| 1 التعليقات ]





أي فكرة نبيلة تنطلق لتخدم الإنسان؛ يتلاشى جوهرها الذهبي المشرق مع وقوعها في يد حركة أو تنظيم يتعرض مؤسسوه للتدجين والاحتواء والتوظيف من طرف أصحاب المصالح الكبرى. من هنا ليس غريبا أن يكون حجم التحول الذي يلحق الفكرة ضخما خاصة إذا تم إلحاقها بمصالح الإمبريالية العالمية.

يمكن أن نذهب إلى أبشع حركة نستقذرها في وعينا (الصهيونية) لنرى أنه يسري عليها هذا التحول. فالصهيونية كفكرة أولية تحيل على حماية اليهود المشتتين في الأرض والمعذبين في "الكيتوات"، هي فكرة إنسانية مشرقة، ولكن ارتماؤها في أحضان الاستعمار الامبريالي باعتباره إغراء وسعيها لصيانة إنسانية اليهود على حساب إنسانية الآخرين (الفلسطينيون، وغيرهم)، أحال الصهيونية مع ما تتالى من الأحداث والتطورات إلى حركة استعمارية إحلالية عنصرية مدمرة وغير إنسانية.

قد يقول قائل: وما الفائدة اليوم من التذكير بأصل فكرة الصهيونية، ونحن نتلظى بجرائمها يوميا ونعرف جيدا أفكارها انطلاقا من أعمالها، لعلها حيلة جديدة للتطبيع مع المشروع الصهيوني؟

طبعا، يجب الانتباه إلى التوظيف السلبي لأي نقاش يُفتح. لكن الفائدة تتجلى في أن المرافعة ضد الصهيونية ستكون أقوى إذا كانت مستندة إلى العمق الذي بنيت عليه أصلا. إن هذا العمق يحيل على أن اليهود، في زمن القرن 19 ومطلع القرن العشرين، يعانون من معاملة غير إنسانية بعدما صاروا منبوذين في ظل النظام الرأسمالي الذي حرمهم من وظائف الوساطة التي ينتعشون بها في ظل النظام الإقطاعي. وبالتالي، يحتاجون إلى فضاء يحترم إنسانيتهم ويصون كرامتهم.

إذن، ترتكز الفكرة الأولى التي شكلت منطلقا ل(الصهيونية)على معان جليلة عمودها هو احترام كرامة الإنسان "اليهودي". (في هذا المقام، لا تهمنا الديباجات الدينية المُوظفة في الخطاب الصهيوني لتنزيل هذه الفكرة لاحقا). ولكن المفارقة البارزة في مشهد اليوم تتمثل في أن ما تقوم به الصهيونية -عبر كيانها ولوبياتها-هو انتهاك مستمر لكرامة الإنسان "غير اليهودي".

إذا أردنا أن نكون أوفياء ل "روح الصهيونية"، أي العمل على احترام كرامة الإنسان اليهودي؛ فيتعين أن نكون واضحين في الإيمان بأنه لا يمكن أن تُصان كرامة إنسان في ظل الهدر الذي تتعرض له كرامة إنسان آخر. ولا يمكن أن نتحدث عن احترام هوية امة مع استمرار مسلسل تدمير هوية أمم أخرى.

إن احترام كرامة أي مجموعة بشرية لها هوية تُميزها لن يكون إلا في ظل نظام ديمقراطي. هكذا، رأينا عمدة لندن مسلما ورأينا أوباما رئيسا لأمريكا (بعدما كان الجنس الأبيض في أمريكا يضهد السود لعقود طويلة من الزمن). وبالتالي، الوفاء ل"روح الصهيونية" يقتضي العمل على إنهاء الاحتلال وحل الكيان وبناء أسس دولة فلسطينية بمقوماتها الحضارية التاريخية المتنوعة على أرضية نظام ديمقراطي يقوم على المواطنة ويصون التعايش بين مختلف الديانات والحساسيات.

بهذا، فقط، يمكن الوفاء لروح فكرة الصهيونية. بهذا، فقط، يمكن توفير الحماية وصيانة الكرامة وحفظ الهوية للجماعات اليهودية. أما وأن الكيان الغاصب قائم واستغلال الإنسان والعمران سلوك مستفحل؛ فإن المقاومة ستتجدد وستمدد إلى أن يسترجع الإنسان كرامته ومقدساته. ولن ينعم الإنسان "الصهيوني" بالراحة أو السلام أو الكرامة؛ ما لم ينعم الإنسان الآخر بمقومات كل ذلك.

إن الفكرة التي ندندن حولها في هذه السطور متصلة بطبيعة الخطاب المفيد للقضية الفلسطينية في أوساط المثقفين والأجانب وفي المحافل الدولية. ونقصد الخطاب الكفيل بإحراج الصهيونية بأوراقها. ويمكن أن يكون المدخل إلى ذلك هو إعادة النظر في مدى اتصال المشروع الصهيوني كما هو اليوم بالفكرة الأساسية التي بُني عليها المشروع. ولا يخفى أن جوهر الفكرة هو تأمين حياة الجماعات اليهودية؛ كما أنه واضح أن هذه الجماعات تعيش وهي غير مطمئنة بسبب الضغط المعنوي والمادي الذي أحدثته المقاومة الباسلة. إذن، المشروع الصهيوني فاشل في تنزيل الفكرة الأم. والحل يبدأ بحل الكيان؛ وفاء لروح فكرة الصهيونية.

أما الخطاب الموجه للصف الداخلي للتعبئة على النهوض بأعباء المقاومة والوفاء لخط الممانعة فهو خطاب مختلف؛ من المفروض أن ينهل من الدين أو أي قيم رمزية تلهم الإنسان قيم النضال والتضحية والاستشهاد في سبيل الوطن والقضية.



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]






ثمة خصام تاريخي تورطنا فيه تجاه مجموعة من المفاهيم والأفكار في سياق صاخب بالصراع. ولكن يبدو أنه لا معنى، اليوم، لاستمرار ذات الخصام، خاصة وأننا نعاني من العديد من الأدواء مردها إلى العجلة في إصدار الأحكام والغفلة عن التدقيق في المدلولات والمسميات.

