| 2 التعليقات ]







شاءت الأقدار أن أصل إلى تيزنيت ساعات معدودة قبل بدء المهرجان الخطابي الذي استضاف الأستاذ عبد الإله بنكيران.  لا أخفي أني لا أتعلق بالأشخاص كثيرا مهما كانوا، لكني في ذات الوقت أعلن باعتزاز أني أرتبط ارتباطا وجدانيا عميقا بالصادقين (و الصادقات) من الناس لأني ببساطة أرى فيهم معنى الإنسان و قبسا من روح الله. و لا سلطة لي على دموعي حين أستمع لهم إذ تحين ساعة اللقاء و يجيش عالم الارواح.
حضر للمهرجان المذكور الذي استضاف حامل مشعل المصباح (ذ. بنكيران): حشد و أيُ حشد ! حشد مخيف بكل صدق !
لم أتصور يوما –و أنا الذي كنت قريبا جدا من محيط المصباح- طيلة أيام الثانوية و الإعدادية بتيزنيت أن "العدالة و التنمية" قادر على تعبئة الجماهير بهذه الكثافة المنقطعة النظير. إنه الصدق يا سادة ! إنه خطاب الصادقين الذين لا يجيدون التصنع و الزخرفة و "التزويق" !
رغم أني لا أؤمن بحكاية " الزعيم" ! إلا أنه – من دون شك-  يبقى الأستاذ عبد الإله بنكيران في طليعة رجالات الوطن الكبار الذين هيأتهم العناية الإلهية لهذه المرحلة. هو –بلا مبالغة- وريث عبد الله إبراهيم و المهدي بنبركة و عبد الرحمان اليوسفي. بل ربما هو  المنافس الشرس، الذي لا يشق له غبار، للمهدي بنبركة في القدرة التواصلية المذهلة و  احتلال قلوب المواطنين.
إنه الصدق –مرة أخرى- يا سادة ! فلا يوهمن أحد نفسه بمكانة مرموقة في أوساط الناس و هو سالك طريق الكذب و الافتراء و التسلق و التملق و الخواء و الفراغ ! إنه الصدق –أولا و أخيرا- مع رب العالمين في المُرابطة على درب الصالحين و المصلحين ! إنه الصدق –ثانيا- مع الوطن و المواطنين في العمل – قدر المستطاع – على رفع الوهن عنهم و الارتقاء بأحوالهم و الوقوف ضد كل من يكيد لهم !
إن الرسالة التي لن يغفل النبهاء عن تلقُفها من وراء الحشود التي تحضر منتديات و مهرجانات المصباح؛ هي أن فكرة "العدالة و التنمية" و المشروع الحاضن لها هو رائد الموجة الثالثة من الحركة الوطنية الإصلاحية. فبعد الموجة الأولى مع حركة الاستقلال : و أشير في هذا الصدد أني لما وقفتُ بجوار المنصة التي اعتلاها الأستاذ بنكيران مع العديد من الشباب عادت بي الذاكرة إلى الذاكرة السياسية للمفكر العملاق محمد عابد الجابري التي سجلت (في "مواقف") المهرجان الجماهيري الحاشد الذي أطره الراحل الكبير المهدي بنبركة –في إطار حزب الاستقلال- في الدار البيضاء لعله في سنة 1955 و شارك الشاب محمد عابد  الشباب في حراسة منصته و هو إذ ذاك على مشارف العشرين (فهو من مواليد دجنبر 1935) التي بدوري أُطل على عتبتها في هذه الأشهر الجارية !  
بعد الموجة الاستقلالية جاءت الحركة الاتحادية لتضفيَ على المشهد السياسي معان أخرى و كان قائدها في نسختها الثانية  الوطني الكبير الأستاذ "عبد الرحيم بوعبيد" المحبوب لدى شريحة واسعة من المواطنين. و للأسف الشديد فقد حمل إدريس لشكر نعش الحركة الاتحادية إلى  مثواها الأخير.
