| 1 التعليقات ]





يثبت بن نبي في كل مرة أنه فلتة، فهو يناقش جوانب في محيط علم الاقتصاد في كتاب (المسلم في عالم الاقتصاد)، ويطرق باب علم الاجتماع إذ يتناول سنن انحلال شبكة العلاقات الاجتماعية في كتاب (ميلاد مجتمع)، ويلامس ميادين علم النفس في سياق معالجته ل(مشكلة الثقافة)، وهو قبل كل هذا مهندس كهربائي وصحفي في جريدة (لوموند) الفرنسية.

انشغل في كتاب (ميلاد مجتمع) بمسألة في غاية الأهمية تتصل بتحولات العلاقات الاجتماعية. استدعى في ذلك التجربة الإسلامية التاريخية للتوضيح والعبرة، فكانت تلك التجربة أحسن بيان.

العلاقات الاجتماعية السليمة هي تلك التي تكون فيها الأفكار فاعلة ومؤطرة وجامعة لعلاقات الأشخاص مما يمنحهم قدرة على إنتاج الأشياء التي تتطلبها معارك الحياة اليومية. هي التي تكون فيها العلاقات بين الأشخاص مبنية على أهداف مشتركة وسامية.

أما العلاقات الاجتماعية الفاسدة فهي التي تصاب  فيها الذوات بالتضخم، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعبا أو مستحيلا، إذ يدور النقاش حينئذ لا لإيجاد حلول للمشكلات، بل للعثور على أدلة وبراهين، يقول بن نبي: "في حالة الصحة يكون تناول المشكلات من أجل علاجها هي، أما في الحالة المرضية فإن تناولها يصبح فرصة لتورم (الذات) وانتفاشها، وحينئذ يكون حلها مستحيلا، لا للفقر في الأفكار أو في الأشياء، ولكن لأن شبكة العلاقات لم تعد أمورها تجري على طبيعتها".

عندما تفسد شبكة العلاقات الاجتماعية ويكون المجتمع مريضا، لا يهتم أحد بالمشكلات الواقعية، بل يكون الاهتمام منصبا على قضايا تجريدية خيالية، كما كان الوضع في عهد الانحطاط وفي كل عهود الانقباض، فعوض أن يطرح نخبة المجتمع (الفقهاء) آنذاك مشاكل الاستبداد السياسي والاجتهاد الفكري الفقهي وغير ذلك راحت تلك "النخبة" تطرح مشكلات من قبيل التساؤل حول "جنس الملائكة" أو "حكم التوضؤ بعد وطء البهيمة"... إلخ.

وفي محاولة منه لتوظيف البرهان بالخلف، يقول بن نبي: بوسعنا أن نتخيل ما كان يمكن أن يحدث ــ في مجتمع مريض ــ لو أن خليفة من طراز عمر بن الخطاب أراد أن يعزل رجلا كخالد بن الوليد من قيادة جيش الشام !! إن محاولة كهذه كفيلة بزلزلة العالم الإسلامي لو أنها حدثت بعد ذلك بقرنين أو ثلاثة قرون فحسب. ولكن (الأنا) الإسلامية كانت في العهد الأول سليمة سوية، فكان (فعل) عمر دون عقدة، وكان (رد فعل) خالد دون عقدة ايضا. لأن علاقاتهما كانت سوية منزهة".

إذا فسد عالم الأشخاص في مرحلة ما، فالأفكار لا تقوم بدورها والأشياء تفقد فعاليتها الاجتماعية. فمنذ القرون الغابرة، اكتشف عالم مسلم "الدورة الدموية" واكتشف عالم آخر "سنن العمران"؛ ولكن كل الاكتشافات العلمية التي تحتضن أفكارا جديدة وتنتج أشياء بديعة لم يكن لها صدى آنذاك في المجتمع لأن بنية الاستقبال كانت متردية. وفي المقابل، نجد -على سبيل المثال- أن بعد "ابن خلدون" تقريبا بقرن،  جاء  "ميكيافيل" وردد خلاصات شبيهة ل"المقدمة" في كتاب "الأمير"، ولكن لما توفرت له بنية استقبال جيدة تضم حاضنة اجتماعية تتقوى شبكة علاقاتها الاجتماعية صار اسم "ميكيافيل" محلقا في سماء العلوم السياسية مع الانقلابات العميقة التي أحدثها فكره في ذهنية المجتمع الأوروبي.