لا شك أن من مثيرات الخصام؛ الدلالات والرواسب التي تتصل بالمفاهيم أو الأفكار أو المذاهب مع التطورات التاريخية والتحولات البنيوية اللاحقة. فغالبا ما نجد المفهوم أو المذهب ناصعا في جوهره ومشرقا في طفولته وضروريا في زمن نشأته غير أن ما يصاحب عملية نموه من ردود أفعال تجاهه ومن معيقات تقف حجابا في طريقه أو أحيانا بسبب مغريات لم تكن كائنة زمن ميلاده. لكل هذه الأسباب، تتشكل صورة أخرى عن المفهوم غير ما أراد به مؤسسوه.  

تعد كلمة "اليسار" من الكلمات التي تحيل على دلالات مناقضة للهوية في مخيال العديد من الناس. هكذا، أخذ الناس من اسم "اليسار" مسمى واحدا ارتبط بموجة "اليسار الجديد" التي انبعثت في أواسط الستينات من القرن الماضي.

في حين أن أصل كلمتي "اليسار" و"اليمين" يرجع إلى الجدل حول الدستور في مجلس النواب الفرنسي عام 1789، حيث جلس المؤيدون لسلطات أوسع للملك على يمين رئيس المجلس، وجلس المؤيدون لسلطات أوسع للبرلمان على يساره. اكتسبت هذه القسمة فيما بعد معنى عاما، فالذين يجلسون جهة اليسار هم المطالبون بالتغيير، ومن يجلسون جهة اليمين هم المطالبون ببقاء الوضع القائم. (1)

إذن، الرواسب التاريخية والإيديولوجية التي علقت بمفهوم "اليسار" أدت إلى تحميله مضامين جديدة حتى نسي الناس جوهر المفهوم. ولا شك، أن إيحاءات فكرة "اليسار" الأولى إيجابية جدا. فالدفاع عن توسيع صلاحيات البرلمان عوض صلاحيات الملك هو دفاع عن مبدا "ربط المسؤولية بالمحاسبة"؛ إذ أن البرلمان منبثق من الشعب وعرضة لرقابته وعقابه في الاستحقاقات الانتخابية وبالتالي حيازته لصلاحيات واسعة دلالة على تجذر الإرادة الشعبية في كل القوانين والتدابير. أما توسيع صلاحيات الملك، فهو حيازة فرد واحد غير قابل للمحاسبة ولا المتابعة للسلطات التي تمكنه من أن يتصرف في مُقدرات شعب كادح.

هكذا، يريد "اليسار" الانتصار للإرادة الشعبية في مقابل خيار الانتصار لإرادة فرد. وفعلا، المسار التاريخي الذي تلا 1789 حافل بالمعاناة في سبيل توطيد دعائم أنظمة تسعى لتعزيز الإرادة الشعبية عوض إرادة فرد أو أقلية محتكرة.

إن الناس ينسون في نقاشاتهم، والإعلام يُعينهم على الغفلة عن ذلك، بأن "اليساري" الأصيل هو الذي ينحاز للشعب ويعمل على تعزيز الإرادة الشعبية في كل المؤسسات وعلى كل المستويات. وبالتالي؛ لماذا أكون ضد "اليسار"؟ او ليس الانتماء لخط "اليسار" انتسابا لخط الشرف والمنافحة عن إرادة الشعب؟

إن "اليسار" قبل ظهور الماركسية، في القرن 19، وارتباطه بالمسالة الاجتماعية؛ هو حارس الإرادة الشعبية ضد نزوعات السلطوية وهيمنة اللوبيات والعائلات الحاكمة على قرار وموارد الدولة. إن اليسار، لاحقا، مع الماركسية في طبعتها اللينينة هو عنوان مقاومة الإمبريالية على المستوى العالمي باعتبارها "أعلى مراحل الرأسمالية".

واليسار، اليوم، الذي نعرفه في الألفية الثالثة في سياق نظام عالمي أحادي القطب هو يسار الدفاع عن "الحريات الفردية" (الشذوذ الجنسي، الإجهاض، الإفطار العلني في رمضان، العلاقات الجنسية "الرضائية"، المساواة في الإرث). ولعل وجودنا في زمن "ما بعد الإيديولوجيا" حيث يخفت الإيمان بالقضايا الكبيرة والأفكار الجليلة والقيم العظيمة ويرتفع منسوب الالتصاق بنداء الجسد عوض ذلك، كان سببا ملحا في بروز يسار "الحريات الجنسية".

هكذا، يبدو مسار "اليسار" حافلا: معارضة السلطوية والعمل على توطيد النظام الديمقراطي البرلماني؛ حمل المسالة الاجتماعية والدفاع عن الطبقة الكادحة ضد المستغلين لقوة عملها؛ مناهضة الامبريالية والصهيونية على المستوى العالمي؛ الدفاع عن الحريات الفردية بمختلف الوانها باعتبارها أم القضايا والدفاع عن البيئة وما يتهددها من دمار على المستوى العالمي. وقد تجد الهيئة "اليسارية" الأصيلة تستجمع كل هذه القضايا في خطابها ونقاشها وبرنامجها.

إن فكرة اليسار، قد اتضحت، وهي: الانحياز لخط العدل السياسي والاجتماعي والدولي والجنسي. إننا نحتاج إلى إيقاد هذه الفكرة بشكل متجدد. قد نختلف مع بعض المضامين في تنزيلها فيما بيننا. ولكن تبقى فكرة "اليسار" فكرة إنسانية نبيلة ومشرقة.

إن الحاجة تبقى دائمة، في بلادنا، للناس الذين يقفون على يسار الظالمين والمفسدين والمستبدين والمتخلفين والجاهلين والصهاينة والمستكبرين؛ ويعلنون بنباهة وقوة وحكمة وبصيرة علمية أن لا: للفساد والاستبداد، والظلم والسلطوية، والجهل والتخلف، والصهيونية العنصرية والاستكبار العالمي.

