| 0 التعليقات ]






كتب (مالك بن نبي) كتابه "المسلم في عالم الاقتصاد" عام 1972 قبل وفاته بشهور. ويجسد الكتاب بحق ألمعية بن نبي وموسوعية هذا المهندس الكهربائي.

لم يفوت بن نبي الفرصة  للتعبير عن سروره بطالب مسلم في أمريكا تفوق في معالجة موضوع (الاستثمار بلا ربا)، ولكنه يستدرك "يا حبذا لو بذل صاحبه الاجتهاد في اكتشاف طريق آخر ما عدا الاستثمار المالي لدفع عجلة الاقتصاد".

يلح بن نبي على أن العالم الإسلامي ينبغي أن يستثمر نقط قوته خاصة "الثديين" اللذين يتميز بهما عن غيره (الزراعة والمواد الأولية)، كما أن عليه الانطلاق من إصلاح زراعي قوي يوفر له فائض الإنتاج لفتح قنوات التصنيع.

أن يناقش بن نبي (التصنيع) و(الإصلاح الزراعي) و(الفائض) و(الإنتاج) في الستينيات وفي بداية السبعينيات، في الوقت الذي كان فيه الفكر الإسلامي المعاصر في الشأن الاقتصادي يكتفي بالانطلاق من سرد النصوص الشرعية والتجارب التاريخية المشرقة ليُطَمئن الناس بأن الإسلام سيحل مشاكلهم الاقتصادية؛ فذلك دليل كاف على أن بن نبي كان "فلتة" في هذا الوسط وكان مشدودا إلى الواقع بلا مجافاة للنص.

كتب في الجانب الاقتصادي على ضوء الإسلام بداية (أبو الأعلى المودودي)، تلاه (سيد قطب) في "العدالة الاجتماعية في الإسلام" و"معركة الإسلام والرأسمالية". ثم كتب (محمد الغزالي) "الإسلام والأوضاع الاقتصادية". وجاء (يوسف القرضاوي) إلى نفس الموضوعات بعدة كتب منها (مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام) بالإضافة إلى أطروحته للدكتوراه (فقه الزكاة)... إلخ.

كتب (مالك بن نبي) "المسلم في عالم الاقتصاد" في نفس سياق ظهور هذه الكتابات (أي الفترة التأسيسية في "الفكر الإسلامي المعاصر" الممتدة من الأربعينيات إلى السبعينيات). ولكن طرحه مختلف عن باقي الطروحات نظرا لتباين التكوين والتجربة والإطار الفكري  بينه وبين أولئك الكبار.

أولئك يرددون بأن للإسلام وصفة إذا ما طبقت على أي واقع فستعالج حتما أعطابه الاقتصادية (الفقر، الاستغلال، البطالة...إلخ). تدور هذه الوصفة في فلك: عدم التعامل بالربا والاحتكار، وإعطاء الزكاة. بينما بن نبي كان يرى الواقع ويقرأ أعطابه على ضوء مفاهيم علم الاقتصاد، ثم يفكر وفق رؤية أشمل تندرج ضمن العلوم الاجتماعية بكليتها (وليس فقط علم الاقتصاد)، بدون أن يغفل ما يؤمن بأنه يندرج ضمن الحدود التي لا ينبغي تجاوزها في تعليمات الدين.

يقدم بن نبي تحليلات مثيرة، تتساوق مع مشروعه العام الذي يضم (مشكلة الثقافة) و(مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي)؛ فهو يعتبر أن المشكلات لها اصول نفسية وثقافية وليس أصول اقتصادية. ففي ظنه يسود في العالم الاسلامي  مفهوم (الزهد)، بينما يسود في العالم الاشتراكي مفهوم (الحاجة) ولهذا يقوم توازنه على أساس مبدأ الإنتاج والاستهلاك، أما في العالم الليبرالي فيسري مفهوم (المنفعة) الذي يقوم توازنه على قانون العرض والطلب.