لن نفهم جيدا ما يقوله بن نبي في هذا الكتاب إلا باستحضار التنظيمات الاجتماعية (حركات، أحزاب، نقابات، جمعيات كبيرة) فهي مجتمعات مصغرة تعتريها سنن نمو شبكة العلاقات الاجتماعية. 

فعندما يلتئم أبناء التنظيم الاجتماعي حول فكرة مفارقة مؤطرة لأهدافهم المشتركة يكون العمل منتجا ومفيدا للمجتمع وتكون المردودية مرتفعة. أما حينما تتضخم ذوات بعض الأشخاص وتغلب نزعاتهم ومصالحهم الشخصية المصلحة العليا (=مضمون الفكرة الجامعة) التي من أجلها بُنيَ التنظيم أصلا، تبدأ شبكة العلاقات الاجتماعية المشكلة له في الانحلال، وتكون محطة الوصول إلى نهاية التنظيم قريبة (نهايته كفكرة، أما الهيكل فيبقى). آنذاك المبادرات الفردية اللامعة التي تبشر بأفكار جديدة أو إسهامات رائقة لن يكون لها أي صدى لأن بنية الاستقبال (داخل التنظيم) للأفكار الجديدة صارت في عداد الموتى!

قرأ بن نبي منذ نعومة أظافره، منذ أن كان عمره 16 سنة، ابن خلدون وشغف به. فراح يتأمل في الواقع سنن وفاة مجتمع، تماما كما تأمل ابن خلدون سنن وفاة دولة، ولكن حري بنا نحن لنستفيد أن نستخلص الدرس الكبير لنمنع وفاة (روح) التنظيمات (وليس هياكلها) فهي أس المجتمعات المعاصرة. ولكن هيهات أن يقع الإنقاذ إذا فات الأوان!  

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]






كتب (مالك بن نبي) كتابه "المسلم في عالم الاقتصاد" عام 1972 قبل وفاته بشهور. ويجسد الكتاب بحق ألمعية بن نبي وموسوعية هذا المهندس الكهربائي.

لم يفوت بن نبي الفرصة  للتعبير عن سروره بطالب مسلم في أمريكا تفوق في معالجة موضوع (الاستثمار بلا ربا)، ولكنه يستدرك "يا حبذا لو بذل صاحبه الاجتهاد في اكتشاف طريق آخر ما عدا الاستثمار المالي لدفع عجلة الاقتصاد".

يلح بن نبي على أن العالم الإسلامي ينبغي أن يستثمر نقط قوته خاصة "الثديين" اللذين يتميز بهما عن غيره (الزراعة والمواد الأولية)، كما أن عليه الانطلاق من إصلاح زراعي قوي يوفر له فائض الإنتاج لفتح قنوات التصنيع.

أن يناقش بن نبي (التصنيع) و(الإصلاح الزراعي) و(الفائض) و(الإنتاج) في الستينيات وفي بداية السبعينيات، في الوقت الذي كان فيه الفكر الإسلامي المعاصر في الشأن الاقتصادي يكتفي بالانطلاق من سرد النصوص الشرعية والتجارب التاريخية المشرقة ليُطَمئن الناس بأن الإسلام سيحل مشاكلهم الاقتصادية؛ فذلك دليل كاف على أن بن نبي كان "فلتة" في هذا الوسط وكان مشدودا إلى الواقع بلا مجافاة للنص.

كتب في الجانب الاقتصادي على ضوء الإسلام بداية (أبو الأعلى المودودي)، تلاه (سيد قطب) في "العدالة الاجتماعية في الإسلام" و"معركة الإسلام والرأسمالية". ثم كتب (محمد الغزالي) "الإسلام والأوضاع الاقتصادية". وجاء (يوسف القرضاوي) إلى نفس الموضوعات بعدة كتب منها (مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام) بالإضافة إلى أطروحته للدكتوراه (فقه الزكاة)... إلخ.

كتب (مالك بن نبي) "المسلم في عالم الاقتصاد" في نفس سياق ظهور هذه الكتابات (أي الفترة التأسيسية في "الفكر الإسلامي المعاصر" الممتدة من الأربعينيات إلى السبعينيات). ولكن طرحه مختلف عن باقي الطروحات نظرا لتباين التكوين والتجربة والإطار الفكري  بينه وبين أولئك الكبار.

