كانوا يجسدون مطامح جماهير غفيرة من الفئات الشعبية، كانوا سعاة لصيانة بيضة "الهوية" وكل له زاوية ينظر منها.
متى نفهم أن التناقض  ليس بين جمهور أزايكو وجمهور بنكيران. متى نفهم أن التناقض ليس بين خط الشهيد عمر بن جلون وبين خط عبد الإله بنكيران. إنما التناقض صارخ بين كل هؤلاء من جهة، والراغبين في استدامة التسلط والتحكم والقهر والتنميط والإذلال على الشعب المغربي، وبطبيعة الحال "المخزن" على رأس هؤلاء جميعا.
متى نفهم أن أعداء الحركات الاجتماعية هم هواة اختطاف الإرادة الشعبية فقط. متى نفهم أن الحركة الأمازيغية والحركة الاتحادية والحركة الإسلامية؛ كلها مرآة عاكسة لروعة إبداع الذهنية المغربية.
إن العين لتدمع حينما نقرأ شهادة أحمد بن جلون رحمه الله زعيم حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، شقيق الشهيد عمر، وهو يروي مسلسل سحق الإنسان في دهاليز "بنية" هي التي تُشكل حقا تناقضا مركزيا مع خطوط الشعب (خط بن جلون، خط أزايكو، خط بنكيران..): "أنا شخصيا وصلوا معي إلى درجات عالية جدا من التعذيب لا يمكن للعقل البشري أن يتصورها. لقد وصل الأمر من كثرة الضرب على قدمي إلى درجة أنهم اسودتا وتعفنتا، وأخذ الدود يخرج منهما، ولأني لم أعد أطيق الألم الذي كان يأتيني منها، وصرت أقضي الليل والنهار في الصراخ، فإنهم أزالوا لي بواسطة مقص القشرة السوداء التي كانت تغطيهما، وصبوا الكحول عليهما، وشعرت ساعتها وكأن نارا حقيقية تلتهمني من قدمي إلى آخر شعرة في رأسي، وجاء وقت فقدت فيه الإحساس الكلي بأطرافي العلوية، وأصبحت عاجزا عن تحريكها، بل صرت على وشك الموت، فأخذوني إلى المستشفى، وهناك فحصني طبيب، أدركت فيما بعد أنه شقيق جلاد مشهور، ولأنه كان يضع خبرته العلمية رهن إشارة الجلادين، وكانوا يستشيرونه في أوضاعنا الصحية، فإنه نصحهم بالكف عن تعذيبي، ودعاهم للعناية بي لاسترداد البعض من عافيتي، وفعلا هذا ما حدث، إذ تم الاهتمام بي أكلا وتطبيبا إلى أن استرجعت جزءا من سلامتي الجسدية، ثم فحصني نفس الطبيب مجددا، وأعطاهم الإشارة، فاستؤنف التعذيب مجددا. لا يمكن للكلمات، مهما كان مستوى دقتها وقوتها التعبيرية، أن تجسد أياما وليال من التعذيب، والقهر والإذلال، فاستؤنف التعذيب مجددا. (عبد السلام بنعيسى في حوار مع أحمد بن جلون، ذاكرة الاعتقال السياسي: حوارات ومسارات، 2012، ص:20)
بالفعل، إن فهم كنه القضايا التي انحاز إليها كل خط يجعلنا ندرك سريعا أن ما نطلق عليه "الإرادة الشعبية" هو كل ما سعى من أجله هؤلاء على المستوى الثقافي والسياسي والديني.. فكل تشكيل اجتماعي كان يهدف إلى سد ثغرة من الثغرات وتسليط الأضواء على المُهمش في السياسات. وفي نهاية المطاف نرى "فسيفساء" خلابا يعكس تطلعات الجماهير الشعبية في رفع الوهن عن هذا الوطن.  

فمتى نفهم أن عدو هذه الخطوط الوطنية واحد. وكل همه بعث بذور التمزق والشقاق وتوسيع الُهوة والصراع بينها جميعا؛ حتى يستأثر بالحلبة لوحده ويستمر –تحت الضغط- في تقسيط الديمقراطية على الشعب.


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]