هكذا سنن التاريخ ! اقتضت أن يكون مشروع الإصلاح الذي يمثل "العدالة و التنمية" واجهته السياسية بمثابة خميرة للحركة الإصلاحية الجديدة التي تألقت بعد الحراك الفبرايري المجيد ! و الجميل أن هذه الموجة الثالثة استجمعت جواهر الحركة الاستقلالية (مقاصد الشريعة عند الفاسي) و درر الحركة الاتحادية (الوطنية الصادقة، الصلابة الأخلاقية و الديمقراطية). و بالتالي فكل رافض –هكذا بإطلاق- للحركة الإصلاحية الثالثة (بقيادة العدالة و التنمية) فهو معاند لسنن التاريخ و مُهمل للحقائق الساطعة في الواقع الراهن.
إن الوعي بالواقع السياسي الحالي يقول: إن حزب الاتحاد الاشتراكي انتهى ! و كل ارتباط بهذا الحزب إنما هو ارتباط بمنظومة رجل لا يخلو كلامه من مغالطات و أكاذيب و سفه و تدجيل. إن حزب الاستقلال، منذ مدة ليست قليلة، بات حزب الأعيان و الراغبين في الانتفاع بالمال العام و الاغتناء غير المشروع و هو حزب بلا بوصلة و لا مشروع يحكمه رجل: لا يختلف مواطنان حول جهله و دجله و خبله و سيلان لُعابه (للسلطة). أما أحزاب التجمع الوطني للأحرار و الاتحاد الدستوري و الحركة الشعبية (نسبيا) فهي أحزاب إدارية وظيفية أنشأها (المخزن)  للتشويش على مسار الحركة الاتحادية خصوصا، غدت الآن في المشهد السياسي –للأسف فهذه هي الحقيقة- بلا وظيفة تذكر سوى توفير نصاب الأغلبية (و العدالة و التنمية مضطر للتحالف معها لأن المشهد أصلا مبلقن و لا خيار له في ذلك  في انتظار تغير حقيقي في النظام الانتخابي يسمح بأغلبية تتشكل من حزبين : حزب العدالة و التنمية  مع حزب كالتقدم و الاشتراكية أو فيدرالية اليسار الديمقراطي) و هي –بلا شك- توظف أساليب بئيسة تنتمي للعهد البائد في العملية الانتخابية: المال الحرام و شراء الذمم... أما حزب البؤس و البؤساء (ليس"البؤس" بالمعايير المادية؛ فأغلبهم من اليسار الجذري الفاشل الذي انتقل من حب التحليلات العلمية ل"رأس المال" (الكتاب الأشهر لكارل ماركس)–حسب تعبير المناضل الوطني الغيور: عبد العزيز أفتاتي- إلى حب "المال" و الريع و الاغتناء غير المشروع و بحبوحة العيش على حساب الكادحين. بل أعني "بؤسهم" من ناحية فقرهم الأخلاقي و القيمي: فكل مشروعهم هو العداء للحركة الإسلامية و  استئصال شأفتها و بالتالي العداء للديمقراطية و دولة المؤسسات و الحرية؛ أي في نهاية المطاف مشروعهم هو تكريس الفساد و تثبيت الاستبداد)؛ فهو حزب مخزني بامتياز جرائمه المتواصلة –في السر و العلن- بحق مشروع الانتقال الديمقراطي في هذا الوطن تستدعي  يقظة جادة من طرف كل المواطنين الغيورين.
لم يبق –إذن-من الأحزاب المُعول عليها سوى حزب العدالة و التنمية و هو حزب المرحلة.  و بالمناسبة: الوعي بسنن التاريخ؛ يقتضي أن نفهم بأن لكل محطة رجالها و نساؤها و عنوان جامع لمشروعها: و بالتالي لا مناص مرة أخرى من الإقرار بأن مشروع الإصلاح الذي يقوده العدالة و التنمية –رغم كل الملاحظات التي قد تسجلها عليه- هو إجابة عن أسئلة المرحلة. و نحن واعون بأن  صلاحية موجته ستنتهي في يوم من الأيام كما وُلدت كل الموجات و ماتت سواء بترهل في نضالية و قيم إنسان "المشروع" أو ظهور موجة جديدة من الإصلاح – و هذا مستبعد في المستقبل القريب- أكثر متانة و تماسكا و جاذبية. و من الجدير بالذكر كذلك أن المرحلة تتطلب أحزاب أخرى تكمل النقائص و تسد الثغرات و تتدافع أطروحاتها بشكل ديمقراطي راقي مع مشاريع و رؤى الحزب و أُقدر –و تقديري محدود- أن تكون فيدرالية اليسار الديمقراطي و أجنحة معتبرة من حزب التقدم و الاشتراكية هي الخطوط السياسية المرشحة لهذه المَهمة: فالانتقال الديمقراطي لا يحتمل طغيان لون واحد مهما كان، زد على ذلك أن التاريخ يسير دائما على أنقاض تدافع فكرتين. هذا ما أثبته كبار فلاسفة التاريخ.
