| 0 التعليقات ]







ليس سرا أن منظومتنا التعليمية تابعة للنموذج الفرنسي من حيث الأفق والأهداف والتوجهات والأسلاك. لكن هذه الحقيقة التي لا تحتاج إلى كثير برهان، لم تدفعنا إلى دراسة أو على الأقل محاولة فهم رهانات المنظومة التربوية في فرنسا، عسانا ندرك أين الخلل في منظومتنا التعليمية التي تحاول أن تكون نسخة كربونية لها؛ ولا أدل على ذلك من فلسفة الأقسام التحضيرية التي انفردت بها فرنسا بهذا الشكل العسكري الذي تُقام به واقتفى المغرب أثرها بشكل ببغائي. في هذا المقال، سنحاول الإطلالة على الخلفية الكامنة وراء المنظومة التربوية الفرنسية، كما وضحها أبرز فلاسفة القرن العشرين وألمع السياسيين في عاصمة التنوير روجي غارودي رحمه الله، لكي نستيقظ من التحليلات الرثة التي نلوكها دائما: حينما نحسب الطباشير، وعدد المقاعد، وعدد المدارس، وعدد الجامعات، وعدد الأساتذة، وعدد التلاميذ المنقطعين، وعدد الواصلين، وعدد المُجازين في ثلاث سنوات... دونما تشريح للُب السياسات أو نفاذ في بواطن الأمور.
نشرت مجلة الملتقى، التي يديرها الأستاذ الجامعي المعروف عبد الصمد بلكبير، في عددها المزدوج (5—6) سنة 2000، مقالا للمفكر الفرنسي المرموق روجي غارودي تحت عنوان "التربية وأزمة القيم" من تعريب الأستاذ توفيق بكار. المقال جد هام من ناحية التحليل العميق الذي يترفع عن السقوط في براثن المقاربات التقنوية الكمية لأم المسائل: المسألة التعليمية. ونظرا لأهمية مضامينه فإننا سنقتطف أجزاء هامة منه، ونقف مع إشراقاتها لعلنا نظفر بتفسير مقنع لما يجري في ملف التربية والتعليم في وطننا الحبيب.
يستهل غارودي مقاله بإطلاق النار على الغارقين في أسئلة جزئية ضيقة: لا يجدي كثيرا أن نضع اليوم أي مشكل بيداغوجي مهما كانت أهميته؛ كأن نقدر المكانة التي ينبغي أن نخصصها في التعليم للاتينية أو للرياضيات أو للإعلاميات أو للعلوم الإنسانية، ما لم نبدأ بطرح أم القضايا وهي تلك التي تتعلق بغايات التربية وليس بوسائلها فحسب. ما هدف جامعاتنا ومدارسنا؟ ما معناها، ما رسالتها؟ ووفق أي مفهوم للإنسان ولمستقبله يمكن أن نتصورها ونعيد هيكلتها ونعيش واقعها؟
إن هذا هو السؤال المركزي الذي ينبغي نطرحه ليس بهدف الهيمان في ترف فكري أو التحليق في العالم النظري، إنما بهدف تحديد موضع السكة ووجهة البوصلة: أيُ تلميذ نريد؟ أيُ طالب نريد؟ هل نريد تلميذا/طالبا غاية غاياته تعلُم تقنيات الحساب وتركيب الآلات وقراءة النصوص وكتابة الأسماء والألقاب ليتحصل على وظيفة في نهاية المطاف –والتي لا يحصل عليها في الأخير إلا بشق الأنفس- تسُد الحاجيات وترنو إلى الكماليات؟ (هذا الخيار وراءه ما وراءه من شهوة إشاعة الاستبداد والاستبلاد) أم نريد تلميذا/طالبا يمسك بسراج النور وهو "التفكير المتبصر" ويجيد "التعلُم والتثقيف الذاتي" ويسعى للانغمار الكلي في مجاله العلمي؟ (هذا الخيار وراءه من وراءه من دلالات الاتجاه نحو بناء مجتمع ديمقراطي حر يؤثثه مواطنون ذوو "عقل نقدي" لا يقبلون بالظلم والاعتساف في أي شأن من شؤون الحياة؟)
ينتقل غارودي إلى مستوى آخر في محاولة منه لاستجلاء غايات المنظومة التعليمية ومطامحها. يبدأ غارودي بتحديد "الإله" الذي تتعبَدُ له أوروبا في القرن العشرين وبالخصوص فرنسا، مُوقدة نيران التنوير. لا يتردد غارودي في ضبط ماهية هذا "الإله" الذي خلب لُب الساسة وصاغة البرامج والتوجهات. إنه "إله": التقدم (للإشارة الترجمات تتحدث عن "النمو" في مواضع و"التنمية" في مواضع أخرى، ونظرا لكون مفهوم "التنمية" ارتبط بملابسات إيجابية في مجالنا التداولي لا علاقة لها بمقصود غارودي، لهذا ارتأينا أن نوظف مفهوم "التقدم"). يُعرف غارودي "التقدم": بأنه نظام اقتصادي هدفه أن ننتج أكثر فأكثر وأسرع فأسرع ولا يهُم أن يكون المنتوج نافعا أو غير نافع أو ضارا أو حتى قاتلا (كصناعة الأسلحة بلغ إنتاجها السنوي 450 مليار دولار).
