| 0 التعليقات ]





نظم حزب الطليعة الاشتراكي الديمقراطي جلسة افتتاحية لمؤتمره الوطني يوم الجمعة 27 ماي المنصرم بالمدرسة الوطنية للصناعة المعدنية بالرباط. سجلتُ حضوري فيها بمعية بعض الإخوة الأفاضل (قيادات محلية لمنظمة التجديد الطلابي بالرباط) مدفوعا بإيماني الكبير بأنه مازال هناك أمل مشرق في بيت اليسار؛ أمل يُحيل على ولادة جيل يحمل مشعل الوفاء للديمقراطية بصلابة والانحياز للمسألة الاجتماعية بحكمة والمواجهة المتبصرة لخطوط الاستبداد والمخزنة.
سجلتُ حضوري في هذه الجلسة للتعبير من جديد على تقديري لفيدرالية اليسار الديمقراطي ولمكوناته الحزبية. كما سجلته للتأكيد كذلك على أنه لا مشكلة لنا مع اليسار ومرحلة الشباب لا طعم لها أصلا بدون فكرة اليسار وبدون روح الاحتجاج ونفَس الانتفاض في وجه الظلم والطغيان؛ ولترسيخ معنى هام مفاده أن الرفاق بحق هم "رفاق الشهداء" الطليعيون وأمثالهم، أما العصابات الإرهابية المتياسرة  (النهج الديمقراطي القاعدي البرنامج المرحلي ومن يدور في هذا الفلك) التي عاثت في الجامعة (وعاث نسلها في الحياة السياسية عبر المسخ المسمى "الأصالة والمعاصرة") إجراما وفسادا وذبحا وتقتيلا، فمكانها الطبيعي وراء القضبان.  غير أنني –للأسف الشديد- خرجتُ من الجلسة وأنا متيقن من أنه لا أمل في بعث يسار قوي ينهض بأعباء النضال من أجل مغرب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في سنة 2016، على الأقل، وما يليها! خرجتُ من الجلسة وأنا متشوف إلى القلم لأعبر من خلاله عن تعازي الحارة لكل محب لليسار الوطني، لكل مؤمن بالمقارعة النبيلة للمستحيل التي ينوء بحملها المناضلون تحت مظلة اليسار، ولكل عاشق للحركة الاتحادية وذكراها الطيبة في هذا الوطن.
ولكنني بعد تقليب النظر في النزعة الإقصائية لليسار بعد استجماع حوادث متفرقة وقريبة اتضح لي أن اليسار لا يستحقون العزاء باستثناء  ثلة قليلة. لأن من لا يقبل بوجود الآخر لا يستحق الاحترام بله العزاء.
أنشدنا، بألم، مع "رفاق الشهداء" نشيدهم الذي يحمل حمولة رمزية ثقيلة. صرخنا معهم؛ أي نعم، "نعم، هم مجرمون قتلة بنجلون". عجبنا لهوية الحزب القومية الشديدة التي دعته لأن يجعل أغلب فقرات جلسته الافتتاحية عن فلسطين من منطلقات عربية بحتة (الكلمات في المنصة، الشعارات، العلم الفلسطيني...). عجبنا وتعجبنا إلى كون أماني مناضلي الطليعة أو "رفاق الشهداء" لا تنصرف إلى سحق الصهيونية بل إلى "سحق الرجعية" (ولا شك أننا نحن أبناء الحركة الإسلامية مخصوصون بهذا النعت).  تذكرتُ حينها الحركة الأمازيغية وما تشُنه بعض أصواتها الناشزة من قصف متواصل على الحركة الإسلامية بداعي أنها "عروبية" المنشأ والهوى؛ فقلت لنفسي: صحيح أن هناك تبرما من جدوائية الأمازيغية على المستوى التنموي لدى بعض أبناء الحركة الإسلامية المنحدرين من مناطق غير ناطقة بالأمازيغية. لكن الصورة ليست مكتملة بهذا المعطى؛ فالحال أن أبناء الحركة الإسلامية الناطقين بالأمازيغية في تزايد ووعيهم بعدالة القضية الأمازيغية يتسع ويتوازى – ولا يتعارض- مع تنامي وعيهم بمعارك الهوية والديمقراطية وهم في تدافع مستمر -عبر قناة الحوار- مع إخوانهم لتقريبهم من القضية. تذكرتُ هذا الأمر، فقلت: أين حزب الطليعة وأحزاب اليسار التي على شاكلته من هذا القصف الجوي والبري والبحري الذي تشنه بعض الخطوط الشاردة في الحركة الأمازيغية. وأنا على يقين من أن أفق الطليعيين أضيق أضعافا  مضاعفة من أفق أبناء الحركة الإسلامية بخصوص مسائل عديدة ومنها المسألة الأمازيغية.