(1)علي عزت بيغوفيتش، هروبي إلى الحرية، ترجمة: محمد عبد الرؤوف، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2014، ص:179.


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





سألت صديقا لي بلغ مقام الأبوة مؤخرا، كيف وجد ذلك المقام؟ فوجئت بأنه أجاب: إنه مقام رائع، فبعده يكون لك هدف في الحياة. بعد تقليب النظر في جواب صاحبي، عادت بي مخيلتي إلى استجماع عناصر المشهد العام للمنظومة التي نسير وفقها، والتي تتوطد دعائمها يوما بعد يوم.

إن المنظومة المقصودة هي التي تحدد السيرة المطلوبة من كل إنسان كي يسلكها، والمحطات التي ينبغي أن يمُر عبرها، والمعاني والأفكار والهموم والأهداف والغايات التي يتعين عليه ألا يتجاوزها. قد يتساءل سائل: من المسؤول عن بناء هذه المنظومة ورعايتها؟ دعونا نحاول أن نقترب منها، لعل بفهمنا لها، واستيعابنا لمُخرجاتها وثمارها، سيتضح لنا المستفيد منها؛ فحتما سيكون متورطا في رعايتها.

ينمو الطفل، فيُلاحَق بأول سؤال: ماذا تريد ان تكون في المستقبل يا صغيري؟ طبعا، هو طفل لا يفكر خارج ما تسرب إلى بنيته الذهنية من محيطه وبيئته. يلج إلى مقاعد الدراسة: أريد أن أكون أستاذا، طبيبا، محاميا، مهندسا، طيارا...

يصل إلى المرحلة الإعدادية، يبدأ عقله في استيعاب المشهد بشكل أدق، ينخرط في التوجيه الدراسي، يغرق في أودية نصائح المحيطين به: اختر التكنولوجيا، العلوم.. لا مستقبل لغيرها.. فيهما كل الآفاق.. ركز على اللغة الفرنسية فهي مفتاح المفاتيح في المغرب.. اهتم بالإنجليزية فهي سيدة لغات العالم؛ ستكون محظوظا إذا أضفتها إلى رصيدك.

تبدأ كلمة "الآفاق" تتردد على ذهن التلميذ بشكل دوري. يدخل إلى عالم "الثانوي". يغرق في "التمارين" وفي "الساعات الإضافية"؛ عساه يبلغ الآفاق التي تبدأ بتحصيل شهادة باكالوريا بميزة جيدة. لا يلتقط التلميذ الأنفاس إلا في العطل، أو الأوقات التي يختلسها للذهاب إلى ملعب الكرة أو "البيار" أو مشاهدة أفلام التسلية على اليوتوب.

يحصل على شهادة باكالوريا تتيح له ما يُقرب من "الآفاق"؛ يسابق الزمن 5 سنوات أو 7 سنوات يصل إلى شهادة ضامنة لولوج "الآفاق". يمكث سنة أو سنتين؛ فيدخل حينها عالم "الآفاق" وعمره 28 سنة أو على مشارف الثلاثين.

طيلة المسار السابق، كانت الرؤية نافذة نحو أفق واحد. ينتقل هذا النموذج إلى التفكير في "الزواج" (في هذه السياق؛ لا يهمنا الخوض في التجارب العاطفية والجنسية التي قد يخوضها سابقا في الأوقات التي يختلسها بعيدا عن رتابة العمل من أجل "الآفاق"). يتزوج، ومباشرة يُنجب. ها هو يصبح أبا/أما!

هنا أعود إلى قصتي مع صديقي، لأستلهم منها الآتي وبقية عناصر المشهد. لما طرحتُ السؤال الذي يفرض نفسه على صاحبي: ما هو الهدف الذي تقصد؛ هل كنت بدون هدف طيلة 30 سنة التي سلختها من عمرك؟

كان الجواب: نعم، كنت بلا هدف. اللهم إلا هدف بلوغ "الآفاق" التي بلغتها بعد جهد جهيد. والآن، صار هدفي أن أرعى ولدي وأنفق عليه كي يبلغ "الآفاق" بدوره.

هكذا ستدور نفس الحكاية، وسيتكرر نفس المشهد. صديقي سيكرر على مسامع صغيره محفوظاته من النصائح الأبوية بالعمل على بلوغ "الآفاق". وربما ستكون الإضافة، هي أن الوالد الصديق انتزع النجاح في بلوغ "الآفاق" انتزاعا وخصص معظم وقته لذلك لان والده كان رقيق الحال. أما الصغير فسيجد الطريق إلى النجاح سالكا وبالتالي سيتضاعف وقت فراغه –بالمقارنة مع ما كان لأبيه- الذي لم تحدد له منظومة "الآفاق" ما سيفعل فيه؛ ولن يكون  الفعل سوى العبث والانتحار التدريجي (بإضاعة الوقت والصحة) والاستجابة لنداء الجسد.

هكذا سينتظر الإنسان إلى أن يبلغ  30 سنة ليكون له هدف في الحياة. ورغم كل ذلك؛ سيقول قائل: وما الخطب في هذا النموذج وهذه المنظومة، التي تحدد للإنسان هدفا واضحا (وهو تحصيل الوظيفة) وهدفا ثانيا (إلحاق الأبناء بذات المنظومة وإعانتهما على تحصيل الوظيفة)؟

بغض النظر عن أن هذه المنظومة تجسد حلقة مفرغة قاتلة ومدمرة، لأن الإنسان عصي بطبيعة تكوينه أن يبقى رهينا لهذا النمط مدى الحياة مما يرفع نسب احتمال وقوع انفجار في شخصيته وحياته (انفجار نفسي، اجتماعي، أو عقدي).

بغض النظر عن هذا الأمر، فالخطب يكمن في أن الحياة تفقد المعنى. فالحياة نضال وكفاح يستثمر المعرفة والفكر والتأمل والتجارب للاقتراب من القيم الجليلة (الحرية، العدل، الجمال، التواضع، الرحمة).