ليس سرا أن منظومتنا التعليمية تابعة للنموذج الفرنسي من حيث الأفق والأهداف والتوجهات والأسلاك. لكن هذه الحقيقة التي لا تحتاج إلى كثير برهان، لم تدفعنا إلى دراسة أو على الأقل محاولة فهم رهانات المنظومة التربوية في فرنسا، عسانا ندرك أين الخلل في منظومتنا التعليمية التي تحاول أن تكون نسخة كربونية لها؛ ولا أدل على ذلك من فلسفة الأقسام التحضيرية التي انفردت بها فرنسا بهذا الشكل العسكري الذي تُقام به واقتفى المغرب أثرها بشكل ببغائي. في هذا المقال، سنحاول الإطلالة على الخلفية الكامنة وراء المنظومة التربوية الفرنسية، كما وضحها أبرز فلاسفة القرن العشرين وألمع السياسيين في عاصمة التنوير روجي غارودي رحمه الله، لكي نستيقظ من التحليلات الرثة التي نلوكها دائما: حينما نحسب الطباشير، وعدد المقاعد، وعدد المدارس، وعدد الجامعات، وعدد الأساتذة، وعدد التلاميذ المنقطعين، وعدد الواصلين، وعدد المُجازين في ثلاث سنوات... دونما تشريح للُب السياسات أو نفاذ في بواطن الأمور.
نشرت مجلة الملتقى، التي يديرها الأستاذ الجامعي المعروف عبد الصمد بلكبير، في عددها المزدوج (5—6) سنة 2000، مقالا للمفكر الفرنسي المرموق روجي غارودي تحت عنوان "التربية وأزمة القيم" من تعريب الأستاذ توفيق بكار. المقال جد هام من ناحية التحليل العميق الذي يترفع عن السقوط في براثن المقاربات التقنوية الكمية لأم المسائل: المسألة التعليمية. ونظرا لأهمية مضامينه فإننا سنقتطف أجزاء هامة منه، ونقف مع إشراقاتها لعلنا نظفر بتفسير مقنع لما يجري في ملف التربية والتعليم في وطننا الحبيب.
يستهل غارودي مقاله بإطلاق النار على الغارقين في أسئلة جزئية ضيقة: لا يجدي كثيرا أن نضع اليوم أي مشكل بيداغوجي مهما كانت أهميته؛ كأن نقدر المكانة التي ينبغي أن نخصصها في التعليم للاتينية أو للرياضيات أو للإعلاميات أو للعلوم الإنسانية، ما لم نبدأ بطرح أم القضايا وهي تلك التي تتعلق بغايات التربية وليس بوسائلها فحسب. ما هدف جامعاتنا ومدارسنا؟ ما معناها، ما رسالتها؟ ووفق أي مفهوم للإنسان ولمستقبله يمكن أن نتصورها ونعيد هيكلتها ونعيش واقعها؟
إن هذا هو السؤال المركزي الذي ينبغي نطرحه ليس بهدف الهيمان في ترف فكري أو التحليق في العالم النظري، إنما بهدف تحديد موضع السكة ووجهة البوصلة: أيُ تلميذ نريد؟ أيُ طالب نريد؟ هل نريد تلميذا/طالبا غاية غاياته تعلُم تقنيات الحساب وتركيب الآلات وقراءة النصوص وكتابة الأسماء والألقاب ليتحصل على وظيفة في نهاية المطاف –والتي لا يحصل عليها في الأخير إلا بشق الأنفس- تسُد الحاجيات وترنو إلى الكماليات؟ (هذا الخيار وراءه ما وراءه من شهوة إشاعة الاستبداد والاستبلاد) أم نريد تلميذا/طالبا يمسك بسراج النور وهو "التفكير المتبصر" ويجيد "التعلُم والتثقيف الذاتي" ويسعى للانغمار الكلي في مجاله العلمي؟ (هذا الخيار وراءه من وراءه من دلالات الاتجاه نحو بناء مجتمع ديمقراطي حر يؤثثه مواطنون ذوو "عقل نقدي" لا يقبلون بالظلم والاعتساف في أي شأن من شؤون الحياة؟)
ينتقل غارودي إلى مستوى آخر في محاولة منه لاستجلاء غايات المنظومة التعليمية ومطامحها. يبدأ غارودي بتحديد "الإله" الذي تتعبَدُ له أوروبا في القرن العشرين وبالخصوص فرنسا، مُوقدة نيران التنوير. لا يتردد غارودي في ضبط ماهية هذا "الإله" الذي خلب لُب الساسة وصاغة البرامج والتوجهات. إنه "إله": التقدم (للإشارة الترجمات تتحدث عن "النمو" في مواضع و"التنمية" في مواضع أخرى، ونظرا لكون مفهوم "التنمية" ارتبط بملابسات إيجابية في مجالنا التداولي لا علاقة لها بمقصود غارودي، لهذا ارتأينا أن نوظف مفهوم "التقدم"). يُعرف غارودي "التقدم": بأنه نظام اقتصادي هدفه أن ننتج أكثر فأكثر وأسرع فأسرع ولا يهُم أن يكون المنتوج نافعا أو غير نافع أو ضارا أو حتى قاتلا (كصناعة الأسلحة بلغ إنتاجها السنوي 450 مليار دولار).
إن "التقدم" هو "إله" مجتمعاتنا، يضيف غارودي. وهو "إله" يقتضي قرابين من البشر. والقيمة الأساسية التي يقوم عليها هذا الدين هي الفعالية أي تزايد القدرة على التحكم في الطبيعة وفي البشر. ويحتاج هذا الدين في إقامة شعائره إلى طائفة من القساوسة هي طائفة التقنوقراطيين يعني جماعة من الأخصائيين يُحسنون التساؤل عن الشيء "كيف هو" ولا يتساءلون أبدا عن الشيء "لماذا" ويجيدون الخوض في قضية الوسائل ولا يخوضون أبدا في قضية الغايات.
هكذا، إذن، تتضح الصورة أمامنا. إن ما يجري في منظومتنا من تركيز غير بريء على التقني والحساباتي كان مرده أساسا إلى الرغبة في إغراق التلميذ-الطالب في أوحال من التقنيات والتفاصيل (كيف أجيب على تمرين كذا، كيف يشتغل هذا البرنام في الحاسوب، كيف أحُل معادلة رياضية...) حتى يدخل إلى نفق مظلم وإلى قفص حديدي وإلى صندوق أسود وهو عاجز عن طرح سؤال الماهيات ومساءلة الاختيارات وإعادة النظر في الفلسفات. وللإشارة فهذه التقنيات والمهارات أو الوسائل تعبير غارودي هي مُهمة ومطلوبة ولا يستقيم العلم ولا تستوي الحياة بدونها؛ لكن تضخيمها وتسليط الأضواء عليها (حتى صار الرأي العام في المجتمع يُقدر "أبناء العلوم الرياضية" ويستخف بأهل "علم الاجتماع"، بفعل هذا التضخيم وهذه العناية المُركزة التي حظيت بها التقنيات والحسابات في مناهجنا الدراسية) هذا بالإضافة إلى تدريسها بدون تلقيح ذلك بجرعات معتبرة من فلسفة العلوم وتاريخها وتطوراتها والقطائع التي عرفتها والجهود التي أثمرت التقنية والتكنولوجيا؛ إن هذه المعطيات هي التي تبعث الشك في ما وراء السطور وما خلف التخطيط من هجوم على مرتكزات "العقل النقدي" عند الطالب-التلميذ.
إن هذا الخريج الذي حذق أسئلة المنظومة وأجاد التقنيات والحسابات والمهارات المطلوبة ولا علاقة له بالأسئلة الضخمة والفلسفات المتحاربة والمدارس الفكرية الرائجة (إلا إذا حظي بفرص خارج المنظومة كالانتماء إلى حركة اجتماعية، أو نصائح منيرة من أقربائه ومعارفه النبهاء، أو وفقه الله جل في علاه لمعانقة الكتاب عوض السهر مع "الطابليت والآيباد"..). إن هذا الخريج هو من يطلق عليه "التقنوقراطي".
إن هذا الكائن، الذي راح ضحية منظومة، هو الذي تُلمع صورته مناخات المجتمع لأنه يجيد ولوج سوق وحيد وهو "سوق رأسه"! إن هذا الكائن سادر في القفص الذي تم رميه فيه. إن همومه لن ترقى فوق هموم الصبيان، الذين يدورون حول "لُعبهم" فقط. فإذا كان متدينا، فتدينه سيكون مدعاة للشفقة؛ إذ أنه سيلجأ بمنطق القياس الأرسطي إلى نقل انشغالاته بتفاصيل التقنيات والحسابات إلى عالم "الدين" فيكون كل همه التجوال في "حكم كذا.." وسيطرق ولا شك أبوابا كان الشارع ساكتا عنها. وإذا لم يكن متدينا فوصفة ماكس فيبر ملائمة: سيروح لعمله التقني صباح مساء، ليستقبل الليل بزيارة الأسواق ليستبضع فيها بما يملأ جوفه، لينتظر يوم السبت والأحد لقضاء مآرب أخرى والاستجابة لغرائز أقوى (الملاهي الليلية، الجلسات الخمرية، أحاديث المقاهي الفارغة والرتيبة..).
قد نكون مُنساقين وراء اختزال لا يليق، لكن على كل حال فالمشهد لا يتجاوز هذا الأفق القاتم. إن المصيبة في كل هذا، أن هذا الكائن-الضحية سيكون مغرورا لأنه يؤدي واجبه، ولأنه يساهم في "التقدم". وهذا الإنسان، ليس صعبا أن ينتج الأسلحة النووية ولا الصناعات الملوثة للبيئة لأنه مغلق في دائرة "كيف أصنع، ليس، لماذا سأصنع؟".
والطامة الكبرى، بالنسبة لوطننا الذي مازال يعيش مخاض انتقال تاريخي عسير، أن هذا الكائن لن يجرؤ على التفكير في أزمة الديمقراطية التي يتم تقسيطها، ولن يتذكر حكاية "التخلف" التي نرتع فيها إلا حينما يقف يوما على ورقة إدارية في مقاطعة أو إدارة وهو يجر ذيول الخيبة والحسرة على تضييع ساعات وساعات من أجل ورقة، هذا إن فاز بها دون رشوة أو ابتزاز.
إن هذا الكائن الذي يقع ضحية عمليات تضليل وتزييف واستبلاد لا تنتهي؛ لن يخرُج يوما لوقفة احتجاجية ضد الظلم والاستبداد ولن يميل يوما لتظاهرة تدعو لمزيد من العدل والحرية. إنه لهذا السبب نجد الاتجاه مائل نحو تسليم المسؤوليات الكبيرة للتقنوقراطيين وليس المسؤولين السياسيين؛ لأن هؤلاء سيكتفون بعملهم الآلي ولن يفكروا في البعد القيمي والإنساني والحقوقي لأي تدبير أو في أي قرار مُتخذ، إن كلمة من حرفين "لا" تتلعثم ألسنتهم عند محاولة التفوه بها بل لا تكاد تجد طريقا أصلا إلى أفواههم. يشير الدكتور حسن أوريد (في مقاله بمجلة "زمان"، عدد فبراير 2015: في الفرص الضائعة) إلى عامل البنية التقنية، أو الدولة العميقة. "عامل لم يكتف بدور تدبيري، بل اضطلع، منذ فجر الاستقلال، بدور سياسي، واضطر إلى أن يكون حاضنا لأحزاب سياسية، منها ما كان يسمى بجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، ثم في سياق السبعينات والثمانينات. كانت هذه البنية محركا لأحزاب مرتبطة بالسلطة، مما يسمى بالأحزاب الإدارية، وهو الأمر الذي تكرر في العهد الجديد مع حزب الأصالة والمعاصرة.هذه البنية كان لها وما تزال معرفة تقنية، وقدرات تدبيرية، وكان ذلك مصدر قوتها". هنا يضع أوريد بجلاء الأصبع على الظاهرة التي نحن بصددها؛ إن التقنوقراطيين الذين تنتجهم المنظومة التربوية المغربية المُقلدة للمنظومة الفرنسية هم الذين تستقطبهم الدوائر السلطوية ليقوموا بخدمات بالوكالة في الدفاع عن المشروع السلطوي مستفيدين من المعارف التقنية التي يجيدونها. صحيح أن هذه الكائنات ليست عديمة حس سياسي، كما أضاف أوريد، ولكن ينبغي توضيح أن حس "الثعالب" يُكتسب بالدُربة والمران ومع التجربة. أما هذه الكائنات فهي أصلا خرجت من يافطة النجابة في عالم المعارف التقنية (للإشارة فالتقنية نقصد بها هنا، الوسائل والثمار بدون الفلسفة المؤطرة لها؛ أي أن معرفة النصوص القانونية  تندرج أيضا ضمن "التقنيات") ولا علاقة لها بالسياسة ولا بالحياة الاجتماعية ولا بالمشاريع المجتمعية ولا بالشأن العام. بعبارة أخرى، إن التقنوقراطيين يتم تدجينهم بسهولة حتى يصبحوا حملة لواء السلطوية وغيرها من المشاريع البئيسة المعاكسة لحركة التاريخ.