اندهشنا لأمر آخر؛ إنها الموسيقى.. التي طالما تم ثلب الحركة الإسلامية على معاكستها للحياة الجميلة وللأصوات الندية الشجية؛ لأنها تُخاصمها. فإذا بالحركة الإسلامية تعتمل في أحشائها تحولات نوعية وإذا بحزب خرج منها يضفي على أنشطته المفتوحة والداخلية نكهة خاصة بتوظيفه للموسيقى المعبرة والموحية والجميلة ويحرص دائما على استدعاء الفرق الفنية المحترفة في أعراسه النضالية. إن حزب الطليعة أتحفنا بجو بئيس يعكس بجلاء أزمة اليسار. إنها أجواء المأتم والعزاء. حتى تسيير الجلسة عرف ارتباكا واضحا؛ إذ تناوب العديد من الشباب والشابات على التسيير. وكم عجبنا للمسير صاحب النوبة الأخيرة إذ حمل محفظته وقفل مغادرا قاعة الجلسة قبل أن تنتهي أشغالها..! وقارن هذا، بحزب بدأ هكذا صغيرا وأخذ يشق طريقه بثبات حتى صار يبث أجواء مؤتمره على الهواء مباشرة!
تأثرت كثيرا لشيء واحد هو أن من يزعم الوفاء للحركة الاتحادية الأصيلة ويقول بأنه لن يُفرط في إرث الشهيد المهدي بنبركة والشهيد عمر بنجلون، هو كائن مجهري ضعيف. وليس ثمة هنا مشكل كبير. فقد نجد أغلب الأنبياء ما آمن معهم إلا قليل وما انتقص ذلك من دعواتهم الثورية. ولكن هذا الكائن الضعيف مازال ذاهلا عن التحولات الجارية في المغرب منذ السبعينات، مازال غافلا عن الحركات الاجتماعية القوية التي خرجت من رحم الشعب المغربي طيلة هذه الفترة، ومازال مصرا بصلافة لا يحسد عليها وعنجهية عجيبة وغرور بلا حدود أنه الأستاذ في النضال ولا أساتذة بعده، وأنه الوفي للديمقراطية ولا أوفياء بعده، وأنه التقدمي جدا وما دونه رجعي ماضوي عليه اللعنات والسخط وسُحقا له!
إن من يستحق غاية التقدير هو الأستاذ النقيب عبد الرحمان بنعمر (الثمانيني المناضل: مواليد 1933) وأمثاله. فالعزاء لهم وحدهم على صدقهم وثباتهم ونضاليتهم المنقطعة النظير. أما موكب الطليعة فهو فارغ من الشباب وممتلئ بالكهول والشيوخ الذين يرون المغرب بعيون العقود الماضية. فهو موكب يُنتظر أن يُوارى الثرى قريبا. وإنا لله وإنا إليه راجعون!
تذكرتُ حزب الاشتراكي الموحد أثناء المؤتمر، هل بالإمكان أن يدفع قاطرة الأمل في يسار حي. تذكرت زعيمته نبيلة منيب التي استبشر المؤمنون بمغرب قوي برجاله ونسائه خيرا بكونها مفتاح تصدُر المرأة المغربية للحياة السياسية، ونحن منهم. بيد أن أحاديثها الإقصائية وتصرفاتها المغرورة تنبئ على أنها مازالت كذلك غير مستوعبة لما يجري من تحولات وذاهلة عما يعتمل داخل الحركة الإسلامية من مراجعات وغارقة في الصراع الإيديولوجي الضيق حتى النخاع. يكفي أن أشير إلى حادثة حدثت في الأشهر القليلة الماضية؛ حيث استدعى طلبة معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة بالرباط بعض القيادات السياسية لندوة مشتركة، رحبت نبيلة بالدعوة لكن سرعان ما علمت بكون الندوة تستضيف أيضا عضوا قياديا من حزب العدالة والتنمية (ولعل الأعمى يدري أن حزب العدالة والتنمية حزب مغربي وطني ديمقراطي قوي، غير أن نبيلة انطمست بصيرتها بالإيديولوجيا الجوفاء الفارغة!) هو عبد العالي حامي الدين. تراجعت عن الحضور للندوة لكونها تستضيف سفاحا من حزب رجعي. بأي عيون ترى هذه السيدة العالم، هل مخرجات هيئة الإنصاف والمصالحة لم تكفي، أم أن شهوة الإقصاء والاستئصال والتمركز حول الأنا وتمجيد الذات، وربما لو سقط حامي الدين شهيدا بعدما سقط مغميا عليه في المشهد وحُمل إلى المستشفى لكانت السيدة نبيلة مرتاحة.
