| 0 التعليقات ]




فجرت قصة طارق رمضان نقاشا هاما في عدة أوساط. وجد فيها خصومه التقليديون عنوانا للتندر وفرصة للسخرية ومناسبة لفضح "الازدواجية" ومحطة للإجهاز على رصيد الشخص وإرثه المعنوي ونسبه العائلي والإيديولوجي. وإذا كانت قائمة خصومه تضم من تربطهم به "عداوة وجودية" (الصهاينة واليمين المتطرف ومن يدور في فلكهما)، ومن تربطهم به "خصومة إيديولوجية" (من عائلة اليسار أو الليبراليين). فإن الجديد في هذه النازلة هو أن صورة "حارس قيم الإسلام بلغة معاصرة وأفق متنور في قلب أوروبا" قد تكسرت، ليس على يد السلفيين أو الإخوان المتسلفين (وهم من خصومه التقليديين كذلك)، بل في عيون زملائه وتلامذته "الوسطيين".
تشتبك في الملف خيوط مركبة ليس في وسعنا الإحاطة بها. ولكن حسبنا في هذه السطور، الانطلاق من فرضية كون "الاعترافات" تعبير عن الحقيقة الملموسة، وليست مجرد مناورة أو تكتيك للفرار من "الموت البطيء" الذي كان شبحه مرعبا في أجواء السجن.
ماذا تعني الاعترافات؟  تعني أن رجلا كان في عيون الكثيرين مفخرة "الإسلام" في أوروبا "الجاحدة"، أتقن لغة القوم وقدم "رسالة" الإسلام ليس فقط بما يُمَكن من تصالح المسلم مع عصره، بل بما يعزز من الانخراط الإيجابي للمسلم الأوروبي في الشأن العام والقضايا الكبرى المؤرقة للإنسانية.   
نجح الرجل في تقديم الأبعاد التحررية للإسلام التي تجعل منه دينا جديرا بالحياة في القرن الواحد والعشرين. ولكنه، سقط في تفعيل جزء من مقتضيات روح دعوته على سلوكه الفردي. نجح في أن يعبر بصوت مرتفع وبليغ عن كون رسالة "الإسلام" هي رسالة مقاومة للجوانب الداخلية "الطاغية" في الإنسان (الغرائز) أو للجوانب الخارجية "التدميرية" في الكيانات (الاستعمار الصهيوني والاستغلال الإمبريالي الذي تقوده دول ضد شعوب، تغول الشركات المتعدية الجنسيات وافتراسها للبيئة والإنسان... إلخ).
أفلح الرجل في كسب رهان صياغة "النظرية" إلا أنه رسب في امتحان جانب من "التطبيق" وتحقيق الانسجام بين "الفكر" و"الفعل" و"النظر" و"العمل" و"المعيار" و"السلوك".
ما هي الاستنتاجات المفترضة من وراء الاعترافات؟
سقط "الإرهابي" حفيد مؤسس "لعنة العصر" -التنظيم الدولي للإخوان الإرهابيين- المُحرض على الكراهية وتحطيم أسوار العلمانية والحرية وهوية أوروبا المنفتحة، وقد قيل ذلك من طرف دوائر إعلامية صهيونية ومتصلة باليمين المتطرف. الرجل انكشف كما سينكشف كل الذين يلعبون على الكلمات والعواطف ويستميلون البسطاء إلى دائرة الفكر المثالي الغيبي، وقد قيل ذلك من طرف بعض اليسار أو المنطلقين من طرف النظرية الماركسية في التحليل. الرجل "منافق" أو "كافر" أو في حكم المنزلة بين المنزلتين، وقد قيل ذلك من طرف السلفيين (منذ أن أعلن رأيه في ما يسمى ب"العقوبات الجنائية في الإسلام"). الرجل مخادع أو ممثل مخاتل، وقد قيل ذلك من طرف بعض "الإخوان الوسطيين". لنتصالح مع طبيعتنا البشرية ولنكف عن لغة الأوامر (افعل/لا تفعل) غير المفيدة، وقد قيل ذلك من طرف بعض النبهاء، وهم قلة.
بعيدا عن أية نبرة تبريرية مفتعلة، وبعيدا عن الاستنتاجات المُحملة بأحكام جاهزة. لنجعل من هذه المناسبة محطة معرفية لإعادة مناقشة الطبيعة البشرية.