إن منظومتنا تعيش أزمات لأنها محكومة بهذا النموذج. إنها تتغيى تخريج هذا الكائن المنزوع الإنسانية. إنها منظومة؛ لا ترتبط بأشخاص بعينهم، وإنما هي اختيارات متراكمة تمسك بتلابيبها لوبيات متنفذة لا تريد للانتقال التاريخي أن يتحقق بسرعة ولا تريد لنا ديمقراطية ب"الجملة"، إنما تهوى "التقسيط" رغبة منها في تأخير حركة التاريخ لأنها تدرك جيدا أن من يعاكس حركة التاريخ فإن التاريخ يسحقه وتكون خاتمته مخزية.
إننا نقَدر أن معركة "التحرر" مازالت قائمة وبأبعاد جديدة. إننا ينبغي أن نصرخ بكوننا "نريد أن نُنضج العقل المغربي ونعده لما يصبو إليه من حرية واستقلال،  وأن ذلك ليس في مجرد تكثير حملة الشهادات الذين يملأون الإطار الحكومي، ولكن في تنوير أذهان الأمة وتعليمها وسائل النهوض الصحيحة والأخذ بيدها لتتجه إلى شاطئ السلامة المنشود". (علال الفاسي، النقد الذاتي، الطبعة الثامنة، 2008، ص:30)




...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





لا يختلف المتتبعون حول الوصف الممكن إطلاقه على ما يجري للحركة الطلابية المغربية في الوقت الراهن. وإذا كان الجميع يُجمع على أن الحركة الطلابية، بالنظر إلى رصيدها التاريخي الحافل، استقالت من رسالتها النبيلة، فإن التفكير الجاد في السبل الكفيلة باستعادة وهج هذه الرسالة النبيلة مازال منحسرا ورهينا لنقاشات عقيمة حول الأشكال التنظيمية.
في البداية، لا بد من الإشارة إلى كون الفرضية التي تؤطر هذا الحديث تذهب إلى كون أزمة الحركة الطلابية ليست وليدة الاحتراب الفصائلي أو النقاش حول الإطار التاريخي "أوطم" أو شيوع العنف والإرهاب داخل أسوار بعض المرافق والمؤسسات الجامعية؛ إنما الأزمة، بحسب هذه القراءة، ترجع أساسا إلى عدم الوفاء للرسالة النبيلة التي تضطلع بها معظم الحركات الطلابية الوطنية في مختلف أنحاء العالم والتي عضت عليها الحركة الطلابية المغربية بالنواجذ منذ زمن الحماية.
لهذا، فاستدعاؤنا لتاريخ مضى في هذه الأسطر ليس بهدف السياحة في أجواء ما جرى، وإنما للاقتراب أكثر على الرسالة النبيلة التي كانت تحملها طلائع الحركة الطلابية المغربية منذ أيام النشأة الأولى. عسى أن تمدنا هذه الذاكرة بطاقات معنوية إضافية للاتجاه نحو استلهام روح الرسالة النبيلة مرة أخرى.
تتجه بعض القراءات المحيطة بتاريخ الحركة الطلابية إلى استهلال التأريخ من سنة 1956؛ أي من زمن الاستقلال، مع ولادة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وإذا كان الحديث يشير إشارات خاطفة إلى تشكيلات جمعوية للطلاب المغاربة في زمن الحماية (الجمعية العامة لطلبة المغرب:1947، جمعية الطلاب المغاربة:1948، اتحاد الطلاب المغاربة بفرنسا:1950..)، فإنه لا يتعدى ذكر جمعيات انتظم في سلكها الطلاب المغاربة ونشطوا داخل إطارها سواء في داخل الوطن أو في ديار المهجر: مثل منظمة الطلبة المسلمين بشمال إفريقيا؛ التي لعبت دورا بارزا منذ نشأتها سنة 1927 في لم شمل المجهودات التعبوية والتوعوية التي يقوم بها الطلاب المغاربة خاصة في فرنسا والتي  كانت فضاءاتها فرصة خصبة لصقل القدرات القيادية للعديد من الفاعلين السياسيين في المغرب المعاصر لاحقا (كالدكتور عبد الكريم الخطيب والشهيد عمر بن جلون..).
ليس غريبا أن يكون المغرب معروفا إبان الحماية باسم "مراكش"؛ فقد كانت "مراكش" المدينة في طليعة المدن المغربية التي تشتعل حيوية ودينامية ووطنية ومقاومة. وقد يرجع السبب في هذا التميز الخاص الذي حظيت به مراكش إلى إرثها التاريخي (لا يخفى أنها كانت عاصمة لدول تعاقبت على حكم المغرب). لكن العديد من المتتبعين يُشيرون إلى كون وجود الباشا الكلاوي على رأس السلطة المحلية فيها وتواطئه المفضوح مع السلطات الاستعمارية وتعنيفه الفاجع للأطر الوطنية المناضلة، كان دافعا رئيسا لتنطلق فيها جذوة المقاومة بحماس وإصرار. وثمة معطى هام مفيد بهذا الخصوص يتصل بمعهد "ابن يوسف" الذي كان قبلة للعديد من الشباب الذين أسعفتهم الظروف في استكمال دراستهم وكان أيضا منارة على المستوى التعليمي والتوعوي نظرا لاحتضانه لرجالات كبار أمثال العلامة محمد المختار السوسي. ولهذا نجد أن توأم "مراكش" في السبق على مستوى النضال الوطني كان "فاس"؛ نظرا لوجود جامع "القرويين" في أكنافها والذي كان بدوره محجا لطلبة العلم في مختلف أنحاء المغرب وكان إلى جانب ذلك قطب جذب للعديد من الفعاليات العلمية المرموقة.
إذن، لعل احتضان "مراكش" و"فاس" لجامعات رائدة في تخريج النُخب المسؤولة كان العامل الأكبر في تصدُرهما  لحركة النضال الوطني والمقاومة المسلحة (لاحقا). ولعل في هذا أيضا دلالة ناصعة على كون الحركة الطلابية الناشئة والنشطة في (القرويين وابن يوسف) كانت الوقود الأول لحركة التحرير الشعبية. 
في ما سيأتي سنكتفي بالوقوف على إسهامات فذة للحركة الطلابية في معهد ابن يوسف في العمل الوطني. وسبب إغفالنا لتجربة طلاب القرويين النضالية مردُه أساسا إلى شح المعلومات وندرة المعطيات بخصوص مجريات أحداث هذه المرحلة، مع تسجيل  انبهارنا بالحرارة الشديدة للعمل الطلابي في ابن يوسف.