أين النبل يا نبيلة.. ما محل الشعار الجميل: الدين لله والوطن للجميع من الإعراب.
هل الوطن لليساريين والمتياسرين فقط أما باقي أبناء الوطن من طيف العدالة والتنمية وغيرهم فلا تعامل معهم سوى المقاطعة والتسفيه والاحتقار..
تزامنت هذه الخواطر وهذه الأحداث مع قراءتي لكتاب المناضل عبد المومن شباري رحمه الله "الحركة الطلابية المغربية، التأريخ والامتداد: 1956-1990" والذي قدم له الكاتب الوطني لحزب النهج الديمقراطي السيد المصطفى براهمة قائلا: سيكون على تيارات الطلبة القاعديين المختلفة أن تقبل بالحق في التعدد والاختلاف وأن تفتح جسور التواصل وتنظم النقاش حول تجاوز الوضع الحالي.. وتفتح في نفس الوقت نقاشا مع الفصائل الأخرى الديمقراطية والتقدمية: الطلبة الأمازيغ، الطلبة الصحراويون وغيرهم. وسيكون على فصيل طلبة اليسار التقدمي أن يتحمل مسؤوليته كاملة في هذا الظرف الدقيق بنقد استعمال العنف ضد الفصائل اليسارية والديمقراطية والتقدمية وباعتراف فصائل الطلبة القاعديين ببعضهم البعض، وبالاعتراف بالفصائل الأخرى: الطلبة الأمازيغ، الطلبة الصحراويون.
فصيل مجهري وحزب لا عمق له ولا رهان له يُفصلون حقوق الاختلاف على الجميع إلا على الحركة الإسلامية. الوطن يسع إجرام الطلبة القاعديين ووحشيتهم ويسع جاهلية الطلبة الصحراويين الانفصاليين وجهلهم (نتحدث عن العاملين في مسمى الفصيل الصحراوي أما أبناء الصحراء فقد سبق أن أشرنا إلى موقفنا من الجميع في مقال سابق بعنوان"على طريق الأجداد كل يوم نقترب من الهدف"). أما الطلبة الأمازيغ فنحن منهم. الوطن يسع كل هؤلاء إلا أبناء الحركة الإسلامية. أما بخصوص العنف، فالسيد البراهمة يخاف على فصيله الجنيني "اليسار التقدمي" لأنه ممنوع من الدخول إلى الجامعة باسم عقيدة اليسار مجددا؛ لهذا فالعنف مُدان بين القاعديين وضد الفصائل اليسارية وضد اليسار التقدمي أما ضد أبناء الشعب الآخرين: أبناء الحركة الإسلامية، فهم شرذمة رجعية تُعطل حركة التاريخ ينبغي تصفيتها والعنف حلال ضدها!
وهل يستحق دعاة الإقصاء من الخطوط المتياسرة والاتجاهات اليسارية الإقصائية بعد كل هذا: العزاء؟ نعم، يستحقه الكبار منهم، يستحقه محمد الساسي مثلا، أما دعاة الانغلاق الغارقون في الوهم والنقاشات الحلقية الفارغة فلا عزاء لهم.
ليلة يوم السبت 11 يونيو، دعت مؤسسة المشروع للتكوين والتفكير الأستاذ عبد الإله بن كيران بصفته أمينا عاما لحزب سياسي متجذر في التربة المغربية (في إطار برنامج ثقافي رمضاني يستضيف أيضا:  حميد شباط والمدعو إلياس العمري والمحامي إدريس لشكر)، دعته إلى أمسية ثقافية يمتزج فيها الفكر بالسياسة. ولأن مقر المؤسسة كائن بالمقر المركزي القديم لحزب الاتحاد الاشتراكي بحي أكدال، فالدعوة تمت إلى هذا المقر.
