| 0 التعليقات ]





لا يختلف المتتبعون حول الوصف الممكن إطلاقه على ما يجري للحركة الطلابية المغربية في الوقت الراهن. وإذا كان الجميع يُجمع على أن الحركة الطلابية، بالنظر إلى رصيدها التاريخي الحافل، استقالت من رسالتها النبيلة، فإن التفكير الجاد في السبل الكفيلة باستعادة وهج هذه الرسالة النبيلة مازال منحسرا ورهينا لنقاشات عقيمة حول الأشكال التنظيمية.
في البداية، لا بد من الإشارة إلى كون الفرضية التي تؤطر هذا الحديث تذهب إلى كون أزمة الحركة الطلابية ليست وليدة الاحتراب الفصائلي أو النقاش حول الإطار التاريخي "أوطم" أو شيوع العنف والإرهاب داخل أسوار بعض المرافق والمؤسسات الجامعية؛ إنما الأزمة، بحسب هذه القراءة، ترجع أساسا إلى عدم الوفاء للرسالة النبيلة التي تضطلع بها معظم الحركات الطلابية الوطنية في مختلف أنحاء العالم والتي عضت عليها الحركة الطلابية المغربية بالنواجذ منذ زمن الحماية.
لهذا، فاستدعاؤنا لتاريخ مضى في هذه الأسطر ليس بهدف السياحة في أجواء ما جرى، وإنما للاقتراب أكثر على الرسالة النبيلة التي كانت تحملها طلائع الحركة الطلابية المغربية منذ أيام النشأة الأولى. عسى أن تمدنا هذه الذاكرة بطاقات معنوية إضافية للاتجاه نحو استلهام روح الرسالة النبيلة مرة أخرى.
تتجه بعض القراءات المحيطة بتاريخ الحركة الطلابية إلى استهلال التأريخ من سنة 1956؛ أي من زمن الاستقلال، مع ولادة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وإذا كان الحديث يشير إشارات خاطفة إلى تشكيلات جمعوية للطلاب المغاربة في زمن الحماية (الجمعية العامة لطلبة المغرب:1947، جمعية الطلاب المغاربة:1948، اتحاد الطلاب المغاربة بفرنسا:1950..)، فإنه لا يتعدى ذكر جمعيات انتظم في سلكها الطلاب المغاربة ونشطوا داخل إطارها سواء في داخل الوطن أو في ديار المهجر: مثل منظمة الطلبة المسلمين بشمال إفريقيا؛ التي لعبت دورا بارزا منذ نشأتها سنة 1927 في لم شمل المجهودات التعبوية والتوعوية التي يقوم بها الطلاب المغاربة خاصة في فرنسا والتي  كانت فضاءاتها فرصة خصبة لصقل القدرات القيادية للعديد من الفاعلين السياسيين في المغرب المعاصر لاحقا (كالدكتور عبد الكريم الخطيب والشهيد عمر بن جلون..).
ليس غريبا أن يكون المغرب معروفا إبان الحماية باسم "مراكش"؛ فقد كانت "مراكش" المدينة في طليعة المدن المغربية التي تشتعل حيوية ودينامية ووطنية ومقاومة. وقد يرجع السبب في هذا التميز الخاص الذي حظيت به مراكش إلى إرثها التاريخي (لا يخفى أنها كانت عاصمة لدول تعاقبت على حكم المغرب). لكن العديد من المتتبعين يُشيرون إلى كون وجود الباشا الكلاوي على رأس السلطة المحلية فيها وتواطئه المفضوح مع السلطات الاستعمارية وتعنيفه الفاجع للأطر الوطنية المناضلة، كان دافعا رئيسا لتنطلق فيها جذوة المقاومة بحماس وإصرار. وثمة معطى هام مفيد بهذا الخصوص يتصل بمعهد "ابن يوسف" الذي كان قبلة للعديد من الشباب الذين أسعفتهم الظروف في استكمال دراستهم وكان أيضا منارة على المستوى التعليمي والتوعوي نظرا لاحتضانه لرجالات كبار أمثال العلامة محمد المختار السوسي. ولهذا نجد أن توأم "مراكش" في السبق على مستوى النضال الوطني كان "فاس"؛ نظرا لوجود جامع "القرويين" في أكنافها والذي كان بدوره محجا لطلبة العلم في مختلف أنحاء المغرب وكان إلى جانب ذلك قطب جذب للعديد من الفعاليات العلمية المرموقة.
إذن، لعل احتضان "مراكش" و"فاس" لجامعات رائدة في تخريج النُخب المسؤولة كان العامل الأكبر في تصدُرهما  لحركة النضال الوطني والمقاومة المسلحة (لاحقا). ولعل في هذا أيضا دلالة ناصعة على كون الحركة الطلابية الناشئة والنشطة في (القرويين وابن يوسف) كانت الوقود الأول لحركة التحرير الشعبية. 
في ما سيأتي سنكتفي بالوقوف على إسهامات فذة للحركة الطلابية في معهد ابن يوسف في العمل الوطني. وسبب إغفالنا لتجربة طلاب القرويين النضالية مردُه أساسا إلى شح المعلومات وندرة المعطيات بخصوص مجريات أحداث هذه المرحلة، مع تسجيل  انبهارنا بالحرارة الشديدة للعمل الطلابي في ابن يوسف.