بهذه المنظومة، لن نقوم بتخريج إنسان يفكر في معركة الديمقراطية وعدالة توزيع السلطة والثروة في وطننا، ومواجهة الظلم والفساد والغش الذي نكتوي بناره على كل المستويات.

بهذه المنظومة؛ لن نجد نقوم بتخريج إنسان يفكر في مستقبل العدل على المستوى الدولي في ظل وجود العدو الصهيوني، وفي ظل التدخل السافر للدول العظمى في الحياة السياسية الداخلية للشعوب (دعما للانقلابات، وإعاقة للتجارب التنموية الصاعدة)، وفي ظل وجود دول محتكرة للقرار في مجلس الأمن.

بهذه المنظومة، لن نجد نقوم بتخريج إنسان يفكر في الإتيان بإبداع جديد أو اختراع مفيد أو كتاب منير يسهم في الارتقاء بأوضاعنا؛ اللهم إن كان سُلما للارتقاء الوظيفي (لأنه هدف هذا الإنسان الأوحد: هو الوظيفة وتقريب أبنائه منها).

بهذه المنظومة، لن نقوم بتخريج إنسان يفكر في معاني استخلاف الإنسان على الأرض، أو يجدد التفكير في الجرح الوجودي الذي يلاحقه، أو يعيد التساؤل بشكل دائم عن اتصاله بالله جل في عُلاه والموت وما بعده من رحلة.

إن بهذه المنظومة ماتت بعض الحركات الاجتماعية المكافحة، وبها تحتضر الحركة الاجتماعية التي ظلت صامدة إلى فترة قريبة. إن بهذه المنظومة، توسعت الكتلة الطلابية الصامتة ويعاني أبناء العمل الطلابي الجاد معاناة حقيقية.
إنها المنظومة التي تدمرنا في صمت، في غفلة منا.

  
...تابع القراءة

| 1 التعليقات ]



لم يجد والدي عبارة أدق وأعمق وأصدق، تترجم ما يساوره من مشاعر أمام الجماهير الهادرة أمام مقر حزب العدالة والتنمية بمدينة تيزنيت إلا تلك (سأهدي لكم حياتي).
تعلمتُ في السنتين الأخيرتين أن أشك في كل شيء، أن لا أنخدع بأي شعار، أن لا أصفق لأي ناعق، أن لا أتماه مع أي خيار؛ قبل أن أمحص وأفحص وأغربل وأفتش وأنتقد وأسائل.. لكنني متأكد أن تلك العبارة كانت صادقة، كانت نابعة من القلب، كانت مُترجمة للأحاسيس، كانت حجابا للدموع.
كيف لا تكون كذلك.. والجماهير الشعبية الهادرة في محيط المقر تركت بيوتها وودعت النوم ليلتها لتلتحق بأجواء الترقب ومناخات الاحتفاء دون أن تكون لها صلة مباشرة بالمصباح ودون دعوة من أحد..
بكل المقاييس المادية المحسوسة الملموسة البراغماتية؛ لا مصلحة لهم في الحضور، في الوقوف، في التعب، في الهتاف، في المشي، في التفاعل، في السهر ومقاومة النوم..
لكنه درس البسطاء الذي يتجدد.. إنهم، رغم تواضع مستواهم الفكري وخفة تحليلاتهم، يحسون بالقافلة أين ينبغي لها أن تسير، يعُون بحدسهم طبيعة المعركة.. إنهم يستنشقون الآمال انطلاقا من آلامهم. إنهم يدركون أن الصعوبات التي تعترض سبيل بعض المواطنين من أقرانهم ممن اختاروا العمل في إطار المصباح ومن أجل العدالة والتنمية، هي علامة نمو وتزكية لوجهة نظر المصباح في مقاربة معادلة الإصلاح والنهوض.
كنت منغمرا يوم الاقتراع، إلى جانب مراقبة الصندوق، في قراءة "اعتراف" تولستوي، الأديب الروسي الأكبر. ما أثار انتباهي هو أن الانقلابات والتحولات التي شهدها تولستوي (ولنا عودة معه في مناسبات أخرى) كان الحاسم فيها هو نظرته إلى البسطاء ونظرتهم كذلك إلى الحياة.
تولستوي كفر بكل عقائد الطبقة الراقية من الملاكين والأغنياء التي ينتسب إليها، لأنه وجد فيها فصاما نكدا بين ما يقولون ويفعلون. وبالمقابل انتبه إلى أن إيمان البسطاء بأي عقيدة وأي فكرة وأي قضية، رغم ما يخالطه في الغالب من خرافات، إلا أنه إيمان مصحوب بالصدق وبالعمل وبالتحول إلى واقع ملموس.
هكذا تمضي القصة أيضا اليوم. نجد الفئة التي يطلق عليها بالنخبة –سواء السياسية أو الثقافية- تتغنى بشعارات كبرى وتزعم أنها تؤمن وتروج لأفكار نبيلة، ولكن يتضح بعد كل امتحان أن طيفا واسعا منها لا يريد سوى أن يعيش، ولم يجد ما يقتات به سوى لوك الكلام عن الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية.
كيف يمكن لمترف ورث الترف عن أبيه –وهذا أمر لا عيب فيه لأن الإنسان لا يختار أصوله- واستمر في استدامة ثروته بالوسائل المشروعة وغير المشروعة؛ لم يُجرب أن يركب في الحافلة (أو الطوبيس) مع المواطنين في يوم من الأيام ولا مر في زقاق من الأزقة الشعبية. كيف يمكن لهذا أن يستنشق آلام الجماهير وآمالهم، كيف يمكن له أن يفكر في العدالة التي يطلبون، أو الديمقراطية التي ينشدون..
لهذا نجد في الغالب، وطبعا هناك رجالات ينسجم حالهم ومقالهم، تلك الهوة العميقة وذلك البون الشاسع بين الدعوة إلى الديمقراطية والعدالة ومسألة تضييع حقوق المأجورين في المقاولات التي يشرف عليها هؤلاء المترفين. ونجد ذلك الانفصال بين السعي إلى دولة الديمقراطية والمؤسسات وبين استعمال المال الحرام في الانتخابات.
أما البسطاء فهم إذ يعبرون عن تطلعهم إلى الديمقراطية ونشدانهم للكرامة، فلأنهم يُهانون في الإدارات والمقاطعات قبل أن تٌقضى حوائجهم البسيطة (دائما ما يحدث هذا أمام أعيني في العاصمة)، ولأنهم يحسون بأن ثروات البلاد تذهب في كماليات أفراد معدودين- بغير وجه حق- على حساب انسحاق ضروريات جماهير بأكملها، ولأنهم على دراية بأن المجالس المنتخبة (سواء الجماعية أو البرلمانية) لا تكون سوى في نصيب من يملك ويستعمل الأموال..
لهذا هذه الجماهير الهادرة، هؤلاء البسطاء ينفعلون مع الحاملين للإرادة الشعبية الذين يصلون إلى المجالس المنتخبة بدون الوسائل الخسيسة. لهذا يتفاعلون وجدانيا مع أجواء الاحتفاء ببلوغ أحد أبنائهم إلى قبة البرلمان (أحد هؤلاء البسطاء، شيخ طاعن في السن زار والدي في البيت كي يهنئه فاستقبلته وعبر لي عن بالغ سروره وقدم لنا هدية عبارة عن كمية معتبرة من "النعناع"، لعله بائع نعناع).
هذه الجماهير الهادرة وهؤلاء البسطاء إذ يصرخون بمطالب فهم لا يهوون تشقيق الكلام وإنما يعبرون عن مآسيهم. وللأسف، العمل السياسي خاصة المحلي لا ينهض سوى بشق من متطلبات الجماهير المادية الملموسة (الطرق، الإنارة، الماء الصالح للشرب، سلاسة قضاء الأغراض في الإدارات، التخفيف من الإجراءات البيروقراطية المثقلة، بناء النوادي ودور الشباب..). أما حاجاتها المعنوية والثقافية، فهي هامة. وفي ظل استمرار سياسة تعليمية ترفع شعار المهننة والتقننة ولا تتغيى الارتقاء بالإنسان وتشييد قيم المواطنة الحق وبناء الوعي النقدي المطلوب تجاه كل القضايا؛ لا يمكن إلا المُراهنة على الحركات الاجتماعية –رغم خفوت أصواتها- والمجتمع المدني والحركة الطلابية في الارتقاء بوعي الجماهير الهادرة. 
هؤلاء البسطاء، إذن، يستحقون الخير العميم، فبهم يتألق الأمل من جديد.
هب لهم يا والدي ما تبقى من حياتك كما وعدتهم (بعدما وهبتهم أجزاء منها في مجلس الجهة سابقا ومجلس البلدية حاليا)، ولا تتردد.. فهي هبة ما بعدها هبة، فهم يستحقون حقا أن يُفدون بحيوات لا بحياة واحدة.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]


