| 0 التعليقات ]






مما لاشك فيه أن حلول ذكرى ( محطة تارخية معينة ) تكون مدعاة  للتوقف و التأمل في ما تحويه الذاكرة من سامق الأحداث و فرصة لتقدير التاريخ النابض المُشكل لحاضرنا  المُعاش و محطة لاستخلاص العبر والقيام بنقد بناء  لما سلف من الأفكار . و إذ تحل اليوم الذكرى السابعة و الأربعين لاستشهاد الأستاذ سيد قطب، أكتب هذه الكلمات عرفانا بالدور الجلي الرائد الذي قامت به كتاباته في مرحلة من المراحل في استنهاض همم الشباب المسلم  نحو قضية الدعوة و الإسلام بل كانت – حسب وقائع و تحليلات – من الأسباب الأولى في بزوغ شمس الصحوة الإسلامية مطلع السبعينيات في أرجاء العالم الإسلامي(1). كما أكتبها تنويها  بما أضافته مدرسة " آل قطب" – الذي يعد الشهيد سيد مؤسسها و أخوه محمد رائدها -  للفكر الإسلامي المعاصر من تناول جديد للتصور الإسلامي للكون و الحياة و الإنسان ( سيد أَصل لهذه القضايا في كتبه : " خصائص التصور الإسلامي" ، " مقومات التصور الإسلامي " ، " في ظلال القرآن " . و محمد فصل و أضاف في كتبه : " الإنسان بين المادية و الإسلام"، " التطور و الثبات في الحياة البشرية" ، " مفاهيم ينبغي أن تصحح " ... ) علاوة على بيانها لطبيعة المعركة في هذه الحياة و أنها بين من ينتصر لحيوانية الإنسان و سلبيته و بين من يريد إنسانا حرا كريما خليفة لله عز و جل في الأرض(2). أكتب أخيرا هذه السطور إيفاءا للشهيد بعضا من حقه بعدما نالته سهام الحيف من إخوانه قبل خصومه . و تعريفا به للأجيال الصاعدة في الحركة الإسلامية.
أولا/ مسار حياة :

·         ولد سيد في قرية من قرى صعيد مصر التابعة لمحافظة أسيوط ( 1324ه/ 1906م )  لأسرة مستورة الحال ماديا و وطنية الانتماء سياسيا ( انتساب والده للحزب الوطني و اشتراكه في جريدته الرسمية )، و لأب كريم الإنفاق، له أراض واسعة نسبيا له بها فلاحون بالأجرة غير أن نفقاته لم تكن تتناسب مع مردود أرضه ، فلا يزال يبيع منها شيئا بعد شيء للوفاء بالديون ( لكثرة إنفاقه ) حتى كانت والدته تخشى أن تنفذ أرضهم المتناقصة باستمرار و ترجو أن يقوم ولدها سيد في المستقبل – حين تفتح له الدنيا أبوابها – بشراء هذه الأجزاء من الأرض التي يبيعها أبوه ...
·         و في السادسة  من عمره سارع والده إلى إدخاله إلى المدرسة الأولية بالقرية التي كانت في بداية عهدها، فأظهر تفوقا في دروسه، و بقي فيها أربع سنوات، حفظ خلالها القرآن الكريم و أتمه في العاشرة من عمره.
·         كان يحب المطالعة مذ كان في القرية، يقرأ كل ما تصل إليه يديه. و لذلك ألف مبكرا ( و عمره 25 سنة ) كتاب " مهمة الشاعر في الحياة".
·         في سنة ( 1921 ) انتقل إلى القاهرة ليتم دراسته الثانوية في رعاية خاله ..و بعد حصوله على شهادة "الكفاءة" اشتغل مدرسا بالمدارس الأولية، و واصل دراسته في " تجهيزية دار العلوم " ثم التحق بمدرسة "دار العلوم العليا" ، و تخرج منها سنة ( 1933) ..
·         انتقل إلى التدريس الابتدائي بدمياط ..فبني سويف..فحلوان .. و في سنة ( 1944 ) أصبح مفتشا بالتعليم الإبتدائي .. ثم انتقل إلى الإدارة العامة للثقافة في سنة ( 1945 ).
·         اتصل بالأستاذ عباس محمود العقاد و بقي تلميذا له زمنا طويلا، يتبنى آراءه و ينافح عنها و يدخل في صراعات أدبية من أجلها، و مع تتلمذه على العقاد و استفادته الكبيرة منه، إلا أنه كان له نوع من الاستقلال إذ نزع إلى الاغتراف من المنابع لا من الأستاذ !
·         و في القاهرة أتقن سيد قطب الإنجليزية، و تأثر بآدابها.. و كانت له موهبة شعرية و فنية و أدبية و ملَكة نقدية فذة، و لعل للعقاد كبير الأثر في ذلك. و لهذا دراسته طيلة هذه الفترة للقرآن الكريم مقتصرة على النواحي الفنية و الجمالية، فنشر في مجلة المقتطف مقالين بعنوان ( التصوير الفني في القرآن الكريم ) في عددي فبراير و مارس سنة 1939 . و في عام 1945 ألف كتابه ( التصوير الفني في القرآن الكريم ) و هو يمثل المنهج الجمالي الفني في القرآن الكريم. و في عام 1947 أصدر كتابه الثاني ( مشاهد يوم القيامة في القرآن ) و هو يتناول التصوير الفني في في مشاهد القيامة في النعيم و العذاب. 
