| 0 التعليقات ]





من الطريف أن نبحث عن المهدي أو أن نعبر عن الحنين إلى ظهوره في كل مرة! فلكل مهديه ولكل مُخَلصه حسب العقيدة التي يؤمن بها. إنما المهدي المقصود هنا، له علاقة بعقيدة سياسية غير خافية، هي عقيدة تحررية ديمقراطية وحدوية صريحة.
المهدي بنبركة، هو  الرجل الذي عاش كغيره من الرواد عمرا قصيرا وممتدا في نفس الوقت. وجد نفسه على رأس الجيل الثاني من الحركة الوطنية (مواليد 1920 بالرباط) ولكن بأفق وروح ونَفَس صاحب التنظيرات التي تنافس الرؤى التي يحملها رواد الجيل الأول. ولهذا لا يعرف الكثيرون اسم "محمد اليزيدي" وهو، أستاذ المهدي في النضال الوطني، ويعرفون المهدي؛ لأنه برز مبكرا كزعيم مستفيدا مؤهلاته الاستثنائية ومن اضطرار زعماء الجيل الأول إلى البقاء في المنفى.
لم يكن المهدي مجيدا للتعامل مع الأرقام الصماء (الرياضيات) فحسب، وهو الذي كان ينجز واجباته الدراسية في درج سلم المنزل تحت نور شمعة. بل كان مُلما (بشهادة جاك بيرك، أستاذ علم الاجتماع بكوليج دي فرانس) بكل ما جد في العلوم الاجتماعية وبكل الكتابات المنشغلة بقضايا العالم الثالث.
إنه المهدي نسيج وحده، لا يفارق العناوين الجديدة في القضايا الاجتماعية، ويسجل في غمرة مسؤولياته السياسية، وهو رئيس أول برلمان مغربي غير منتخب، أطروحة الدكتوراه في الرياضيات، ويناقش مع كبار المثقفين ألحان الموسيقى وجدل هيجل ووجودية سارتر.
اللافت في هذه المسيرة، هو أن الأكاديمي المتميز في تخصصه الضيق بشهادة عميد كلية العلوم آنذاك، والمثقف المحيط بالعلوم الاجتماعية والأبعاد الفلسفية والإنتاجات الفنية بشهادة مثقفين من طينة جاك بيرك وشارل أندري جوليان. لم يكن منعزلا في الأبراج العاجية، ولم يكن قابعا في الزوايا مع الأوراق، بل كان موصولا بالواقع ومتصلا بأسئلة الحياة السياسية والاجتماعية العملية. كان يصعد إلى القراءة/الثقافة حتى لا تفترسه النظرة العامية والانطباعات السطحية والممكنات الذهنية، ولكنه سرعان ما ينزل إلى الواقع ليصحح الرؤية النظرية التجريدية الحالمة المفصولة عن مستجدات الواقع المتسارعة باستحضار الممكنات التاريخية.  
إنه المهدي، مهجوس بهاجس واحد ومهموم بهَم لا ثاني له، هو هاجس الخروج من هامش التاريخ إلى السكة الصحيحة. وفي شرطه التاريخي، ومازال هذا الشرط قائما، لا خروج دون ربط قضية المغرب بقضية العالم الثالث وهي قضية التوحد من أجل التحرر والوحدة بعد التحرر في عصر لا حياة فيه - موضوعيا - للكيانات المعزولة عن التكتلات. وإذ لا يكفي التحرر، فلا مناص من مراجعة الذات بإدارة الظهر للتقاليد الراكدة عبر برنامج تنويري في الثقافة ومن خلال التمرن على السلوك الديمقراطي في السياسة.
الحاجة إلى المهدي، بعبارة أخرى، هي الحاجة إلى ذات الروح وإلى نفس الذكاء وإلى ذات العقل الجدلي الذي يلتقط تناقضات الواقع الموضوعي الحالي وموازين القوى القائمة لكي يجدد للرباعية الذهبية بطاقة الحياة (التحرر، التنوير، الديمقراطية، الوحدة).  