فوجئت كغيري من المواطنين الذين حضروا للقاء الثقافي بكون بعض الاتحاديين وقفوا بعنجهية أمام المقر قائلين لبنكيران ما معناه: لن تدخل إلا على جُثثنا. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد رفعوا شعارات سبق أن رفعتُها مع بعض الإخوة الأفاضل من الطلبة التجديديين في مؤتمر حزب الطليعة (مجرمون مجرمون.. قتلة بن جلون). لم يخطر ببالي أنني أنا المتهم بقتل بنجلون أو أن أخينا عبد الإله بنكيران هو المتهم أو أن أحدا من الإخوان هو المُتهم. ما أعلمه هو أنني لما قرأتُ بتفصيل التاريخ السياسي والحزبي للمغرب من الأربعينات إلى السبعينات، لم أدع يوما لقاء طلابيا داخليا أو تكوينيا أو حلقية في الساحة دون أن أحيي الشهيد عمر والشهيد المهدي والشهيد عبد الرحيم حسناوي وكل من احترق من أجل إضاءة هذا المغرب بالوقوف ضد طغيان طغاته وضد استبداد مستبديه وضد ظلم ظالميه وضد فساد مفسديه. ولم تفتني مناسبة دون أن أشير إلى ومضات من حياتهم ونضاليتهم. وأعتقد أن حضور أي محب لعمر للقاءاتنا الداخلية سيحس بأننا ننافسه على محبته. فالعظام ليسوا ملكا لفصيل حزبي دون آخر. والشهداء هم ذاكرة شعب بأكمله. وكفى من الشعارات الرنانة: فالوطن نؤمن أنه للجميع، والشهداء والكبار نؤمن أنهم للجميع، فهل تؤمنون بشعاراتكم؟
أما الأستاذ عبد الإله بنكيران، ولا عزاء للجاهلين، فقد كان عضوا في الشبيبة الاتحادية من سنة 1972 إلى سنة 1976 وتألم لاغتيال الشهيد في دجنبر 1975 وحضر ذكراه الأربعينية وكان ملازما للأستاذ محمد الساسي الذي صار فيما بعد الكاتب الوطني للشبيبة الاتحادية من سنة 1987 إلى سنة 1998. ولم ينتسب للشبيبة الإسلامية التي قيل أنها ضالعة عملية الاغتيال –على الرغم من كون اللبيب لا يفوته كون المخابرات المخزنية ليست بعيدة عن تدبير هذه العمليات بغض النظر عن أدوات التنفيذ المباشرة- لم ينتسب لها إلا في أبريل 1976.
إن الاتحاديين أيضا أثبتوا من خلال الحادثة وحوادث أخرى أنهم فقدوا البوصلة وأن الإقصاء عقيدة راسخة عندهم وأنهم لا يحملون من مضمون اليسار إلا معنى أن يكونوا على يسار الحركة الإسلامية مهما تطورت ونضجت وبذلت في سبيل الوطن. فهل يستحق هؤلاء العزاء؟ أبدا.
إن الذين يستحقون العزاء مرة أخرى هم النزهاء الذين ينعمون بسعة الأفق أمثال الذين لم يترددوا في دعوة زعيم المشهد السياسي في المغرب إلى مقر عريق، على الرغم من اختلافهم معه.
بكلمة، إن الخطوط المتياسرة والاتجاهات اليسارية الإقصائية لا تستحق عزاء يذكر. إن بعض الأفراد المناضلين بصدق والقابضين على الجمر والمتشوفين بحرقة إلى وطن ديمقراطي بملكية برلمانية يصون الحريات العامة ويُعنى بالفئات الهشة والطبقات المسحوقة هم من يستحق التحية والإكبار.
ما يؤلمني بصدق هو أن التحديات التي أمامنا جسيمة والأسئلة المطروحة علينا كبيرة ولا فائدة للوطن إذا انتصر فصيل واحد ولا خاسر سوى الوطن من شيوع جو الاحتراب والإقصاء والكراهية. لكن لعلنا نجني فائدة من اندحار خطوط قامت بأدوار طلائعية ينبغي الاعتراف لها بالفضل فيها غير أنها سرعان ما انقلبت على أبرمته في عقد ازديادها وصارت بلا هَم سوى أن تكون على يسار الحركة الإسلامية، في الوقت الذي ينبغي عليها أن تكون على يسار الظالمين والمفسدين والجاهلين والمُضللين والمتحكمين..