أولئك يرددون بأن للإسلام وصفة إذا ما طبقت على أي واقع فستعالج حتما أعطابه الاقتصادية (الفقر، الاستغلال، البطالة...إلخ). تدور هذه الوصفة في فلك: عدم التعامل بالربا والاحتكار، وإعطاء الزكاة. بينما بن نبي كان يرى الواقع ويقرأ أعطابه على ضوء مفاهيم علم الاقتصاد، ثم يفكر وفق رؤية أشمل تندرج ضمن العلوم الاجتماعية بكليتها (وليس فقط علم الاقتصاد)، بدون أن يغفل ما يؤمن بأنه يندرج ضمن الحدود التي لا ينبغي تجاوزها في تعليمات الدين.

يقدم بن نبي تحليلات مثيرة، تتساوق مع مشروعه العام الذي يضم (مشكلة الثقافة) و(مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي)؛ فهو يعتبر أن المشكلات لها اصول نفسية وثقافية وليس أصول اقتصادية. ففي ظنه يسود في العالم الاسلامي  مفهوم (الزهد)، بينما يسود في العالم الاشتراكي مفهوم (الحاجة) ولهذا يقوم توازنه على أساس مبدأ الإنتاج والاستهلاك، أما في العالم الليبرالي فيسري مفهوم (المنفعة) الذي يقوم توازنه على قانون العرض والطلب.

خطأ بن نبي يكمن في أنه يخلط بين القانون الموضوعي والثقافة الذاتية. فقانون العرض والطلب لا علاقة له بالعالم الليبرالي فهو قانون حاكم للأسواق الاقتصادية في مختلف أنحاء العالم منذ القدم. كما أن مبدأ الإنتاج والاستهلاك حيث يتم إنتاج سلع/خدمات توفر أرباحا تُخصص للادخار في أفق تدوير الاستثمار بينما يوجه الجزء الأكبر للاستهلاك ليس قانونا متصلا بالعالم الاشتراكي بل هو قانون يعمل به كل المنتجون والمستهلكون في كل أنحاء العالم سواء كانوا أفراد les ménages أو مقاولات.

ولكن صحيح أن الدين قد يرسخ، باعتباره مكونا فاعلا من مكونات الثقافة، بعدا من أبعاد السلوك الاقتصادي عند الفرد أو الجماعة فيدفعه إلى "الزهد" عن الاستهلاك المكثف فيميل إلى الادخار أكثر وتوجيه أمواله لتُكون رأسمالا للاستثمار، أو قد يدفعه الدين (أو الثقافة بشكل عام)  للادخار بدل الاستهلاك للإنفاق على المحتاجين.

وصحيح كذلك أن الثقافة (ومكونها الرئيس هو الدين) هي التي تحسم في جينات الفرد أو الجماعة، هل سيعمل بشعار "يعيش ليأكل" أم بالمبدأ المقابل "يأكل  ليعيش"؛ وبين هاتين العبارتين ما بين السماء والأرض من الفروق. لكن القوانين الموضوعية لعلم الاقتصاد وعلى رأسها (قانون العرض والطلب) لا علاقة لها بالمشكلات النفسية أو الثقافية.

ويبدو أن الفكرة التي يريد بن نبي إيصالها، عبر هذا التحليل، هي أن العالم الإسلامي وإن كانت تعوزه الإمكانات المالية فلا تنقصه الإمكانات الاجتماعية. ولهذا عليه أن يتحرر من الارتهان -على مستوى التفكيرـ  للرأسمالية التي تجعل "المال" هو المحرك الوحيد لعجلة الاقتصاد. فهو يستطيع أن يعوض النقص في "رأس المال" بتقوية "العمل" ومراكمته بهدف الإنتاج؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا بتغليب ثقافة "الواجبات والإنتاج أولا" على ثقافة "الحقوق والاستهلاك أولا"، بالإضافة إلى استثمار رصيد ثقافة "الزهد". ويستشهد بن نبي دائما بمثالين بارزين هما: ألمانيا، والصين. الأولى فقدت كل شيء بعد الحرب العالمية الثانية ولكن شعبها لم يفقد روحه المتوثبة للعمل ولو بأجر منخفض (نظرا للنقص الحاصل في الإمكانات المالية بسبب خسائر الحرب)، ولهذا أقلعت بسرعة من جديد. أما الصين فهي أحدثت ثورة ثقافية تجند فيها الناس للعمل فبنوا البنى التحتية والسدود فأحدثوا معجزة القرن بحسب بن نبي.   