نشأة الحركة الطلابية في مغرب الحماية: عبد الله إبراهيم المُلهم الرائد

لم تكن مراكش رائدة فقط لأنها تستدبر تاريخا عريقا. بل كانت كذلك لأنها ولود تُنجب باستمرار رجالات كبار. أحد هذه القامات التي طبعت الحياة السياسية المغربية في الأيام الأولى للاستقلال بطابع خاص وبصمت في المشهد الوطني ببصمات استثنائية مشهودة، كان الأستاذ الرئيس عبد الله إبراهيم. وإذا كان المؤرخون يميلون إلى تجنب التمركز حول الأشخاص في التأريخ للأحداث، فإن "عبد الله إبراهيم" ملأ دنيا مراكش وشغل مواطنيها ومستعمريها منذ نعومة أظافره، ولهذا فقد يبدو جائزا الانطلاق من سيرته ومسيرته للتعرف على مُنجزات باهرة للحركة الطلابية الناشئة في معهد ابن يوسف في مراكش.
ولد الأستاذ عبد الله إبراهيم في غشت 1918 بمراكش من عائلة بسيطة. حصل على شهادة العالمية للتعليم الأصيل (القسم الأدبي) من معهد ابن يوسف بمراكش ثم غادر إلى فرنسا سنة 1945 ودرس بجامعة  السوربون ومعهد الدراسات الشرقية بباريس. اعتقل لأول مرة سنة 1933 (عمره 15 سنة) بتهمة توعية الحرفيين وتنظيمهم، والدفع بهم إلى مسيرات احتجاجية منظمة ضد الاحتلال. وأُحيل على ثكنة عسكرية في (كيليز)، حيث سيتعرض لتعذيب شديد إلى جانب مجموعة صغيرة من رفاقه. انضاف التعذيب إلى  تعرُض بيوتهم للمداهمة والإخلاء ليلا.  (1)
يكفي عبد الله إبراهيم  فخرا أن الزعيم علال الفاسي يغبطه على القيم التي يتمسك بها. يحكي الأستاذ عبد الله إبراهيم: "في إحدى المرات قبل وفاته رحمه الله، جاء لزيارتي (المقصود بالحديث هو علال الفاسي)، و فيما نحن خارجون للتوديع أمام الباب الخارجي لداري توقف فجأة ليقول لي: آ مولاي عبد الله.. والله إني لأحسدك !! أجبت على الفور: وعلى ماذا تحسدني؟ أ على الصحة أو السلطة أو المال؟ و ليس لي منهم أي شيء ؟؟، رد بسرعة: أحسدك على رصيدك النضالي و سمعتك أي الأمور التي لا تقاس بأي شكل من الأشكال". (2)
أهم ما يلفت انتباه المطلع على سيرة الطالب الوطني المناضل عبد الله إبراهيم هي همته المتوثبة وجديته النادرة؛ إنها طبيعة العمل النضالي فهو لا يقوم على أكتاف الخاملين وإنما على يد الشباب اليقظ قبل شروق الشمس وقبل صحوة المستعمرين. هنا، نلتقط مشهدا مهيبا؛ الشاب عبد الله بعدما خرج من منزله –كعادته مبكرا: بعد صلاة الصبح- يعانق هموم الناس الذين يتلظون بعسف الاستعمار وظلمه وطغيانه فيتأثر لوضعيتهم ويقود مظاهرة جماهيرية شهيرة لا تنساها ذاكرة المؤرخ للعمل الوطني بمراكش. وفي مشهد آخر لا يقل مهابة وجلالا؛ الشباب المقاوم يستعين بعمال النظافة للاستخفاء وسبغ السرية على اجتماعات الخلايا الوطنية وعبد الله يستيقظ قبل الفجر للاجتماع بها وإسرار المستجدات إليها. يستذكر الأستاذ هذه الذكريات المشرقة قائلا:"كان من عادتي اليومية منذ منتصف الثلاثينات (يعني منذ أن كان عمره 17 سنة) مغادرة منزلنا بعد صلاة الصبح مشيا على الأقدام نحو نهاية شارع (كيليز)، ثم أعود منتشيا بالأنفاس الأولى من الصباح، ثم أصبح بعض زملائي يرافقونني بعد ذلك. وذات صباح من صيف 1937، راعني ما شاهدته في نهاية شارع (كيليز)، حيث تجمهر فلاحون صغار، كانوا يشغلون مساحات صغيرة لإنبات مادتي النعناع و(الشيبا).. والذين فوجئوا بجماعات من أعيان لباشا الكلاوي تمنعهم فجأة من الاشتغال هناك وذلك بدون مبرر، ولا سند قانوني، وقال لي هؤلاء الفلاحون لدى استفساري لهم بأن هذه الأراضي كلها مشاع عام، أو ما يطلق عليه آنذاك بوصف (ديال الله)، وكان هناك صهريج كبير للماء ومساحات صغيرة خضراء هنا وهناك. تأثرت جدا لوضعيتهم، ودعوت رئيسهم لمتابعة المذاكرة في ما بيني وبينه على انفراد لإيجاد حل لهذا المشكل.. وبعد اتصالات عدة طلبتُ منه أن يأتي في يوم معين في شكل مظاهرة عارمة تنطلق من ساحة (عرصة البيلك) بجامع الفنا بمراكش، نحو مقر الحاكم الفرنسي، و نحو قصر الباشا الكلاوي، كأسلوب نموذجي لحل معضلتهم. وبالفعل انطلقت هذه المظاهرة منذ الصباح الباكر من اليوم الموعود المتفق بشأنه فيما بيننا، الأمر الذي لم أتوقعه على الإطلاق بكل هذه القوة الهادرة، وانضم إلينا آلاف الجياع والمرضى والفقراء والعاطلين، وكان الجميع يهتف ضد الظلم والطغيان والتعسف، ضمن موجة بشرية هادرة ومتراصة". (3) ويضيف الأستاذ: "كنا نطلب من عمال النظافة الذين يجمعون القمامة والأزبال من أحياء المدينة على متن عرباتهم الخشبية (الكرارص).. كنا نطلب منهم التجمع في ساحة (الموقف) مع الساعات الأولى من النهار، كما لو كانوا ذاهبين إلى عملهم، ولدى توزعهم هنا وهناك كانوا يتركون عرباتهم على