| 0 التعليقات ]


ثمة سلوك يشيع في صفوف المجموعات البشرية التي تلتئم حول فكرة ما وترفع شعارات معينة وترنو إلى عيد تصبح فيها المطامح والأحلام واقعا ملموسا. وللأسف الشديد فهكذا سلوك يبرز بقوة في فضائنا الإسلامي العربي والأمازيغي. والأسف يشتد لأنه ظاهرة اجتماعية متكررة كانت وراء فشل العديد من النهضات والوثبات التاريخية، ومع ذلك لم ينل حقه من النقد والدرس والتفكيك والتحليل، ما يُسعف الأجيال الصاعدة والقادمة من التخفيف من حدة آثاره وانعكاساته في الطريق الحالي نحو النماء والتقدم. وما فائدة العلم بالشيء غير التنبؤ وتسخير كل الوسائل الكفيلة بتوجيه الأمور في اتجاه المسار الصحيح.
إن السلوك المقصود أو الظاهرة الاجتماعية المعنية بهذه السطور هو "الشقاق" و"النزاع" الذي يطفو على السطح بمجرد ما تصل الجماعة البشرية المتراصة إلى مفتاح الباب. إنه التشرذم بل العنف بين الإخوة الأعداء.
تجد أفراد هذه الجماعة يحترقون شوقا ليوم تتحقق فيه الآمال التي يحملونها ويجتهدون ليل نهار من أجل ذلك. تلفيهم وقد عانوا الأمرين أمام العدو المشترك وقد جلسوا جنبا إلى جنب في الزنازين والمعتقلات وقد وقفوا بتراص في طليعة المعركة يوم الزحف وقد ذاقوا الجوع وقد تجرعوا مرارة السهر..
نعود إلى ماضينا السحيق ونجد أنه بعد الثورة النبوية المشرقة التي أنارت شبه الجزيرة العربية وما حولها بنورها الممتد إلى السماء. بعد أن كان الصحابة الكرام في حالة استضعاف أمام العدو (عتاة قريش) في مكة وهم يسجلون صفحات مضيئة في تاريخ تحرر الإنسانية حيث تلفحهم الشمس الحارقة وتسلط عليهم العذابات المميتة، وكانوا في متآزرين بعد ملحمة "الهجرة" التي تركوا وراءهم -على إثرها- كل أملاكهم المادية المحسوسة، وكانوا أشداء على العدو في ساحة الوغى ورحماء بينهم وقد خاضوا "بدرا" ببسالة وهم قلة وهبُوا ل"تبوك" بشجاعة وهم في جو ليس له مثيل (شدة الحرارة وقلة الماء والمؤونة وبعد المسافة ووعورة الطريق).
بعد أن كانوا كل ذلك وانكشفوا للعالم أجمع وبلغوا تُخوم الفرس والروم وصارت دولتهم مترامية الأطراف وأصبحت دعوتهم مشهورة في شتى الأصقاع والبقاع.. باختصار؛ بعد أن حل يوم العيد، عيد الثورة النبوية (فلا شك أنهم لما كانوا في مكة مستضعفين كانوا يفكرون في يوم النجاحات)، عيد الدعوة (انتشار الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا).
بعد ذلك، بل في مساء يوم العيد حلت الكارثة وبرزت الفتنة وشاع الانقسام وانبرت فرَق الشقاق. ومات آلاف من المسلمين في معارك فيما بينهم لم يمت قط مثل ذلك العدد أمام الأعداء، هذا ولم يجف بعد دم الفاروق ولما فارقت بعد ذكرى الصديق أذهان الناس ولما صار رنين توجيهات الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد بعيدا عن مداعبة الآذان!
نأتي إلى ثورات التحرر الوطني. في الجزائر بلد المليون شهيد الذي تأبى على أن يكون ذيلا أو فرنسا الثانية لقرابة قرن ونصف. خاض الشعب الجزائري غمار النضال ضد الاستعمار منذ الأمير عبد القادر في القرن التاسع عشر ومازال يعبئ القوى ويجهز العُدة والعتاد ويستصرخ الشباب للجهاد حتى كانت وثبة نونبر سنة 1954. فانجلى قادة المقاومة وكانوا: أحمد بن بلة، حسين أيت حمد، محمد بوضياف، محمد خيضر، ومصطفى الأشرف؛ الذين تحملوا مشاق السفر وتعريض الحياة للخطر وعناء البحث عن السلاح ومآسي التشريد والنفي.