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





بدعوة كريمة من اتحاد الطلبة الموريتانيين بالمغرب، حضرتُ بمعية بعض الإخوة الأفاضل (قيادات وطنية في منظمة التجديد الطلابي)  حفل اختتام السنة الدراسية في الحي الجامعي الدولي بالرباط. أثار انتباهي، وأنا جالس، الشعار الذي اختير لإضاءة فعاليات ذلك الحفل الختامي وهو: "على طريق الأجداد كل يوم نقترب من الهدف".
قبل الخوض في ما انقدح في ذهني بخصوص مضمون الشعار. ينبغي إزالة الستار عن قضية هامة أيضا ذات صلة بطبيعة علاقتنا بأشقائنا الموريتانيين والخليجيين والعرب أجمعين. فقبل سنوات؛ تجاذبت أطراف الحديث مع أحد معارفي –الذي ينتمي إلى الحركة الثقافية الأمازيغية- حول الخليج العربي وكان أن صدح بأنه لا يسمح لأحد إطلاقا أن ينسب له أي صلة أو قربى ب"أصحاب الأصفار" (كناية ساخرة عن الشكل البيضاوي الذي يلُف على منواله الخليجيين الثوب فوق الرأس) ومضى صاحبنا يطلق أقذع النعوت وأقسى المثالب على من قَدر له الله جل في علاه أن يولد في الخليج..
وقد يسوق سائق كلاما مشابها بخصوص الموريتانيين فينتقص من إنسانيتهم ويلعن بدويتهم وصحراويتهم لا لشيء إلا لأنهم خُلقوا في الصحراء وترعرعوا في وسط بدوي يحتفي بالشعر ولا شيء غير الشعر..
وقس على هذا ما يمكن أن يقال على أي شعب أو طائفة بشرية أخرى في إفريقيا أو قارة أخرى. وربما نظرات "الجنس الأبيض" (الغرب) لشعوبنا وكل الشعوب العالم الثالث، خاصة نظرات الساسة وصناع القرار أما من تشبع حقا بثقافة حقوق الإنسان فلا يمكن أن يصدر منه هكذا موقف، تنطلق من نفس المنطلق وترى الآخر المتخلف بذات الرؤية العنصرية الدونية غير الإنسانية.
إن المسألة الكائنة هنا هي مسألة مبدأ. إنها قضية الإيمان بالإنسان كيفما كان لونه، جنسه، دينه، لغته وعاداته. إن الأصوات المغالية في الحركة الأمازيغية التي تحقد على الإخوة العرب ينبغي الانتباه إلى أن خطابها مدمر أولا وقبل كل شيء للقضية الأمازيغية. لأنه ما القضية الأمازيغية غير طرح سؤال بسيط: ما ذنب جدتي –على سبيل المثال- التي رضعت لبان الأمازيغية منذ نعومة أظافرها ولا تجيد سواها: لماذا تُحرم من التواصل بلغتها في الفضاء العمومي؛ في المحكمة والإدارة والإعلام.. لماذا سيكون من يعرف العربية -لأنه نشأ بها- أفضل منها؟ إنها قسمة ضيزى. ما القضية الأمازيغية غير الانتماء للأرض (كما يشدد على ذلك الأستاذ محمد بودهان مدير جريدة "تاويزا" والدكتور حسن أوريد) التي تمتعنا بخيراتها وحملت عبقرية أمتنا وانشدادها العميق إلى الحرية.
إذا كان الأمر كذلك. فما ذنب الموريتانيين إذا احتفوا بصحرائهم (الأرض) وتغنوا بأشعارهم وغيرها من مقومات وجودهم. ما ذنب الخليجيين إن اكتسوا بلباس أصيل في محيطهم وضارب بأعماقه في جذور تاريخهم. ما ذنب الموريتاني الذي قُدر له أن يخلق في موريتانيا. وما ذنب العربي الذي قُدر له أن يولد في جزيرة العرب. وما ذنب جدتي التي قُدر لها أن تكون ملاعب صباها في بلدة "أبحري" في إقليم تيزنيت. وما ذنب الإفريقي الذي وجد نفسه في أدغال إفريقيا...
إن الإيمان الصادق بالإنسان يدفع صاحبه إلى سعة الأفق ليقبل بوجود لغة نستمتع بالحديث بها وتستحق الحياة، كما يأخذه إلى قبول الآخر كما هو بعاداته التي شَب عليها..
كما وجب التنويه إلى أن التطرف والغلو مذهب يخترق كل الحركات الاجتماعية وليس محصورا فحسب في الحركة الأمازيغية.  كما أن أهل الاعتدال والاتزان يخترقون كل هذه الحركات.