·         في أواخر سنة 1948 سافر إلى أمريكا في مهمة " تربوية" هي " دراسة المناهج التعليمية في الولايات المتحدة الأمريكية" كخبير في المناهج، و متخصص في البرامج، و باحث في الأساليب. لكن الأستاذ صلاح عبد الفتاح الخالدي صاحب كتاب "أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب " يؤكد أن سيد قطب مغضوب عليه من قبل القصر، و الحكومة نفسها متضايقة من مقالاته و انتقاداته، لذلك تم التفكير في حل يرضي جميع الأطراف. و كان يتمثل في إيفاده – أو إبعاده – إلى أمريكا. و مما تجدر الإشارة إليه هنا أنه في طريقه إلى أمريكا – و السفينة تمخر عباب المحيط إلى نيويورك – حدث أن رأى مبشرا يحاول تنصير المسلمين من ركاب الباخرة فأيقظ ذلك مشاعره الإيمانية و قام في مسلمي السفينة خطيبا و إماما يوم الجمعة فجاءه بعد الصلاة كثير من الركاب من الأجانب يعلنون تأثرهم بصلاتهم و ما فيها من خشوع و نظام و روح. و كانت هذه الرحلة حسب – صلاح الخالدي – بداية الطريق الجديد الذي هداه الله إليه، و وفقه لسلوكه و السير فيه..
·         حين كان في أمريكا، لفت نظره بشدة ما أبدته الصحف الأمريكية. و كذلك الإنجليزية من اهتمام بالغ بالإخوان، و من شماتة و راحة واضحة في حل جماعتهم و ضربها، و في قتل مرشدها. و من حديث عن خطر هذه الجماعة على مصالح الغرب في المنطقة.
·         ساهم في ثورة يوليو سنة 1952 و له علاقات مع رجالاتها ، كُتبه شكلت الوعاء النظري للثورة، و عرفانا بالجميل و تكريما لرائدهم الفكري نظم رجال الثورة حفلا لتكريمه – بعد نجاح الثورة – حضره كبار المثقفين و كبار الضباط حتى الرئيس محمد نجيب كان مقررا أن يقوم بتقديمه لكن حال حائل دون حضوره فأناب عنه أحد الضباط ، و كان من بين الحاضرين الدكتور طه حسين، الذي ألقى كلمة في حق الأستاذ سيد اختتمها بقوله: " إن سيد قطب انتهى في الأدب إلى القمة و القيادة، و كذلك في خدمة مصر و العروبة و الإسلام". كما أن سيد ألقى كلمة مرتجلة و قال عن الثورة: " إن الثورة قد بدأت حقا، و ليس لنا ان نثني عليها؛ لأنها لم تعمل بعد شيئا يذكر، فخروج الملك ليس غاية الثورة؛ بل الغاية منها العودة بالبلاد إلى الإسلام.. ثم قال :  "و لقد كنت في عهد الملكية مهيئا نفسي للسجن في كل لحظة، و ما آمن على نفسي في هذا العهد أيضا؛ فأنا في هذا العهد مهييء نفسي للسجن و غير السجن أكثر من ذي قبل". و هنا وقف جمال عبد الناصر، و قال بصوته الجهوري ما نصه: " أخي الكبير سيد.. و الله لن يصلوا إليك إلا على أجسادنا جثثا هامدة؛ و نعاهدك باسم الله - بل نجدد عهدنا لك – أن نكون فداء لك حتى الموت..".
·         و صدق حدس سيد فلم يمر على ذلك الحفل إلا أقل من سنة و نصف  حتى تم اعتقاله الأول ( في يناير 1954) و اعتقل للمرة الثانية في أكتوبر من نفس السنة و حُكم عليه بالسجن 15 سنة مع الأشغال الشاقة، تعرض فيها لألوان من التعذيب الرهيب : كان من وسائل تعذيبه كلاب الصيد عليه لنهش جسده و تمزيق لحمه ..
·         مكث في السجن إلى أواخر 1964، حتى تدخل عبد السلام عارف – رئيس جمهورية العراق ذلك الحين نظرا لإعجابه بكتابه "في ظلال القرآن"-  لدى حكام مصر فأفرجوا عنه قبل انتهاء المدة المحكوم عليه بها .و بعد بضعة أشهر ألقي القبض عليه مرة أخرى بتهمة الإعداد لانقلاب مسلح.
·         في 29 غشت  1966 عاجله الأجل فتم تنفيذ حكم الإعدام مع يوسف هواش و عبد الفتاح إسماعيل.   
ثانيا/ مسار مفكر :
أ – ما قبل الاتجاه الإسلامي :
·         تميزت بنهله من الثقافة الأدبية الأوربية ( التي تتسم في القرن 18 و 19 و 20 بالسير نحو الفردية، و تنمية الاستقلال الفكري و النفسي، و إيجاد قيم خاصة، و الخروج على القيم السائدة ...) و تشربه لها من دون ميزان ثابت. مما جعله يتيه في مجاهلها و يضيع في تيار ضلالها، فظهرت عليه أعراضها، فيبدو رجلا بائسا حزينا قلقا يعتبر الحياة تافهة، فليس فيها خير و ليس لها هدف، و يعتبر الفناء غاية الحياة بكل ما فيها من قيم و فكر و موازين و أعمال و مشاعر .. و يتبنى، في نهاية المطاف، روحا عدمية. ساعد على تثبيت هذه المعاني في نفسه فكر العقاد و فلسفته الأدبية من جهة و حالة الضيق المادي التي عانى منها معاناة شديدة و نفسيته الحساسة التي كانت أرضا تستقبل البذور فتنميها إلى مدى بعيد. و من آثاره الدالة على حياته الفكرية و تيهه آنذاك، قوله :
نحن، أم تلك على الأرض ظلال ؟                 و خيال سارب أثر خيال
في متاهات   وجود     لزوال                     كبقايا الخطو في وجه الرمال
                        للزوال .. كل شيء للزول .. !