أبواب البيوت الخاصة باجتماعاتنا السرية، ليلتحقوا بمجموعات أخرى من الخرازة  والنجارة والحدادة والجزارة.. تأتي تباعا لحضور الاجتماع، سواء في المساجد أو في البيوت الشعبية. وكنت أستيقظ باكرا قبل صلاة الفجر لأتمكن من الاجتماع بهذه المجموعات بمعدل ربع ساعة أو يزيد قليلا مع كل مجموعة لإخبارهم بمستجدات القضية الوطنية وبما ينبغي عمله لاحقا، و هكذا دواليك لأنتقل إلى باقي المساجد و البيوت بشكل متتابع. كان هذا التوقيت في الواقع يصيب الاستعماريين وأعوانهم  بنوع من الغياب الشديد عن الساعة، في عز الظلام والبرد الشديد، فلم يكونوا قادرين على مسايرة عاداتنا الدينية آنذاك، مما جعلنا نستغل هذه الفرص من أجل تأطير وتعبئة الناس بشكل موفق. فالفرنسيون وعملاؤهم المخبرون المغاربة من المدمنين على تعاطي الخمور والسهرات الماجنة وكانوا لا يستطيعون مجاراة نسق عملنا الجهادي عبر مختلف مساجد مدينة مراكش منذ الساعات الأولى من صباح كل يوم، فكانوا دائما آخر من يعلم. ومع آذان صلاة الصبح من كل يوم، يتجه الجميع من أنصارنا إلى المساجد للصلاة، و قراءة آيات بينات من الذكر الحكيم قبل الانتشار في مختلف أنحاء المدينة للالتحاق بأعمالهم، و بقينا كذلك لفترة طويلة دون أن تفطن الأجهزة الأمنية لنشاطنا". (4)
دأب المناضلين و درب الكبار، لا ريب، أنه هو التفوق و الاقتدار في شتى الجبهات التي يشتغلون بها. و من ثم لا غرابة في أن نجد الشاب عبد الله ذي 17 ربيعا يكون في طليعة المتفوقين بمعهده ولا عجب في أن نجده شديد الحرص على تنمية مداركه ومستواه وتوسيع آفاق وأبعاد لسانه (الحرص على تعلم لغات أخرى بأي ثمن). كل هذا إلى جانب اشتغاله على التوعية و التنوير في صفوف الجماهير بأسئلة الوطن (الاستعمار) وقضايا الأمة (فلسطين). إن في هذا، مرة أخرى، لعبرة لهواة الخمول والمغالَطة، أصحاب النظر القصير، الذين يهتفون لأبنائهم و ذويهم: النضال والدراسة؛ ضدان لا يلتقيان! "حوالي منتصف الثلاثينات، كنت قد أصبحت في طليعة المتفوقين في معهد بن يوسف بمراكش، وفي هذه الأثناء، شعرت بأهمية تعلم اللغة الإنجليزية، فذهبت إلى شاب بريطاني يملك محلا لبيع وكراء الكتب الأجنبية المستعملة في حي المواسين، حيث أبديت له رغبتي واستعدادي لأداء مصاريف التمدرس فتطوع أن يتولى هده المأمورية شخصيا بدون مقابل. وبالفعل شرعت في التمدرس على يديه لبضعة أشهر بتفوق ملحوظ، غير أن هذا التلقين توقف فجأة بسبب اعتقالي، ففي أحد أيام الجمعة، خرج المصلون من المساجد في مراكش ليجدوا ملصقات بالعربية على الأبواب تتضمن التضامن مع الشعب الفلسطيني في مقاومة الاستيطان والغزو الصهيوني. وبحثت عيون الكلاوي عن المرشحين للقيام بهذا العمل، وكان ذلك تدعيما لأكبر حركة فلسطينية احتجاجية سنة 1936 (حركة عز الدين القسام) ضد توافد أمواج اليهود نحو فلسطين العربية لإقامة الدولة الصهيونية فيها. وهكذا اعتقلت ليُجرى التحقيق معي حول هذه القضية، وعندما خرجت من السجن عاودت الاتصال بصديقي البريطاني في موضوع متابعة تعلم اللغة الإنجليزية، فربط لي علاقة جديدة براهبة أجنبية تتكلم الإنجليزية بطلاقة ومقيمة في مدينة الجديدة، فأصبحت أتنقل إلى هناك لتلقي دروس إضافية على يد تلكم الراهبة، ثم أصبح لدي أصدقاء مغاربة في هذه المدينة أقيم في بيوتهم أثناء إقامتي هناك وكان بعضهم من الوطنيين، و سينفعني هذا الإلمام كثيرا فيما بعد لا سيما أثناء نشاطاتي السياسية في أوروبا بين 1945  و1949، أو اثناء تحملي للمسؤوليات الحكومية بعد الاستقلال. أما اللغة الفرنسية فقد بذلت جهودا جبارة لتعلمها بمفردي كي أستطيع العمل بها مستقبلا بفعالية، فقد كنت أدرك تمام الإدراك حاجتي الماسة إليها في نضالي في المستقبل".(5)
أنعم بها من حياة محفوفة بلذة الالتحام بالأسئلة والاشتغال على القضايا وتعديد الواجهات، قبل الوقوف على مشارف "العشرين" في العمر! تلك حياة الطالب عبد الله؛ ليس فيها وقت للغو الحديث ولا لعبث غير مفيد. بل فيها تصَيًد للفرص واستثمار لكل ما هو متاح وتوظيف لكل صناعة ثقيلة ( ومنها صناعة الإعلام). "بالنظر للأهمية القصوى التي أصبح الإعلام المكتوب يتسم بها آنذاك في تعزيز العمل التنظيمي والسياسي، فقد تقدمتُ للباشا الكلاوي بطلب للحصول على ترخيص بإصدار جريدة، حيث تعرضتُ لمساومات غريبة. كان نشاطي السياسي يسير في خط متواز لنشاطي الصحفي والثقافي بشكل عام، وذلك في مطبوعات مشرقية ومغربية عديدة، فكان من أبرز مقالاتي: الحركة الصوفية في المغرب (في يونيو 1936 في عدة حلقات بمجلة المغرب الجديد)، الثقافة المغربية الحديثة (في أبريل 1938  بملحق جريدة المغرب للثقافة المغربية)، في سبيل تعزيز الوحدة العربية (في يونيو 1939 بمجلة الأمالي البيروتية). وغير ذلك من المقالات في الصحف و المجلات المصرية والسورية والجزائرية ( المنار للشيخ رشيد رضا، الفتح لمحيي الدين الخطيب، الشهاب للشيخ عبد الحميد بن باديس، الرسالة لأحمد الزيات..)". (6)