ثمة سلوك يشيع في صفوف المجموعات البشرية التي تلتئم حول فكرة ما وترفع شعارات معينة وترنو إلى عيد تصبح فيها المطامح والأحلام واقعا ملموسا. وللأسف الشديد فهكذا سلوك يبرز بقوة في فضائنا الإسلامي العربي والأمازيغي. والأسف يشتد لأنه ظاهرة اجتماعية متكررة كانت وراء فشل العديد من النهضات والوثبات التاريخية، ومع ذلك لم ينل حقه من النقد والدرس والتفكيك والتحليل، ما يُسعف الأجيال الصاعدة والقادمة من التخفيف من حدة آثاره وانعكاساته في الطريق الحالي نحو النماء والتقدم. وما فائدة العلم بالشيء غير التنبؤ وتسخير كل الوسائل الكفيلة بتوجيه الأمور في اتجاه المسار الصحيح.
إن السلوك المقصود أو الظاهرة الاجتماعية المعنية بهذه السطور هو "الشقاق" و"النزاع" الذي يطفو على السطح بمجرد ما تصل الجماعة البشرية المتراصة إلى مفتاح الباب. إنه التشرذم بل العنف بين الإخوة الأعداء.
تجد أفراد هذه الجماعة يحترقون شوقا ليوم تتحقق فيه الآمال التي يحملونها ويجتهدون ليل نهار من أجل ذلك. تلفيهم وقد عانوا الأمرين أمام العدو المشترك وقد جلسوا جنبا إلى جنب في الزنازين والمعتقلات وقد وقفوا بتراص في طليعة المعركة يوم الزحف وقد ذاقوا الجوع وقد تجرعوا مرارة السهر..
نعود إلى ماضينا السحيق ونجد أنه بعد الثورة النبوية المشرقة التي أنارت شبه الجزيرة العربية وما حولها بنورها الممتد إلى السماء. بعد أن كان الصحابة الكرام في حالة استضعاف أمام العدو (عتاة قريش) في مكة وهم يسجلون صفحات مضيئة في تاريخ تحرر الإنسانية حيث تلفحهم الشمس الحارقة وتسلط عليهم العذابات المميتة، وكانوا في متآزرين بعد ملحمة "الهجرة" التي تركوا وراءهم -على إثرها- كل أملاكهم المادية المحسوسة، وكانوا أشداء على العدو في ساحة الوغى ورحماء بينهم وقد خاضوا "بدرا" ببسالة وهم قلة وهبُوا ل"تبوك" بشجاعة وهم في جو ليس له مثيل (شدة الحرارة وقلة الماء والمؤونة وبعد المسافة ووعورة الطريق).
بعد أن كانوا كل ذلك وانكشفوا للعالم أجمع وبلغوا تُخوم الفرس والروم وصارت دولتهم مترامية الأطراف وأصبحت دعوتهم مشهورة في شتى الأصقاع والبقاع.. باختصار؛ بعد أن حل يوم العيد، عيد الثورة النبوية (فلا شك أنهم لما كانوا في مكة مستضعفين كانوا يفكرون في يوم النجاحات)، عيد الدعوة (انتشار الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا).
بعد ذلك، بل في مساء يوم العيد حلت الكارثة وبرزت الفتنة وشاع الانقسام وانبرت فرَق الشقاق. ومات آلاف من المسلمين في معارك فيما بينهم لم يمت قط مثل ذلك العدد أمام الأعداء، هذا ولم يجف بعد دم الفاروق ولما فارقت بعد ذكرى الصديق أذهان الناس ولما صار رنين توجيهات الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد بعيدا عن مداعبة الآذان!
نأتي إلى ثورات التحرر الوطني. في الجزائر بلد المليون شهيد الذي تأبى على أن يكون ذيلا أو فرنسا الثانية لقرابة قرن ونصف. خاض الشعب الجزائري غمار النضال ضد الاستعمار منذ الأمير عبد القادر في القرن التاسع عشر ومازال يعبئ القوى ويجهز العُدة والعتاد ويستصرخ الشباب للجهاد حتى كانت وثبة نونبر سنة 1954. فانجلى قادة المقاومة وكانوا: أحمد بن بلة، حسين أيت حمد، محمد بوضياف، محمد خيضر، ومصطفى الأشرف؛ الذين تحملوا مشاق السفر وتعريض الحياة للخطر وعناء البحث عن السلاح ومآسي التشريد والنفي.
بعد سنوات قليلة، تنال الجزائر استقلالها عن جدارة واستحقاق وبعد مقاومة ونضال عز لهما مثيل في القرن. وإذا بأحد قادة الكفاح الوطني يصبح رئيسا للجمهورية (الرئيس أحمد بن بلة) سنة 1963. ما يعني أن يوم العيد حل من جديد، حينما صار القادة الأحرار محل المستعمرين الأغيار. فقبل سنة فقط، كان هؤلاء القادة في المنفى في فرنسا حيث قضوا سنوات ليست بالقليلة منذ حادث اختطاف الطائرة سنة 1955، وتجرعوا هناك مرارة (بل حلاوة) خوض معركة الأمعاء الخاوية في إضراب طويل عن الطعام.
