| 0 التعليقات ]





بدعوة كريمة من اتحاد الطلبة الموريتانيين بالمغرب، حضرتُ بمعية بعض الإخوة الأفاضل (قيادات وطنية في منظمة التجديد الطلابي)  حفل اختتام السنة الدراسية في الحي الجامعي الدولي بالرباط. أثار انتباهي، وأنا جالس، الشعار الذي اختير لإضاءة فعاليات ذلك الحفل الختامي وهو: "على طريق الأجداد كل يوم نقترب من الهدف".
قبل الخوض في ما انقدح في ذهني بخصوص مضمون الشعار. ينبغي إزالة الستار عن قضية هامة أيضا ذات صلة بطبيعة علاقتنا بأشقائنا الموريتانيين والخليجيين والعرب أجمعين. فقبل سنوات؛ تجاذبت أطراف الحديث مع أحد معارفي –الذي ينتمي إلى الحركة الثقافية الأمازيغية- حول الخليج العربي وكان أن صدح بأنه لا يسمح لأحد إطلاقا أن ينسب له أي صلة أو قربى ب"أصحاب الأصفار" (كناية ساخرة عن الشكل البيضاوي الذي يلُف على منواله الخليجيين الثوب فوق الرأس) ومضى صاحبنا يطلق أقذع النعوت وأقسى المثالب على من قَدر له الله جل في علاه أن يولد في الخليج..
وقد يسوق سائق كلاما مشابها بخصوص الموريتانيين فينتقص من إنسانيتهم ويلعن بدويتهم وصحراويتهم لا لشيء إلا لأنهم خُلقوا في الصحراء وترعرعوا في وسط بدوي يحتفي بالشعر ولا شيء غير الشعر..
وقس على هذا ما يمكن أن يقال على أي شعب أو طائفة بشرية أخرى في إفريقيا أو قارة أخرى. وربما نظرات "الجنس الأبيض" (الغرب) لشعوبنا وكل الشعوب العالم الثالث، خاصة نظرات الساسة وصناع القرار أما من تشبع حقا بثقافة حقوق الإنسان فلا يمكن أن يصدر منه هكذا موقف، تنطلق من نفس المنطلق وترى الآخر المتخلف بذات الرؤية العنصرية الدونية غير الإنسانية.
إن المسألة الكائنة هنا هي مسألة مبدأ. إنها قضية الإيمان بالإنسان كيفما كان لونه، جنسه، دينه، لغته وعاداته. إن الأصوات المغالية في الحركة الأمازيغية التي تحقد على الإخوة العرب ينبغي الانتباه إلى أن خطابها مدمر أولا وقبل كل شيء للقضية الأمازيغية. لأنه ما القضية الأمازيغية غير طرح سؤال بسيط: ما ذنب جدتي –على سبيل المثال- التي رضعت لبان الأمازيغية منذ نعومة أظافرها ولا تجيد سواها: لماذا تُحرم من التواصل بلغتها في الفضاء العمومي؛ في المحكمة والإدارة والإعلام.. لماذا سيكون من يعرف العربية -لأنه نشأ بها- أفضل منها؟ إنها قسمة ضيزى. ما القضية الأمازيغية غير الانتماء للأرض (كما يشدد على ذلك الأستاذ محمد بودهان مدير جريدة "تاويزا" والدكتور حسن أوريد) التي تمتعنا بخيراتها وحملت عبقرية أمتنا وانشدادها العميق إلى الحرية.
إذا كان الأمر كذلك. فما ذنب الموريتانيين إذا احتفوا بصحرائهم (الأرض) وتغنوا بأشعارهم وغيرها من مقومات وجودهم. ما ذنب الخليجيين إن اكتسوا بلباس أصيل في محيطهم وضارب بأعماقه في جذور تاريخهم. ما ذنب الموريتاني الذي قُدر له أن يخلق في موريتانيا. وما ذنب العربي الذي قُدر له أن يولد في جزيرة العرب. وما ذنب جدتي التي قُدر لها أن تكون ملاعب صباها في بلدة "أبحري" في إقليم تيزنيت. وما ذنب الإفريقي الذي وجد نفسه في أدغال إفريقيا...
إن الإيمان الصادق بالإنسان يدفع صاحبه إلى سعة الأفق ليقبل بوجود لغة نستمتع بالحديث بها وتستحق الحياة، كما يأخذه إلى قبول الآخر كما هو بعاداته التي شَب عليها..