و قوله كذلك :       كل ما كان و سوف يكون         نأمة تهجس في جوف السكون .. !
·         و رغم تيهه هذا لم يلجأ إلى الإلحاد، كما ذكر هو بنفسه للأستاذ أبي الحسن الندوي ( و حكاه في كتابه "مذكرات سائح في المشرق العربي" ) إذ كان العقاد حاسما في الحيلولة بينه و بين الفكر المادي و تبني الماركسية .
ب – الاتجاه الإسلامي :
·         يعتبر الدكتور منير محمد الغضبان صاحب كتاب : " سيد قطب ضد العنف " أن بروز اتجاهه الإسلامي ابتدأ عام ( 1945)، و في التاسعة و الثلاثين من عمره في كتبه:
1/ التصوير الفني في القرآن ( أبريل/1945 )
2/ مشاهد القيامة في القرآن ( أبريل/1945 )
3/ العدالة الاجتماعية في الإسلام ( أبريل/1947 )
·         من إرهاصات نمو هذا الاتجاه الإسلامي العام لدى سيد قطب : نشأته في أسرة متدينة، و بيئة متدينة ( على خرافة فكرها الديني )، حفظ القرآن في سن مبكرة، أثر العقاد ( دفاعه عن الإسلام رغم عدم تدينه ).
·         تأثر سيد في اتجاهه الإسلامي بمدرسة رشيد رضا التي تشكل امتدادا لمدرسة محمد عبده.
·         من أهم القضايا التي كان يتبناها في هذه المرحلة: الدفاع عن الفلاح المصري ضد الإقطاع: كتاب : معركة الإسلام و الرأسمالية (نُشر في فبراير/1951 ).
·         أصدر مجلة الفكر الجديد بتمويل من أحد الإخوان المسلمين و هو الحاج محمد حلمي المنياوي، صاحب دار الكتاب العربي، و لقد ضاقت بها الحاشية الملكية لهجومها على الإقطاع، و الباشوات و الرأسمالية، و على أصحاب النفوذ جميعا، فأغلقتها الحكومة المصرية بعد صدور اثني عشر عددا منها.
·         أصدر كذلك كتابه : السلام العالمي في الإسلام ( أكتوبر/1951 ).
·         بدأ في إصدار كتبه ( في ظلال القرآن ) بمقالات في مجلة ( المسلمون ) التي كانت تصدر شهريا برئاسة سعيد رمضان – صهر الإمام حسن البنا و أب المفكر الكبير طارق رمضان - في نهاية عام 1951.
·         أصدر سنة 1953 كتابه: دراسات إسلامية، الذي ضم بين دفتيه مجموعة من المقالات عن مجموعة من القضايا و تعليقات رصينة عن أحداث تلك المرحلة.
·         بعد توقف التعذيب البدني في السجن بدأ يعيد النظر في المحن التي يتعرض لها الإسلاميين. يقول في هذا :  "الإخوان المسلمون تدبر لهم المذابح في حادث المنشية و حادث طرة.. جمعية الفلاح عن طريق أعضائها القريبين من رجال الثورة، تشحن الجو بالتوتر و المخاوف، و تعمل على توسيع الهوة و تعميقها.. التعذيب   و القتل والتشريد ينال الألوف من العناصر المتدينة المتمسكة بالأخلاق، المخلصة الأمينة، و بيوتهم و أطفالهم و نسائهم إلى آخر هذه الصورة المفزعة الكئيبة؛ هذه هي الحصيلة التي تجمعت لدي فيما بين سنة (1954)  و سنة (1962). ليس معنى ذلك أنه لم تكن هناك أخطاء إطلاقا في حركة الإخوان؛ و لكنها إلى جانب تلك الحصيلة ضئيلة". " إن الحركة الإسلامية يجب أن تستمر، إن القضاء عليها في مثل تلك الأحوال يعد عملا فظيعا جدا، يصل إلى حد الجريمة.. إن الأخطاء الحركية يمكن أن تستبعد و يمكن الاستفادة من التجربة في تجنبها". و أخذ يطرح أسئلة من قبيل: لماذا يتنكر الحكام للمخلصين الصادقين و يتحالفون مع المخالفين و الكذابين؟ ! لماذا تسكت الجماهير بل يساق فريق منها للهتاف و التصفيق للطغاة و الجلادين؟ ! فأعاد قراءته للقرآن الكريم بهذه الخواطر و الاهتمامات، و قارن بين طبيعة الخلاف و الصراع بين الإسلام و الجاهلية خلال حياة الأنبياء والرسل، فكان منهجه الأخير في الظلال، و في معالم في الطريق، يركز هذا المنهج على الصراع بين الأنبياء و الرسل و بين الملأ من الجاهليين في عصور التاريخ. و يتكلم عن الجماعة المسلمة و تصورها و مواجهتها للجاهلية. و يتكلم عن الأمة الإسلامية و مواقفها من المجتمع الجاهلي. و يؤكد أن أعداء الإسلام يحاربونه في معاركهم الثقافية و الحركية من خلال تجمع حركي و ليس من خلال شتات و تفرق. لهذا يجب الاسترشاد بموقف الصحابة و حركتهم بالقرآن الكريم في مكة و المدينة؛ ليعاد صياغة الجماعة المؤمنة و الأمة الإسلامية من جديد. يقول الأستاذ سالم البهنساوي - صاحب كتاب " أضواء على معالم في الطريق" -  و هو في هذه المصطلحات كلها لا يصدر أحكاما بالكفر و الإيمان على المسلمين القاعدين أو المنافقين، و لا يعني بالجماعة إلا مجتمع المسلمين أو الأمة الإسلامية تحت قيادة حاكم مسلم يلتزم بإسلامه. إنه يدعو- في ظلاله – الأمة الإسلامية إلى التميز بخصائصها و مميزاتها التي بينها القرآن، و إلى أن تكون صورة عملية واقعية لمبادئ القرآن و قيمه، و إلى أن تقوم بمسئوليتها، و تؤدي مهمتها التي رسمها القرآن، و إلى أن تبوء مكانتها القيادية في واقع البشرية. ففي الظلال في مقدمة الطبعة المنقحة بين أهم نتيجة خرج بها من حياته في ظلال القرآن، و هي: " لا صلاح لهذه الأرض، و لا راحة لهذه البشرية، و لا طمأنينة لهذا الإنسان، و لا رفعة و لا بركة و لا طهارة، و لا تناسق مع سنن الكون و فطرة الحياة.. إلا بالرجوع إلى الله..".
·         في عام 1957، بعد وقوع مذبحة سجن ليمان طرة التي ذهب ضحيتها واحد و عشرين من الإخوان، تأثر سيد – المرهف الحس، الرقيق المشاعر – بما حدث فقام بتشخيص الواقع و دراسة واقع الإخوان المسلمين مع يوسف هواش – ثالث ثلاثة أعدموا في سنة 1966 -، فبرزت عناصر ثلاثة تمثل الفكر الحركي الجديد لسيد قطب:
-          العنصر الأول: التشابه بين الحركة اليوم، و موقفها من مجتمعاتها شبيهة بالحالة في العهد المكي.
-          العنصر الثاني: التشابه من حيث الجهل بحقيقة العقيدة الإسلامية، و ليس فقط البعد عن النظام الإسلامي و الشريعة الإسلامية.
-          العنصر الثالث: وجود المعسكرات المعادية للإسلام في الواقع اليوم و الواقع في العهد المكي.
       هذه الأفكار التي تبلورت لدى الشهيد سيد في آخر حياته هي التي دفعت خصوم الحركات الإسلامية إلى وصمه بأنه أمير الدم و منظر للتطرف و العنف و الإرهاب – و هي اتهامات مجانية غالبا ما تكون صادرة عن سوء نية -. كما أنها كانت مثار نقد العديد من المفكرين الإسلاميين – مع احتفاظهم بالأدب مع الشهيد – و لا ضير في هذا فكل واحد يؤخذ من كلامه و يُرد إلا صاحب هذه الروضة الشريفة – كما قال الإمام مالك – مع العلم أن الشهيد كان رجاعا للحق؛ يحكي الأستاذ فريد عبد الخالق – أحد قيادات الإخوان من الرعيل الأول – في شهادته على العصر  في برنامج أحمد منصور بقناة الجزيرة أنه لما تحدث مع الشهيد سيد عن بعض ما يعتري كتاباته الأخيرة من ملاحظات و عن مآلات سوء الفهم لها تأثر بذلك، هذا فضلا عن أخذه بعين الاعتبار ما قيل له من أخطاء في الطبعة الأولى لبعض أجزاء الظلال أثناء تنقيحه لها، علاوة على تقدير الظروف التي مر بها : رهافة حسه و رقة مشاعره أمام الاضطهاد الذي يتعرض له أمامه الدعاة لا لشيء إلا لأنهم يقولون ربنا الله و ممن من طرف أصدقائه القُدامى بل من أخيه الصغير الذي جدد عهده له على الموت فداء له  ( جمال عبد الناصر، الذي قال له في الحفل المذكور آنفا،:أخي الكبير سيد ...نجدد عهدنا لك – أن نكون فداء لك حتى الموت..) . كل هذا يجعلنا نعتقد بأن الشهيد لو طال به العمر في مناخ يحترم أدنى شروط الآدمية لغَير جملة من الأفكار .
ثالثا/ من إلماعاته و إضاءاته :
·         لماذا يُواجه هذا الدين ؟   ( الظلال :الجزء10  )
يُواجهُ هذا الدين بوصفه إعلانا عاما لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله.           
