| 0 التعليقات ]


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




تطمح الأحزاب السياسية في الدول الديمقراطية للوصول إلى السلطة بهدف امتلاك القرار السياسي الذي يُمَكنها من تفعيل سياسات عمومية تمس حياة المواطنين وترتقي بوضعية البلد السياسية والاقتصادية والثقافية. وتمثل الأحزاب تشكيلات تحاول تجسيد إرادة ومصالح الشرائح الاجتماعية التي تعبر عنها، ولهذا يكون هدف الحزب الحاكم في إطار حياة سياسية ديمقراطية سليمة هو استثمار آليات القرار السياسي لبلورة برامج تروم خدمة عمقه الاجتماعي.  
في التجربة المغربية، يلحظ المراقبون أن تعثر الانتقال الديمقراطي يتجلى بشكل بارز في فشل الأحزاب المتصدرة للمشهد السياسي طوال تاريخ المغرب المعاصر في تفعيل سياسات عمومية خادمة للبنيات الاجتماعية الحاضنة لها. والسبب راجع، بالإضافة إلى العوامل الذاتية (أي تواضع حضور الثقافة الحزبية الحديثة في ذهنية قادة الأحزاب خاصة المؤسسين... إلخ)، إلى عامل موضوعي بارز هو أن هذه الأحزاب حينما تقود الحكومة لا تمتلك زمام القرار السياسي التنفيذي.   
منذ فجر الاستقلال وحزب الاستقلال لم يملك القرار السياسي لترجمة مطامح الطبقات الوسطى إلى إجراءات عملية ملموسة، ومنذ السنوات الأولى حُرم المغرب من تجربة محدودة حاولت فيها الحركة الاتحادية أن تخدم حواضنها الاجتماعية (الطبقة الوسطى الدنيا، الطبقة الوسطى المتوسطة) بإجراءات متعددة تبلورت في المخطط الخماسي التنموي (1960-1964)، وكانت تستهدف الإصلاح الزراعي لصالح الفلاحين الصغار وتتقصد تعميم التعليم لتوسيع دائرة الطبقات الوسطى المتعلمة وترنو إلى ترجمة الأشواق التحررية للمثقفين المتمثلة في استكمال مسار التحرر العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي.   
في المحاولة الثانية، كان الفشل حليف النسخة الثانية من الحركة الاتحادية عام 1998. إذ جاءت هذه المحاولة في سياق مثقل بالانكماش الاقتصادي ومرهق بالاضطهاد السياسي وفي سياق رهين لاعتماد مخطط التقويم الهيكلي ولانطلاق مسلسل خوصصة المؤسسات العمومية  من طرف الدولة للتخفيف من عبء المديونية واختلال التوازنات الماكرو اقتصادية. هذا السياق، جعل التجربة الاتحادية الثانية في موطن بعيد عن مطامح الطبقات الوسطى التي تعبر عنها والتي علقت عليها آمالا ممتدة طوال عقود من الزمن، ولهذا لم تدم أكثر من أربع سنوات لأن الحواضن الاجتماعية كانت تبحث عن حامل حزبي جديد أكثر صدقية في التعبير عن مطالبها الاجتماعية ومطامحها الثقافية.
جاءت العشرية الثانية من الألفية الثالثة وهي حبلى بمحاولة ثالثة لا تختلف عن سابقاتها في المآل ولكن تتباين عنها في المضمون. حملت الطبقات الوسطى المتأثرة بتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية ل2008-2009 والراغبة في تحصين وضعها الاعتباري وتحسين وضعها الاجتماعي وتمنيع إطارها الثقافي حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة. غير أن السلوك السياسي للحكومة كان نازعا إلى صيانة مكاسب الطبقات العليا وتحسين بعض هوامش الطبقات الدنيا (المنح، الأرامل، التغطية الصحية).