بعد سنوات قليلة، تنال الجزائر استقلالها عن جدارة واستحقاق وبعد مقاومة ونضال عز لهما مثيل في القرن. وإذا بأحد قادة الكفاح الوطني يصبح رئيسا للجمهورية (الرئيس أحمد بن بلة) سنة 1963. ما يعني أن يوم العيد حل من جديد، حينما صار القادة الأحرار محل المستعمرين الأغيار. فقبل سنة فقط، كان هؤلاء القادة في المنفى في فرنسا حيث قضوا سنوات ليست بالقليلة منذ حادث اختطاف الطائرة سنة 1955، وتجرعوا هناك مرارة (بل حلاوة) خوض معركة الأمعاء الخاوية في إضراب طويل عن الطعام.
لكن..! في مساء يوم العيد، أي بعد أشهر قليلة من حكم الرئيس بن بلة، بدأ تمرد أشقاء المنفى ينبعث وثورة رفاق الطريق على الرفيق تلوح في الأفق، ولم يشفع لهم في ذلك اللحظات الجميلة –على مرارتها- التي قضوها أيام النضال المشترك والجهاد الموجه نحو العدو الأوحد (الاستعمار الفرنسي). هكذا حُكم على حسين أيت حمد بالإعدام (الحكم الذي لم يعرفه من العدو الاستعماري!)، وبعد تدخل الأقرباء تم تعليق الحكم وتخفيفه إلى المؤبد. وبعد أشهر سينقلب هواري بومدين (الرجل الذي استقطبه وأطره بنبلة !) على الرئيس بن بلة لتنعم الجزائر بحكم العسكريين منذ ذلك الحين إلى اليوم وليودع الرئيس بن بلة الإقامة الإجبارية خمسة عشر سنة (إلى حدود 1980!).
وليس المغرب بمنأى عن هذه الظاهرة الاجتماعية اللافتة.
عُرف الشعب المغربي بكونه تواقا إلى الحرية والاستقلال. ولهذا لم تتوقف العمليات العسكرية ضد المستعمر إلا في سنة 1934. وبرزت بالموازاة المقاومة السياسية عبر وسائل التوعية المعروفة (الصحافة، الدروس، المظاهرات، البيانات..). ولما تبين أن البوابة السياسية لا تكفي للتحرير ولما بلغت السياسات الاستعمارية مداها (التنكيل والخسف والاعتقال والتشريد والنفي والقتل) بنفي عاهل البلاد محمد بن يوسف سنة 1953 وتفويت العرش للمدعو بن عرفة ضدا على الإرادة الشعبية؛ كانت المقاومة العسكرية هي الطريق من جديد.
هكذا خاض المقاومون المغاربة معارك باسلة ضد العملاء والخونة سرعان ما امتدت في كل أنحاء البلاد. وبينما هم في عملهم ذاك، كان رواد العمل السياسي المقاوم (الحركة الاستقلالية) في الزنازين والمنافي (حملة سنة 1951 المستمرة إلى حدود سنة 1954).
إذن، كان الجميع ينتظر الاحتفاء بيوم العيد؛ عيد الاستقلال المجيد. لكن ذات السيناريو الأليم تحقق. فمساء يوم العيد (غداة الاستقلال)، أي بعد مُضي أشهر يسيرة بدأ الاحتراب الداخلي في صفوف المقاومين وبدأت التصفيات وراح ضحيتها الكثير من الناس أبرزهم المقاوم المعروف بعباس المسعدي في بداية صيف سنة 1956 (بعد ثلاثة أشهر من فسخ عقد  الحماية في مارس). وليس هذا فحسب، بل تعمق الصراع بين المقاومين السياسيين والمقاومين العسكريين وكأن المقاومة ليست ملة واحدة.
وانسحب ذات الصراع على الحركة الاستقلالية التي كانت قائدة المقاومة السياسية، فتمزقت أوصالها وتفرقت عناصرها شذر مذر وانفجرت التناقضات بين مكوناتها في صيف سنة 1958؛ فكان الانشقاق الذي أدى إلى بروز حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي جمع لفيفا من النقابيين والمقاومين والشوريين (نسبة إلى حزب الشورى والاستقلال) علاوة على ألأقطاب الاستقلاليين (المهدي بنبركة، عبد الرحيم بوعبيد، عبد الله إبراهيم، عبد الرحمان اليوسفي).