·         القلوب القادرة على حمل الأمانة   ( معالم في الطريق )
لقد كان القرآن الكريم ينشئ قلوبا يعدها لحمل الأمانة، و هذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة و القوة و التجرد بحيث لا تتطلع – و هي تبذل كل شيء و تحتمل كل شيء – إلى شيء في هذه الأرض، و لا تنظر إلا إلى الآخرة، و لا ترجو إلا رضوان الله. قلوبا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب و شقاء و حرمان و عذاب و تضحية حتى الموت، بلا جزاء في هذه الأرض قريب، و لو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة و غلبة الإسلام و ظهور المسلمين، بل لو كان هذا الجزاء هو هلاك الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بالمكذبين الأولين .. حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض إلا أن تعطي بلا مقابل – أي مقابل – و أن تنتظر الآخرة وحدها موعدا للفصل بين الحق و الباطل – حتى إذا وجدت هذه القلوب، و علم الله منها صدق نيتها على ما بايعت و عاهدت – آتاها النصر في الأرض، و ائتمنها عليه، لا لنفسها، و لكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي و هي أهل لأداء الأمانة منذ كانت لم توعد بشيء من الدنيا تتقاضاه، و لم تتطلع إلى شيء في الأرض تعطاه، و قد تجردت لله حقا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه.
كيف نقدم الإسلام للناس؟   ( معالم في الطريق )
حين ندرك حقيقة الإسلام على هذا النحو، فإن هذا الإدراك – بطبيعته – سيجعلنا نخاطب الناس و نحن نقدم لهم الإسلام في ثقة و قوة، و في عطف كذلك و رحمة. ثقة الذي يستيقن أن ما معه هو الحق، و أن ما عليه الناس هو الباطل، و عطف الذي يرى شقوة البشر و هو يعرف كيف يسعدهم، و رحمة الذي يرى ضلال الناس و هو يعرف أين الهدى الذي ليس بعده هدى ! .. هكذا ينبغي أن نخاطب الناس و نحن نقدم لهم الإسلام، لأن هذه هي الحقيقة، و لأن هذه هي الصورة التي خاطب الإسلام الناس بها أول مرة، سواء في الجزيرة العربية أم في فارس أم في الروم، أم في أي مكان خاطب الناس فيه. نظرا إليهم من عل، لأن هذه هي الحقيقة، و خاطبهم بلغة الحب و العطف لأنها حقيقة كذلك في طبيعته .
القرآن الكريم، لمن يمنح كنوزه؟ و لماذا جاء؟   ( معالم في الطريق: 18 )
 إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بهذه الروح، روح المعرفة المنشئة للعمل. إنه لم يجيء ليكون كتاب متاع عقلي، و لا كتاب أدب و فن، و لا كتاب قصة و تاريخ، و إن كان هذا كله من محتوياته، إنما جاء ليكون منهاج حياة.
عقوبة الفطرة   ( الإسلام و مشكلات الحضارة )
إن الذين يخالفون عن قانون الفطرة لا يمكن أن يمضوا بلا عقاب .. و هو عقاب رهيب و لو تفتحت عليهم أبواب كل شيء من خيرات الأرض، و رخاء العيش، و مضاعفة الدخل، و الضمانات المالية الخيالية، فللحياة الإنسانية قوانينها الفطرية الصارمة التي لا تجامل و لا تلين.. و لقد حذر الله عز و جل عباده عواقب التعرض للخلاف عن هذه القوانين ( القوانين الطبيعية الفطرية ) و ذلك حين يعرضون عن منهج الله، و هُداه، المتمشي مع سنته في الكون، فلا تكون لهم من عواقبها نجاة: [ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقُطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين ]. ( سورة الأنعام:44-45 ). [ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و ازينت و ظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ]. ( سورة يونس: 24 ).
آثار الترويج للإنسان الحيوان  ( الإسلام و مشكلات الحضارة )
ظهرت آثار التوجيه المتواصل إلى حيوانية الإنسان و ماديته و سلبيته، و إطلاق شهواته و غرائزه من كل ضابط.. ظهرت في صورة الانحلال، و اللامبالاة، و السلبية، و قبول الديكتاتوريات، و حياة القطيع التي لا هدف لها إلا السفاد و اللقاح و الطعام و الشراب.
هذا الدين يتحقق بجهد البشر  ( هذا الدين )
إن هذا الدين منهج إلهي للحياة البشرية، يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية، و في حدود الواقع المادي للحياة الإنسانية في كل بيئة، و يبدأ العمل من النقطة التي يكون البشر عندها حينما يتسلم مقاليدهم، و يسير بهم إلى نهاية الطريق في حدود طاقتهم البشرية، و بقدر ما يبذلونه من هذه الطاقة .. و ميزته الأساسية أنه لا يغفل لحظة، في أية لحظة و في أية خطوة، عن فطرة الإنسان و حدود طاقته و واقع حياته المادي أيضا.
في وظيفة الإسلام    ( معالم في الطريق )
إنه لم تكن وظيفة الإسلام أن يغير عقيدة الناس و واقعهم فحسب، و لكن كانت وظيفته كذلك أن يغير منهج تفكيرهم، و تناولهم للتصور و الواقع.
الإيمان بالحتميات الآلية : أحط عبودية يتصورها خيال !  ( مقومات التصور الإسلامي)
فمن رحمة الله بعباده أن يجعل للكون سننا ثابتة و قوانين دائمة يستطيعون كشفها و إدراكها و التعامل معها تعاملا ثابتا. و لكن من رحمته بهم كذلك ألا يجعلهم عبيدا لحتميات آلية في نظام الكون، إنما يعلق قلوبهم بإرادته هو و قدره مباشرة، و ينقذ أرواحهم من العبودية لغيره، حتى و لو كانت السنن الكونية من خلقه.. فما بال الذين يقولون بالحتمية الآلية في نظام الكون، و في نظام الحياة، و في نظام المجتمع، دون أن يكون وراء هذه الحتميات الآلية كلها إله ؟ ! إنهم يُسَلمُون " الإنسان" لأحط عبودية يتصورها خيال !