لكن..! في مساء يوم العيد، أي بعد أشهر قليلة من حكم الرئيس بن بلة، بدأ تمرد أشقاء المنفى ينبعث وثورة رفاق الطريق على الرفيق تلوح في الأفق، ولم يشفع لهم في ذلك اللحظات الجميلة –على مرارتها- التي قضوها أيام النضال المشترك والجهاد الموجه نحو العدو الأوحد (الاستعمار الفرنسي). هكذا حُكم على حسين أيت حمد بالإعدام (الحكم الذي لم يعرفه من العدو الاستعماري!)، وبعد تدخل الأقرباء تم تعليق الحكم وتخفيفه إلى المؤبد. وبعد أشهر سينقلب هواري بومدين (الرجل الذي استقطبه وأطره بنبلة !) على الرئيس بن بلة لتنعم الجزائر بحكم العسكريين منذ ذلك الحين إلى اليوم وليودع الرئيس بن بلة الإقامة الإجبارية خمسة عشر سنة (إلى حدود 1980!).
وليس المغرب بمنأى عن هذه الظاهرة الاجتماعية اللافتة.
عُرف الشعب المغربي بكونه تواقا إلى الحرية والاستقلال. ولهذا لم تتوقف العمليات العسكرية ضد المستعمر إلا في سنة 1934. وبرزت بالموازاة المقاومة السياسية عبر وسائل التوعية المعروفة (الصحافة، الدروس، المظاهرات، البيانات..). ولما تبين أن البوابة السياسية لا تكفي للتحرير ولما بلغت السياسات الاستعمارية مداها (التنكيل والخسف والاعتقال والتشريد والنفي والقتل) بنفي عاهل البلاد محمد بن يوسف سنة 1953 وتفويت العرش للمدعو بن عرفة ضدا على الإرادة الشعبية؛ كانت المقاومة العسكرية هي الطريق من جديد.
هكذا خاض المقاومون المغاربة معارك باسلة ضد العملاء والخونة سرعان ما امتدت في كل أنحاء البلاد. وبينما هم في عملهم ذاك، كان رواد العمل السياسي المقاوم (الحركة الاستقلالية) في الزنازين والمنافي (حملة سنة 1951 المستمرة إلى حدود سنة 1954).
إذن، كان الجميع ينتظر الاحتفاء بيوم العيد؛ عيد الاستقلال المجيد. لكن ذات السيناريو الأليم تحقق. فمساء يوم العيد (غداة الاستقلال)، أي بعد مُضي أشهر يسيرة بدأ الاحتراب الداخلي في صفوف المقاومين وبدأت التصفيات وراح ضحيتها الكثير من الناس أبرزهم المقاوم المعروف بعباس المسعدي في بداية صيف سنة 1956 (بعد ثلاثة أشهر من فسخ عقد  الحماية في مارس). وليس هذا فحسب، بل تعمق الصراع بين المقاومين السياسيين والمقاومين العسكريين وكأن المقاومة ليست ملة واحدة.
وانسحب ذات الصراع على الحركة الاستقلالية التي كانت قائدة المقاومة السياسية، فتمزقت أوصالها وتفرقت عناصرها شذر مذر وانفجرت التناقضات بين مكوناتها في صيف سنة 1958؛ فكان الانشقاق الذي أدى إلى بروز حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي جمع لفيفا من النقابيين والمقاومين والشوريين (نسبة إلى حزب الشورى والاستقلال) علاوة على ألأقطاب الاستقلاليين (المهدي بنبركة، عبد الرحيم بوعبيد، عبد الله إبراهيم، عبد الرحمان اليوسفي).
والعجيب في الأمر أن الحركة الاتحادية الوليدة بدأت وفي فمها ملعقة من ذهب بفضل تغلغل عناصرها في أوساط الجماهير الشعبية، إذ فازت بأول انتخابات في المغرب المعاصر وهي الانتخابات الجماعية في ماي سنة 1960 خاصة في المدن الكبرى (البيضاء، الرباط،  فاس..). وسرعان ما تعرضت لاضطهاد عنيف من طرف الحكم. ورغم ذلك حصلت على نتائج مشرفة في الانتخابات البرلمانية الأولى في تاريخ المغرب في سنة 1963. ولكن الظاهرة الاجتماعية التي تستشري في بيئتنا لم تكن الحركة الاتحادية المتألقة بمعزل عنها. فمنذ المؤتمر الثاني في سنة 1962 نجد أن الشقاق والنزاع بدأ يطفو حول التقرير الذي يراد له أن يكون معبرا عن خط الاتحاد الإيديولوجي والفكري والسياسي (هل التقرير المذهبي للرئيس عبد الله إبراهيم أم الوثيقة المسماة لاحقا بالاختيار الثوري للشهيد المهدي بنبركة؟).
تمَكن الصراع من العائلة الاتحادية خاصة بين الجناح النقابي والجناح السياسي فتُوج ذلك بوثبة يناير سنة 1975 بالمؤتمر الاستثنائي الذي أعلن عن ميلاد الاتحاد الاشتراكي. راح الاتحاديون في البناء واستثمروا كل طاقاتهم في التعبئة لمشروعهم الدائر حول النضال الديمقراطي في إطار "الشرعية" والمؤسسات والذي يستلزم النَفَس الطويل. عانوا من المضايقات (مصادرة جريدة "المحرر" أحيانا، اغتيال الشهيد عمر بنجلون والمُرجح –حسب اتحاديين أصلاء- أن يكون ذلك من طرف المخابرات بأدوات تنفيذية تجسدت في متطرفين دينيا، اعتقال أعضاء من المكتب السياسي في سنة 1981 ووضعهم قيد الإقامة الجبرية بسبب موقف الاتحاد من الاستفتاء في الصحراء، المعاناة مع تزوير الانتخابات وتقزيم تمثيلية الاتحاد في المؤسسات..).