و عمره 18 سنة،  حضر الطالب عبد الله اجتماعا تاريخيا هاما للحركة الوطنية (أقر المطالب الإصلاحية المستعجلة) مع أهرام كبيرة تكبره بقرابة عقد من الزمن؛ علال الفاسي (من مواليد 1910) وأحمد بلا فريج (من مواليد 1908).. بل ألقى في حضرتهم خطابا حماسيا ناريا. إنها: الجرأة والشجاعة والامتلاء الداخلي والثقة بالنفس والتحرر من عقدة الرموز.. القيم التي نحتاج لغرسها في أوساطنا اليوم لقطع السبيل على كل محاولات التسلط و الاستعباد و الاستبداد و تثبيت أركان الانتقال الديمقراطي."عندما حضرت لاجتماع في الرباط بتاريخ 25  أكتوبر 1936، بدعوة خاصة من طرف علال الفاسي وأحمد بلا فريج وعمر بنعبد الجليل ومحمد اليزيدي. ألقيتُ خطابا حماسيا ناريا وكان هذا الاجتماع مخصصا لإعداد المطالب المستعجلة". (7)
لم يترك عبد الله – و سنه لم تتجاوز 16  سنة- بابا من أبواب النضال والإصلاح والوطنية الصادقة إلا وطرقه. فمن منافح عن حقوق المستضعفين المكتوين بنار الاستعمار إلى مقبل على المعرفة بنهم مثير إلى نضال آخر يعكس حرارة اعتناقه للمسألة الاجتماعية والأخلاقية (العمل على إلغاء ضريبة جائرة، مقاومة انتشار الخمارات وبيوت البغاء العلني بمراكش، المطالبة بتحديث و إصلاح مناهج التعليم بمعهده ابن يوسف). "عندما تأكد لنا في مراكش بأن الفرنسيين أصبحوا يخططون لإزاحة محمد الخامس (منذ منتصف الثلاثينات)، خضنا معارك شرسة أبرزها:
أولا: تنظيم تحرك مطلبي قوي وواسع لمقاومة انتشار الخمارات و بيوت البغاء العلني في مراكش، حيث حررنا العرائض الاستنكارية و رفعناها للسلطات الفرنسية و للباشا في نفس الموضوع، و ذلك بتاريخ 20 فبراير1937 . و بالفعل أقدمت السلطات على إغلاق الخمارات بمختلف أحياء المدينة والتي لا يسكنها الأوروبيون، وذلك اعتبارا من  27أبريل 1937، بعد حوالي شهرين من تحركنا.
ثانيا: تنظيم حركة المطالبة بإلغاء ضريبة (الدور)، وهي ضريبة من فرنكين إلى خمس فرنكات يؤديها الصانع التقليدي لفائدة فرق الحراسة الليلية التي تتولى حراسة الأسواق اعتبارا من الساعة الثانية عشرة ليلا وحتى الصباح، ونظرا لتلكؤ السلطات نظمنا عصيانا جماعيا انتهى عمليا بإلغاء هذه الضريبة..
ثالثا: تنظيم و تحريض طلبة معهد ابن يوسف لدفعهم في اتجاه المطالبة بإصلاح مناهج التدريس لديهم على غرار ما حدث في ذلك الإبان بجامعة القرويين بفاس، وفتح أبواب مكتبة معهد ابن يوسف أمام الطلاب. وذلك سنة  1933 و1934". (8)
واصل الطالب عبد الله بعدما حصل على العالمية في ابن يوسف الدراسة في فرنسا. و كانت تجربة جديدة مثيرة يجلو فيها معنى الاستماتة من أجل الحياة الكريمة وتتضح فيها إيحاءات الهيام بالقراءة وعشق المعرفة. كما أنها تزكي صدق حمله للقضية ومدى وفائه لسؤال: كيف نجعل المغرب بلدا مستقلا، استقلالا تاما؟ (توسله الفكر والمعرفة والقراءة الغزيرة للإجابة).
"كان والدي يسدد لمعارفنا كل الذي يقدمونه لي من أموال، و حيث أن معظم مخصصاتي المالية كنت أخصصه للكتب وللنشاط السياسي، فقد كنت أضطر لقضاء يومين في نهاية كل شهر في جوع كامل و ذلك لمدة طويلة، و لم أكن أصارح زملائي بهذا الواقع، و كنت  خلال هذين اليومين أغمس نباتا جافا في ماء دافئ كي أقتات به، وكان هذا النبات متداولا بين الأوساط الفقيرة آنذاك. وبوصولي إلى فرنسا بقصد الدراسة، كنا هناك عدد قليل من الطلبة ليصل عددنا في نهاية الأربعينات إلى 70 طالبا، وقد اندمجت شخصيا بشكل كبير في نشاط حركات التحرر الوطني في العالم الثالث آنذاك. كما نظمتُ في نهاية السنة الدراسية الأولى أول تجمع للمغاربة والعرب المشرقيين لتوحيد الصفوف في وجه العدو المشترك وخاصة فرنسا. على المستوى الفكري، دخلنا في حوارات غنية مع الوجوديين والماركسيين والاشتراكيين والفوضويين والتروتسكيين والسورياليين وغيرهم، وانكببنا على دراسة الأعمال الفكرية الذائعة الصيت آنذاك لنيتشه وماركس وهيغل ودوستويفسكي وتولستوي ويرغسون وسارتر و غيرهم.. وكانت اهتماماتي بالتيارات الفلسفية والأدبية والفكرية بوجه عام في أوروبا في أفق محاولة هضم و استيعاب تلكم المدارس الفكرية في اتجاه المساهمة في صياغة مشروع سياسي و ثقافي و اجتماعي مغربي وفقا لخصوصيتنا الوطنية".(9)