بين العقل البشري و التصور الإسلامي   ( مقومات التصور الإسلامي)
 محاكمة التصور الإسلامي أو محاكمة مقوماته التي يقوم عليها و منها ما هو غيب، كالملائكة، الجن، القدر، يوم القيامة، الجنة و النار إلى العق البشري و مقرراته الذاتية منهج غير إسلامي. و هذا لا يعني أن التصور الإسلامي مناقض أو مصادم للعقل البشري فإن مقرراته كلها نوعان: نوع الإدراك البشري قادر على تصوره عند تلقيه من المصدر الرباني – و نوع هو غير قادر على إدراكه و لكن منطقه ذاته يُسَلم بأن طبيعته أكبر من حدود إدراكه، و أن " وجود" ما هو أكبر من حدود إدراكه داخل قدرة الله تعالى، و أن إخبار الله عن وجوده هو بذاته برهان هذا الوجود، و برهان صحة الأخبار .. و من ثم لا يقع التناقض أو التصادم أبدا، متى استقام العقل البشري و التزم حدوده !
مقومات التصور الإسلامي و نشدان "الإنسان الجديد": الإنسان الحر    ( مقومات التصور الإسلامي )
 هذه المقومات.. التي جاء ليطبعها في الضمير البشري، و ليقيم عليها منهجه الواقعي، و نظامه العلمي، و ليحول بها خط سير التاريخ الإنساني، و ليعلن بها ميلاد " الإنسان الجديد" إذ يعلمه إلغاء عبودية الإنسان للإنسان كما يعلمه إلغاء عبودية الإنسان للأشياء و الأحياء، في كل صورها و أشكالها، و ذلك بإعلان عبودية الإنسان لله وحده بلا شريك.
سر قوة الكلمة   ( دراسات إسلامية )
إن السر العجيب ليس في بريق الكلمات و موسيقى العبارات، إنما هو كامن في قوة الإيمان بمدلول الكلمات، و ما وراء الكلمات. إنه في ذلك التصميم الحاسم على تحويل الكلمة المكتوبة إلى حركة حية... في هذا يكمن سر الكلمة، و في شيء آخر؛ في استمداد الكلمات من ضمائر الشعوب، و من مشاعر الإنسان و من صرخات البشرية، و من دماء المكافحين الأحرار. إنه ليس كل كلمة تبلغ إلى قلوب الآخرين فتحركها، و تجمعها و تدفعها ! إنها الكلمات التي تقطر دماء؛ لأنها تقتات من قلب إنسان حي ! كل كلمة عاشت قد اقتات قلب إنسان. أما الكلمات التي تلد في الأفواه، و قذفت بها الألسنة، و لم تتصل بذلك النبع الإلهي الحي فقد ولدت ميتة، و لم تدفع بالبشرية شبرا واحدا إلى الأمام، إن أحدا لن يتبناها؛ لأنها ولدت ميتة. إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كبيرا، و لكن بشرط واحد؛ أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم، أن يطعموا أفكارهم من لحومهم و دمائهم، أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، و يقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق ! إن أفكارنا و كلماتنا تظل جثثا هامدة حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية و عاشت بين الأحياء...و الكلمة ذاتها – مهما تكن مخلصة و صادقة – فإنها لا تستطيع أن تفعل شيئا قبل أن تستحيل حركة، و أن تتقمص إنسانا. الناس هم الكلمات الحية التي تؤدي معانيها أبلغ أداء.
في استعمال المفاوضات مع الاستعمار   ( دراسات إسلامية )
إن هذه الشعوب لأذكى، و أشد حمية، من أن ترضى لنفسها الهوان؛ و لكنها تلك الحفنة من ساسة الماضي في مصر و البلاد العربية؛ تلك الحفنة الرخوة المسنة الضعيفة المتهالكة، المهدودة الأعصاب. لا تقدر على الكفاح، و لا تدع الشعوب تكافح؛ لأن أنانيتها الآثرة تمسكها عن الانسحاب من الميدان و تركه للقادرين.. هذه الحفنة من ساسة الجيل الماضي هي التي اخترعت المفاوضات و المحادثات و المؤتمرات.. لماذا ؟ لأنها وسيلة لا تكلف شيئا؛ و تضمن الكراسي و السلطة لفترة من الزمن. و كلما همت الشعوب أن تسلك طريقها، و أن تواجه المستعمرين بذاتها؛ حال هؤلاء بينها و بين المستعمرين، و وقفوا من دونهم يصارعون الشعوب و تصارعهم الشعوب، فإذا أتعبهم الصراع مع شعوبهم راحوا يبثون في الأمة روح الثقة بالمستعمرين و راحوا يشيعون الآمال الخادعة لهذا الضمير المدخول.
الخط الرئيسي للتربية الخلقية  ( دراسات إسلامية)
إن الخط الرئيسي في أية محاولات للتربية الخلقية، ينبغي أن يكون هو ربط الضمير الإنساني بأفق أعلى من الذات المحدودة و المصلحة القريبة؛ أفق يستعذب التضحية في سبيله و يستسهل الصعب في الارتقاء إليه، فماذا يكون هذا الأفق العالي الجذاب؟ لقد يرى بعضهم أن يكون هو العزة القومية، و لقد يرى بعضهم أن يكون هو الأخوة الإنسانية؛ و كلاهما أفق كريم وضيء يمكن أن يرفع مشاعر الفرد من أفق المنفعة القريبة و اللذة الحاضرة. أما أنا فأوثر أن أربط ضمير الفرد بأفق أعلى من هذه الآفاق جميعا، أفق تنطوي فيه هذه الآفاق جميعا، أوثر أن أربطه بالله خالق الأوطان و خالق الإنسان..