نشأة الحركة الطلابية في مغرب الحماية: عبد الله إبراهيم المُلهم الرائد

لم تكن مراكش رائدة فقط لأنها تستدبر تاريخا عريقا. بل كانت كذلك لأنها ولود تُنجب باستمرار رجالات كبار. أحد هذه القامات التي طبعت الحياة السياسية المغربية في الأيام الأولى للاستقلال بطابع خاص وبصمت في المشهد الوطني ببصمات استثنائية مشهودة، كان الأستاذ الرئيس عبد الله إبراهيم. وإذا كان المؤرخون يميلون إلى تجنب التمركز حول الأشخاص في التأريخ للأحداث، فإن "عبد الله إبراهيم" ملأ دنيا مراكش وشغل مواطنيها ومستعمريها منذ نعومة أظافره، ولهذا فقد يبدو جائزا الانطلاق من سيرته ومسيرته للتعرف على مُنجزات باهرة للحركة الطلابية الناشئة في معهد ابن يوسف في مراكش.
ولد الأستاذ عبد الله إبراهيم في غشت 1918 بمراكش من عائلة بسيطة. حصل على شهادة العالمية للتعليم الأصيل (القسم الأدبي) من معهد ابن يوسف بمراكش ثم غادر إلى فرنسا سنة 1945 ودرس بجامعة  السوربون ومعهد الدراسات الشرقية بباريس. اعتقل لأول مرة سنة 1933 (عمره 15 سنة) بتهمة توعية الحرفيين وتنظيمهم، والدفع بهم إلى مسيرات احتجاجية منظمة ضد الاحتلال. وأُحيل على ثكنة عسكرية في (كيليز)، حيث سيتعرض لتعذيب شديد إلى جانب مجموعة صغيرة من رفاقه. انضاف التعذيب إلى  تعرُض بيوتهم للمداهمة والإخلاء ليلا.  (1)
يكفي عبد الله إبراهيم  فخرا أن الزعيم علال الفاسي يغبطه على القيم التي يتمسك بها. يحكي الأستاذ عبد الله إبراهيم: "في إحدى المرات قبل وفاته رحمه الله، جاء لزيارتي (المقصود بالحديث هو علال الفاسي)، و فيما نحن خارجون للتوديع أمام الباب الخارجي لداري توقف فجأة ليقول لي: آ مولاي عبد الله.. والله إني لأحسدك !! أجبت على الفور: وعلى ماذا تحسدني؟ أ على الصحة أو السلطة أو المال؟ و ليس لي منهم أي شيء ؟؟، رد بسرعة: أحسدك على رصيدك النضالي و سمعتك أي الأمور التي لا تقاس بأي شكل من الأشكال". (2)
أهم ما يلفت انتباه المطلع على سيرة الطالب الوطني المناضل عبد الله إبراهيم هي همته المتوثبة وجديته النادرة؛ إنها طبيعة العمل النضالي فهو لا يقوم على أكتاف الخاملين وإنما على يد الشباب اليقظ قبل شروق الشمس وقبل صحوة المستعمرين. هنا، نلتقط مشهدا مهيبا؛ الشاب عبد الله بعدما خرج من منزله –كعادته مبكرا: بعد صلاة الصبح- يعانق هموم الناس الذين يتلظون بعسف الاستعمار وظلمه وطغيانه فيتأثر لوضعيتهم ويقود مظاهرة جماهيرية شهيرة لا تنساها ذاكرة المؤرخ للعمل الوطني بمراكش. وفي مشهد آخر لا يقل مهابة وجلالا؛ الشباب المقاوم يستعين بعمال النظافة للاستخفاء وسبغ السرية على اجتماعات الخلايا الوطنية وعبد الله يستيقظ قبل الفجر للاجتماع بها وإسرار المستجدات إليها. يستذكر الأستاذ هذه الذكريات المشرقة قائلا:"كان من عادتي اليومية منذ منتصف الثلاثينات (يعني منذ أن كان عمره 17 سنة) مغادرة منزلنا بعد صلاة الصبح مشيا على الأقدام نحو نهاية شارع (كيليز)، ثم أعود منتشيا بالأنفاس الأولى من الصباح، ثم أصبح بعض زملائي يرافقونني بعد ذلك. وذات صباح من صيف 1937، راعني ما شاهدته في نهاية شارع (كيليز)، حيث تجمهر فلاحون صغار، كانوا يشغلون مساحات صغيرة لإنبات مادتي النعناع و(الشيبا).. والذين فوجئوا بجماعات من أعيان لباشا الكلاوي تمنعهم فجأة من الاشتغال هناك وذلك بدون مبرر، ولا سند قانوني، وقال لي هؤلاء الفلاحون لدى استفساري لهم بأن هذه الأراضي كلها مشاع عام، أو ما يطلق عليه آنذاك بوصف (ديال الله)، وكان هناك صهريج كبير للماء ومساحات صغيرة خضراء هنا وهناك. تأثرت جدا لوضعيتهم، ودعوت رئيسهم لمتابعة المذاكرة في ما بيني وبينه على انفراد لإيجاد حل لهذا المشكل.. وبعد اتصالات عدة طلبتُ منه أن يأتي في يوم معين في شكل مظاهرة عارمة تنطلق من ساحة (عرصة البيلك) بجامع الفنا بمراكش، نحو مقر الحاكم الفرنسي، و نحو قصر الباشا الكلاوي، كأسلوب نموذجي لحل معضلتهم. وبالفعل انطلقت هذه المظاهرة منذ الصباح الباكر من اليوم الموعود المتفق بشأنه فيما بيننا، الأمر الذي لم أتوقعه على الإطلاق بكل هذه القوة الهادرة، وانضم إلينا آلاف الجياع والمرضى والفقراء والعاطلين، وكان الجميع يهتف ضد الظلم والطغيان والتعسف، ضمن موجة بشرية هادرة ومتراصة". (3) ويضيف الأستاذ: "كنا نطلب من عمال النظافة الذين يجمعون القمامة والأزبال من أحياء المدينة على متن عرباتهم الخشبية (الكرارص).. كنا نطلب منهم التجمع في ساحة (الموقف) مع الساعات الأولى من النهار، كما لو كانوا ذاهبين إلى عملهم، ولدى توزعهم هنا وهناك كانوا يتركون عرباتهم على أبواب البيوت الخاصة باجتماعاتنا السرية، ليلتحقوا بمجموعات أخرى من الخرازة  والنجارة والحدادة والجزارة.. تأتي تباعا لحضور الاجتماع، سواء في المساجد أو في البيوت الشعبية. وكنت أستيقظ باكرا قبل صلاة الفجر لأتمكن من الاجتماع بهذه المجموعات بمعدل ربع ساعة أو يزيد قليلا مع كل مجموعة لإخبارهم بمستجدات القضية الوطنية وبما ينبغي عمله لاحقا، و هكذا دواليك لأنتقل إلى باقي المساجد و البيوت بشكل متتابع. كان هذا التوقيت في الواقع يصيب الاستعماريين وأعوانهم  بنوع من الغياب الشديد عن الساعة، في عز الظلام والبرد الشديد، فلم يكونوا قادرين على مسايرة عاداتنا الدينية آنذاك، مما جعلنا نستغل هذه الفرص من أجل تأطير وتعبئة الناس بشكل موفق. فالفرنسيون وعملاؤهم المخبرون المغاربة من المدمنين على تعاطي الخمور والسهرات الماجنة وكانوا لا يستطيعون مجاراة نسق عملنا الجهادي عبر مختلف مساجد مدينة مراكش منذ الساعات الأولى من صباح كل يوم، فكانوا دائما آخر من يعلم. ومع آذان صلاة الصبح من كل يوم، يتجه الجميع من أنصارنا إلى المساجد للصلاة، و قراءة آيات بينات من الذكر الحكيم قبل الانتشار في مختلف أنحاء المدينة للالتحاق بأعمالهم، و بقينا كذلك لفترة طويلة دون أن تفطن الأجهزة الأمنية لنشاطنا". (4)