الحركة الطلابية التي غرس بذورها عبد الله إبراهيم

استثمر  الأستاذ عبد الله إبراهيم قدراته القيادية وملامحه الكاريزماتية ومؤهلاته الفكرية و خاض بكل الوسائل التي كانت ممكنة  معارك ضارية للحد من غلواء السياسة الاستعمارية المتعسفة. وقد كان المجال الأثير لدى الأستاذ هو تأطير أقرانه الطلاب عندما كان زميلا لهم في معهد ابن يوسف منذ منتصف الثلاثينات إلى سنة 1943. وبعد عودته من فرنسا سنة 1949 مثقلا بالهموم الفكرية والثقافية والوطنية، عاد مجددا لتأطير حركة الطلاب بمعهد ابن يوسف. هذه الحركة الطلابية الناشئة كان لها في ما بعد اصداء لافتة على المستوى الوطني. وقد قامت الحركة بتنظيم نفسها بانتخاب لجان مسيرة، كما انتقلت إلى ابتداع أشكال نضالية جديدة منها الاعتصامات والعمل المسرحي..  
يحكي المقاوم الكبير عبد السلام الجبلي التطورات التنظيمية التي شهدتها هذه الحركة الطلابية الناشئة من موقع شاهد عيان ومشارك بارز في صياغة الأحداث: ففي ابن يوسف عندما تبين أن حضورنا أصبح ذا فعالية نظمنا انتخابات، ومع أننا لم نكن نعرف شيئا عنها، ولا عن مفهوم الديمقراطية. نظمناها لانتقاء لجنة لتسيير الطلبة، وكنا ننسق مع عبد الله إبراهيم للإشراف على التنظيم. كونا لجنا على أساس المستويات التعليمية، بحيث كان لدينا لجان على مستوى التعليم الابتدائي، ولجانا على مستوى التعليم الإعدادي، وأخرى خاصة بالثانوي، ولجان على مستوى النهائي: "التعليم العالي". كانت هذه التنظيمات تشمل التسيير وكذلك الدعاية والإعلام. وكانت القوة تتمثل في النظام الذي وضعناه بصفة عامة لضمان استمرارية العمل على مستوى جامعة ابن يوسف. إضافة إلى ذلك، تم تكوين لجنة احتياطية على مستوى عال، بحيث قررنا، في النظام الداخلي، أنه في حالة اعتقال اللجنة الأولى، أو شيء من هذا القبيل، ستُعوضها اللجنة الاحتياطية.
كان هذا التنظيم مفاجأة كبيرة بالنسبة إلى الحزب (الاستقلال)، وإلى الحركة السياسية؛ وقد ظهرت فعالية هذه المفاجأة عندما تدخل الفرنسيون، في جامعة القرويين بفاس، واعتقلوا بعض العلماء وبعض الطلبة. في هذا الوقت صعدت الإدارة الفرنسية قمعها وتدخلها في المؤسسة الدينية، فقررنا التضامن مع أطر جامعة القرويين. وهنا برزت حركة الطلبة في ابن يوسف، إذ نظمت إضرابا تضامنيا مع طلبة القرويين. وقد اعتقل الطلبة المُضربين بعد ذلك. (10)