إني هنا أتحدث في إطار الممكن و الواقعي و الموجود (من قبيل: واقعية "الجابري" مع الحركة الاتحادية الثانية، و خط "العروي" في الترشح باسم الاتحاد الاشتراكي سنة 1977). أما الحديث عن التماسك الداخلي لمنطق المشاريع و الصرامة المنهجية في التعبير عن الرؤى و الأفكار فذلك  حديث آخر.






...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





ألقى الأستاذ بلال أردوغان محاضرة مفتوحة حول أسرار نجاح التجربة التركية أمام الجيل السابع من أكاديمية إعداد القادة التي تنظمها سنويا شركة الإبداع الأسرية و تديرها الأستاذة بثينة إبراهيم (زوجة المفكر و الإعلامي المعروف طارق السويدان). لم يُفوت فيها المحاضر الفرصة لبعث رسائل مضيئة لمسارات "قادة" الغد.
استهل نجل الرئيس التركي كلمته بالتذكير بمدلول القيادة، كما درسه في إحدى الجامعات العريقة بالولايات المتحدة الأمريكية، و هو: القدرة على مواجهة المشاكل  و قيادة المعارك (على مختلف الأصعدة) في ظل غموض المشهد و ضبابية الصورة و طغيان التعقيدات و تشابك الملفات. و من هنا، اعتبر نجاح والده في قيادة التجربة راجع إلى استبطانه لهذا المدلول (رغم كونه لم يشهد الدراسة في الجامعات المتقدمة في الولايات المتحدة الأمريكية !) فهو الذي يقول –أي الرئيس أردوغان-: أستمتع بمجابهة  المشاكل  الكائنة في مناخ موبوء و  مشهد مضطرب..
هذا الكلام يزكي كثيرا المسار الذي يرسمه حزب العدالة و التنمية في المغرب. فالحزب يدرك ما يكتنف العملية السياسية من غموض و تعقيد و ميوعة، لكنه -و بقيادة الأستاذ عبد الإله بنكيران- يصمد وسط الإعصار و يشق طريق فكرته الإصلاحية بثبات غير مكترث لأي مثبط أو كائن يعيش على الأماني و الانتظار.
اعتبر الأستاذ بلال أن توجُه حزب أردوغان إلى بناء اقتصاد قوي من خلال الدفع بعجلة الاستثمارات الأجنبية و تقوية البنيات التحتية و تلميع عمل البلديات  إلى جانب توجيه المشاريع نحو الفقراء و توطيد أركان الديمقراطية و الحرية. اعتبر كل تلك الإجراءات نجاحات ساطعة رفعت الوهن عن تركيا. لكنه استدرك: إن النجاح الحقيقي الذي حققناه هو المتمثل في جعل التدين في مركز الحياة التركية (قبل ولوج حزب العدالة و التنمية للسلطة كانت المرأة تُطرد من البرلمان لأنها محجبة، حاليا أزيد من عشرين محجبة و لا أحد بمقدوره أن يتجرأ على فتح فمه بخصوص زيهن بله أنطردهن من السلطة التشريعية).
أما زبدة الدروس التي وجهها نجل أردوغان ل"قائد" الغد فهي : اعرف نفسك، و عش لرسالتك.. النجاح التام يوجد هناك في الدار الآخرة.. لا راحة لنا في الدنيا. فحتى ما نظنه نعيما هنا، بالمقارنة مع ما في الفردوس الأعلى، هو جحيم. الخيبة كل الخيبة، إن فُزت هنا و أفلحت في الدنيا، و خسرت الآخرة فذاك هو الخسران المبين. و أضاف: المهم إن لم ننجح، بالنسبة لنا نحن المسلمون، هو أن نموت و نحن نحاول صد الظلم و الطغيان و مقارعة الباطل و الاستكبار..