كما وجب التنويه إلى أن التطرف والغلو مذهب يخترق كل الحركات الاجتماعية وليس محصورا فحسب في الحركة الأمازيغية.  كما أن أهل الاعتدال والاتزان يخترقون كل هذه الحركات.
نعود إلى شعار حفلنا. "على طريق الأجداد كل يوم نقترب من الهدف !".
هذا الشعار يعكس بجلاء الأزمة التي طالما شغلت الفكر العربي المعاصر وهي ثنائية "التراث" و"المعاصرة". إن الجهد الجبار الذي قام أولئك الذين جاهدوا لإعمال حفريات واسعة في العقل العربي لاكتشاف بنيته وتكوينه في أفق تخليصه من معوقات تحول دون معانقته للعصر؛ إن هذا الجهد في حاجة إلى أن يستدعى وأن يُقرأ في هذه الأوساط التي مازالت ترى طريق الأجداد –هكذا بإطلاق- سالكا نحو الهدف.
إن طريق الأجداد ليس واحدا وإن الأجداد ألوان، ثم إن العصر الذي نعيش فيه –ولا نعيشه- له منطق لا يلتقي وطريق الأجداد. فمن اختار طريق الأجداد سيستقيل من العصر وسيبقى في سجن مؤبد هو "التخلف" وسيظل في وضع هو "التبعية" و"التسول".  وهو وضعنا الحالي بلا أدنى شك.
هذا الشعار رُفع ومازال يُرفع بدون جدوى. والحال أن موريتانيا تعيش بالصدقات والمساعدات الأجنبية.
وإذا كان المقصود ب"طريق الأجداد"؛ استماتتهم من أجل الأرض التي آوتهم وكفاحهم من أجل استدامة حريتهم وصد السعاة إلى استعبادهم واستذلالهم. فما أجمله من مقصود! فهذا الشعار سيحرك الإنسان نحو البذل والعطاء ونحو العلم والعمل، وسيُعلي همة الناشئة وسيرتقي بطبيعة الهموم.
ثمة مؤشر جانبي لكنه مهم. كانت العروض الفنية التي بها تم إحياء الحفل  بعيدة عن عكس مضامين روح الشعار. ففي إحدى الوصلات الغنائية، تم استضافة مغنية –لعلها مغربية- وراحت تتحدث عن "هي باغيا واحد...". أما الوصلة الغنائية بالإنجليزية فلم أفهم مرامي كلماتها لضعف مستواي فيها.
اضطرام العواطف تجاه الجنس الآخر أمر معروف. لا يحتاج إلى مزيد تأجيج وإنما إلى دراسة مركبة تستحضر أن لنا أعباء ينبغي القيام بها وفي نفس الوقت هناك نزوعات فطرية طبيعية لا ينبغي القفز عليها. إن الآخر (الغرب خاصة) إذا شاعت فيه صور التأجيج فلا ضير بالنظر إلى الوضع التاريخي للدول حيث تم استكمال البناء.
ولكننا نحن لنا وضع آخر؛ فالتأجيج عوض لفت الأنظار نحو الاشتغال ما هو إلا تخدير ناعم وحراسة للتخلف واستدامة للتبعية. والمشكلة أن الشعارات الفضفاضة (على طريق الأجداد كل يوم نقترب من الهدف) لم تُمكننا من الانتباه لهذا المشكل ولم تُقربنا من الهدف بل قربتنا من درجات دنيا من الهاوية.
إذن، حتى إذا افترضنا أن ليس للموضوع صلة بالدين أو أي مرجعية أخلاقية من هذا القبيل، فمنظورنا للمسائل ينبغي أن يرتبط بسؤال الخروج من التأخر التاريخي. هل القضية الفلانية أو الوسيلة العلانية تخدم هذا السؤال أم أنها تُخدر الإنسان لينسى أن عليه أصلا سؤال ينتظر الإجابات.
نعود إلى شعارنا. قلت إذا افترضنا أن له روحا مشرقة ومقصودا نبيلا، فينبغي أن ينعكس ذلك على المضامين الفنية وكل الوسائل المختارة للترويح على الإنسان وتنشيطه وبعث الحيوية فيه.
ولعل من الأفضل توضيح شعاراتنا وتدقيق ما نريد أن نأخذه من أجدادنا (وفي تقديري ليس هناك أمور مهمة جدا لنأخذها منهم ما عدا تلك الروح المُلهمة)؛ حتى لا نضرب في ضباب وننسى أن ما ينبغي أن نسعى إليه هو "الخروج هذا النفق المظلم" بدون "أن نضحي بروحنا".   


0 التعليقات

إرسال تعليق