دأب المناضلين و درب الكبار، لا ريب، أنه هو التفوق و الاقتدار في شتى الجبهات التي يشتغلون بها. و من ثم لا غرابة في أن نجد الشاب عبد الله ذي 17 ربيعا يكون في طليعة المتفوقين بمعهده ولا عجب في أن نجده شديد الحرص على تنمية مداركه ومستواه وتوسيع آفاق وأبعاد لسانه (الحرص على تعلم لغات أخرى بأي ثمن). كل هذا إلى جانب اشتغاله على التوعية و التنوير في صفوف الجماهير بأسئلة الوطن (الاستعمار) وقضايا الأمة (فلسطين). إن في هذا، مرة أخرى، لعبرة لهواة الخمول والمغالَطة، أصحاب النظر القصير، الذين يهتفون لأبنائهم و ذويهم: النضال والدراسة؛ ضدان لا يلتقيان! "حوالي منتصف الثلاثينات، كنت قد أصبحت في طليعة المتفوقين في معهد بن يوسف بمراكش، وفي هذه الأثناء، شعرت بأهمية تعلم اللغة الإنجليزية، فذهبت إلى شاب بريطاني يملك محلا لبيع وكراء الكتب الأجنبية المستعملة في حي المواسين، حيث أبديت له رغبتي واستعدادي لأداء مصاريف التمدرس فتطوع أن يتولى هده المأمورية شخصيا بدون مقابل. وبالفعل شرعت في التمدرس على يديه لبضعة أشهر بتفوق ملحوظ، غير أن هذا التلقين توقف فجأة بسبب اعتقالي، ففي أحد أيام الجمعة، خرج المصلون من المساجد في مراكش ليجدوا ملصقات بالعربية على الأبواب تتضمن التضامن مع الشعب الفلسطيني في مقاومة الاستيطان والغزو الصهيوني. وبحثت عيون الكلاوي عن المرشحين للقيام بهذا العمل، وكان ذلك تدعيما لأكبر حركة فلسطينية احتجاجية سنة 1936 (حركة عز الدين القسام) ضد توافد أمواج اليهود نحو فلسطين العربية لإقامة الدولة الصهيونية فيها. وهكذا اعتقلت ليُجرى التحقيق معي حول هذه القضية، وعندما خرجت من السجن عاودت الاتصال بصديقي البريطاني في موضوع متابعة تعلم اللغة الإنجليزية، فربط لي علاقة جديدة براهبة أجنبية تتكلم الإنجليزية بطلاقة ومقيمة في مدينة الجديدة، فأصبحت أتنقل إلى هناك لتلقي دروس إضافية على يد تلكم الراهبة، ثم أصبح لدي أصدقاء مغاربة في هذه المدينة أقيم في بيوتهم أثناء إقامتي هناك وكان بعضهم من الوطنيين، و سينفعني هذا الإلمام كثيرا فيما بعد لا سيما أثناء نشاطاتي السياسية في أوروبا بين 1945  و1949، أو اثناء تحملي للمسؤوليات الحكومية بعد الاستقلال. أما اللغة الفرنسية فقد بذلت جهودا جبارة لتعلمها بمفردي كي أستطيع العمل بها مستقبلا بفعالية، فقد كنت أدرك تمام الإدراك حاجتي الماسة إليها في نضالي في المستقبل".(5)
أنعم بها من حياة محفوفة بلذة الالتحام بالأسئلة والاشتغال على القضايا وتعديد الواجهات، قبل الوقوف على مشارف "العشرين" في العمر! تلك حياة الطالب عبد الله؛ ليس فيها وقت للغو الحديث ولا لعبث غير مفيد. بل فيها تصَيًد للفرص واستثمار لكل ما هو متاح وتوظيف لكل صناعة ثقيلة ( ومنها صناعة الإعلام). "بالنظر للأهمية القصوى التي أصبح الإعلام المكتوب يتسم بها آنذاك في تعزيز العمل التنظيمي والسياسي، فقد تقدمتُ للباشا الكلاوي بطلب للحصول على ترخيص بإصدار جريدة، حيث تعرضتُ لمساومات غريبة. كان نشاطي السياسي يسير في خط متواز لنشاطي الصحفي والثقافي بشكل عام، وذلك في مطبوعات مشرقية ومغربية عديدة، فكان من أبرز مقالاتي: الحركة الصوفية في المغرب (في يونيو 1936 في عدة حلقات بمجلة المغرب الجديد)، الثقافة المغربية الحديثة (في أبريل 1938  بملحق جريدة المغرب للثقافة المغربية)، في سبيل تعزيز الوحدة العربية (في يونيو 1939 بمجلة الأمالي البيروتية). وغير ذلك من المقالات في الصحف و المجلات المصرية والسورية والجزائرية ( المنار للشيخ رشيد رضا، الفتح لمحيي الدين الخطيب، الشهاب للشيخ عبد الحميد بن باديس، الرسالة لأحمد الزيات..)". (6)
و عمره 18 سنة،  حضر الطالب عبد الله اجتماعا تاريخيا هاما للحركة الوطنية (أقر المطالب الإصلاحية المستعجلة) مع أهرام كبيرة تكبره بقرابة عقد من الزمن؛ علال الفاسي (من مواليد 1910) وأحمد بلا فريج (من مواليد 1908).. بل ألقى في حضرتهم خطابا حماسيا ناريا. إنها: الجرأة والشجاعة والامتلاء الداخلي والثقة بالنفس والتحرر من عقدة الرموز.. القيم التي نحتاج لغرسها في أوساطنا اليوم لقطع السبيل على كل محاولات التسلط و الاستعباد و الاستبداد و تثبيت أركان الانتقال الديمقراطي."عندما حضرت لاجتماع في الرباط بتاريخ 25  أكتوبر 1936، بدعوة خاصة من طرف علال الفاسي وأحمد بلا فريج وعمر بنعبد الجليل ومحمد اليزيدي. ألقيتُ خطابا حماسيا ناريا وكان هذا الاجتماع مخصصا لإعداد المطالب المستعجلة". (7)
لم يترك عبد الله – و سنه لم تتجاوز 16  سنة- بابا من أبواب النضال والإصلاح والوطنية الصادقة إلا وطرقه. فمن منافح عن حقوق المستضعفين المكتوين بنار الاستعمار إلى مقبل على المعرفة بنهم مثير إلى نضال آخر يعكس حرارة اعتناقه للمسألة الاجتماعية والأخلاقية (العمل على إلغاء ضريبة جائرة، مقاومة انتشار الخمارات وبيوت البغاء العلني بمراكش، المطالبة بتحديث و إصلاح مناهج التعليم بمعهده ابن يوسف). "عندما تأكد لنا في مراكش بأن الفرنسيين أصبحوا يخططون لإزاحة محمد الخامس (منذ منتصف الثلاثينات)، خضنا معارك شرسة أبرزها:
أولا: تنظيم تحرك مطلبي قوي وواسع لمقاومة انتشار الخمارات و بيوت البغاء العلني في مراكش، حيث حررنا العرائض الاستنكارية و رفعناها للسلطات الفرنسية و للباشا في نفس الموضوع، و ذلك بتاريخ 20 فبراير1937 . و بالفعل أقدمت السلطات على إغلاق الخمارات بمختلف أحياء المدينة والتي لا يسكنها الأوروبيون، وذلك اعتبارا من  27أبريل 1937، بعد حوالي شهرين من تحركنا.
ثانيا: تنظيم حركة المطالبة بإلغاء ضريبة (الدور)، وهي ضريبة من فرنكين إلى خمس فرنكات يؤديها الصانع التقليدي لفائدة فرق الحراسة الليلية التي تتولى حراسة الأسواق اعتبارا من الساعة الثانية عشرة ليلا وحتى الصباح، ونظرا لتلكؤ السلطات نظمنا عصيانا جماعيا انتهى عمليا بإلغاء هذه الضريبة..
ثالثا: تنظيم و تحريض طلبة معهد ابن يوسف لدفعهم في اتجاه المطالبة بإصلاح مناهج التدريس لديهم على غرار ما حدث في ذلك الإبان بجامعة القرويين بفاس، وفتح أبواب مكتبة معهد ابن يوسف أمام الطلاب. وذلك سنة  1933 و1934". (8)
واصل الطالب عبد الله بعدما حصل على العالمية في ابن يوسف الدراسة في فرنسا. و كانت تجربة جديدة مثيرة يجلو فيها معنى الاستماتة من أجل الحياة الكريمة وتتضح فيها إيحاءات الهيام بالقراءة وعشق المعرفة. كما أنها تزكي صدق حمله للقضية ومدى وفائه لسؤال: كيف نجعل المغرب بلدا مستقلا، استقلالا تاما؟ (توسله الفكر والمعرفة والقراءة الغزيرة للإجابة).
"كان والدي يسدد لمعارفنا كل الذي يقدمونه لي من أموال، و حيث أن معظم مخصصاتي المالية كنت أخصصه للكتب وللنشاط السياسي، فقد كنت أضطر لقضاء يومين في نهاية كل شهر في جوع كامل و ذلك لمدة طويلة، و لم أكن أصارح زملائي بهذا الواقع، و كنت  خلال هذين اليومين أغمس نباتا جافا في ماء دافئ كي أقتات به، وكان هذا النبات متداولا بين الأوساط الفقيرة آنذاك. وبوصولي إلى فرنسا بقصد الدراسة، كنا هناك عدد قليل من الطلبة ليصل عددنا في نهاية الأربعينات إلى 70 طالبا، وقد اندمجت شخصيا بشكل كبير في نشاط حركات التحرر الوطني في العالم الثالث آنذاك. كما نظمتُ في نهاية السنة الدراسية الأولى أول تجمع للمغاربة والعرب المشرقيين لتوحيد الصفوف في وجه العدو المشترك وخاصة فرنسا. على المستوى الفكري، دخلنا في حوارات غنية مع الوجوديين والماركسيين والاشتراكيين والفوضويين والتروتسكيين والسورياليين وغيرهم، وانكببنا على دراسة الأعمال الفكرية الذائعة الصيت آنذاك لنيتشه وماركس وهيغل ودوستويفسكي وتولستوي ويرغسون وسارتر و غيرهم.. وكانت اهتماماتي بالتيارات الفلسفية والأدبية والفكرية بوجه عام في أوروبا في أفق محاولة هضم و استيعاب تلكم المدارس الفكرية في اتجاه المساهمة في صياغة مشروع سياسي و ثقافي و اجتماعي مغربي وفقا لخصوصيتنا الوطنية".(9)