ويستشهد بن نبي من الآثار الإسلامية بقصة النبي صلى الله عليه وسلم مع المتسول الذي أتى يسأل يوما (لقمة عيش) كان من (حقه) أن يأخذها من المجتمع، بنص القرآن الكريم في الزكاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أدرى الناس بتطبيقه، كما كان صلى الله عليه وسلم أجود من الرياح السخية في الربيع لتقديم هذه اللقمة غلى مسكين جاء يطلبها. لكنه أشار إلى صحابته بأن يجهزوا هذا الفقير ليحتطب، وأشار إلى الرجل بأن يحتطب ليأكل من عمل يده فيكون في نفس الوقت منتجا وقائما بالواجب.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





اندلعت احتجاجات اجتماعية بأفق سياسي في إيران منذ يوم الخميس المنصرم. لم يفوت الرئيس الأمريكي ــ دونالد ترامب ــ الفرصة ليعبر عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن إيمانه  بالحقيقة الأكيدة "لا مستقبل للأنظمة الطاغية".

في يوليوز المنصرم، كتب رئيس جامعة "أكسفورد" البريطانية (كريس باتن) مقالا تحت عنوان "الغرب وسياسته الخارجية الفاسدة" يبكي فيه على "تسامح" الدول الغربية مع الصين وتركيا رغم أنهما دولتين تنتهكان حقوق الإنسان وتضطهدان المعارضين.

يحتضن الغرب كيانا يغتصب الشجر والحجر والإنسان والعمران، ولا يعترف أصلا بحكاية حقوق الإنسان، ويعرف لغة واحدة هي رمي "المعارضين" (=الخطوط التحررية المقاومة والمتعاطفين معها في كل أنحاء العالم) بتهمة "الإرهاب" قبل تعريضهم لألوان مختلفة من التعذيب والاضطهاد الوحشي.

ينخرط الغرب في حروب يومية في مختلف بقاع العالم، ينتهك فيها حرمة المدنيين ويُجهز فيها على المستضعفين. ويحتفظ لنفسه بسجون سرية (غوانتانامو، أبو غريب... إلخ) يقدم فيها لضحاياه صورا قريبة من أهوال الجحيم.

طبعا، إنه الغرب!

تركيا، وإيران، والصين، وغيرها من الدول القوية وذات التجارب التنموية المستقلة (والتي مازالت تعرف مدا وجزرا في تجاربها الديمقراطية) هي في مرمى أصحاب دروس "حقوق الإنسان" و"لا مستقبل للطغيان" و"حبل الاستبداد قصير" (دونالد ترامب، وكريس باتن... إلخ).

أما العدو الصهيوني والدول التابعة له والفاشلة على كل الأصعدة (السعودية، الإمارات، مصر... إلخ) فمستقبلها بوصفها أنظمة تجسد الطغيان؛ صار مرتبطا بمعادلة أخرى. ولهذا لم تعد المعادلة الأولى (الاستبداد والطغيان = النهاية والسقوط) صحيحة كما هو الحال في حالة الصين وتركيا وإيران... وغيرها من الدول المستقلة التي تتلمس بثبات طريقها إلى كسب رهانات "التنمية" و"الديمقراطية".

للأسف! فاللجوء إلى تغيير المعادلة وفق المقاس ليس مرضا غربيا فحسب بل هو داء مُعدي يكاد يخترق جميع الأنظمة!

بثت القناة الثانية المغربية في النشرة الإخبارية في وقت الذروة ليوم الأحد 31 دجنبر أنباء عن احتجاجات في إيران. نسيت قناتنا احتجاجات الحسيمة قبل شهور وغفلت عن حراك زاكورة ولم تسمع ربما عن وقائع جرادة الأليمة! قناتنا تذكرت فقط إيران!

قناة الجزيرة حينما كانت تبعث مراسليها في مختلف أرجاء العالم، التقطت إشارات عن جميع الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية السلمية في جميع البلدان، ولكن للأسف الشديد لم تتمكن أجهزة الرصد الخاصة بها من الوصول إلى حراك الشمال المغربي لأن حاضنتها قطر كانت تتلقى مساعدات "رمزية" من المغرب في عز الحصار!   

للأسف! هذا الداء ليس لصيقا بمختلف الأنظمة السياسية في العالم فحسب، بل هو داء مُتَمَكن من العديد من الهيئات السياسية والنقابية والثقافية!