انخرطت الحركة الطلابية الناشئة في نضالات جادة ذات وجه إصلاحي تعليمي  لكن برهانات وطنية وتحررية جلية. "كان عبد الله إبراهيم يقوم بمساندة طلبة الكلية في نضالهم من أجل تحقيق المطالب الإصلاحية بعد أن تقدموا بها فعلا أواسط سنة 1951 (إلى السلطان محمد الخامس: فيها دعوة إلى إصلاح التعليم الأصيل، بإحداث تغييرات في برامجه ومواده تجعله موحد البكالوريا، ومتجاوبا مع التعليم العصري شكلا وتنظيما ومردودية معاشية، وتقربه من واقع عصره)، وذلك بشن حملات صحفية واسعة بمبادرات شخصية منه بواسطة جريدة العلم وخصوصا عندما كان مسؤولا عن إدارتها وتحريرها. كما كان يساندهم كذلك بنفس الوسيلة في مواجهة أعتى قوة إقطاعية والمتمثلة في الباشا الكلاوي، والتي انخرط معها الطلبة الذين أصبحوا يمثلون رأس الحربة في محاربة الاستعمار والإقطاع بمراكش في مصادمات متتالية بلغت حدتها أحيانا إلى مهاجمة الباشا بأكثر من مائة وخمسين طالبا في عقر قصره الستينية والدخول معه في مشادة كلامية جريئة، ومشادات عضلية مع أعوانه داخل القصر، أصيب فيها عدد من الطلبة بجروح، كما اعتقل آخرون وجلدوا جلدا مبرحا، ولطخت أفواههم بالفلفلة الحارقة، ونُفي آخرون إلى قراهم ومدنهم الأصلية،  وأجلي آخرون من بيوت سكناهم بالمدارس السكنية الخاصة بالطلبة. وقد كان من أول المعتقلين بهذه التظاهرة الفقيه محمد البصري الذي كلف من الخلية القيادية الأولى للطلبة نظرا لمظهره وسمته التقليدي وما عرف به من رباطة جأش بالتصدي للحوار مع الباشا باسم الطلبة. ولما اشتد وطيس المعركة بين الكلاوي والطلبة بادرت مجموعة قاربت المائة طالب بأمر من الخلية الأولى للقيادة الطلابية إلى الاعتصام أمام أبواب القصر الملكي بالرباط أكثر من شهر، احتجاجا على أعمال التنكيل والأذى التي ألحقها الكلاوي بعدد كبير منهم، فاستقبل جلالة الملك محمد الخامس وجميع سكان التواركة هذا الاعتصام بكثير من العطف والمواساة، كما كان يستقبل بنفس العطف والمواساة وفود الطلبة التي كانت تأتي من مراكش خفية محملة بعرائض وتقارير عن تطور الأحداث بها. ولقد كان من دواعي الفخر والاعتزاز لطلبة ابن يوسف أن يحظوا آنذاك بهذه العناية الملكية التي تعتبر بحق تاريخيا أول تلاحم مباشر لحركة شبابية خالصة مع الأسرة الملكية في خضم معركة حامية الوطيس مع الاستعمار والإقطاع". (11)
ورغم سدور سلطات الحماية في خطة تضييق الخناق على العمل المسرحي وسد كل المنافذ أمام القائمين عليه، فإن تفطن الأستاذ عبد الله إبراهيم لأهمية العمل المسرحي وإيمانه الراسخ المستمد من استيعابه للمكونات الثقافية للحضارية الأوروبية بما له من فعالية في توعية الشعوب وبلورة رأيها العام حال بينه وبين الركون للاستسلام للأمر الواقع، وقوى عزيمته على تأكيد حثه للمناضين بتكوين فرق تمثيلية صغيرة تقوم في غفلة عن أعين الاستعلامات كلما تهيأ الظرف الملائم لذلك بتقديم اسكيتشات ملتزمة باتباع خط توجيهي، وذلك بمختلف المنازل الخاصة التي يضعها أصحابها من بعض المناضلين تحت تصرف الحزب لممارسة نشاطه الوطني السري والعلني أحيانا والتي من بينها: منزل أسر المقاوم عبد السلام الجبلي، ومنزل أسرة محمد الحبيب الفرقاني.. ومعلوم أن هؤلاء كانوا طلابا في هذه الفترة. وقد تم فعلا تنشيط العديد من المسرحيات حول سيرة الفاروق عمر بن الخطاب بالإضافة إلى ترجمة العمل الأدبي "في سبيل التاج" لمصطفى لطفي المنفلوطي إلى عمل مسرحي.(12)