الحركة الطلابية التي غرس بذورها عبد الله إبراهيم

استثمر  الأستاذ عبد الله إبراهيم قدراته القيادية وملامحه الكاريزماتية ومؤهلاته الفكرية و خاض بكل الوسائل التي كانت ممكنة  معارك ضارية للحد من غلواء السياسة الاستعمارية المتعسفة. وقد كان المجال الأثير لدى الأستاذ هو تأطير أقرانه الطلاب عندما كان زميلا لهم في معهد ابن يوسف منذ منتصف الثلاثينات إلى سنة 1943. وبعد عودته من فرنسا سنة 1949 مثقلا بالهموم الفكرية والثقافية والوطنية، عاد مجددا لتأطير حركة الطلاب بمعهد ابن يوسف. هذه الحركة الطلابية الناشئة كان لها في ما بعد اصداء لافتة على المستوى الوطني. وقد قامت الحركة بتنظيم نفسها بانتخاب لجان مسيرة، كما انتقلت إلى ابتداع أشكال نضالية جديدة منها الاعتصامات والعمل المسرحي..  
يحكي المقاوم الكبير عبد السلام الجبلي التطورات التنظيمية التي شهدتها هذه الحركة الطلابية الناشئة من موقع شاهد عيان ومشارك بارز في صياغة الأحداث: ففي ابن يوسف عندما تبين أن حضورنا أصبح ذا فعالية نظمنا انتخابات، ومع أننا لم نكن نعرف شيئا عنها، ولا عن مفهوم الديمقراطية. نظمناها لانتقاء لجنة لتسيير الطلبة، وكنا ننسق مع عبد الله إبراهيم للإشراف على التنظيم. كونا لجنا على أساس المستويات التعليمية، بحيث كان لدينا لجان على مستوى التعليم الابتدائي، ولجانا على مستوى التعليم الإعدادي، وأخرى خاصة بالثانوي، ولجان على مستوى النهائي: "التعليم العالي". كانت هذه التنظيمات تشمل التسيير وكذلك الدعاية والإعلام. وكانت القوة تتمثل في النظام الذي وضعناه بصفة عامة لضمان استمرارية العمل على مستوى جامعة ابن يوسف. إضافة إلى ذلك، تم تكوين لجنة احتياطية على مستوى عال، بحيث قررنا، في النظام الداخلي، أنه في حالة اعتقال اللجنة الأولى، أو شيء من هذا القبيل، ستُعوضها اللجنة الاحتياطية.
كان هذا التنظيم مفاجأة كبيرة بالنسبة إلى الحزب (الاستقلال)، وإلى الحركة السياسية؛ وقد ظهرت فعالية هذه المفاجأة عندما تدخل الفرنسيون، في جامعة القرويين بفاس، واعتقلوا بعض العلماء وبعض الطلبة. في هذا الوقت صعدت الإدارة الفرنسية قمعها وتدخلها في المؤسسة الدينية، فقررنا التضامن مع أطر جامعة القرويين. وهنا برزت حركة الطلبة في ابن يوسف، إذ نظمت إضرابا تضامنيا مع طلبة القرويين. وقد اعتقل الطلبة المُضربين بعد ذلك. (10)

انخرطت الحركة الطلابية الناشئة في نضالات جادة ذات وجه إصلاحي تعليمي  لكن برهانات وطنية وتحررية جلية. "كان عبد الله إبراهيم يقوم بمساندة طلبة الكلية في نضالهم من أجل تحقيق المطالب الإصلاحية بعد أن تقدموا بها فعلا أواسط سنة 1951 (إلى السلطان محمد الخامس: فيها دعوة إلى إصلاح التعليم الأصيل، بإحداث تغييرات في برامجه ومواده تجعله موحد البكالوريا، ومتجاوبا مع التعليم العصري شكلا وتنظيما ومردودية معاشية، وتقربه من واقع عصره)، وذلك بشن حملات صحفية واسعة بمبادرات شخصية منه بواسطة جريدة العلم وخصوصا عندما كان مسؤولا عن إدارتها وتحريرها. كما كان يساندهم كذلك بنفس الوسيلة في مواجهة أعتى قوة إقطاعية والمتمثلة في الباشا الكلاوي، والتي انخرط معها الطلبة الذين أصبحوا يمثلون رأس الحربة في محاربة الاستعمار والإقطاع بمراكش في مصادمات متتالية بلغت حدتها أحيانا إلى مهاجمة الباشا بأكثر من مائة وخمسين طالبا في عقر قصره الستينية والدخول معه في مشادة كلامية جريئة، ومشادات عضلية مع أعوانه داخل القصر، أصيب فيها عدد من الطلبة بجروح، كما اعتقل آخرون وجلدوا جلدا مبرحا، ولطخت أفواههم بالفلفلة الحارقة، ونُفي آخرون إلى قراهم ومدنهم الأصلية،  وأجلي آخرون من بيوت سكناهم بالمدارس السكنية الخاصة بالطلبة. وقد كان من أول المعتقلين بهذه التظاهرة الفقيه محمد البصري الذي كلف من الخلية القيادية الأولى للطلبة نظرا لمظهره وسمته التقليدي وما عرف به من رباطة جأش بالتصدي للحوار مع الباشا باسم الطلبة. ولما اشتد وطيس المعركة بين الكلاوي والطلبة بادرت مجموعة قاربت المائة طالب بأمر من الخلية الأولى للقيادة الطلابية إلى الاعتصام أمام أبواب القصر الملكي بالرباط أكثر من شهر، احتجاجا على أعمال التنكيل والأذى التي ألحقها الكلاوي بعدد كبير منهم، فاستقبل جلالة الملك محمد الخامس وجميع سكان التواركة هذا الاعتصام بكثير من العطف والمواساة، كما كان يستقبل بنفس العطف والمواساة وفود الطلبة التي كانت تأتي من مراكش خفية محملة بعرائض وتقارير عن تطور الأحداث بها. ولقد كان من دواعي الفخر والاعتزاز لطلبة ابن يوسف أن يحظوا آنذاك بهذه العناية الملكية التي تعتبر بحق تاريخيا أول تلاحم مباشر لحركة شبابية خالصة مع الأسرة الملكية في خضم معركة حامية الوطيس مع الاستعمار والإقطاع". (11)
ورغم سدور سلطات الحماية في خطة تضييق الخناق على العمل المسرحي وسد كل المنافذ أمام القائمين عليه، فإن تفطن الأستاذ عبد الله إبراهيم لأهمية العمل المسرحي وإيمانه الراسخ المستمد من استيعابه للمكونات الثقافية للحضارية الأوروبية بما له من فعالية في توعية الشعوب وبلورة رأيها العام حال بينه وبين الركون للاستسلام للأمر الواقع، وقوى عزيمته على تأكيد حثه للمناضين بتكوين فرق تمثيلية صغيرة تقوم في غفلة عن أعين الاستعلامات كلما تهيأ الظرف الملائم لذلك بتقديم اسكيتشات ملتزمة باتباع خط توجيهي، وذلك بمختلف المنازل الخاصة التي يضعها أصحابها من بعض المناضلين تحت تصرف الحزب لممارسة نشاطه الوطني السري والعلني أحيانا والتي من بينها: منزل أسر المقاوم عبد السلام الجبلي، ومنزل أسرة محمد الحبيب الفرقاني.. ومعلوم أن هؤلاء كانوا طلابا في هذه الفترة. وقد تم فعلا تنشيط العديد من المسرحيات حول سيرة الفاروق عمر بن الخطاب بالإضافة إلى ترجمة العمل الأدبي "في سبيل التاج" لمصطفى لطفي المنفلوطي إلى عمل مسرحي.(12)