سر الابتلاء كامن في حرية العقيدة و الاختيار  ( مقومات التصور الإسلامي )
و لو شاء الله لقهر الناس كلهم على الهدى، فلا يكون هناك مجال لابتلاء، غير أن الله سبحانه شاء أن يودع فطرة الإنسان الاستعداد المزدوج للهدى و الضلال، و أعطاه البصيرة يدرك بها، و العقل يميز به، و أرسل إليه الرسل يبينون له..ثم يختار..و في هذا كان الابتلاء. فإذا اختار لنفسه الهدى أعانه الله عليه، و كان ما شاء الله، و إذا اختار الضلالة مد له الله في الغي. و كان ما شاء الله. لأن هذه مشيئته منذ الابتلاء.. و إلى هذا تشير الآيات: [ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا و لا آباؤنا و لا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن و إن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فو شاء لهداكم أجمعين قل : هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم و لا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا و الذين لا يؤمنون بالآخرة و هم بربهم يعدلون ].
البلاء طريق الدعاة   ( الظلال: الجزء4 )
[ و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ] . إنها متاع، و لكنه ليس متاع الحقيقة، و لا متاع الصحو و اليقظة.. إنه متاع الغرور المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعا، أو المتاع الذي ينشئ الغرور و الخداع ! فأما المتاع الحق. المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله.. فهو ذلك..هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة من النار. و عندما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة – إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال – و أخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل..عندئذ يُحدث الله المؤمنين بما ينتظرهم من بلاء في الأموال و الأنفس. و قد استعدت نفوسهم للبلاء: [ لتبلون في أموالكم و أنفسكم و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ]. إنها سنة العقائد و الدعوات. لا بد من بلاء، و لا بد من أذى في الأموال و الأنفس و لا بد من صبر و مقاومة و اعتزام. إنه الطريق إلى الجنة. و قد حفت الجنة بالمكاره بينما حفت النار بالشهوات. ثم إنه الطريق الذي لا طريق غيره،
فاعلية المسلم المتلقي للعقيدة السليمة   ( معالم في الطريق )
إن الإنسان الواحد لن يتلقى هذه العقيدة و ينطوي على نفسه..إنه سينطلق بها..هذه طبيعتها..طبيعة الحركة الحية..إن القوة العليا التي دفعت بها إلى هذا القلب تعلم أنها ستتجاوزه حتما ! ..إن الدفعة الحية التي وصلت بها هذه العقيدة إلى هذا القلب ستمضي في طريقها قُدما.
خاتمة:
إذا عدنا إلى عدد من المصطلحات التي نحتها المفكر الكبير مالك بن نبي - رحمة الله عليه – من قبيل الأفكار الميتة و الأفكار الأصيلة و الأفكار الفعالة، يمكننا التعامل على ضوئها مع التراث الفكري للشهيد سيد قطب. ففي هذا التراث من الأفكار الميتة التي تجاوزها الفكر الإسلامي في العقود الأخيرة و تجاوزتها الأحداث المتناسلة على مدار خمسة عقود. و فيه أفكار أصيلة طلائعية، ينبغي أن يُشهد لصاحبها – رحمه الله – بالريادة و قصب السبق فيها، و هي بالخصوص الأفكار الواردة في كتابيه: خصائص التصور الإسلامي و مقومات التصور الإسلامي، ففي هذين الكتابين تأصيل دقيق لخصائص التصور الإسلامي الذاتية ( الإيجابية، الربانية، الشمول، التوازن..) فصل فيها الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه: الخصائص العامة للإسلام، و أصبحت معتمدة حتى في المناهج الدراسية ( مادة التربية الإسلامية للجذع المشترك العلمي نموذجا). علاوة على  تناولها  لمقومات التصور الإسلامي للكون و الحياة و الإنسان بمنهج، قال فيه صاحبه: منهجنا يحاول أن يجعل النص القرآني هو الأصل الذي يتولى تقرير الحقائق التي يتألف منها البحث، و أن يجعل عبارتنا البشرية مجرد عامل مساعد، يجعل النص القرآني مفهوما – بقدر الإمكان – للقارئ. إننا نريد أن نعقد الألفة بين قارئ هذا البحث و بين القرآن ذاته في النهاية. نريد لهذا القارئ أن يتعود التعامل مع القرآن ذاته تعاملا مباشرا.
كما أن التراث الفكري للشهيد ينطوي على أفكار فعالة وردت في ثنايا العديد من كتبه؛ مقالات في " دراسات إسلامية" ، الإشارات اللطيفة إلى دور رصيد الفطرة و رصيد التجربة في إنجاح التجارب الدعوية المعاصرة كما جاء في كتابه " هذا الدين"، نعم المستقبل لهذا الدين نظرا لخصائصه الذاتية التي لا يملكها دين آخر أو أي منهج آخر ( هنا التمييز بين منهج الحياة و الدين للتوضيح فقط. أما الشهيد ففي مقدمات كتابه:المستقبل لهذا الدين. تأكيد دائم على أن كل دين منهج حياة و على أن كل منهج حياة هو دين )، المستقبل لهذا الدين نظرا كذلك لملحاحية حاجة البشرية إلى دين بمثل تلك المواصفات لكن ضروري ليكون المستقبل لهذا الدين أن يرتفع أصحابه إلى مستوى حقيقته، كما جاء في كتابه " المستقبل لهذا الدين". هذا فضلا عن ورودها في مجموعة من كتاباته المؤصلة للعدالة الاجتماعية في الإسلام. و أخيرا، لا يجادل أحد في أن ما اشتهر به الشهيد من تراث هو تفسيره " في ظلال القرآن" الذي فيه إيحاءات قوية و إثارة لأبعاد عميقة في ما جاء في الآيات الكريمة بلغة رصينة.  