ننطلق عامة في نظرتنا إلى الطبيعة البشرية من القناعة التي مفادها أن الأصل في الإنسان هو الصلاح بكل معانيه وأن الاستثناء هو الخطأ. في حين أن الصحيح هو أن الأصل في الإنسان هو أنه "لفي خُسر" والاستثناء حسب تكوينه هو الصلاح.
وأن يكون الإنسان في "خسر" يعني أنه ضعيف أمام الغرائز واللذائذ والشهوات وميال للتخفف من الواجبات والتحلل من الالتزامات والوفاء بالعهود. يعني أنه أسرع ل"الفجور" قبل أن تكبحه فرامل "التقوى". يعني أنه ضعيف في اختياراته الكبرى ومساراته الكبرى أمام حوادث الطفولة وملابسات البيئة وضغوط الطبقة وحدود اللغة وهلم جرا من الظروف الموضوعية التي لم يخترها وكانت لها يد في تشكيل كيانه ووجدانه وذهنيته وسيكولوجيته وشخصيته ومستقبله.   
ولكن الإنسان رغم طبيعته "السلبية" الغالبة وهويته "الطينية" الجارفة، يتمتع ب"فطرة" متوقدة و"ذاكرة" يقظة موصولة بالنفخة الروحية وبالقبس الإلهي الذي جعل منه إنسانا بعد أن كان بشرا. هذه الهوية "الروحية" هي التي تسمو به عن المكوث طويلا في قعر الخطايا وهي التي تحمله على معانقة الهموم الإصلاحية العظمى (إشاعة الصلاح والنبل والخير والعدل والرحمة والصدق والعفة...  إلخ).  
هذه الذاكرة هي التي تمنح الإنسان دوافع "المقاومة": مقاومة الانسياق وراء تيار "الطبيعة" الجارفة بمطالبها المادية العصية على الإشباع. إنها وعاء لعالم "المُثُل" و"القيم" و"الواجبات" و"المقاصد" و"الغايات". هي ما يسمى بكلمة أخرى، "الضمير" أو "الأنا الأعلى". بينما، الطبيعة البشرية الجوهرية هي مجال "العلوم" وعالم الحتميات والحقائق الموضوعية.
إذن، الإنسان بطبيعته كائن مزدوج مجبول على "التناقض" و"الازدواجية" و"الصعود" و"الهبوط" والتعثر بين "الفكر" و"الفعل" والحيرة بين أفق "العقيدة" ونداء "الغريزة". ولكن من منطلق تمتُعه بذاكرة تنتمي لعالم آخر، كان لا بد أن يسعى إلى التخفيف من حدة التناقض وإلى تحقيق الحد الأدنى من الانسجام وإلى الانضباط لمعاييره الفكرية في أفعاله وممارساته (وإلا فما جدوى الفكر، إن لم يكن سعيا مستمرا لتحسين سلوك الإنسان على ضوء "القيم" مع استثمار خلاصات "العلم"؟).
لو كان الإنسان مجبولا على "الخير" و"التقوى" في طبيعته البشرية لما احتاجت الإنسانية إلى ابتكار "المؤسسات" و"القوانين" و"الأعراف"... وكل الأشكال المقيدة لحركة الإنسان حتى لا تنفلت من كل العقال. لو كان "الفكر" غالبا على "الفعل"، لاكتفى الناس مثلا بقاعدة (الأسبقية لليمين) في قواعد السير من دون تشييد أعمدة أضواء المرور وتوظيف رجال الشرطة وتنظيم الجزاءات العقابية.
لو كان الإنسان خيرا أو صالحا بطبعه، كما جاء في حكايات كثيرة، لما وُجدت فكرة القانون أصلا. فالقانون عبارة عن وازع خارجي يدفع الإنسان إلى احترام التزاماته وواجباته وقيمه صاغرا، بعد أن عجز الوازع الداخلي (المتصل بفطرته أو ذاكرته أو هويته الروحية) عن ضبط حركته أمام نداءات الطبيعة البشرية السلبية مُختارا.
لو انعدمت وسائل الإعلام وأشكال صناعة ضغط الرأي العام (وهي من إبداعات الإنسانية في تفعيل الوازع الخارجي) لرأيتَ المسؤولين على مختلف المستويات على الصعيد العالمي يفعلون الأفاعيل ويقترفون من الجرائم (ألوان الاستبداد والطغيان، الاغتيالات، اختلاس المال العام، الاغتصاب، التحرش... إلخ) ما يعجز الخيال عن تصوره.