من حركة طلابية تحرُرية إلى حركة مقاومة تحريرية

لا شك أن الأمر الذي سيثير المهتمين بتاريخ الحركة الطلابية المغربية يتجلى بالخصوص في كون النواة الصلبة لحركة المقاومة المسلحة التي كان لها الفضل الأول في انتزاع الاستقلال؛ كانت هذه النواة وليدة العمل الطلابي الجاد الذي راكم تجارب غنية ونضالات مشهودة في معهد ابن يوسف وأثمر ذلك في نهاية المطاف قيادات شابة واثقة في نفسها وخادمة بصدق لرسالتها. إن هذا العمل الطلابي كان مزاوجا بين العمل الميداني والتكوين النظري (راح الأستاذ عبد الله إبراهيم، بعد عودته من فرنسا، يجول في مختلف المدارس الفكرية الغربية في محاضرات راتبة مع الطلبة بهدف تعميق وعيهم النظري هذا بالإضافة إلى إلقائه عروضا أخرى استهدفت بالأساس تقوية وشائج الارتباط بالوطن والهوية الإسلامية من خلال إطلالات  حول التاريخ الإسلامي وتاريخ المغرب، وإلى جانب الأستاذ عبد الله إبراهيم كان هناك الشيخ محمد المختار السوسي مساهما بارزا في التأطير الطلابي..). وقد أتت هذه الخبرة الميدانية (الاعتصام، الإضراب، الإعلام، الاعتقال..) المفعمة بالأفق الفكري الرحيب أُكلها وتجسد ذلك في نماذج حية كان لها باع واضح في تنظيم العمل المسلح ضد الاستعمار وكان لها أيضا حضور قوي في الحياة السياسية بشكل أو بآخر في المغرب المستقل؛ من بين هذه الأسماء: عبد السلام الجبلي، محمد بنسعيد أيت إيدر، الفقيه البصري، الحبيب الفرقاني..
 إن المنهاج الذي اعتمده الأستاذ عبد الله إبراهيم في تكوين المناضلين، سواء خلال مرحلة ما قبل سفره إلى فرنسا أو خلال مرحلة ما بعد رجوعه إلى أرض الوطن، والتي أبدى فيها اهتمامه البالغ بتكوين نخبة من طلبة كلية ابن يوسف قصد الإعداد الفكري والروحي لقيادة العمل المسلح ضد الاستعمار وأذنابه، قد حقق نجاحا باهرا في تأجيج روح المقاومة والتضحية لديهم، إلى درجة ثورتهم على سياسة حزب الاستقلال، المعتمدة على العمل السياسي السلمي، وذلك منذ أن دعا رائد المقاومة بمراكش مولاي عبد السلام الجبلي الذين عُرف أغلبهم فيما بعد بقيادتهم لتنظيمات المقاومة بالمغرب كله، وخصوصا بعد استشهاد المرحوم الزرقطوني؛ دعاهم إلى اجتماع سري ببيته أواخر صيف سنة 1951 بدون علم أي عنصر من مسؤولي الحزب بمراكش، أهاب فيه بالحاضرين إلى وجوب اتخاذ الأهبة والاستعداد للشروع في تنظيم خلايا للمقاومة بعد أن أبان العمل السياسي عن عدم جدواه وقلة فعاليته. وقد وافق جميع الحاضرين بحماس وتصميم على اعتناق الخطة، وقد كان من بين الحاضرين محمد الحبيب الفرقاني، محمد بنسعيد أيت إيدر، والفقيه محمد البصري ومحمد الحبيب محيي... ولم ينتظر مولاي عبد السلام الجبلي كثيرا بعد هذا الاجتماع الإعدادي لاتخاذ بعض الإجراءات العملية لتنفيذ الفكرة، بل سارع توا في خلق وتنظيم خلايا من بين أوساط مسيري الحزب بالأحياء الشعبية التقليدية بمدينة مراكش الذين سبق أن كُونوا أحسن تكوين وطني من قبل المربي الوطني عبد الله إبراهيم. وقد واصل عمله في سرية تامة وفعالية متواصلة، وتجنب مطلق لجماعة المسيرين المعروفين بالطاعة العمياء لأجهزة الحزب المسؤولة بالمدينة، وذلك إلى أن اكتشف الحزب ما يدبر بغير علمه من عمل. فكان نتيجة لذلك أن شرع أعضاء المكتب المحلي للحزب بأوامر من قيادة الحزب بالرباط، متجاوزة ومتجاهلة وجود عبد الله  إبراهيم كممثل أول لها بمراكش، في شن حملة عشواء وإن كانت تجري في نطاق السرية على مولاي عبد السلام الجبلي ورفقائه من قدماء المسيرين وطلبة. هكذا استطاع الأستاذ عبد الله إبراهيم أن يعد من بين طلبة كلية ابن يوسف نخبة من مقاومين أشداء، أسسوا حركة المقاومة المسلحة بمراكش والجنوب المغربي، وقادوها بوعي وذكاء وصمود ضد أقطاب ورموز الاستعمار من عسكريين ومدنيين وحلفائهم من عتاة الإقطاع ودهاقنته. (13)
إن الدرس المستفاد الذي ينبغي على الغيورين على العمل الطلابي اليوم التقاطه هو كون هذه الحركة الطلابية أفرزت طاقات كان متفوقة في دراستها وكانت صادقة في نضالها وكانت وفية لرسالتها وكانت متحررة نفسيا من الاستعمار وساعية عمليا لتحرير البلاد والعباد من شروره. يحكي المقاوم الكبير عبد السلام الجبلي ما يعضد هذا الكلام بشدة، فحينما تم اعتقال هذه الحركة الطلابية الناشئة بعد أن طرحت مطالب إصلاحية في المسألة التعليمية لم تتأثر جاهزية أفرادها إطلاقا لا في الدراسة ولا في النضال: أطلقوا سراحنا بعد تدخل واحتجاج محمد الخامس على الإدارة الفرنسية، لأنهم لاحظوا أننا شُفينا من النُدب التي حملتها أجسامنا من فرط السياط. وبعد استئناف الدراسة برزت فكرة تأخير موعد الامتحانات نظرا للمدة، التي تعطلت فيها الدراسة بسبب الإضراب، فرفضنا ذلك، وتشبثنا بمواعيد الامتحان، التي كانت مقررة من قبل، لأننا كنا نناضل على حساب الدراسة، لأنها بالنسبة إلينا جزء مهم من نضالنا. كنا نريد أن نبرهن على أننا قادرون على استئناف دراستنا، وعلى استئناف النضال بالدرجة نفسها. اجتزنا الامتحانات، كان عدد من المتتبعين يتتبعون رسوبنا، لكننا نجحنا مع أن جُلنا كان يمارس حرفا موازية للدراسة. تراوحت نتائج الامتحان بين ميزة حسن ومتفوق. (14)   


