| 0 التعليقات ]






إذا أردنا أن نكثف جوهر "المشروع الإسلامي" في صيغته النبوية، يمكن القول بأنه مشروع يراهن على "الوازع الداخلي" للفرد في انصلاح أوضاع المجتمع. ويرتكز هذا المشروع على الرقابة الذاتية التي يتمثلها كل فرد يؤمن بالله واليوم الآخر. في ظل هذا المشروع، كانت القيم تنبعث من سلوك الأفراد والجماعة لأن "الله" جل في علاه - عنوان هذه القيم المفارقة حاضر في الضمائر. 

كل الكتابات الحالمة باستعادة هذه التجربة كانت تستشهد بالقصص اللافتة التي تجد فيها المخطئ يندم ويطلب العقاب لنفسه، وتجد فيها "ابن الشعب" يقتص لنفسه من "ابن الحاكم"، وتجد فيها القضاء ينصف اليهودي ويُدين المسلم!

حقا! إنه مشروع "فائق الإنسانية"، ولكنه حلم مستحيل وتجربة تاريخية غير قابلة للإعادة. فبمجرد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ببضعة سنين، ضمُر حضور "الوازع الداخلي"، وصار بعض الناس لا يجدون غضاضة في المجاهرة بالخطأ (بعدما كان الندم يلحق الخطأ مباشرة في التجربة الأولى) والتشهير بالأعراض وقتل عيال الله واحتكار الثروة وتكميم الأفواه وتبذير الأموال. 

فعلا، مشروع بهذه المواصفات هو غاية في الجاذبية والإغراء. إذ تنطمس فيه النوازع السلبية للأفراد وتتهذب غرائزهم المنحدرة، ويعيش المجتمع في ظله في أمان وسلام بدون شرطة، ويعيش الأفراد في أجوائه حريتهم الحقيقية، إذ يتحررون من كل المخاوف ومن كل الأوهام بل ويتحررون من أنفسهم ومن أجسادهم!

لهذا حينما نقرأ القصص المثيرة عن البطولات الاستثنائية التي قادها أبطال تحرروا من كل شيء؛ تحرروا من أجسادهم فتحملوا الصخور على بطونهم في الشمس الحارقة، وتحرروا من رغباتهم فتقاسموا بيوتهم بل وأزواجهم مع إخوانهم... إلخ. نقرأ، ومن فرط اندهاشنا وانشداهنا، نتساءل: هل كل هذه البطولات يقف وراءها "الوازع الداخلي" فقط؟

نعم، إنه  "الوازع الداخلي" الذي يحيل على معان سامقة: الله، القيم، الضمير. إذا استحكم سلطانه في الفرد، طغى على غرائزه فهذبها، فصار بذلك في مأمن من التحلي بصفات ذميمة (الكذب، الخيانة، الأنانية) وفي منأى عن القيام بأفعال شريرة (القتل، العنف، السرقة، الظلم).   

في المقابل، نجد مشروعا عالميا يقوم على "الوازع الخارجي".

يرتكز هذا المشروع على تراكم معرفي كبير انطلق من تشخيص الطبيعة البشرية ونوازعها، وخلُص إلى أنها قائمة على الاستعداد للصراع والميلان للعدوان، فاستخلص أن الحل يكمن في ضرورة إيجاد "الدولة" وبناء "القانون"، أي "الوازع الخارجي". هكذا تكلم "هوبز" في (اللفيثان) وهكذا تكلم "ميكيافيلي" في (الأمير).

 إذن، أفضت الملاحظات/التأملات التي طالت طبيعة البشر إلى أن انصلاحهم مستحيل بدون ردعهم أو تخويفهم بواسطة وازع خارجي (القانون) في إطار الدولة، حيث تُفرض عقوبات متفاوتة على الذين طغت طبيعتهم البشرية فاعتدوا (بالعنف، أو بالسرقة، أو بالقذف أو بالظلم) وتجاوزوا الحد.

في هذا المشروع، يمكن للفرد أن يطلق لغرائزه العنان شريطة أن لا يثير النظام العام الساري في الدولة. في هذا المشروع، لا ثقة في أخلاق الفرد ولا رهان على وازعه الداخلي، ولهذا تُحدث مختلف القوانين التي تضبط بدقة كل حركاته. في هذا المشروع، لا ثقة في قيم الحاكم الداخلية (بمعنى ضميره وعقائده)، ولهذا تُحدث كل آليات الردع والضبط الخارجية (الدستور، المؤسسات التشريعية والقضائية والإعلامية... إلخ). 

في هذا المشروع قد يكون الأفراد أحرارا، بمعنى أنهم قد يتواجدون خارج "السجن"، ولكن غالبيتهم قد يتواجدون في معتقل "الغرائز" (الطمع في المال، أو الجنس، أو الجاه)، لأن في ظله لا أحد يدعو إلى تقوية رصيد القيم الداخلية التي تُحرر الفرد من غرائزه وإنما الجميع يدندن حول السلوك الخارجي الذي يطلق عليه السلوك المدني: احترام القانون، احترام الوقت، احترام البيئة، احترام الآخر، احترام العمل.

على كل حال هو مشروع ناجح يتمدد باستمرار، ومن يدري قد يكون فعلا هو نذير نهاية التاريخ!

إذا كان مشروع تثبيت "الوازع الخارجي" (القانون) هو ديدن الدولة الحديثة التي لا يمكن الفكاك منها، فيتعين علينا العمل على تنمية "الوازع الداخلي" (القيم) في المجتمع باعتبارنا مجتمع مدني أو مثقفين.  




0 التعليقات

إرسال تعليق