 كانت النتيجة هي التراجع المتسارع للطبقات الوسطى على مستوى القدرة الشرائية وعلى مستوى المكاسب الاجتماعية والثقافية (رفع الدعم عن بعض المواد الأساسية في إطار إصلاح صندوق المقاصة، رفع أسعار المحروقات بفعل تحريرها، تراجع الوضع الاعتباري لرجال التعليم – وهم العمود الفقري للطبقات الوسطى - بسياسة "التعاقد"، تراجع مكانة اللغة العربية في التعليم، تراجع مكانة المدرسة العمومية، الاتجاه نحو إقرار رسوم للدراسة في التعليم العمومي، الاتجاه نحو خوصصة بعض المؤسسات العمومية لمعالجة اختلال التوازنات الماكرو اقتصادية). ولهذا، لن يكون مآل العدالة والتنمية مختلفا عن أسلافه.
السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا الأحزاب في المغرب (الاستقلال، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، العدالة والتنمية) عندما تصل إلى موقع السلطة التنفيذية لا تكون وفية للعمق الاجتماعي الذي كان حاضنا لها؟ الجواب الأول الذي يلوح في الأفق هو أن هذه الأحزاب لم تكن أصلا تمتلك السلطة التنفيذية ولم تكن أصلا تحوز القرار السياسي. فالقرارات الكبرى (التقويم الهيكلي، خوصصة المؤسسات العمومية، التراجع عن مسار تعريب التعليم العالي بل فرنسة التعليم الإعدادي والثانوي، الباكالوريا "الدولية"، إقرار رسوم للولوج إلى المدرسة العمومية، وحتى قرار إضافة الساعة ضدا على مصالح المواطنين خاصة مصالح الطبقات الدنيا والوسطى)، هذه القرارات حملت الحكومات - التي يقودها أحزاب يعبرون عن جزء كبير من الإرادة الشعبية - أوزارها، في حين أنها قرارات مصنوعة من طرف جهات أخرى.
منذ بداية الألفية الثالثة وتصاعد الحديث عن العولمة، ظهرت كتابات رصينة وجادة ترصد حالة اختناق الديمقراطية في ظل تراجع دور الدولة وتصاعد دور الشركات في صناعة القرار السياسي للأمم؛ منها كتاب "السيطرة الصامتة: الرأسمالية وموت الديمقراطية" (لصاحبته الباحثة الاقتصادية "نورينا هرتيس" الصادر عام 2002 والمنشور في سلسلة عالم المعرفة عام 2007)، وكتابات أخرى كثيفة.
الفكرة المركزية التي تود هذه الكتابات لفت الانتباه إليها هي أن العالم الجديد الذي تَخَلق وتشَكَل منذ وصول ريغان وتاتشر إلى موقع القرار في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة منذ مطلع الثمانينيات والذي تزامن مع انهيار الاتحاد السوفياتي وتوطيد أركان نظام جديد يلغي بشكل صامت العقد الاجتماعي. في هذا العالم صارت: الشركة الضخمة هي الملك، والدولة رعيتها، والمستهلكون هم المواطنون. في 2000-2001 أُحصيت 100 شركة متعدية الجنسية تتحكم في نحو 20% من الأصول المالية العالمية، فضلا عن كون أكبر 51 مؤسسة مالية في العالم في حيازة الشركات في مقابل 49 مؤسسة مالية تمتلكها الدول.
تتحدث نورينا عن تغول الشركات واختراقها لتفاصيل الحياة اليومية للناس أمام تراجع دور الدولة مبينة أن جميع ما نشتريه أو نستخدمه من بضائع (بترولنا والأدوية التي يصفها لنا الأطباء العموميون، والأشياء الضرورية مثل الماء ووسائل المواصلات والصحة والتعليم وحتى حواسيب المدرسة الجديدة والمزروعات التي تزرع في الحقول المحيطة بمجتمعاتنا)، كل هذه البضائع وهذه الأمور يزداد يوما بعد يوم تحكم الشركات فيها، وهذه الشركات – وبحسب هواها – قد تغذينا أو تدعمنا أو تخنقنا.
المستخلص هنا هو أن الشركات المتعدية على الجنسيات هي صاحبة القرار السياسي في نهاية المطاف في عالم يسود فيه نظام السوق في أدق تفاصيل النظام الاجتماعي. تكفي الإشارة إلى أن نجاح الحملات الانتخابية الأمريكية رهين بهذه الشركات، أما صعود "ترامب" فهو تحصيل حاصل وتتويج لهذا المسار المُدشن منذ أزيد من عقدين وتعبير جاحظ العينين عن ما وصلت إليه "الديمقراطية" في العالم.