هو درس و أيُ درس ! هو درس ابن الرئيس الذي لم تنسيه حياة واشنطن أو باريس بوصلة "الآخرة" التي تعد بحق منارة كل مسلم سعيد ! (كل نفس ذائقة الموت و إنما تُوفون أجوركم يوم القيامة فمن زُحزح عن النار و أُدخل الجنة فقد فاز و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). سورة آل عمران:185.
المهم هو أن تحاول  بكل قواك، هو أن تجاهد بكل جهدك، هو أن تُقلع.. و ليس بالضرورة أن تصل! المهم هو أن تقتعد مقعدا في الفردوس الأعلى فذاك هو غاية المنى ! أما أن تحتل حيزا بين الأمم العظمى، فلا شك أنه مطلوب، لكن يكفيك فيه شرف المحاولة.. ففيها مناط رسالة الاستخلاف.. و لعل الجيل الذي يعقبك يفوز بقطف ثمار محاولاتك !
كلام يزكي مرة أخرى تجربة العدالة و التنمية في نسخته المغربية. فهو حزب يخوض هذه الأيام غمار العملية الانتخابية في مستنقع آسن؛ في ظل غياب منافسة حقيقية من الأحزاب السياسية (باستثناء قطاع مُقدر من حزب التقدم و الاشتراكية و فيدرالية اليسار الديمقراطي الذي يحوي آخر العناقيد في اليسار الوطني المبدئي الغيور). فالمنافس الحقيقي للحزب هو الفساد و الكذب  و استعمال المال الحرام و استغفال جماهير الأمية..  لكن، "العدالة و التنمية" يكفيه أنه يحاول، بل هو يشق سبيل الفلاح في محاولته: إذ يقض مضاجع المفسدين (بحاله قبل مقاله) و يستنفر خطابه طغمة الأعيان و المتنفذين و يهجس لفكرته الإصلاحية حزب "البؤس" الذي تلطخ بمخازي المخزنة منذ نشأته في ثمانية بعد ألفين (2008)..
ختم نجل الرئيس التركي رسائله قائلا: نحتاج إلى قادة واثقين بأنفسهم، فخورين بدينهم و هويتهم. قادة يغشاهم الإيمان بربهم و يملأهم الحب لرسولهم (صلى الله عليه و سلم) و الحب للإنسانية جمعاء. لا تهتموا بما يقوله الناس فيكم بل ركزوا على ما يراه الله جل في عُلاه منكم.







...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



حضرتُ مؤخرا نشاطا دوليا جمع جنسيات متنوعة في الوطن العربي. أتاح لي اللقاء فرصة التعرف عن كثب على ملامح فرادة هويتنا الوطنية (بعد استحضار عمقها الإسلامي العربي). فالهوية، في أبسط دلالاتها، هي حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره. من هنا، كانت معاينتي لثقافة باقي مكونات الوطن العربي محطة لاستجلاء تميز هويتنا المغربية عن باقي الكيانات العربية، دون إهمال فكرة التنوع في إطار الوحدة.
إنه أمر لافت، أننا –نحن المغاربة- لسنا نسخة كربونية لغيرنا (=أي لأشقائنا العرب).
 خذ العامية المشرقية؛ فيها مشترك كبير في المعاني و المفردات بين مختلف الكيانات العربية من أقصى الخليج إلى الجزائر (و أعني ما أقول حينما أحُد المجال بالجزائر). و من اليسير لأي مواطن عربي، ينتمي لهذا المجال، أن يستوعب حديث زميله و لو كان من أقاصي هذا المجال. باستثناء العامية المغربية، لن يفهمها الكثيرون. و بالمناسبة، جنسية "العامية" لا علاقة بالتمكن من اللغة الفصيحة؛ فالمغاربة لا يتلعثمون في الحديث بالفصحى رغم بُعد عاميتهم عنها. بل إن أحد الشباب المشاركين في النشاط، و هو مهاجر مغربي أمازيغي قح من مدينتي "تيزنيت" يقطن في فرنسا منذ صباه في 2002 (درس الابتدائي في تيزنيت ثم هاجر)، يتحدث بفصاحة مثيرة للاهتمام.
