| 0 التعليقات ]




كنت عازما على التوقف بشكل مؤقت عن الكتابة، في الأسابيع الجارية، لأسباب على رأسها؛ أنني راغب في فرملة عملية التأمل والتفكير (وأنى لي بذلك!) ولأن إيقاع الزمن رهين بالامتحانات ولأن مضمون هذه الأخيرة تغلب عليه المعرفة التقنية ولأن المعرفة التقنية والأسئلة الفكرية لا يلتقيان.. ولأن لنا إدراكا واحدا وعقلا وسمه ذات مرة  وليم جيمس بأنه: انتقائي وجزئي. ولأن واجب الوقت –كما يقول الفقهاء- هو الاستعداد وبذل الوسع في الفهم والاستيعاب. لكل هذا، كان لا بد من النزوع نحو النأي –مؤقتا- عما يحيط بالفكر (تأملا، قراءة، وكتابة). رغم أنني أعترف بكون الأفكار تخامرني غالبا وتحتشد بحدة في مخيلتي طالبة السبيل نحو "الشاشة" و"الكلافيي".
حدث أمر بسيط –في ظاهره- دفعني بإصرار نحو الكتابة.
بينما أنا منهمك في مشاغلي الدراسية، تلقيتُ رسالة هاتفية من الأم الثانية والأخت الكبرى والصديقة الحميمة (ولا أقول العمة لأنها لعبت أدوارا أكبر من أن تُختزل في هذه الرابطة) "أم هيثم" مفادها: السلام عليكم. بفضل الله وقوته ولدت هذا اليوم على الساعة الثانية بعد الزوال ولدا ذكرا. فالحمد لله رب العالمين. ومبروك عليك خالي أيوب مرة أخرى.
قد تبدو الرسالة للوهلة الأولى عادية. وليس غريبا أن يقال ذلك، فمنظور أهل بلادة الحس لا يندهش لشيء ولا يتأثر لأمر ولا يتساءل حول ما وراء الملحوظ والمشهود.
بعدما تلقيت الرسالة، تناسلت الخواطر في ذهني: أُم بعد 6 ساعات من الوضع تتجشم عناء إنباء أخ صغير –متهاون في النهوض بتكاليف الانتساب إلى الأسرة-  بأنها ولدت..
أُم تشتغل بشكل يومي في عيادتها الطبية. لو أرادت أن تجد لها موطئ قدم بين الوجوه النسائية في الساحة السياسية لما خانتها مواهبها ولا طاقاتها ولا استعداداتها. عز لها نظير في الصدق والكرم واللطف والإحسان ودفق الإنسانية. أُم مهمومة دوما بهموم الآخرين ومهجوسة بحل مشاكلهم والنهوض بأوضاعهم: ترجمت معاني الإيثار في سلوك يومي حي. عكست المعاني الإيمانية والصلة العميقة برب العالمين في صورة مشرقة وتدين راشد يأخذ باللب والجواهر.
يا سادة. من هذا الكائن الذي يفعل كل هذا؛ الكائن الذي يتصل بالمولى ويصل الرحم ويتقن العمل ويجيد الصنعة (الطب) ويشتغل يوميا في البيت والعيادة ويتحمل فوق كل هذا آلام الحمل وعذابات المخاض والوضع ويسهر الليالي ذوات العدد طلبا لتنشئة سليمة للوليد..      
يا سادة. بصدق أنا عاجز عن تصور ذرة من ذرات هذا العطاء، فما بالك بإنجازه! 
في سياق ذات صلة، أجد إحدى قريباتي كذلك تتحمل وعثاء التنقل إلى معهد الدراسة كل يوم (بما في ذلك إمكانية التعرض للمضايقات والمعاكسات)، تجتهد في النفاذ إلى متطلبات درسها، تحاول قدر طاقتها التعاطي مع الكتاب والمطالعة المنتظمة، قوية الصلة بالقرآن الكريم وقبل ذلك برب العالمين، وتتعب في أعباء البيت بعد العودة.
يا سادة. إنني عاجز عن بلوغ هذا المقام وعن الإتيان بهذه الأعمال الجسام. إن الأنثى تستحق حقا أن تكون الجنة تحت أقدامها. إن الأنثى هي الإنسان.
وإذا كان المطلعون على مسيرة البشرية يرون بأنها استدبرت المرحلة العضوية والمرحلة العاطفية وأنها قد دشنت المرحلة العقلية، يقول جوستاف لوبون: يمكن تصنيف الظواهر التي تبديها الكائنات الحية في عدة فئات تتراكب اليوم، لكنها كانت تتعاقب بطء في الزمن: أولا، ظواهر حياتية (تغذية، تنفس...). ثانيا، ظواهر عاطفية (مشاعر، أهواء...). ثالثا، ظواهر عقلية (تفكير، محاكمة...). وهذه الأخيرة ظهرت بشكل متأخر من تاريخ البشرية(1). إذا كان الأمر كذلك، فإنه لا مندوحة في مرحلتنا الأخيرة من الاحتفاظ بعواطف مشبوبة مؤطرة بشكل عقلاني. لأن عالم العواطف هو الذي يعكس جانبا هاما من إنسانية الإنسان وهو الذي يبرز اتجاهه التراحمي والاجتماعي. أضف إلى ذلك، ما تنطق به الحياة من تعاسة وما تطويه من جفاء وجفاف في ظل صمت العواطف وانعدام آثارها الحيوية على سلوك الإنسان.   
ونظرا لانغمارها في عالم العواطف، مما يمدها بطاقات معنوية عالية للإقبال على تحمُل أعباء النهوض بمنجزات استثنائية بروح إنسانية متدفقة. تبقى الأنثى هي الإنسان. لأنه لا إنسانية بدون الخروج من الأنا والميل نحو الأرحام -والناس عموما- بالمودة والكرم والإحسان.  وقد قال أحدهم: لا أتصور عالما بدون العظماء الذين يضحون ويعانون –في مختلف المجالات- لتستمر الحياة. يا سادة. إن الأنثى على رأس هؤلاء العظماء.  

(1) غوستاف لوبون، الآراء والمعتقدات: نشوؤها وتطورها، دار الفرقد، سوريا، الطبعة الأولى، 2014،ص:57.

...تابع القراءة