لعلنا لا نجد خاتمة أحسن مما كتبه المفكر الإسلامي الكبير – الخبير بالمفكرين الإسلاميين المعاصرين ومشاريعهم الفكرية – عن الشهيد سيد قطب: ( لقد كان سيد قطب – على امتداد حياته الفكرية – نموذجا "للجهاد الفكري" الذي جمع بين الوطنية.. و الإسلامية.. و الإنسانية.. لكن الظلم الطاغي، و الطغيان الظالم، الذي وضعه – و هو الأديب المرهف الأحاسيس – على " المحرقة" قد أفرز في مسيرته الفكرية " جملة معترضة ".. تمثلت في " الزفرة" التي عبر عنها، عندما رأى الجماهير تصفق للظلم الذي وضعه على "المحرقة"؛ فقال: " إن وجود الأمة الإسلامية يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة.. لقد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعا.. و لذلك؛ فالمسألة في حقيقتها هي مسألة كفر و إيمان، مسألة شرك و توحيد، مسألة جاهلية و إسلام، و هذا ما ينبغي أن يكون واضحا... ". و سواء اعتبرنا هذا " الاجتهاد الخاطئ": " زفرة مظلوم مكظوم" وضعه " الظلم على المحرقة" وسط تصفيق الجماهير !.. أو أخذنا بشهادات: إخوانه - الذين زاملوه بالسجن في أيامه الأخيرة – و الذين أكدوا نفيه ما فهم و ما يفهم من هذه العبارات – الأمر الذي يجعلنا أمام " تأويل" يدرأ هذه الأحكام التي قطعت بانقطاع أمة الإسلام منذ قرون - .. أو وضعنا هذه العبارات و أحكامها في إطار " الجملة المعترضة"؛ فسيظل سيد قطب "المفكر..المجاهد".. الذي قُتل مظلوما.. فانتشر فكره و ضرب بجذوره في العقول و القلوب على امتداد العالم، كما لم يحدث لمفكر آخر في القرن العشرين .. ).(3)
**********
الهوامش:
(1)   من زاويته " نقطة مضيئة" في العدد 51 في جريدة الراية سنة 1993 : كتب الأستاذ عبد الإله بنكيران: ( أنا أومن بقوله تعالى: [ و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين ].سورة الأنفال:30. و يقول سبحانه: [ و إن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله ].سورة الأنفال:63. إن الإيمان بهذه الطريقة يصبح جسما قويا يسير في الطريق، و لا يمكن القضاء عليه، اللهم إلا بإبادته كاملا، و ساعتها تكون قد أبادته لتغرس بذورا كثيرة في الأرض تنبت بعدها، حيث أنه لما قتل سيد قطب رحمه الله في سبيل الله بسبب كتابيه " في ظلال القرآن" و "معالم في الطريق"، انتشر الكتابان في الأرض ما لم ينتشر كتاب من قبل، و كان ذلك من بعض أسباب الصحوة الإسلامية. )
(2)   بعد قراءتي لمجموعة من كتابات الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله، لاحظتُ أن المعركة بين من يروج للإنسان الطبيعي (الإنسان السلبي الخاضع لقوانين الطبيعة ) و بين من يريد الإنسان الإنسان ( أو الإنسان الرباني )؛ و التي تناولها الدكتور عبد الوهاب بشكل عميق .  هي نفس المعركة التي تلح عليها مدرسة " آل قطب" من خلال مفهوم " العبيد " لدى سيد قطب و من خلال كتابات محمد قطب ( معركة التقاليد )، و إن كان تناول "آل قطب" ليس بالمستوى التحليلي العميق – كتحليل المسيري – لكنه لفت النظر إلى طبيعة المعركة.
(3)   انظر: تقديم الدكتور محمد عمارة. لكتاب: "سيد قطب ضد العنف ".
المراجع:

للأمانة أغلب ما نقلناه عن حياته كإنسان أو كمفكر، أخذناه مع تصرف طفيف، من المراجع التالية:

-          محمد توفيق بركات ملا حسن، كتاب: " سيد قطب: حياته، منهجه في التغيير و النقد الموجه إليه".الطبعة الأولى1998. دار البيادق.
-          منير محمد الغضبان، كتاب:" سيد قطب ضد العنف ".الطبعة الأولى 2010. دار السلام .
-          سالم البهنساوي، كتاب:" أضواء على معالم في الطريق". الطبعة الثالثة2007. دار الوفاء.
-          صلاح عبد الفتاح الخالدي، كتاب: " أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب ".الطبعة الثالثة 1987.دار الوفاء و دار المنارة.
-          سيد قطب، كتاب : " مقومات التصور الإسلامي".الطبعة الرابعة 1993. دار الشروق.
...تابع القراءة