والعجيب في الأمر أن الحركة الاتحادية الوليدة بدأت وفي فمها ملعقة من ذهب بفضل تغلغل عناصرها في أوساط الجماهير الشعبية، إذ فازت بأول انتخابات في المغرب المعاصر وهي الانتخابات الجماعية في ماي سنة 1960 خاصة في المدن الكبرى (البيضاء، الرباط،  فاس..). وسرعان ما تعرضت لاضطهاد عنيف من طرف الحكم. ورغم ذلك حصلت على نتائج مشرفة في الانتخابات البرلمانية الأولى في تاريخ المغرب في سنة 1963. ولكن الظاهرة الاجتماعية التي تستشري في بيئتنا لم تكن الحركة الاتحادية المتألقة بمعزل عنها. فمنذ المؤتمر الثاني في سنة 1962 نجد أن الشقاق والنزاع بدأ يطفو حول التقرير الذي يراد له أن يكون معبرا عن خط الاتحاد الإيديولوجي والفكري والسياسي (هل التقرير المذهبي للرئيس عبد الله إبراهيم أم الوثيقة المسماة لاحقا بالاختيار الثوري للشهيد المهدي بنبركة؟).
تمَكن الصراع من العائلة الاتحادية خاصة بين الجناح النقابي والجناح السياسي فتُوج ذلك بوثبة يناير سنة 1975 بالمؤتمر الاستثنائي الذي أعلن عن ميلاد الاتحاد الاشتراكي. راح الاتحاديون في البناء واستثمروا كل طاقاتهم في التعبئة لمشروعهم الدائر حول النضال الديمقراطي في إطار "الشرعية" والمؤسسات والذي يستلزم النَفَس الطويل. عانوا من المضايقات (مصادرة جريدة "المحرر" أحيانا، اغتيال الشهيد عمر بنجلون والمُرجح –حسب اتحاديين أصلاء- أن يكون ذلك من طرف المخابرات بأدوات تنفيذية تجسدت في متطرفين دينيا، اعتقال أعضاء من المكتب السياسي في سنة 1981 ووضعهم قيد الإقامة الجبرية بسبب موقف الاتحاد من الاستفتاء في الصحراء، المعاناة مع تزوير الانتخابات وتقزيم تمثيلية الاتحاد في المؤسسات..).
لكن لما حل يوم العيد، مع التسجيل أن فرحة هذا الأخير منقوصة لاعتبارات متعددة أبرزها أن الانتخابات التي جرت في نونبر سنة 1997 والتي حملت الاتحاديين إلى تجربة التناوب في مارس سنة 1998 هي انتخابات مزورة (وهذه المرة لصالح الاتحاد، حتى أن بعض المرشحين الاتحاديين النزهاء عبروا عن استنكارهم للنتيجة التي مكنتهم من مقعد برلماني لا يستحقونه!). كما أن نتائج الانتخابات أفرزت فروقا ضئيلة جدا بين الاتحاد والاستقلال. بالإضافة إلى أن الحكم لجأ إلى الاتحاد لما استنفد جميع الأوراق وكانت البلاد على كف عفريت.
مساء يوم العيد بدأ المأتم من جديد. هكذا خرجت بعض الأطر الاتحادية النزيهة من السفينة (أبرزهم الأستاذ محمد الساسي). وفي سنة 2002 بعد قبول الحزب بالانخراط في حكومة يرأسها تقنوقراطي في معاكسة واضحة للمنهجية الديمقراطية، تعمق هذا الشرخ وخرج الأستاذ اليوسفي متألما.. ولاحقا صار الاتحاد لعبة صبيان، وحاله اليوم يبكي الخصوم الوطنيين الشرفاء قبل الاتحاديين الغيورين الأصلاء!
المهم أن ما أريد إيصاله للقارئ من فكرة قد انجلى: إن مأتم الاتحاد بدأ ليلة العيد. ومأتم الاستقلال بدأ ليلة العيد. ومأتم المقاومة بدا ليلة العيد.