إن "التقدم" هو "إله" مجتمعاتنا، يضيف غارودي. وهو "إله" يقتضي قرابين من البشر. والقيمة الأساسية التي يقوم عليها هذا الدين هي الفعالية أي تزايد القدرة على التحكم في الطبيعة وفي البشر. ويحتاج هذا الدين في إقامة شعائره إلى طائفة من القساوسة هي طائفة التقنوقراطيين يعني جماعة من الأخصائيين يُحسنون التساؤل عن الشيء "كيف هو" ولا يتساءلون أبدا عن الشيء "لماذا" ويجيدون الخوض في قضية الوسائل ولا يخوضون أبدا في قضية الغايات.
هكذا، إذن، تتضح الصورة أمامنا. إن ما يجري في منظومتنا من تركيز غير بريء على التقني والحساباتي كان مرده أساسا إلى الرغبة في إغراق التلميذ-الطالب في أوحال من التقنيات والتفاصيل (كيف أجيب على تمرين كذا، كيف يشتغل هذا البرنام في الحاسوب، كيف أحُل معادلة رياضية...) حتى يدخل إلى نفق مظلم وإلى قفص حديدي وإلى صندوق أسود وهو عاجز عن طرح سؤال الماهيات ومساءلة الاختيارات وإعادة النظر في الفلسفات. وللإشارة فهذه التقنيات والمهارات أو الوسائل تعبير غارودي هي مُهمة ومطلوبة ولا يستقيم العلم ولا تستوي الحياة بدونها؛ لكن تضخيمها وتسليط الأضواء عليها (حتى صار الرأي العام في المجتمع يُقدر "أبناء العلوم الرياضية" ويستخف بأهل "علم الاجتماع"، بفعل هذا التضخيم وهذه العناية المُركزة التي حظيت بها التقنيات والحسابات في مناهجنا الدراسية) هذا بالإضافة إلى تدريسها بدون تلقيح ذلك بجرعات معتبرة من فلسفة العلوم وتاريخها وتطوراتها والقطائع التي عرفتها والجهود التي أثمرت التقنية والتكنولوجيا؛ إن هذه المعطيات هي التي تبعث الشك في ما وراء السطور وما خلف التخطيط من هجوم على مرتكزات "العقل النقدي" عند الطالب-التلميذ.
إن هذا الخريج الذي حذق أسئلة المنظومة وأجاد التقنيات والحسابات والمهارات المطلوبة ولا علاقة له بالأسئلة الضخمة والفلسفات المتحاربة والمدارس الفكرية الرائجة (إلا إذا حظي بفرص خارج المنظومة كالانتماء إلى حركة اجتماعية، أو نصائح منيرة من أقربائه ومعارفه النبهاء، أو وفقه الله جل في علاه لمعانقة الكتاب عوض السهر مع "الطابليت والآيباد"..). إن هذا الخريج هو من يطلق عليه "التقنوقراطي".
إن هذا الكائن، الذي راح ضحية منظومة، هو الذي تُلمع صورته مناخات المجتمع لأنه يجيد ولوج سوق وحيد وهو "سوق رأسه"! إن هذا الكائن سادر في القفص الذي تم رميه فيه. إن همومه لن ترقى فوق هموم الصبيان، الذين يدورون حول "لُعبهم" فقط. فإذا كان متدينا، فتدينه سيكون مدعاة للشفقة؛ إذ أنه سيلجأ بمنطق القياس الأرسطي إلى نقل انشغالاته بتفاصيل التقنيات والحسابات إلى عالم "الدين" فيكون كل همه التجوال في "حكم كذا.." وسيطرق ولا شك أبوابا كان الشارع ساكتا عنها. وإذا لم يكن متدينا فوصفة ماكس فيبر ملائمة: سيروح لعمله التقني صباح مساء، ليستقبل الليل بزيارة الأسواق ليستبضع فيها بما يملأ جوفه، لينتظر يوم السبت والأحد لقضاء مآرب أخرى والاستجابة لغرائز أقوى (الملاهي الليلية، الجلسات الخمرية، أحاديث المقاهي الفارغة والرتيبة..).
قد نكون مُنساقين وراء اختزال لا يليق، لكن على كل حال فالمشهد لا يتجاوز هذا الأفق القاتم. إن المصيبة في كل هذا، أن هذا الكائن-الضحية سيكون مغرورا لأنه يؤدي واجبه، ولأنه يساهم في "التقدم". وهذا الإنسان، ليس صعبا أن ينتج الأسلحة النووية ولا الصناعات الملوثة للبيئة لأنه مغلق في دائرة "كيف أصنع، ليس، لماذا سأصنع؟".