خطأ بن نبي يكمن في أنه يخلط بين القانون الموضوعي والثقافة الذاتية. فقانون العرض والطلب لا علاقة له بالعالم الليبرالي فهو قانون حاكم للأسواق الاقتصادية في مختلف أنحاء العالم منذ القدم. كما أن مبدأ الإنتاج والاستهلاك حيث يتم إنتاج سلع/خدمات توفر أرباحا تُخصص للادخار في أفق تدوير الاستثمار بينما يوجه الجزء الأكبر للاستهلاك ليس قانونا متصلا بالعالم الاشتراكي بل هو قانون يعمل به كل المنتجون والمستهلكون في كل أنحاء العالم سواء كانوا أفراد les ménages أو مقاولات.

ولكن صحيح أن الدين قد يرسخ، باعتباره مكونا فاعلا من مكونات الثقافة، بعدا من أبعاد السلوك الاقتصادي عند الفرد أو الجماعة فيدفعه إلى "الزهد" عن الاستهلاك المكثف فيميل إلى الادخار أكثر وتوجيه أمواله لتُكون رأسمالا للاستثمار، أو قد يدفعه الدين (أو الثقافة بشكل عام)  للادخار بدل الاستهلاك للإنفاق على المحتاجين.

وصحيح كذلك أن الثقافة (ومكونها الرئيس هو الدين) هي التي تحسم في جينات الفرد أو الجماعة، هل سيعمل بشعار "يعيش ليأكل" أم بالمبدأ المقابل "يأكل  ليعيش"؛ وبين هاتين العبارتين ما بين السماء والأرض من الفروق. لكن القوانين الموضوعية لعلم الاقتصاد وعلى رأسها (قانون العرض والطلب) لا علاقة لها بالمشكلات النفسية أو الثقافية.

ويبدو أن الفكرة التي يريد بن نبي إيصالها، عبر هذا التحليل، هي أن العالم الإسلامي وإن كانت تعوزه الإمكانات المالية فلا تنقصه الإمكانات الاجتماعية. ولهذا عليه أن يتحرر من الارتهان -على مستوى التفكيرـ  للرأسمالية التي تجعل "المال" هو المحرك الوحيد لعجلة الاقتصاد. فهو يستطيع أن يعوض النقص في "رأس المال" بتقوية "العمل" ومراكمته بهدف الإنتاج؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا بتغليب ثقافة "الواجبات والإنتاج أولا" على ثقافة "الحقوق والاستهلاك أولا"، بالإضافة إلى استثمار رصيد ثقافة "الزهد". ويستشهد بن نبي دائما بمثالين بارزين هما: ألمانيا، والصين. الأولى فقدت كل شيء بعد الحرب العالمية الثانية ولكن شعبها لم يفقد روحه المتوثبة للعمل ولو بأجر منخفض (نظرا للنقص الحاصل في الإمكانات المالية بسبب خسائر الحرب)، ولهذا أقلعت بسرعة من جديد. أما الصين فهي أحدثت ثورة ثقافية تجند فيها الناس للعمل فبنوا البنى التحتية والسدود فأحدثوا معجزة القرن بحسب بن نبي.   

ويستشهد بن نبي من الآثار الإسلامية بقصة النبي صلى الله عليه وسلم مع المتسول الذي أتى يسأل يوما (لقمة عيش) كان من (حقه) أن يأخذها من المجتمع، بنص القرآن الكريم في الزكاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أدرى الناس بتطبيقه، كما كان صلى الله عليه وسلم أجود من الرياح السخية في الربيع لتقديم هذه اللقمة غلى مسكين جاء يطلبها. لكنه أشار إلى صحابته بأن يجهزوا هذا الفقير ليحتطب، وأشار إلى الرجل بأن يحتطب ليأكل من عمل يده فيكون في نفس الوقت منتجا وقائما بالواجب.

0 التعليقات

إرسال تعليق