على المستوى الفكري، المغاربة معروفون بالشغب الفكري و بآرائهم المثيرة التي تعادي التقليد و تنزع نحو التجديد. أحد الشباب المهتمين بالفكر، من الصومال، عبر لي عن تقديره الشديد للمفكرين المغاربة  (و أشار لي لبعض الأسماء: من بهذا قبيل الدكتور محمد عابد الجابري و هو "عروبي معتز بإسلامه"، و الدكتور سعد الدين العثماني و هو "إسلامي معتز بأمازيغيته").  و هؤلاء، رغم البون الواسع بين مجالات اشتغالهما، قدموا للمكتبة الإسلامية تجديدات مهمة و إضافات نوعية. كما عبر لي شاب آخر، من قطر، عن سروره بمقابلة أهل المغرب و حبه لعلمائه و مفكريه؛ دون أن ينسى استياءه  من "التواضع الشديد" الذي يتصفون به بخلاف أهل المشرق (قطر و البلدان الخليجية خاصة)، قائلا: ما إن يتحصل أحدهم على شهادة "البكالوريوس" (=الإجازة)، حتى يتجه نحو نشر "سبعة" كتب و المشاركة في الندوات و الدورات و  إنشاء المراكز  و "بلبلة" الدنيا..
على صعيد الفكر السياسي -مثلا-؛ الشباب المغاربة "حسموا" تقريبا ! مع خيار الدولة المدنية و الإيمان بالديمقراطية و الحرية. في حين أن العديد من الأطراف في الحالة العربية مازالوا يستنكفون من قضية "مدنية" الدولة. على أن العمليات الجراحية الفكرية مازالت تشتغل، هناك، للاتجاه نحو التصالح مع هذا الخيار.
دعونا نتساءل: لماذا هويتنا الوطنية فريدة و متميزة؟
لعل مجيبا يقول: إن المغرب تعرض لاستعمار فرنسي. و معروف أن فرنسا هي مهد التنوير و الحداثة.  و بالتالي، فالمغرب استفاد من هذه الرياح الفكرية التنويرية الفرنسية القوية للقيام بتجديد الفكر الديني و تثوير الخطاب الإسلامي.
لا شك أن هذا سبب مهم و مفتاح أساسي لفهم تقدم الذهنية المغربية على نظيرتها المشرقية (في العديد من الأصعدة). غير أننا إذا اكتفينا بهذا المستوى من التحليل. بماذا سنفسر، إذن، الفروق الكبيرة –على مستوى الذهنية- التي بيننا و بين سوريا الجريحة و لبنان الممزق و كلاهما تعرض للاحتلال الفرنسي؟
إني ،هنا، لا أخفي أن ذاكرتي تستدعي المكون الأمازيغي في هويتنا الوطنية. فهناك تكمن "العبقرية المغربية". و ينبغي أن ننصف المثقفين الأمازيغيين الوطنيين المعتدلين رواد الحركة الأمازيغية (ذ.أخياط، د،شفيق، ذ.أزايكو، د.بوكوس ..) الذين لفتوا انتباه المغاربة بعد رحلة نصف قرن من النضال الثقافي و الاجتماعي إلى هذا المكون الهام الذي يثري هويتنا الوطنية.
بخصوص قضية العامية أو الدارجة المغربية، لماذا هي عصية على باقي أبناء الوطن العربي. أشير إلى أن "فيلسوف" الحركة الأمازيغية أو بالأحرى "فيلسوف" لامريك (أي الجمعية المغربية للبحث و التبادل الثقافي) –بتعبير ذ. ابراهيم أخياط- و هو الأستاذ الصافي مومن علي؛ اعتبر في إحدى كتاباته –لعله كتاب "خطابات إلى الشعب الأمازيغي"- أن الدارجة المغربية ترجمة حرفية للأمازيغية إلى العربية فبنيتها اللسانية أمازيغية خالصة.
هل هذا الرأي صائب أم لا؟ هذا نقاش اللسانيين. المهم أنه يضفي معان إضافية على الفكرة-الرأي: مرد فرادة هويتنا الوطنية الغنية هو المكون الأمازيغي. 