وليست الحركة الإسلامية بمنأى عن هذه الظاهرة الاجتماعية. فقد رأينا ما تلا الثورة النبوية من شقاق نجم عنه آلاف الضحايا. ولنا في التجارب المعاصرة أيضا عبرة.
كان المتعاطفون مع الفكرة الإسلامية متحمسين للجهاد الأفغاني ضد الشيوعيين، واعتبروا ذلك معركة مقدسة. فبالفعل، يتذكر من عايش تلك الأحداث وتابعها إعلاميا الملاحم التي يجسدها المجاهدون (برهان الدين رباني، قلب الدين حكمتيار، والشهيد عبد الله عزام..) على الأرض بفضل اتقاد عزيمتهم واشتعال إيمانهم وقوة إرادتهم مما انعكس على سلوكهم فيما بينهم إذ تجد الانسجام والتناغم ساريا بين صفوفهم.  
لكن الجميع رأى وسمع عن "الحرب الأهلية" التي كانت بين إخوان الأمس الذين تحمسوا للعمل المقاوم والجهاد المشترك وتعبوا من أجل ذلك وضحوا بالغالي والنفيس. نفس السيناريو يتحقق!
في السودان. جاءت الحركة الإسلامية عبر انقلاب عسكري إلى السلطة. ما يعني أن العيد بمواصفات الصفاء والحلاوة الاستثنائية التي ينفرد بها غير موجودة في هذا المثال، لأن الطعم الخاص الذي يتميز به العيد مصدره العناء والتعب السابق (الصوم يُتوج بالفطر، والجهد المبذول في الحج يُتوج بالأضحية..). علاوة على أن الانقلابات العسكرية تحيل على عهود رجعية وبائدة، يُفترض أن البشرية اليوم تجاوزتها في عصر الديمقراطية والمؤسسات والانتخابات الحرة.
ولكن الأمر قد يكون عيدا بالنسبة للحركة الإسلامية في السودان، فقد يتصور أعضاؤها وقادتها أنهم يتصدرون المشهد السياسي وهناك جيوب المقاومة تقف عقبة دون أن ينالوا نصيبهم من السلطة وتجربة الحكم، وأنهم ضحوا ما يكفي وعبأوا الناس لثلاثة عقود من الزمن ورفعوا الشعارات وانخرطوا في عمل اجتماعي غير مسبوق.. إلى غير ذلك من الأمور التي يُبرر بها الإسلاميين الانقلابيين في السودان انقلابهم. والنتيجة أن الانقلاب يُصوَر في وجدانهم على أنه عيد وحفل تتويج ومسار آخر لتحول المُثُل والشعارات إلى واقع ملموس في السياسة بعد أن تم ذلك في مجال "الدعوة" والعمل الاجتماعي..
ولكن ماذا حدث ليلة العيد.. صار الدكتور حسن الترابي رحمه الله نزيلا في السجون السودانية بين الحين والحين –وهو الشيخ الهرم- يقضيه فيها ما لم يقض في الأيام التي كان خصوم الحركة الإسلامية على رأس السلطة.
السلفيون في مصر خاضوا مع الإخوان معارك إعلامية غير قليلة لتثبيت بنود تخص وضع الشريعة في الدستور، كان التلاحم جليا بل تم إحداث هيئة تضم بعض الحركات الإسلامية أيضا (الجماعة الإسلامية، الدعوة السلفية بالإسكندرية..) للعمل على قطع الطريق أمام "العلمانيين" و"الليبراليين" الذين يحملون تصورات لا تُعير الشريعة أهمية معتبرة.
لكن الانقلاب العسكري الدموي الذي تزعمه المجرم السيسي كان بمباركة من إخوان الطريق بالأمس (السلفيون): طريق نصرة الشريعة...
وما حدث بين حزب العدالة والتنمية التركي وجماعة فتح الله غولن يؤكد نفس السيناريو. فبعد أن كان غولن الداعم الأول لأردوغان وحليفه المفضل، صار بعد تألق أردوغان سياسيا، أكبر عدو له.
وحزب العدالة والتنمية المغربي ليس بدعا من الأحزاب وليست حاضنته الاجتماعية بدعا من الحركات الاجتماعية. وكما أن لكل فرد ساعة ولادة ولحظة وفاة، وكما أن لكل حضارة عناوين الميلاد والوفاة؛ فإن لأي حركة اجتماعية ساعة صعود ولحظة أفول.. والظاهرة الاجتماعية المرصودة في الأسطر أعلاه قادمة إلى الحزب لا محالة.