العمل الطلابي :الرسالة الخالدة

إن الفرضية التي انطلقنا منها في المقدمة ذات الصلة بتشخيص أزمة الحركة الطلابية والتي عبرنا فيه عن كون الأزمة تجَل فاقع للحيدة عن الرسالة النبيلة والدوران في المقابل حول الذات التنظيمية والارتهان لأشكال تاريخية عتيقة وقوالب غير عملية والغفلة عن روح التجارب التاريخية المنيرة سواء في تجربة الحركة الطلابية في مغرب الحماية أو  تجربة الحركة الطلابية في المغرب المستقل إلى حدود التسعينات. إن هذه الفرضية لا تركن إلى التحليل المتقادم القائل إن ازمة الحركة الطلابية هي أزمة إطار أو معضلة التمزق والانشطار. إنه لو افترضنا جدلا أن الوحدة قائمة على مستوى الإطار وعادت ل"أوطم" شرعيته القانونية والتاريخية. فالقضية لن تحل هكذا لأن التشخيص غلط. إن التسعينات والثمانينات عقدان كان فيهما الإطار منزوع الشرعية وكان فيها الاحتراب الفصائلي قائما غير أن "الأزمة" بتقديرنا لم تكن قائمة. لأن الأزمة هي استقالة الطلاب من الحياة غير شؤونهم الخاصة وشؤون الدراسة الضيقة. وأكيد أن وهج الانشغال بقضايا تتجاوز خُويصة النفس كان مستمرا إلى أن انطفأ وخبا مع بداية الألفية الثالثة.  
إن القارئ المتمعن في تاريخ الحركة الطلابية المغربية (وستكون الحركات الطلابية العالمية الأخرى شبيهة على مستوى العمق والروح والكنه للتجربة المغربية) لن يخطئ العناوين البارزة للرسالة النبيلة الخالدة التي يطوي مطاويها العمل الطلابي. إنها، باختصار، رسالة تحررية تسعى نحو تحرير ثلاثي الأبعاد:
أولا: تحرير أنفسنا، كطلاب، من علائق التراب: فقد خُلقنا من صلصال كالفخار وحمأ مسنون وخُلق الإنسان من طين، وهذا المكون الطيني الذي يملأ شقا هاما من هويتنا الإنسانية له دلالات غير خافية تتناهى إلى التَرسُب والجمود والخمول والكسل والتمركز حول الذات.. والعمل الطلابي، نظرا لطبيعته واستثنائيته، حيث يجد الإنسان نفسه في مرحلة عمرية يُحسد عليها وهو معدوم من الناحية المادية، مضطرم الشهوة من الناحية الغريزية، مسكون بالمستقبل المجهول من الناحية الوظيفية، مُثقل بمقررات متواضعة من الناحية المعرفية وعامرة من الناحية التقنية المعلوماتية؛ يجد نفسه فوق كل هذا مشدودا إلى رفع شعارات الحرية والكرامة ومتطلعا إلى الوقوف في وجه منتهكي الديمقراطية ومستعدا للفناء حتى لا يبقى الاستبداد معززا مُكرَما؛ كما يجد نفسه مائلا إلى القضايا العادلة ومنتفضا في وجه قوى الاستكبار والطغيان. إن هذا الجو وهذه البيئة وهذا المناخ وهذه التغذية؛ إن كل هذه الأمور هي التي تدفع الطالب الإنسان لتبرز إنسانيته فيتحرر من أنانيته السلبية الضيقة ويندفع نحو الجدية والبذل والعطاء.
 ثانيا: تحرير أوطاننا؛ إن الثمرة الطبيعية للتحرر الأول هو العمل لأجل الوطن. إن الدراسة، رغم كل الإكراهات المعروفة عن الشأن التعليمي وظروفه، ينبغي أن تكون سراجا ينير به الطالب درب الوطن، إما باختياره -اضطرارا لظروف مادية- التوجه نحو العمل بعد تحصيله لأول شهادة ممكنة، فإتقان العمل –أي عمل- وتجويده وبذل الوُسع في خدمة المواطنين من خلاله هو عين تحرير الوطن في هذا المستوى. وأما إذا كان النَفَس طويلا فالاجتهاد للإتيان بالجديد في التخصص المُختار هو عين تحرير الوطن في هذا المستوى. لكن هذا العمل العلمي والعمَلي ينبغي أن يكون مقرونا بالنشاط المدني؛ إذ أن تحرير الوطن من قُطاع الطرق لن يتأتى إلا بالصدع في فضاءات الجامعة بالمذنبين في حق الوطن والتحذير من خطهم ومن سلوك مسلكهم  ولن يتحقق إلا بالإشارة في المقابل إلى الصادقين العاملين على بعث الوعي الوطني الحي بمقالهم وحالهم (وعبد الله إبراهيم المذكور سلفا من هؤلاء) ولن يتيسر إلا بالتحرك على المستوى الإعلامي بالكتابة وعلى المستوى الجمعوي بالندوة والمحاضرة.
 ثالثا: تحرير الإنسانية المعذبة من الامبريالية والاستعمار الجديد؛ إن العمل الطلابي مجرد محطة يمُر منها الإنسان، لكن أهميته تعود إلى كونه محطة حاسمة في الاختيارات التي تُصاحب الإنسان في حياته. يكفي العمل الطلابي شعارا، السعي نحو "إبراز إنسانية الإنسان وتذكيره بأعباء الاستخلاف". إن الطالب الإنسان هو الذي يكون محترقا لآلام إخوانه في الحي الجامعي كما يكون مهموما بانعدام العدل على المستوى الدولي. إن القضايا الكبيرة إذا لم يحملها الطالب، المثخن بكل الجراحات، فمن يحملها؟ إن الحلم بعالم أكثر عدلا وأكثر سلاما وأكثر تراحُما لا بد أن يُصاحب الطالب الإنسان لكي يستمر معه طيلة الحياة، ليأتي الجيل المقبل ليجد الحلم موجودا ليعمل على تحويله إلى واقع.. وهكذا. إن الإنسانية في مسارها تتقصد العدل وكل المُثل السامية؛ واليوم نجد العديد من الدول حققت نسبا مُقدرة من العدل بين مواطنيها أي على المستوى الداخلي، لكن مازال العدل على المستوى الدولي بعيدا، مازال العدو الصهيوني جاثما على فلسطين، مازال التضييق على التجارب التنموية والديمقراطية الصاعدة مستمرا..
إن تجربة الحركة الطلابية في مغرب الحماية كانت وفية إلى حد كبير للرسالة النبيلة الخالدة. إن جنود هذه الحركة كانوا جادين متحررين من الكسل، وكانوا سعاة لتحرير الوطن من قبضة الاستعمار، وفيما بعد كانوا من حماة الاختيار الديمقراطي في مغرب الاستقلال. إن الاستبلاد والاستبداد والاستعمار هم الأعداء الثلاث للإنسان؛ والعمل الطلابي ينبغي أن يكون لهم بالمرصاد، حتى لا يذهل الطالب عن رسالته في الحياة وحتى ينعم الوطن بمستويات مقبولة من العدل وحتى يتحرر العالم من نير الاستعمار الذي يتسربل في عدة أقمشة.


الهوامش:

(1)   محمد لومة، "سنوات الصمود وسط الإعصار"، ص: 27-28. الطبعة الأولى. منشورات عكاظ. الرباط:2006 )
(2)   المرجع السابق. ص:172-173
(3)   المرجع السابق. ص:41
(4)   المرجع السابق. ص:50-51
(5)   المرجع السابق. ص:30-31
(6)   المرجع السابق. ص:44-46-47
(7)   المرجع السابق. ص:47
(8)   المرجع السابق. ص:49
(9)   المرجع السابق. ص:80-81-82
      (10) عبد السلام الجبلي، أوراق من ساحة المقاومة، ص:35.
      (11) محمد الحبيب محيي، عبد الله إبراهيم: من خلال بعض ما تميز به بين معاصريه، الطبعة الأولى 2008، ص:52-53 -55
        (12) المرجع السابق، ص:69
       (13) المرجع السابق. ص:83-88

       (14) عبد السلام الجبلي، أوراق من ساحة المقاومة، ص:39-40


...تابع القراءة