قصدي في هذه الأسطر ليس توسيع الهوة بيننا و باقي إخواننا في الوطن العربي. و إنما هو تجديد الدعوة للاعتزاز بالمكون الأمازيغي في هويتنا الوطنية. و هذا الاعتزاز بهذا الانتماء لا يتنافى إطلاقا –إلا في أذهان بعض المغرضين و المتحاملين على  عمقنا العربي الاسلامي- مع العمل على تعميق الصلة بباقي الكيانات العربية و خاصة المغاربية. فاليوم، بات واضحا انه من زاوية استراتيجية: لا مستقبل إلا للتكتلات البشرية الضخمة و الأسواق الكبيرة و بالتالي فلا خيار لنا في العمل بجدية على بناء  الاتحاد المغاربي  و لم لا الاتحاد العربي؟



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



عاينت مجريات أحداث  طريفة – و أليمة في الوقت ذاته - جرت بين ثلاث قريباتي؛ قصة تجسد بشكل لافت جانبا من المد و الجزر الذي مازالت تعرفه قضية المرأة في وطننا. القريبة الأولى امرأة مسنة جاوزت 77 سنة. بينما الثانية و الثالثة كانتا طفلتين إحداهما تبلغ من العمر 12  سنة  و الأخرى 11 سنة.
كانت بداية القصة مع التعامل غير الحسن الذي تقابل به السيدة المسنة الطفلة ذات 11  ربيعا. المسنة تصرخ في وجه الصبية، تطلب منها أن تخدمها و تنظف و تهيئ الفضاء ( و الطعام..) الذي يشغلنه. تتوسل المسنة لأمر الطفلة أو نهيها لغة جارحة، قاسية و غليظة ملؤها أنك (أي الطفلة) "أنثى" : ما الهدف من مجيئك للدنيا غير القيام بهكذا أشغال. واصلت المسنة حربها الكلامية على الصبية و إطلاق أوامرها التي لا نهاية لها عليها، غير أنها أضافت إلى ضحايا أوامرها الطفلة الأخرى ذات 12 ربيعا.
ذات وجبة غذاء، و أنا ألحظ من بعيد ما يقع، حرصت – لهذا السبب- بعد تناولي للوجبة على جمع فتات الطعام و نفايات المأكل. تلقيت شكرا من الصبية الكبرى. إلى جانب شكوى بليغة لخصت مجريات المعاناة النفسية و (المادية) للطفلتين. للإشارة، فالطفلة الكبرى، كانت صاحبة وعي حقوقي أرقى من وعي الصغرى.
الصبية الصغرى، في مرافعتها القصيرة أمامي، أشارت باعتزاز لافت إلى جواب بسيط المبنى و عميق المعنى في ذات الوقت واجهت به اللغة الجارحة و التهمة الدائمة (كونها "أنثى")  الصادرة من طرف المسنة: (إنه ربي هو الذي خلقني).
أما الصبية الكبرى، صاحبة الوعي الحقوقي، فقد تنهدت و قالت: (إننا نُعامل كالمستخدمات عند أهل البذخ و الترف، أي الذين يتبختر نساؤهم في مقعد و يكتفون بالحديث و إطلاق الأوامر للخدم). ثم أضافت كلاما أهم: (إن الصبية الأخرى "فلانة" تُعامل معاملة أقسى و بلغة جارحة. و المصيبة أنها تنتهك حرمة الطفولة. إنها "طفلة" لها مشاعر و أحاسيس).
إن إيرادي لهذه القصة يستهدف تسليط الضوء على ما يكتنف قضية المرأة بشكل عام في أوطاننا من أسئلة.
إن الفكرة المركزية المستخلصة من القصة هي لجوء الطفلة الكبرى إلى استدعاء مرجعية حقوقية حديثة – تلقتها في صفوف الدراسة – (حقوق الطفل خاصة و حقوق الإنسان عامة) للتعبير عن استنكارها للنظرة الدونية للطفلة الأنثى. إنها ترى امرأة مسلمة مسنة هي التي تستبطن هذه الرؤية الدونية و بالتالي لم تجد بدا من استدعاء مرجعية أخرى. فالتكريم الإلهي للإنسان (كيفما كان جنسه) في خطاب القرآن الكريم لم تر له انعكاسا في تعامل المرأة المذكورة. و منه لم تستحضر المرجعية القرآنية في الدفاع عن كرامة الطفلة على الرغم من كونها تتشرب معان لا بأس بمستواها من هذه المرجعية.