من حركة طلابية تحرُرية إلى حركة مقاومة تحريرية

لا شك أن الأمر الذي سيثير المهتمين بتاريخ الحركة الطلابية المغربية يتجلى بالخصوص في كون النواة الصلبة لحركة المقاومة المسلحة التي كان لها الفضل الأول في انتزاع الاستقلال؛ كانت هذه النواة وليدة العمل الطلابي الجاد الذي راكم تجارب غنية ونضالات مشهودة في معهد ابن يوسف وأثمر ذلك في نهاية المطاف قيادات شابة واثقة في نفسها وخادمة بصدق لرسالتها. إن هذا العمل الطلابي كان مزاوجا بين العمل الميداني والتكوين النظري (راح الأستاذ عبد الله إبراهيم، بعد عودته من فرنسا، يجول في مختلف المدارس الفكرية الغربية في محاضرات راتبة مع الطلبة بهدف تعميق وعيهم النظري هذا بالإضافة إلى إلقائه عروضا أخرى استهدفت بالأساس تقوية وشائج الارتباط بالوطن والهوية الإسلامية من خلال إطلالات  حول التاريخ الإسلامي وتاريخ المغرب، وإلى جانب الأستاذ عبد الله إبراهيم كان هناك الشيخ محمد المختار السوسي مساهما بارزا في التأطير الطلابي..). وقد أتت هذه الخبرة الميدانية (الاعتصام، الإضراب، الإعلام، الاعتقال..) المفعمة بالأفق الفكري الرحيب أُكلها وتجسد ذلك في نماذج حية كان لها باع واضح في تنظيم العمل المسلح ضد الاستعمار وكان لها أيضا حضور قوي في الحياة السياسية بشكل أو بآخر في المغرب المستقل؛ من بين هذه الأسماء: عبد السلام الجبلي، محمد بنسعيد أيت إيدر، الفقيه البصري، الحبيب الفرقاني..
 إن المنهاج الذي اعتمده الأستاذ عبد الله إبراهيم في تكوين المناضلين، سواء خلال مرحلة ما قبل سفره إلى فرنسا أو خلال مرحلة ما بعد رجوعه إلى أرض الوطن، والتي أبدى فيها اهتمامه البالغ بتكوين نخبة من طلبة كلية ابن يوسف قصد الإعداد الفكري والروحي لقيادة العمل المسلح ضد الاستعمار وأذنابه، قد حقق نجاحا باهرا في تأجيج روح المقاومة والتضحية لديهم، إلى درجة ثورتهم على سياسة حزب الاستقلال، المعتمدة على العمل السياسي السلمي، وذلك منذ أن دعا رائد المقاومة بمراكش مولاي عبد السلام الجبلي الذين عُرف أغلبهم فيما بعد بقيادتهم لتنظيمات المقاومة بالمغرب كله، وخصوصا بعد استشهاد المرحوم الزرقطوني؛ دعاهم إلى اجتماع سري ببيته أواخر صيف سنة 1951 بدون علم أي عنصر من مسؤولي الحزب بمراكش، أهاب فيه بالحاضرين إلى وجوب اتخاذ الأهبة والاستعداد للشروع في تنظيم خلايا للمقاومة بعد أن أبان العمل السياسي عن عدم جدواه وقلة فعاليته. وقد وافق جميع الحاضرين بحماس وتصميم على اعتناق الخطة، وقد كان من بين الحاضرين محمد الحبيب الفرقاني، محمد بنسعيد أيت إيدر، والفقيه محمد البصري ومحمد الحبيب محيي... ولم ينتظر مولاي عبد السلام الجبلي كثيرا بعد هذا الاجتماع الإعدادي لاتخاذ بعض الإجراءات العملية لتنفيذ الفكرة، بل سارع توا في خلق وتنظيم خلايا من بين أوساط مسيري الحزب بالأحياء الشعبية التقليدية بمدينة مراكش الذين سبق أن كُونوا أحسن تكوين وطني من قبل المربي الوطني عبد الله إبراهيم. وقد واصل عمله في سرية تامة وفعالية متواصلة، وتجنب مطلق لجماعة المسيرين المعروفين بالطاعة العمياء لأجهزة الحزب المسؤولة بالمدينة، وذلك إلى أن اكتشف الحزب ما يدبر بغير علمه من عمل. فكان نتيجة لذلك أن شرع أعضاء المكتب المحلي للحزب بأوامر من قيادة الحزب بالرباط، متجاوزة ومتجاهلة وجود عبد الله  إبراهيم كممثل أول لها بمراكش، في شن حملة عشواء وإن كانت تجري في نطاق السرية على مولاي عبد السلام الجبلي ورفقائه من قدماء المسيرين وطلبة. هكذا استطاع الأستاذ عبد الله إبراهيم أن يعد من بين طلبة كلية ابن يوسف نخبة من مقاومين أشداء، أسسوا حركة المقاومة المسلحة بمراكش والجنوب المغربي، وقادوها بوعي وذكاء وصمود ضد أقطاب ورموز الاستعمار من عسكريين ومدنيين وحلفائهم من عتاة الإقطاع ودهاقنته. (13)
إن الدرس المستفاد الذي ينبغي على الغيورين على العمل الطلابي اليوم التقاطه هو كون هذه الحركة الطلابية أفرزت طاقات كان متفوقة في دراستها وكانت صادقة في نضالها وكانت وفية لرسالتها وكانت متحررة نفسيا من الاستعمار وساعية عمليا لتحرير البلاد والعباد من شروره. يحكي المقاوم الكبير عبد السلام الجبلي ما يعضد هذا الكلام بشدة، فحينما تم اعتقال هذه الحركة الطلابية الناشئة بعد أن طرحت مطالب إصلاحية في المسألة التعليمية لم تتأثر جاهزية أفرادها إطلاقا لا في الدراسة ولا في النضال: أطلقوا سراحنا بعد تدخل واحتجاج محمد الخامس على الإدارة الفرنسية، لأنهم لاحظوا أننا شُفينا من النُدب التي حملتها أجسامنا من فرط السياط. وبعد استئناف الدراسة برزت فكرة تأخير موعد الامتحانات نظرا للمدة، التي تعطلت فيها الدراسة بسبب الإضراب، فرفضنا ذلك، وتشبثنا بمواعيد الامتحان، التي كانت مقررة من قبل، لأننا كنا نناضل على حساب الدراسة، لأنها بالنسبة إلينا جزء مهم من نضالنا. كنا نريد أن نبرهن على أننا قادرون على استئناف دراستنا، وعلى استئناف النضال بالدرجة نفسها. اجتزنا الامتحانات، كان عدد من المتتبعين يتتبعون رسوبنا، لكننا نجحنا مع أن جُلنا كان يمارس حرفا موازية للدراسة. تراوحت نتائج الامتحان بين ميزة حسن ومتفوق. (14)   


