| 0 التعليقات ]





ما تنفك أدبيات الحركات و الأحزاب السياسية ، منذ عقود طويلة ، عن التأكيد على أن مرادها هو التقدم . لكن من دون شك يبقى مفهوم " التقدم" هذا مفهوما عائما غامضا و شعارا فضفاضا . سؤال : ما هو التقدم ؟ خصوصا بعد الثورات التي عرفتها مجموعة من الدول العربية يجب أن يبقى  سؤالا مركزيا مؤرقا يستدعي  أبحاث جادة من مراكز الدراسات و من منتديات الفكر و التفلسف ، ليبقى الفكري، من جهة ، سندا و منارة  للسياسي. و من جهة أخرى ، كي تتحدد طبيعة " التقدم" الذي نتوخاه و تتضح معالم الطريق إليه .
إن المتأمل في استعمالات مفهوم " التقدم" و السياقات التي يرد فيها  في كتابات " نخبنا " أو على ألسنة ساستنا لن يتردد طويلا في الجزم بأن المقصود بهذا التقدم  هو التقدم  المادي ، التقني ، اللانهائي و الكمي . و الحديث المتزايد عن هذا القصد الأحادي و النمطي للتقدم  يثير أسئلة حارقة خصوصا إذا نظرنا للنتائج  الفادحة لهذا التقدم في البيئة الغربية  و المناطق السائرة نحو التغريب. و مجرد نظرة عابرة على آثار هذا " التقدم" في واقعنا ( نحن السعاة إلى التقدم على النمط الغربي ) تؤكد تلك السمات المادية التي يُوصم بها.
يقترح الدكتور عبد الوهاب المسيري  ( في كتابه : العالم من منظور غربي ) مسقط رأسه – مدينة دمنهور بمصر- كمثال  للاستدلال على مادية و لانهائية و كمية التقدم الذي يُتداول على ألسنتنا و في منتدياتنا ، فيستذكر كيف كان الكثير من الناس يعتقدون  أنه تم إحراز تقدم في هذه المدينة و هم يشيرون إلى : عدد الهواتف ، حجم الطرقات ، عدد السيارات ، كمية البروتين التي يستهلكها الفرد ، سرعة إيقاع الحياة ، نوعية الخدمات الصحية . أي أن كل المؤشرات تدل على التقدم .  و يستدرك الدكتور مبينا أن التقدم هنا عرف بطريقة مادية بالدرجة الأولى ، لذا فرصد هؤلاء الناس للواقع ركز على العناصر المادية وحدها و أهمل العناصر المعنوية و الأخلاقية. و تعود الذاكرة به إلى طفولته حيث كانوا يخرجون في العصر ، فيصنع المهرة منهم طائرات من ورق ، ملونة جميلة ، تطير في السماء التي كانت لا تزال زرقاء . و كانت أمهاتهم يصنعن لهم كرات صغيرة ( من الجوارب القديمة التي تم رتقها عشرات المرات من قبل ) و يلعبون كلهم ، لا فرق بين غني و فقير ، فالجميع قادر على صنع طائرات الورق و على صنع الكرات " الجوربية" .   و هكذا كانت لحظة اللعب هي ثمرة رؤية بيئية ناضجة تقوم على تدوير الأشياء لا على استهلاك الكون ، و كانت هي ذاتها لحظة التحرر من الصراع الطبقي و التفاوت الاجتماعي ( و لو للحظات) . و يقارن ذلك الماضي التليد مع الآن الأليم " المتقدم !!  " – بعد الألفية الثالثة – حيث غدت لحظة اللعب في دمنهور هي لحظة الاستهلاك المتزايد بعد ظهور ألعاب "فيشر" الكهربائية التي يشتريها المرء مع البطاريات ليعطيها لابنه الذي يجلس أمامها في سلبية غير عادية لتقوم هي بالحركات و الألعاب بالنيابة عنه ، و يتحول الشيء (الآلة) إلى مركز النشاط، و يتحول الإنسان إلى الشيء المتلقي المسكين. بالإضافة إلى ألعاب video games التي تمثل قمة التقدم و آخر صيحة في عالم الاغتراب. إذ يجلس الطفل بمفرده و حيدا أمام جهاز أصم يتحاور معه بكفاءة عالية حسب برنامج مقرر نتيجته معروفة ، ألعاب لاتعرف الضحك أو البكاء ، و لا هي الحارة و لا هي بالباردة ، ألعاب تهدر إنسانية الإنسان ، فالإنسان هو من يأتنس بغيره من البشر .
علاوة على هذه العناصر المادية الصارخة التي تَصم  هذا التقدم الذي تحيز عموم الناس له – نخبة و عامة – ، كما أبرزها الدكتور عبد الوهاب المسيري ،  نجده كذلك سيرورة  لا هدف لها و لا غاية لأنه نابع من عقل مادي أداتي ملتزم شكليا بالإجراءات و التقنيات دون هدف أو غاية و يوظف الوسائل لأجل غايات دون تساؤل عن مضمونها ، وهو فوق كل هذا يمتحُ من الرؤية الداروينية للكون أي  الرؤية التي تقول بالتطور إلى ما لا نهاية سواء بغاية أو بدون غاية . و بالتالي ، لا غرابة في أن نجد مفكرا غربيا مثل ماكس فيبر يؤكد أن رشد الحضارة الغربية – زعيمة نمط التقدم الذي نتحيز له – ينصرف إلى الإجراءات و حسب و لا ينطبق على الأهداف .
على سبيل الختم، يبقى مفهوم " التقدم " من المفاهيم التي تحتاج إلى مراجعة في معجمنا الفكري و السياسي و لن يتم ذلك إلا بالانفكاك عن التحيز للرؤية الغربية للحياة و الإنسان . فالتقدم الذي يستبعد الجوانب الأخلاقية و الإنسانية  لا يؤدي سوى لخراب العلاقات الاجتماعية و مخاصمة الفطرة البشرية و لا أدل على ذلك من شرعنة الشذوذ الجنسي أو ما يسمى بالزواج المثلي قانونيا قبل شهور معدودة في دولة جد متقدمة !

0 التعليقات

إرسال تعليق