أثناء المفاوضات حول مكونات الائتلاف الحكومي بعد انتخابات 25 نونبر 2011، استضافت التلفزة المغربية فتح الله ولعلو للحديث عن مبررات رفض "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" الانضمام إلى التحالف، فقال: أولا الاتحاد حريص على وضوح التحالفات وانسجامها الإيديولوجي والسياسي (رغم أن الرجل نفسه كتب في كتابه "نحن والصين" الصادر عام 2017، مشيدا بالإصلاح الصيني الذي قام بتجاوز مخلفات العهد الإيديولوجي الذي قاده "ماوتسي تونغ" والذي انطلق مع "دينغ شياو بينغ" في ثمانينيات القرن الماضي القائم على أولوية الاقتصاد على الإيديولوجيا والسياسة)، ثانيا الاتحاد مدرسة في المعارضة  وبالتالي فهو حريص على إعادة الوهج لهذا الموقع تنزيلا لما جاء في دستور 2011.

عشنا حتى فوجئنا بالاتحاد الاشتراكي نفسه يشكل "حجر عثرة" غير مسبوق في تاريخ مفاوضات تشكيل الحكومات. ليس لأنه يصر على أن يبقى "مدرسة في المعارضة"! ولكن لأنه يصر على أن يكون عضوا في "الأغلبية" رغم أنف قائدها!

في أحد الحوارات المنشورة على موقعه الالكتروني، لا يجد إدريس لشكر حرجا في الإشادة بعبد الرحمان اليوسفي ومحمد اليازغي لأنهما تحملا مسؤوليتهما بشجاعة فاستقالا من مهام الكتابة الاولى للحزب بعد أن فشلا في تدبير مخرجات نتائج الانتخابات (اليوسفي في 2003) و(اليازغي في 2007). للأسف لا نجد لهذه الإشادة صدى في السلوك السياسي لإدريس؛ فهو لم يفشل في تدبير مخرجات الانتخابات فحسب، بل فشل في تقديم عرض سياسي جيد يجسد هوية الاتحاد السياسية مما أدى به إلى فقدان الفريق البرلماني أيضا! فماذا ينتظر السيد إدريس ليستقيل أسوة بالكبار اليوسفي وأستاذه اليازغي!

 إن الناظر إلى الداء الذي صار يخترق الجميع "داء ازدواجية/تثليث/ تربيع.. تعديد المعايير" لا يملك إلا أن ينحاز إلى خيار المقاومة (=مقاومة أمراض الازدواجية والتناقضات الصارخة)، وأن يرفض خيانة القيم التي اختار عن طواعية الاحتكام إليها في كل خطوة.
  
...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]






يثار باستمرار الحديث عن استهداف دولتنا لطريق القوة والتقدم والازدهار. لكن اليوم بات من الصعب الاستمرار في مسار التحليق في التجريد في تناول معاني "القوة" التي نريد.

في علم الاقتصاد السياسي، تقاس قيمة سلعة bien ما ببعدين؛ قيمتها الاستعمالية وقيمتها التبادلية. يبدو أن هذه الثنائية تصلح لتقريب المقصود ب"القوة" التي يفترض أن نسعى إليها. وعليه، فالدولة القوية، حسب هذا المنطلق، هي التي تنتج قيما مادية ورمزية تتمتع بالجاذبية الكافية للاستعمال والإغراء القوي للتبادل.

على مستوى القيم المادية؛ أن تكون دولة "قوية" يعني:

ــ أن تنتج منتوجات فلاحية (الحبوب، الخضر، الفواكه، اللحوم، الدواجن، الأسماك... إلخ) صحية قابلة للاستهلاك الذاتي وقادرة في نفس الوقت على الصمود في السوق التبادلية الدولية بفعل جودتها وتكلفتها الملائمة.

ــ أن تنتج منتوجات صناعية (النسيج، الطاقة، وسائل النقل، وسائل الاتصال، الأدوية... إلخ) مغرية للاستعمال الذاتي وصامدة أمام التنافس العالمي بل خليقة بكسب رهان النزال في السوق الدولية التبادلية.

ــ أن تنتج خدمات (تجارية، بنكية، الكترونية، معلوماتية، شبكة طرق، مرافق عمومية، وبنيات تحتية... إلخ) تتمتع بالجودة المطلوبة وسهولة الاستعمال اللازمة، علاوة على القابلية للتدويل والتبادل بحكم تميُزها وفرادتها.