يمكن قراءة صفحات المهدي المشرقة عبر سطر وحيد، هو مشروع طريق الوحدة.
من هو هذا المشروع؟ إنه مشروع بناء طريق على امتداد 60 كيلومترا بين "تاونات" و"كتامة" بسواعد الشباب المغربي المتطوع، يتخللها إنشاء 37 جسرا. استمر المشروع 3 أشهر من يوليوز إلى غشت عام 1957. يتألف مجموع عدد المتطوعين من 12000 شاب توزعوا على مدى الأشهر الثلاثة. تتراوح أعمارهم ما بين 20 و30 سنة، ويُقدر متوسط عمرهم ب23 سنة ونصف. ينحدرون من أزيد من 20 منطقة من داخل المغرب، وضمنهم طلبة من خارج المغرب يدرسون في المشرق العربي أو في أوروبا.
 توزعت أنشطة الشباب في المشروع على البناء المادي للطريق على امتداد 6 ساعات كل صباح، قبل الشروع في برنامج موازي بعد الزوال وممتد إلى المساء موجه لتكوين الشباب المشارك في المشروع وتنمية مؤهلاته الثقافية من خلال سلسلة من المحاضرات أشرف عليها الوطنيون؛ منها على سبيل المثال: محاضرة "مهامنا الراهنة" ألقاها المهدي، و"واجبات المواطن" ألقاها علال الفاسي... إلخ.
ما دلالات المشروع وما مغزاه؟
أولا، استثمار الرأسمال الاجتماعي. قُدر الغلاف الزمني للمشروع في حال ما أُنجز من طرف وزارة "الأشغال العمومية" بسنة ونيف. لماذا العمل التطوعي للشباب أثمر تشييد الطريق في 3 أشهر، بينما العمل المأجور للعمال في إطار وزارة الاشغال العمومية لن يُشيد الطريق إلا في أزيد من 13 شهرا؟
لأن حجم العمل التطوعي - وهو محتوى الرأسمال الاجتماعي - أكبر من حجم العمل المأجور (أمام ارتفاع تكلفة العمالة وأمام انخفاض حجم الرأسمال المادي) من جهة، ومن جهة أخرى وهذا هو الأهم لأن مفعول العملين مختلف، فالمعنويات التي يشتغل بها المتطوع المؤمن برسالة العمل الذي يقوم به لا تقاس بالمقارنة مع معنويات العامل المُضطر والمُكره على القيام بذات العمل.
ثانيا، التربية والتكوين عبر الممارسة. إن مقولة "نحن نبني الطريق، والطريق تبنينا" ليست صورة بلاغية بل هي حقيقة واقعية. نعم، المشروع كان موجها لبناء الطريق، ولكن لصقل الشخصية الوطنية وشحذ الوعي الوطني أيضا.
صار "التعلم عبر الممارسة" نظرية تُدرس ضمن دروس نماذج النمو الاقتصادي الحديثة learning by doing التي طورها الاقتصادي بول رومر الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2018. فمن خلال تراكم الخبرات العملية للرأسمال البشري، يتمكن القائمون على الإنتاج من ابتكار آليات جديدة تضاعف المردودية وتسرع عجلة النمو.
طبعا، الممارسة تكون عمياء من دون إضاءات نظرية وفكرية، إنما السياحة الفلسفية التأملية ترقى إلى أن تكون قاتلة وغارقة في الممكنات الذهنية. فأصحابها يتوهمون الفهم، ويختزلون العالم في مقولات مسكوكة جاهزة لتحليل أي واقعة، وبذلك يُجهزون على التطور الإيجابي لمنحنى النمو في الواقع ويُجهضون كل المبادرات التغييرية.
ثالثا، بناء الدولة الوطنية الحديثة في فجر الاستقلال. من مرتكزات الدولة الحديثة وحدة الشعب والأرض والسيادة. كان المشروع يستهدف بشكل مباشر تكسير الجليد القائم بين البادية والمدينة وبين الشباب المتعلم (الطلبة) وغير المتعلم وبين الجنوب والشمال، كما كان يرمي إلى الانتقال من الانتماء المتعصب للقبيلة إلى الانتماء المنفتح للدولة.   