إن امتلاك القرار السياسي يعني قدرة الحزب السياسي (من الناحية الموضوعية وليس الذاتية) زمن وصوله إلى السلطة على الوفاء بالتزاماته تجاه ناخبيه (=عمقه الاجتماعي). لا شك أن قدرة الأحزاب السياسية في الدول العريقة في الديمقراطية على هذا الفعل صارت أضعف مما كانت من ذي قبل. ولهذا ليس غريبا في ظل هذا الوضع العالمي، أن نجد العزوف عن المشاركة السياسية في الانتخابات يكون سيد الموقف تدريجيا مادام أن هناك عجزا لدى الأحزاب على تمثيل القوى الاجتماعية الحاضنة لها ومادام أن برامجها متشابهة ومادام أن سلوكها السياسي متماثل أثناء الحكم في أغلب النقط والإجراءات؛ فلم المشاركة وما فائدة التصويت وما جدوى الترجيح بين كيانات سياسية ستقوم بتفعيل سياسات واحدة؟
نحن إذن أمام ظاهرة عالمية تفيد بأن القرار السياسي يُصنع – المقصود هنا طبعا هو القرارات الاستراتيجية وليس القرارات التدبيرية العادية - خارج المُنتخب بل خارج الدولة. غير أن الوضع المغربي أضاف إلى الوضع العالمي عقبة أخرى أمام اتخاذ القرار السياسي بشكل ديمقراطي مُعَبر عن تطلعات قطاعات مقدرة من المواطنين.
هذه العقبة تتمثل في الازدواجية القائمة في النظام السياسي، في قوة سلطة "المعين" أمام سلطة "المنتخب" على كل المستويات، في وجود مؤسسات معينة محظية بوضع دستوري اعتباري وتضع البرامج والمخططات ولا يحاسبها أحد (=المجالس العليا: في التعليم والاقتصاد والبيئة والجالية و... إلخ) مكان الوزارات التي من المفترض أن القائمين عليها يعبرون ولو بشكل نسبي محدود عن إرادة العديد من المواطنين.
الخلاصة؛ في ظل هذا الوضع (العالمي والمغربي) يتعذر من الناحية الموضوعية على أي فاعل مهما بلغت درجة حنكته السياسية ومعرفته الموسوعية أن يقوم بوضع سياسات كبرى لها وقع استراتيجي حقيقي (وليس الاستراتيجية المكرورة في الخطاب الرسمي) في السياسة الاقتصادية والاجتماعية وفي ميدان التعليم والثقافة.
ولكن، أسوء عمل يمكن القيام به في هذه المرحلة هو تزييف وعي الناس وإيهامهم بغير الممكن. وعملية التزييف يشترك فيها أطراف عدة قد يكونون ضمن دائرة الحكومة أو ضمن دائرة المعارضة بكل أطيافها (الحزبية، الجمعوية، المثقفين، الصحفيين... إلخ) حينما يتحدثون عن أحلام وطموحات ضخمة من الصعب أن ترى النور في عالم مركب يحكم فيه الخارج قبل الداخل، ولا صوت يعلو فيه على صوت "رأس المال"،
 ما العمل في ظل هذا الوضع؟ سؤال مشروع تماما، لكن لننتبه أن فهم ما يجري وتدقيق الفهم أولى الأولويات، لأننا أمام وضع غير مسبوق من عدة نواحي. فأن تحُل الشركات محل الدول، وأن يسود منطق السوق الربحي ويخترق بشكل مكشوف كل القيم والأعراف والعلاقات والبنيات، وأن تتعرى كل الإيديولوجيات الملهمة لحركة الناس بشكل مكشوف، فهذا أمر جديد. والأهم هو أن "العمل" رهين تحولات عالمية كبرى تهب رياحها تلقائيا على الداخل. وأول خطوة مفيدة في إطار جواب "ما العمل" هي وقف مسلسل التزييف وفضح المُغرض منه.



...تابع القراءة