الآن، دعونا نتساءل، ما الذي يحدث بالضبط؟
إنه في زمن الثورة، والاستضعاف، والاضطهاد، والاعتقالات، والمعارضة.. يكون أعضاء نفس الجماعة البشرية (الحركة الاجتماعية، أو الحزب السياسي) على التحام متين لأن العدو يجمعهم وأهداف التحرر تداعب أحلامهم. وكانوا إذ ذاك يفكرون في أمر واحد وحيد: هو طريقة حل الباب المسدود.. أما ما وراء الباب وحكاية ما يجري خلفه فالتفكير بشأن ذلك لم يتم بتعقل وتؤدة. كانت الشعارات تُرفع وكانت الأصوات تعلو بالحياة للفكرة والموت للأعداء (أعداء: الاستقلال، الإسلام، الحرية، الديمقراطية، الاشتراكية...)، أما أسئلة السلطة والتغيير والسياسات العمومية وتدبير الاختلاف و"توزيع الغنائم" و"تقسيم المصالح والامتيازات"؛ فكانت أسئلة منبوذة لأن الزمن زمن ثورة واشتعال المعنويات والمحتوى الداخلي للمعارضين حيث يترفعون عن الامتيازات والمصالح والغنائم و"حطام الدنيا"...
ولهذا بعد أن يتم فتح الباب وفتح العيون على عالم جديد من الرخاوة والترف  وحياة النعم والامتيازات والمصالح والغنائم.. يقف الإفراد الذين أعضاء فاعلين في المعارضة مشدوهين لأن إخوانا لهم كانوا يقتسمون معهم الحلو والمر يعيشون عيشة رغيدة ويتمتعون بسلطة نافذة. تخيلوا الصحابة الكرام انقسموا لما برزت قضية السلطة ومتعلقاتها من مغانم الفتوحات المترامية الأطراف والمتمادية الأبعاد؛ فكيف بمن دونهم –من المسلمين- في الورع والارتباط بالآخرة والتخفف من أثقال الدنيا..
وهكذا حين يغيب التحدي أو العدو الخارجي (الاستعمار، الاستبداد، الخصم السياسي..)، ينبعث العدو من داخل الصف.
لكن هل سلوك مسلك الشقاق والإصابة بظاهرة الانقسام، قدر محتوم على الجماعات البشرية في محيطنا؟
إن العلم والمعرفة ليس لهما دور جوهري كالانطلاق من الظواهر المتكررة التي تفضي إلى نفس النتائج لبناء قواعد تحفظ من تكرار نفس الأخطاء والاستسلام ل"غول" الطبيعة (سواء البشرية أو المادية). لهذا فوعينا بملازمة هذه الظاهرة لمرحلة معينة من مراحل نمو الحركات الاجتماعية جدير بأن يجعلنا نستبق ونتجنب أن يكون مؤداها يصير إلى مضاعفات خطيرة وآثار مدمرة ومميتة. كما أن من شأن العلم بالظاهرة أن يجعلنا نتخفف من عقدة تأنيب الضمير (الذي يلازم الفرد الغيور الحائر في الطريق السالك نحو الصواب: هل طريق هؤلاء أم أولائك؟).
إن دعوة بنكيران أبناء الحزب وشبيبته إلى العض على "المرجعية" بالنواجذ نابع –في تقديري المتواضع- من كونه يرمق أن زمن الصراع والشقاق قد اقترب، ودور الالتزام بالمرجعية أي تغليب الجوانب المعنوية (في سبيل الله، الآخرة، الجنة، الإخلاص، تجديد النية، نكران الذات...) هو القيام بعمل "المهدئات" و"المسكنات" لتمديد عمر التجربة الحزبية. وهذا عمل يؤشر من جديد على ذكاء الأستاذ بنكيران وكونه يقرأ بشكل جيد ما يجري في البيت الداخلي فضلا عما يدور من تحديات خارجية.  إنه يتغيى تأجيل "المأتم" ما أمكن، ولحسن حظه، فهو –ربما- لن يعيش سوى زمن الأعياد.

0 التعليقات

إرسال تعليق