في إحدى الدول، لعلها "كندا" –والعهدة على الراوي- يُمنع على رجال الدولة ارتياد المراقص والعلب الليلية مخافة تسريب أسرار الدولة في حالة خمرية غير واعية. أحد الوزراء، ظن أنه تحرر من الوازع الخارجي وما إن خرج من "كندا" إلى "ألمانيا" –كما لو أنه يتحين الفرصة- حتى استجاب لنداء غريزته فذهب إلى أحد المراقص. غير أن المخابرات كانت له بالمرصاد. فقيل له "OUT!" من الوزارة بعد أن عاد إلى بلده.
ومن ملامح الظاهرة الإنسانية المركبة  أنه بحجم الأمل في بعض الأفراد والاعتزاز بهم تكون الخيبة فيهم في حال ما اكتشف الناس جزءا من بشريتهم. والتاريخ الإنساني مليء بالكواكب المنيرة التي تصبح مظلمة في عيون المحيطين بها إذا ما اكتشفوا جانبا من بشريتها "المستورة".
نكتفي هنا بمثال دال، هو جون جاك روسو (1713-1778)، صاحب "العقد الاجتماعي" و"في التربية: إميل نموذجا". روسو الذي كان بدوره "داعية"، ولكن إلى تربية الأطفال برفق وفق أسس غير مسبوقة في الفكر الإنساني، مؤسسا بذلك لفلسفة علوم التربية؛ نجده يخلف خمسة أبناء من علاقة غير شرعية فيتركهم جميعا في دار المُتخلى عنهم!
إنها نفس المفارقة بين "الفكر" و"الفعل" وبين "المعيار" و"السلوك". ولكن رغم ذلك، لا أحد التفت إلى هذه الملاحظة، ليُجهز على فكر الحداثة الذي كان يتأسس مع روسو وزملائه بحجة أن فعل المؤسس لا ينسجم مع الفكر، ولا أحد ساءل "علوم التربية" أين كانت منسية حينما تم وضع أطفال المفكر الكبير في دار الأطفال المشردين! لأن السياق لم يسمح بذلك (لأنه آنذاك لم تتوفر وسائل الإعلام، ولأن روسو كان ينتسب إلى عالم صاعد واعد غير مهدد بعالم إسلامي منحط وآفل).
أعرف قصصا كثيرة سواء لدعاة الدين أو دعاة الحداثة سقطوا جميعا في امتحان الانضباط إلى "المعيار" الذي يؤمنون به وفي إخضاع "غرازهم" لسلطة "عقائدهم".
إن الحكاية أكبر منهما، إنها حكاية الطبيعة البشرية المتغولة، لا سبيل للنجاة منها إلا بالمقاومة (=مقاومة الاستعمار الداخلي الذي تمارسه الغرائز، إلى جانب مقاومة الاستعمار الخارجي الإمبريالي والصهيوني الذي لا يريد للمقاومة الأولى أن تنجح لأن من مصلحته أن يلتهي الجميع بغريزته وألا يفكر دونها حتى يستديم طغيانه على الأرض) وتكثيف المقاومة والتعاون على المقاومة والتواصي بالمقاومة والمصابرة على المقاومة (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
إن القيمة المضافة لرسالة الاسلام تكمن أساسا في كونه جملة من التوجهات العامة التي تستهدف صناعة إنسان (ومن ثَم مجتمع) هو أميل إلى الخير منه إلى الشر، يفعل الشر ولكنه يندم عليه، وسرعان ما يقلق، وسرعان ما يفعل الخير ويسر به في مجتمع صناعة الخير أو فعل الخير فيه يسير، والشر ممكن فيه ولكنه عسير.
لا يدعو الاسلام من أجل صناعة هذا المجتمع الذي يكون فيه الناس أقرب ما يكونون إلى الخير، وأبعد ما يكونون عن الشر وإن كان فعله ممكنا، إلى الاعتماد على القهر والسيطرة والجبر وصوت السلطات، وإنما اعتماده الأكبر على تربية النفس (الوازع الداخلي)، واستشعار الإنسان أنه في صحبة دائمة مع الله سبحانه وتعالى. ويبقى للقانون (الوازع الخارجي) دور لا شك فيه ولكنه الدور الأضعف وليس الدور الأقوى. (راشد الغنوشي، حوارات مع قصي درويش، سلسلة الحوار -10-، منشورات الفرقان، ص:49)

0 التعليقات

إرسال تعليق