قد نتفهم المرأة المسنة؛ فهي تقوم باستفراغ تجليات ذات الحرمان الذي عانت منه كأنثى. فلا شك أنها اكتنزت صورة نمطية سلبية عن وظيفة الأنثى على مقاس تلقته في تربيتها منذ الصغر. إنها وجدت قدرها المحتوم يقول (الخدمة المنزلية و الاستعداد لبيت الزوجية). وجدت نفسها دائما تحت وصاية الآخر و في خدمته. لم تفكر يوما أنها – ربما كان ذلك في شيخوختها -  إنسان له كيان مستقل و وظائف اجتماعية. أنى لها ذلك و هي لا تعرف الحرف و قد حُرمت من الكُتاب و المدرسة؟
أما الطفلة الصغرى، التي تعرضت للقدر الأكبر من الإهانة لا لشيء إلا لكونها خُلقت "أنثى"، فنظرا لضعف وعيها الحقوقي فقد لجأت لإثارة قلق وجودي في ذهن المرأة المسنة عندما صاحت (إنه ربي هو الذي خلقني). و من الصعب الذهاب إلى القول بكونها استندت إلى المرجعية القرآنية في التكريم الإلهي؛ فمستواها محدود و هذا الجانب ضامر في ذهنيتها. و لعل مرد لجوئها إلى استفزاز وجودي للمرأة المسنة هو نداء الفطرة الساطع (إذا كنت كيانا "دون": لا يصلح لأدوار الإنسان؛ فلماذا خلقني الباري إذن؟ ).

الخلاصة؛ إذا أردنا تسوية جادة لقضية الحيف الاجتماعي -غير المنكور- الذي تعاني منه المرأة (الأنثى) في وطننا. فلا مناص لنا من تربية الناشئة و الأجيال الصاعدة على إبراز التكريم الإلهي للإنسان (من حيث هو إنسان) و على التحرر من كل أثقال التقاليد الراكدة التي ليس لها بالدين صلة. و هذا هو المدخل الآمن لتلافي نزوع الفتاة المسلمة، بعد تنامي وعيها الحقوقي في سن الرشد، إلى الصدام  مع الدين كلية و قطعياته الواضحة. فمنطق العصر الحديث و سنن التاريخ، لا ترحم و لا تنتظر أحدا !


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



يتجه منطق الحضارة الحديثة إلى الإقبال على إنتاج ( و من ثم استهلاك) مختلف الإنتاجات الفنية، و على الأخص، إنتاج الأفلام و الأغاني. لأن هذه الفنون تُمكن، بشكل مدهش، من أسر المتلقي بالمعاني و القيم و الأحلام و الرسائل الثاوية فيها. و بالتالي، فأي دعوى ل"رفض" الفيلم و الأغنية هكذا أصالة، لن يكون لها مستقبل سوى الهامشية و قارعة التاريخ.
و لا شك أن الآخر، المختلف عنا و الذي يقود زمام الأمور في عالمنا، يخصص ميزانيات ضخمة لهذه الأعمال الفنية و يؤهل متخصصين خبراء في دواليبها منطلقا من رؤية معرفية واضحة للإنسان الذي يتغيا نحت طرازه بواسطتها. بالمقابل، تتسم الأعمال الفنية في بلداننا، في أغلبها، بوصف جامع هو "غياب البوصلة"؛ أي أنها تفتقد لحلم و رؤية معرفية ناظمة على أساسها توجه العمل الفني. و ربما كانت فلسطين، مرة أخرى، هي التي شذت عن هذه القاعدة. لأن أبناء فلسطين الأبرار يجمعهم حلم واحد و تلحمهم قضية واحدة و من ثم، فهم على الأقل، يتوفرون على بوصلة أولية تضبط سير الأعمال الفنية.
لهذا كله؛ ليس غريبا أن نرى قناة الأقصى الفلسطينية تنتج أفلاما جد متميزة، في ظل ظروف صعبة من أرض غزة العزة.  في شهر رمضان الأبرك، حين يحلو عادة للمخرجين السينمائيين قصف المشاهد المسلم بمشاهد تنضح بالجراءة و الإسفاف. اختارت "الأقصى" عنوان المقاومة و أنتجت مسلسلين متتاليين: الأول هو مسلسل (الروح) في رمضان 1435 هجرية (سنة 2014). الثاني هو مسلسل (الفدائي) في رمضان 1436 هجرية (سنة 2015). أترك تقييمها الفني للمشاهد (فبإمكانه متابعتها على قناة اليوتيوب)، و أكتفي بملاحظات على مستوى المضمون و الرسائل.