كان المشروع محطة مهمة لتوحيد العقيدة السياسية للشباب المغربي الصاعد، إذ به صار جميع الشباب المشارك يؤمن بعقيدة واحدة هي "بناء المغرب". وغير خاف، أن وحدة القصد والغاية من خصائص الشعب، بخلاف المجتمع ذي البنية القبلية فهو يتوزع شذر مذر على مستوى الغايات والمصالح.
كان العزم قائما على الاشتغال بفلسفة مشروع بناء طريق الوحدة في مشاريع أخرى. فالمشروع كان مجرد نموذج اختباري عشية إطلاق المشاريع البانية لمغرب الاستقلال. غير أن رياحا قوية هبت في اتجاه معاكس لإرادة المهدي وغيره من صناع المشروع، ووضعت حدا لهذا المسار. فكانت النتيجة التعثر المتواصل من 1957 إلى 2018 والتأخر بالمقارنة مع من كان في وضعنا في ذات السياق.
ومن مقتضيات الانتساب للدولة الحديثة النهوض بواجبات المواطنة في مقابل الاستفادة من الحقوق المترتبة عنها. ولترسيخ هذه الذهنية الجديدة في مجتمع خرج للتو وبشكل قسري من عهد البداوة والقَبَلية، كان المشروع تمرينا مهما لاستيعاب مغزى إسهام المواطن في وجود واستمرار الدولة التي من المفترض أن يعود وجودها بالنفع عليه رخاء وأمنا.
هو مشروع بسيط ولكن بحمولة عامرة، كان أحد الأجوبة الذكية للمهدي على تحديات وأسئلة الانتقال التاريخي المطروح في زمن الاستقلال من كيان تقليدي إلى دولة حديثة. وهو مشروع يكثف الروح والذكاء والأفق الذي نحتاج إليه في استشراف ما نحن فيه من لحظة تاريخية تتأجج مخاضاتها يوما بعد يوم.
قبل الختم، لنتساءل: لماذا يصعب أن نتصور مشهدا يتطوع فيه المواطنين اليوم بمحض إرادتهم في مشروع تدعو إليه الدولة ويخص الصالح العام؟ لأن المواطنين لا يثقون في إدارة الدولة، ويعرفون بأن رأسمالهم الاجتماعي سيضيع ويُستغل من طرف من لا هَم لهم سوى تنمية رأسمالهم الخاص وتبديد الرأسمال العمومي. هذا سبب ذاتي، أما من الناحية الموضوعية فالإرادة السياسية اليوم معتقلة ولم تعد لديها الإمكانات المتاحة في زمن المهدي.
مع الأسف، تم هدر الإمكانات الكبيرة بالحسابات الصغيرة، وبقيت لنا دولة يعجز خيالها الاقتصادي عن تجاوز فرضية 4% كحد أقصى في التوقعات الخاصة بمعدل النمو وهو ما يستحيل معه اللحاق بالعالم الأول. ولهذا نحتاج اليوم إلى روح المهدي، أي إلى التفكير خارج الأطر السائدة، التفكير الذي أنتج مشروع بناء طريق الوحدة في لحظة كان فيها المغرب يحاول أن يبدأ تاريخا جديدا. إنه التفكير في إطار الممكن، التفكير الذي يعي الإكراهات الموضوعية ولا يكتفي بترديد الأماني الجميلة.
هي الذهنية التي تطرد البرد الخارجي بالدفء الداخلي، وتعول على العمل قبل رأسمال، وعلى تعبئة الرأسمال الاجتماعي إلى جانب الرأسمال المادي. إنها الذهنية الموضوعية، التي تميز بين الإمكان الذهني والإمكان التاريخي.
مشروع طريق الوحدة هو عنوان ثمار هذه الذهنية.

0 التعليقات

إرسال تعليق