نعود إلى شعار حفلنا. "على طريق الأجداد كل يوم نقترب من الهدف !".
هذا الشعار يعكس بجلاء الأزمة التي طالما شغلت الفكر العربي المعاصر وهي ثنائية "التراث" و"المعاصرة". إن الجهد الجبار الذي قام أولئك الذين جاهدوا لإعمال حفريات واسعة في العقل العربي لاكتشاف بنيته وتكوينه في أفق تخليصه من معوقات تحول دون معانقته للعصر؛ إن هذا الجهد في حاجة إلى أن يستدعى وأن يُقرأ في هذه الأوساط التي مازالت ترى طريق الأجداد –هكذا بإطلاق- سالكا نحو الهدف.
إن طريق الأجداد ليس واحدا وإن الأجداد ألوان، ثم إن العصر الذي نعيش فيه –ولا نعيشه- له منطق لا يلتقي وطريق الأجداد. فمن اختار طريق الأجداد سيستقيل من العصر وسيبقى في سجن مؤبد هو "التخلف" وسيظل في وضع هو "التبعية" و"التسول".  وهو وضعنا الحالي بلا أدنى شك.
هذا الشعار رُفع ومازال يُرفع بدون جدوى. والحال أن موريتانيا تعيش بالصدقات والمساعدات الأجنبية.
وإذا كان المقصود ب"طريق الأجداد"؛ استماتتهم من أجل الأرض التي آوتهم وكفاحهم من أجل استدامة حريتهم وصد السعاة إلى استعبادهم واستذلالهم. فما أجمله من مقصود! فهذا الشعار سيحرك الإنسان نحو البذل والعطاء ونحو العلم والعمل، وسيُعلي همة الناشئة وسيرتقي بطبيعة الهموم.
ثمة مؤشر جانبي لكنه مهم. كانت العروض الفنية التي بها تم إحياء الحفل  بعيدة عن عكس مضامين روح الشعار. ففي إحدى الوصلات الغنائية، تم استضافة مغنية –لعلها مغربية- وراحت تتحدث عن "هي باغيا واحد...". أما الوصلة الغنائية بالإنجليزية فلم أفهم مرامي كلماتها لضعف مستواي فيها.
اضطرام العواطف تجاه الجنس الآخر أمر معروف. لا يحتاج إلى مزيد تأجيج وإنما إلى دراسة مركبة تستحضر أن لنا أعباء ينبغي القيام بها وفي نفس الوقت هناك نزوعات فطرية طبيعية لا ينبغي القفز عليها. إن الآخر (الغرب خاصة) إذا شاعت فيه صور التأجيج فلا ضير بالنظر إلى الوضع التاريخي للدول حيث تم استكمال البناء.
ولكننا نحن لنا وضع آخر؛ فالتأجيج عوض لفت الأنظار نحو الاشتغال ما هو إلا تخدير ناعم وحراسة للتخلف واستدامة للتبعية. والمشكلة أن الشعارات الفضفاضة (على طريق الأجداد كل يوم نقترب من الهدف) لم تُمكننا من الانتباه لهذا المشكل ولم تُقربنا من الهدف بل قربتنا من درجات دنيا من الهاوية.
إذن، حتى إذا افترضنا أن ليس للموضوع صلة بالدين أو أي مرجعية أخلاقية من هذا القبيل، فمنظورنا للمسائل ينبغي أن يرتبط بسؤال الخروج من التأخر التاريخي. هل القضية الفلانية أو الوسيلة العلانية تخدم هذا السؤال أم أنها تُخدر الإنسان لينسى أن عليه أصلا سؤال ينتظر الإجابات.
نعود إلى شعارنا. قلت إذا افترضنا أن له روحا مشرقة ومقصودا نبيلا، فينبغي أن ينعكس ذلك على المضامين الفنية وكل الوسائل المختارة للترويح على الإنسان وتنشيطه وبعث الحيوية فيه.
ولعل من الأفضل توضيح شعاراتنا وتدقيق ما نريد أن نأخذه من أجدادنا (وفي تقديري ليس هناك أمور مهمة جدا لنأخذها منهم ما عدا تلك الروح المُلهمة)؛ حتى لا نضرب في ضباب وننسى أن ما ينبغي أن نسعى إليه هو "الخروج هذا النفق المظلم" بدون "أن نضحي بروحنا".   


...تابع القراءة