لكن لما حل يوم العيد، مع التسجيل أن فرحة هذا الأخير منقوصة لاعتبارات متعددة أبرزها أن الانتخابات التي جرت في نونبر سنة 1997 والتي حملت الاتحاديين إلى تجربة التناوب في مارس سنة 1998 هي انتخابات مزورة (وهذه المرة لصالح الاتحاد، حتى أن بعض المرشحين الاتحاديين النزهاء عبروا عن استنكارهم للنتيجة التي مكنتهم من مقعد برلماني لا يستحقونه!). كما أن نتائج الانتخابات أفرزت فروقا ضئيلة جدا بين الاتحاد والاستقلال. بالإضافة إلى أن الحكم لجأ إلى الاتحاد لما استنفد جميع الأوراق وكانت البلاد على كف عفريت.
مساء يوم العيد بدأ المأتم من جديد. هكذا خرجت بعض الأطر الاتحادية النزيهة من السفينة (أبرزهم الأستاذ محمد الساسي). وفي سنة 2002 بعد قبول الحزب بالانخراط في حكومة يرأسها تقنوقراطي في معاكسة واضحة للمنهجية الديمقراطية، تعمق هذا الشرخ وخرج الأستاذ اليوسفي متألما.. ولاحقا صار الاتحاد لعبة صبيان، وحاله اليوم يبكي الخصوم الوطنيين الشرفاء قبل الاتحاديين الغيورين الأصلاء!
المهم أن ما أريد إيصاله للقارئ من فكرة قد انجلى: إن مأتم الاتحاد بدأ ليلة العيد. ومأتم الاستقلال بدأ ليلة العيد. ومأتم المقاومة بدا ليلة العيد.
وليست الحركة الإسلامية بمنأى عن هذه الظاهرة الاجتماعية. فقد رأينا ما تلا الثورة النبوية من شقاق نجم عنه آلاف الضحايا. ولنا في التجارب المعاصرة أيضا عبرة.
كان المتعاطفون مع الفكرة الإسلامية متحمسين للجهاد الأفغاني ضد الشيوعيين، واعتبروا ذلك معركة مقدسة. فبالفعل، يتذكر من عايش تلك الأحداث وتابعها إعلاميا الملاحم التي يجسدها المجاهدون (برهان الدين رباني، قلب الدين حكمتيار، والشهيد عبد الله عزام..) على الأرض بفضل اتقاد عزيمتهم واشتعال إيمانهم وقوة إرادتهم مما انعكس على سلوكهم فيما بينهم إذ تجد الانسجام والتناغم ساريا بين صفوفهم.  
لكن الجميع رأى وسمع عن "الحرب الأهلية" التي كانت بين إخوان الأمس الذين تحمسوا للعمل المقاوم والجهاد المشترك وتعبوا من أجل ذلك وضحوا بالغالي والنفيس. نفس السيناريو يتحقق!
في السودان. جاءت الحركة الإسلامية عبر انقلاب عسكري إلى السلطة. ما يعني أن العيد بمواصفات الصفاء والحلاوة الاستثنائية التي ينفرد بها غير موجودة في هذا المثال، لأن الطعم الخاص الذي يتميز به العيد مصدره العناء والتعب السابق (الصوم يُتوج بالفطر، والجهد المبذول في الحج يُتوج بالأضحية..). علاوة على أن الانقلابات العسكرية تحيل على عهود رجعية وبائدة، يُفترض أن البشرية اليوم تجاوزتها في عصر الديمقراطية والمؤسسات والانتخابات الحرة.
ولكن الأمر قد يكون عيدا بالنسبة للحركة الإسلامية في السودان، فقد يتصور أعضاؤها وقادتها أنهم يتصدرون المشهد السياسي وهناك جيوب المقاومة تقف عقبة دون أن ينالوا نصيبهم من السلطة وتجربة الحكم، وأنهم ضحوا ما يكفي وعبأوا الناس لثلاثة عقود من الزمن ورفعوا الشعارات وانخرطوا في عمل اجتماعي غير مسبوق.. إلى غير ذلك من الأمور التي يُبرر بها الإسلاميين الانقلابيين في السودان انقلابهم. والنتيجة أن الانقلاب يُصوَر في وجدانهم على أنه عيد وحفل تتويج ومسار آخر لتحول المُثُل والشعارات إلى واقع ملموس في السياسة بعد أن تم ذلك في مجال "الدعوة" والعمل الاجتماعي..
ولكن ماذا حدث ليلة العيد.. صار الدكتور حسن الترابي رحمه الله نزيلا في السجون السودانية بين الحين والحين –وهو الشيخ الهرم- يقضيه فيها ما لم يقض في الأيام التي كان خصوم الحركة الإسلامية على رأس السلطة.