نجحت "الأقصى"عن طريق عنوان المقاومة أن تقوم بعملية تربية صامتة للمشاهد. فالرسالة الأولى التي قامت بإيصالها هي أن العدو الصهيوني محكوم عليه بالإعدام، لا محالة، مادامت النفوس متحررة من آثار محاولات الاحتلال النفسي الصهيوني و بشكل أعم مما تحدث عنه المرحوم عبد الوهاب المسيري (الامبريالية النفسية). فمسلسل "الفدائي" لفت الانتباه بالخصوص إلى معان عميقة من قبيل التراحم و التكافل الاجتماعي و التآزر بين أبناء حارة الفدائي و هي بدون شك غصة في حلق الاحتلال (الصهيوني) النفسي الذي يسعى لإيجاد الشقاق و افتعال الصراع و إشاعة قيم التعاقد و الاستهلاك. كذلك المسلسل تناول مسألة محورية (الصلاة) في حياة المسلم في عدة مواضع. أما بخصوص القضية التي تثير النقاش دوما و هي مسألة "الزي"؛ فأكيد أن المسلسل، بشكل صامت و بدون صخب، أثبت زيف الدعوى التي يشيعها أهل الأفلام السينمائية في بلداننا. دعوى لا تمل من تكرار أن عرض النساء بزي محترم مدعاة لنفور العديد من المشاهدين من متابعة الفيلم و بالتالي إيذان ببوار تجارة أصحابه. هنا، مسلسل "الفدائي" كسر هذه الأسطورة و عرض النساء اللائي مثلن أدوار الصهيونيات بتفرقة بين زيهن و أزياء المسلمات لكن بدون جراءة لا معنى لها. إن الفكرة واضحة: الفيلم الذي لا يتجاوز أفق منتجيه جدار الربح و التجارة، أكيد أن "الإثارة" هي المطية المريحة نحو الهدف، أما  الفيلم  الذي لا يهجسه الربح قبل هدف إيصال رسالة أو بناء وعي و تربية وجدان – و هو النموذج الذي نفتقده في بلداننا- ، فمن المؤكد أن "الإثارة" المجانية و المتاجرة بالأجساد لا معنى لها آنئذ و بالتالي فالفيلم  سيتجنبها.
 ذهبت رياح المسلسل (الفدائي) بعيدا حينما أثار قضية جادة و هي التعاون بين المسلمين الفلسطينيين الوطنيين و المسيحيين الفلسطينيين الوطنيين على قاعدة المشروع الوطني التحرري المشترك الذي يتصدره الدفاع عن المقدسات كيفما كانت (هذا يتضح في قصة الدكتور المسيحي "يوحنا" الذي كان نعم السند و النصير للمقاومين و بسبب ذلك تعرض للأسر).
إن أمثال هذه الأفلام و المسلسلات التي لا تحيد عن القضية قيد أنملة هي الكفيلة ببناء الحد الأدنى من الوعي التحرري المقاوم في صفوف ناشئتنا. بل حتى في صفوف كبارنا و مثقفينا. فهذا الأستاذ المقرئ الإدريسي أبو زيد، أحد أبرز المهتمين بالقضية الفلسطينية في المغرب و الممثل الوحيد عنه في أسطول الحرية الأخير، يعترف صراحة في حوار مع قناة الإصلاح (في الشبكة العنكبوتية) – على هامش المؤتمر الثاني عشر للندوة العالمية للشباب الإسلامي الذي أقيم في مراكش هذه السنة-: إنه رغم كونه يعتبر نفسه خبيرا بخبايا القضية و أصولها ومستجداتها، فإن مشاهدته لفيلم وثائقي يضفي معان جديدة و عميقة على درايته المعرفية.

إن الفيلم المقاوم، لكونه ينطلق من حلم واضح يتعلق باستعادة الأقصى و مشروع التحرير، تميز في الأداء و في إيصال الفكرة و الرسالة.  فلا مندوحة لنا، إذن، في أوطاننا من تبني حلم مشترك على أساسه نوجه أعمالنا الفنية لتفوز بالريادة. و جلي أن حلمنا المشترك في هذه المرحلة التاريخية هو التحرر من أوهاق الفساد و الاستبداد و استكمال بناء الصرح الديمقراطي: فلتعمل، إذن، أعمالنا الفنية على ترجمة هذا الحلم !
...تابع القراءة