والطامة الكبرى، بالنسبة لوطننا الذي مازال يعيش مخاض انتقال تاريخي عسير، أن هذا الكائن لن يجرؤ على التفكير في أزمة الديمقراطية التي يتم تقسيطها، ولن يتذكر حكاية "التخلف" التي نرتع فيها إلا حينما يقف يوما على ورقة إدارية في مقاطعة أو إدارة وهو يجر ذيول الخيبة والحسرة على تضييع ساعات وساعات من أجل ورقة، هذا إن فاز بها دون رشوة أو ابتزاز.
إن هذا الكائن الذي يقع ضحية عمليات تضليل وتزييف واستبلاد لا تنتهي؛ لن يخرُج يوما لوقفة احتجاجية ضد الظلم والاستبداد ولن يميل يوما لتظاهرة تدعو لمزيد من العدل والحرية. إنه لهذا السبب نجد الاتجاه مائل نحو تسليم المسؤوليات الكبيرة للتقنوقراطيين وليس المسؤولين السياسيين؛ لأن هؤلاء سيكتفون بعملهم الآلي ولن يفكروا في البعد القيمي والإنساني والحقوقي لأي تدبير أو في أي قرار مُتخذ، إن كلمة من حرفين "لا" تتلعثم ألسنتهم عند محاولة التفوه بها بل لا تكاد تجد طريقا أصلا إلى أفواههم. يشير الدكتور حسن أوريد (في مقاله بمجلة "زمان"، عدد فبراير 2015: في الفرص الضائعة) إلى عامل البنية التقنية، أو الدولة العميقة. "عامل لم يكتف بدور تدبيري، بل اضطلع، منذ فجر الاستقلال، بدور سياسي، واضطر إلى أن يكون حاضنا لأحزاب سياسية، منها ما كان يسمى بجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، ثم في سياق السبعينات والثمانينات. كانت هذه البنية محركا لأحزاب مرتبطة بالسلطة، مما يسمى بالأحزاب الإدارية، وهو الأمر الذي تكرر في العهد الجديد مع حزب الأصالة والمعاصرة.هذه البنية كان لها وما تزال معرفة تقنية، وقدرات تدبيرية، وكان ذلك مصدر قوتها". هنا يضع أوريد بجلاء الأصبع على الظاهرة التي نحن بصددها؛ إن التقنوقراطيين الذين تنتجهم المنظومة التربوية المغربية المُقلدة للمنظومة الفرنسية هم الذين تستقطبهم الدوائر السلطوية ليقوموا بخدمات بالوكالة في الدفاع عن المشروع السلطوي مستفيدين من المعارف التقنية التي يجيدونها. صحيح أن هذه الكائنات ليست عديمة حس سياسي، كما أضاف أوريد، ولكن ينبغي توضيح أن حس "الثعالب" يُكتسب بالدُربة والمران ومع التجربة. أما هذه الكائنات فهي أصلا خرجت من يافطة النجابة في عالم المعارف التقنية (للإشارة فالتقنية نقصد بها هنا، الوسائل والثمار بدون الفلسفة المؤطرة لها؛ أي أن معرفة النصوص القانونية  تندرج أيضا ضمن "التقنيات") ولا علاقة لها بالسياسة ولا بالحياة الاجتماعية ولا بالمشاريع المجتمعية ولا بالشأن العام. بعبارة أخرى، إن التقنوقراطيين يتم تدجينهم بسهولة حتى يصبحوا حملة لواء السلطوية وغيرها من المشاريع البئيسة المعاكسة لحركة التاريخ.

إن منظومتنا تعيش أزمات لأنها محكومة بهذا النموذج. إنها تتغيى تخريج هذا الكائن المنزوع الإنسانية. إنها منظومة؛ لا ترتبط بأشخاص بعينهم، وإنما هي اختيارات متراكمة تمسك بتلابيبها لوبيات متنفذة لا تريد للانتقال التاريخي أن يتحقق بسرعة ولا تريد لنا ديمقراطية ب"الجملة"، إنما تهوى "التقسيط" رغبة منها في تأخير حركة التاريخ لأنها تدرك جيدا أن من يعاكس حركة التاريخ فإن التاريخ يسحقه وتكون خاتمته مخزية.
إننا نقَدر أن معركة "التحرر" مازالت قائمة وبأبعاد جديدة. إننا ينبغي أن نصرخ بكوننا "نريد أن نُنضج العقل المغربي ونعده لما يصبو إليه من حرية واستقلال،  وأن ذلك ليس في مجرد تكثير حملة الشهادات الذين يملأون الإطار الحكومي، ولكن في تنوير أذهان الأمة وتعليمها وسائل النهوض الصحيحة والأخذ بيدها لتتجه إلى شاطئ السلامة المنشود". (علال الفاسي، النقد الذاتي، الطبعة الثامنة، 2008، ص:30)




0 التعليقات

إرسال تعليق