السلفيون في مصر خاضوا مع الإخوان معارك إعلامية غير قليلة لتثبيت بنود تخص وضع الشريعة في الدستور، كان التلاحم جليا بل تم إحداث هيئة تضم بعض الحركات الإسلامية أيضا (الجماعة الإسلامية، الدعوة السلفية بالإسكندرية..) للعمل على قطع الطريق أمام "العلمانيين" و"الليبراليين" الذين يحملون تصورات لا تُعير الشريعة أهمية معتبرة.
لكن الانقلاب العسكري الدموي الذي تزعمه المجرم السيسي كان بمباركة من إخوان الطريق بالأمس (السلفيون): طريق نصرة الشريعة...
وما حدث بين حزب العدالة والتنمية التركي وجماعة فتح الله غولن يؤكد نفس السيناريو. فبعد أن كان غولن الداعم الأول لأردوغان وحليفه المفضل، صار بعد تألق أردوغان سياسيا، أكبر عدو له.
وحزب العدالة والتنمية المغربي ليس بدعا من الأحزاب وليست حاضنته الاجتماعية بدعا من الحركات الاجتماعية. وكما أن لكل فرد ساعة ولادة ولحظة وفاة، وكما أن لكل حضارة عناوين الميلاد والوفاة؛ فإن لأي حركة اجتماعية ساعة صعود ولحظة أفول.. والظاهرة الاجتماعية المرصودة في الأسطر أعلاه قادمة إلى الحزب لا محالة.
الآن، دعونا نتساءل، ما الذي يحدث بالضبط؟
إنه في زمن الثورة، والاستضعاف، والاضطهاد، والاعتقالات، والمعارضة.. يكون أعضاء نفس الجماعة البشرية (الحركة الاجتماعية، أو الحزب السياسي) على التحام متين لأن العدو يجمعهم وأهداف التحرر تداعب أحلامهم. وكانوا إذ ذاك يفكرون في أمر واحد وحيد: هو طريقة حل الباب المسدود.. أما ما وراء الباب وحكاية ما يجري خلفه فالتفكير بشأن ذلك لم يتم بتعقل وتؤدة. كانت الشعارات تُرفع وكانت الأصوات تعلو بالحياة للفكرة والموت للأعداء (أعداء: الاستقلال، الإسلام، الحرية، الديمقراطية، الاشتراكية...)، أما أسئلة السلطة والتغيير والسياسات العمومية وتدبير الاختلاف و"توزيع الغنائم" و"تقسيم المصالح والامتيازات"؛ فكانت أسئلة منبوذة لأن الزمن زمن ثورة واشتعال المعنويات والمحتوى الداخلي للمعارضين حيث يترفعون عن الامتيازات والمصالح والغنائم و"حطام الدنيا"...
ولهذا بعد أن يتم فتح الباب وفتح العيون على عالم جديد من الرخاوة والترف  وحياة النعم والامتيازات والمصالح والغنائم.. يقف الإفراد الذين أعضاء فاعلين في المعارضة مشدوهين لأن إخوانا لهم كانوا يقتسمون معهم الحلو والمر يعيشون عيشة رغيدة ويتمتعون بسلطة نافذة. تخيلوا الصحابة الكرام انقسموا لما برزت قضية السلطة ومتعلقاتها من مغانم الفتوحات المترامية الأطراف والمتمادية الأبعاد؛ فكيف بمن دونهم –من المسلمين- في الورع والارتباط بالآخرة والتخفف من أثقال الدنيا..
وهكذا حين يغيب التحدي أو العدو الخارجي (الاستعمار، الاستبداد، الخصم السياسي..)، ينبعث العدو من داخل الصف.
لكن هل سلوك مسلك الشقاق والإصابة بظاهرة الانقسام، قدر محتوم على الجماعات البشرية في محيطنا؟
إن العلم والمعرفة ليس لهما دور جوهري كالانطلاق من الظواهر المتكررة التي تفضي إلى نفس النتائج لبناء قواعد تحفظ من تكرار نفس الأخطاء والاستسلام ل"غول" الطبيعة (سواء البشرية أو المادية). لهذا فوعينا بملازمة هذه الظاهرة لمرحلة معينة من مراحل نمو الحركات الاجتماعية جدير بأن يجعلنا نستبق ونتجنب أن يكون مؤداها يصير إلى مضاعفات خطيرة وآثار مدمرة ومميتة. كما أن من شأن العلم بالظاهرة أن يجعلنا نتخفف من عقدة تأنيب الضمير (الذي يلازم الفرد الغيور الحائر في الطريق السالك نحو الصواب: هل طريق هؤلاء أم أولائك؟).
إن دعوة بنكيران أبناء الحزب وشبيبته إلى العض على "المرجعية" بالنواجذ نابع –في تقديري المتواضع- من كونه يرمق أن زمن الصراع والشقاق قد اقترب، ودور الالتزام بالمرجعية أي تغليب الجوانب المعنوية (في سبيل الله، الآخرة، الجنة، الإخلاص، تجديد النية، نكران الذات...) هو القيام بعمل "المهدئات" و"المسكنات" لتمديد عمر التجربة الحزبية. وهذا عمل يؤشر من جديد على ذكاء الأستاذ بنكيران وكونه يقرأ بشكل جيد ما يجري في البيت الداخلي فضلا عما يدور من تحديات خارجية.  إنه يتغيى تأجيل "المأتم" ما أمكن، ولحسن حظه، فهو –ربما- لن يعيش سوى زمن الأعياد.

...تابع القراءة