العمل الطلابي :الرسالة الخالدة

إن الفرضية التي انطلقنا منها في المقدمة ذات الصلة بتشخيص أزمة الحركة الطلابية والتي عبرنا فيه عن كون الأزمة تجَل فاقع للحيدة عن الرسالة النبيلة والدوران في المقابل حول الذات التنظيمية والارتهان لأشكال تاريخية عتيقة وقوالب غير عملية والغفلة عن روح التجارب التاريخية المنيرة سواء في تجربة الحركة الطلابية في مغرب الحماية أو  تجربة الحركة الطلابية في المغرب المستقل إلى حدود التسعينات. إن هذه الفرضية لا تركن إلى التحليل المتقادم القائل إن ازمة الحركة الطلابية هي أزمة إطار أو معضلة التمزق والانشطار. إنه لو افترضنا جدلا أن الوحدة قائمة على مستوى الإطار وعادت ل"أوطم" شرعيته القانونية والتاريخية. فالقضية لن تحل هكذا لأن التشخيص غلط. إن التسعينات والثمانينات عقدان كان فيهما الإطار منزوع الشرعية وكان فيها الاحتراب الفصائلي قائما غير أن "الأزمة" بتقديرنا لم تكن قائمة. لأن الأزمة هي استقالة الطلاب من الحياة غير شؤونهم الخاصة وشؤون الدراسة الضيقة. وأكيد أن وهج الانشغال بقضايا تتجاوز خُويصة النفس كان مستمرا إلى أن انطفأ وخبا مع بداية الألفية الثالثة.  
إن القارئ المتمعن في تاريخ الحركة الطلابية المغربية (وستكون الحركات الطلابية العالمية الأخرى شبيهة على مستوى العمق والروح والكنه للتجربة المغربية) لن يخطئ العناوين البارزة للرسالة النبيلة الخالدة التي يطوي مطاويها العمل الطلابي. إنها، باختصار، رسالة تحررية تسعى نحو تحرير ثلاثي الأبعاد:
أولا: تحرير أنفسنا، كطلاب، من علائق التراب: فقد خُلقنا من صلصال كالفخار وحمأ مسنون وخُلق الإنسان من طين، وهذا المكون الطيني الذي يملأ شقا هاما من هويتنا الإنسانية له دلالات غير خافية تتناهى إلى التَرسُب والجمود والخمول والكسل والتمركز حول الذات.. والعمل الطلابي، نظرا لطبيعته واستثنائيته، حيث يجد الإنسان نفسه في مرحلة عمرية يُحسد عليها وهو معدوم من الناحية المادية، مضطرم الشهوة من الناحية الغريزية، مسكون بالمستقبل المجهول من الناحية الوظيفية، مُثقل بمقررات متواضعة من الناحية المعرفية وعامرة من الناحية التقنية المعلوماتية؛ يجد نفسه فوق كل هذا مشدودا إلى رفع شعارات الحرية والكرامة ومتطلعا إلى الوقوف في وجه منتهكي الديمقراطية ومستعدا للفناء حتى لا يبقى الاستبداد معززا مُكرَما؛ كما يجد نفسه مائلا إلى القضايا العادلة ومنتفضا في وجه قوى الاستكبار والطغيان. إن هذا الجو وهذه البيئة وهذا المناخ وهذه التغذية؛ إن كل هذه الأمور هي التي تدفع الطالب الإنسان لتبرز إنسانيته فيتحرر من أنانيته السلبية الضيقة ويندفع نحو الجدية والبذل والعطاء.
 ثانيا: تحرير أوطاننا؛ إن الثمرة الطبيعية للتحرر الأول هو العمل لأجل الوطن. إن الدراسة، رغم كل الإكراهات المعروفة عن الشأن التعليمي وظروفه، ينبغي أن تكون سراجا ينير به الطالب درب الوطن، إما باختياره -اضطرارا لظروف مادية- التوجه نحو العمل بعد تحصيله لأول شهادة ممكنة، فإتقان العمل –أي عمل- وتجويده وبذل الوُسع في خدمة المواطنين من خلاله هو عين تحرير الوطن في هذا المستوى. وأما إذا كان النَفَس طويلا فالاجتهاد للإتيان بالجديد في التخصص المُختار هو عين تحرير الوطن في هذا المستوى. لكن هذا العمل العلمي والعمَلي ينبغي أن يكون مقرونا بالنشاط المدني؛ إذ أن تحرير الوطن من قُطاع الطرق لن يتأتى إلا بالصدع في فضاءات الجامعة بالمذنبين في حق الوطن والتحذير من خطهم ومن سلوك مسلكهم  ولن يتحقق إلا بالإشارة في المقابل إلى الصادقين العاملين على بعث الوعي الوطني الحي بمقالهم وحالهم (وعبد الله إبراهيم المذكور سلفا من هؤلاء) ولن يتيسر إلا بالتحرك على المستوى الإعلامي بالكتابة وعلى المستوى الجمعوي بالندوة والمحاضرة.
 ثالثا: تحرير الإنسانية المعذبة من الامبريالية والاستعمار الجديد؛ إن العمل الطلابي مجرد محطة يمُر منها الإنسان، لكن أهميته تعود إلى كونه محطة حاسمة في الاختيارات التي تُصاحب الإنسان في حياته. يكفي العمل الطلابي شعارا، السعي نحو "إبراز إنسانية الإنسان وتذكيره بأعباء الاستخلاف". إن الطالب الإنسان هو الذي يكون محترقا لآلام إخوانه في الحي الجامعي كما يكون مهموما بانعدام العدل على المستوى الدولي. إن القضايا الكبيرة إذا لم يحملها الطالب، المثخن بكل الجراحات، فمن يحملها؟ إن الحلم بعالم أكثر عدلا وأكثر سلاما وأكثر تراحُما لا بد أن يُصاحب الطالب الإنسان لكي يستمر معه طيلة الحياة، ليأتي الجيل المقبل ليجد الحلم موجودا ليعمل على تحويله إلى واقع.. وهكذا. إن الإنسانية في مسارها تتقصد العدل وكل المُثل السامية؛ واليوم نجد العديد من الدول حققت نسبا مُقدرة من العدل بين مواطنيها أي على المستوى الداخلي، لكن مازال العدل على المستوى الدولي بعيدا، مازال العدو الصهيوني جاثما على فلسطين، مازال التضييق على التجارب التنموية والديمقراطية الصاعدة مستمرا..
إن تجربة الحركة الطلابية في مغرب الحماية كانت وفية إلى حد كبير للرسالة النبيلة الخالدة. إن جنود هذه الحركة كانوا جادين متحررين من الكسل، وكانوا سعاة لتحرير الوطن من قبضة الاستعمار، وفيما بعد كانوا من حماة الاختيار الديمقراطي في مغرب الاستقلال. إن الاستبلاد والاستبداد والاستعمار هم الأعداء الثلاث للإنسان؛ والعمل الطلابي ينبغي أن يكون لهم بالمرصاد، حتى لا يذهل الطالب عن رسالته في الحياة وحتى ينعم الوطن بمستويات مقبولة من العدل وحتى يتحرر العالم من نير الاستعمار الذي يتسربل في عدة أقمشة.


الهوامش:

(1)   محمد لومة، "سنوات الصمود وسط الإعصار"، ص: 27-28. الطبعة الأولى. منشورات عكاظ. الرباط:2006 )
(2)   المرجع السابق. ص:172-173
(3)   المرجع السابق. ص:41
(4)   المرجع السابق. ص:50-51
(5)   المرجع السابق. ص:30-31
(6)   المرجع السابق. ص:44-46-47
(7)   المرجع السابق. ص:47
(8)   المرجع السابق. ص:49
(9)   المرجع السابق. ص:80-81-82
      (10) عبد السلام الجبلي، أوراق من ساحة المقاومة، ص:35.
      (11) محمد الحبيب محيي، عبد الله إبراهيم: من خلال بعض ما تميز به بين معاصريه، الطبعة الأولى 2008، ص:52-53 -55
        (12) المرجع السابق، ص:69
       (13) المرجع السابق. ص:83-88

       (14) عبد السلام الجبلي، أوراق من ساحة المقاومة، ص:39-40


0 التعليقات

إرسال تعليق