على مستوى القيم الرمزية؛ أن تكون دولة قوية يعني:

ــ أن "تنتج" نموذجا دينيا ملهما قابلا للاحتضان والانتشار في صفوف الشعب يصالحهم مع الدنيا ومع الآخرة، وقابلا في نفس الوقت للتصدير وجذب الاهتمام وتعزيز مسار العدل والتعايش على المستوى العالمي.

ــ أن "تنتج" لغة تحظى بالاحترام والاستعمال الكبير على المستوى الداخلي من طرف الشعب، وقادرة أيضا على "السفر" إلى خارج تراب الدولة بعد اندراجها ضمن اللغات العالمية (التي يرتفع حجم الكتلة البشرية المحتضنة لها وحجم ما يتم تبادله بها من معارف وسلع وخدمات).  

ــ أن "تنتج" هوية جذابة تتجلى في العناية بالذاكرة (الأسماء والأحداث التي بصمت منعطفات التاريخ) وبالمآثر التاريخية وبالمناطق العريقة وبالفلكلور الشعبي وبالمدن العتيقة وبالنظافة وبالبنى التحتية الأساسية؛ تكون نقطة لارتكاز السياحة الداخلية ومنارة للسكان للاسترواح ونبراسا للأجيال لشحذ الهمم، وتكون في ذات الوقت قطب جذب ل"السياحة" العالمية وتحريك الاقتصاد.

ــ أن تنتج مواهب وأسماء في الفنون (الموسيقى، الرسم، المسرح، السينما... إلخ) والأدب (الشعر، القصة، الرواية... إلخ) تحظى أعمالها بالمتابعة والاحتضان على المستوى المحلي في صفوف الشعب لأنها تصوغ الوجدان، وتحوز في نفس الوقت على قلوب الملايين (إن لم يكن الملايير!) من الناس على الصعيد العالمي في مختلف الأصقاع والبقاع تشغف بتبادل هذه الأعمال.

ــ أن تنتج مواهب في "الرياضة" بمختلف ألوانها تدلف إلى أفئدة الشعب الذي خرجت من رحمه، وتفوز في المنازلات القارية والدولية وتنال شهرة عالمية؛ تتمتع بلياقة عالية وأخلاق سامقة ونزاهة مشهودة.

ــ أن تنتج "مهندسين" في عالم الاشياء من الأدمغة العاكفة على تقديم الابتكارات الجديدة من براءة اختراع (في الصناعات التكنولوجية المتطورة: الهواتف "الأذكى"، الحواسيب الآلية، المعدات الجديدة المُيَسرة، المرفهات الممتعة للناس، السيارات البيئية، الطائرات المريحة والآمنة... إلخ) إلى الكشوفات العلمية الجديدة في مختلف العلوم (الفيزيائية والطبيعية، الإنسانية والاجتماعية) التي تفتح مغالق محجوبة في عالم الكون والإنسان.

ــ أن تنتج "مهندسين" في عالم الأفكار ينحتون مقولات عميقة ومرَكزة تكثف المعاني فتلتصق في وجدان الشعب، ويتلقفها الناس حول العالم ويستشهدون بها في أحاديثهم وخطاباتهم. 

هي رهانات كثيرة تنتظرنا، طالما ندندن على شعار "القوة" و"التقدم" و"الازدهار"، لا شك أن السواعد والعزائم والهمم التي ينجبها شعبنا والتي تطويها أرضنا قادرة على النزال. ولكن، حالما تصبح إدارة "دولتنا" مُترجمة حقيقية للعقد الاجتماعي ومُعبرة بجدارة عن إرادة الشعب (=الديمقراطية) يمكن أن نتحدث عن جدول أعمال تنزيل هذه الرهانات. فجدول أعمال بهذا الحجم لن تضعه إدارة دولة مرتبكة في قراراتها وأجنحتها محكومة بآفاق شخصية تعلو على المصلحة الوطنية. وإلى ذلكم الحين، يبقى المجال مفتوحا للمبادرات الفردية الطموحة من المجتمع التي يمكنها أن تسهم في غنى قيمنا الرمزية، أما رعاية إنتاج القيم المادية فهو مؤجل لأجل غير مسمى لأنه موكول حصرا لإدارة الدولة.
 

...تابع القراءة