| 0 التعليقات ]




غالبا ما نتخذ مواقف نهائية من الأشخاص أو من الهيئات انطلاقا من "الاسم" الذي تواضع لفيف من أهل القلم والإعلام على إطلاقه عليهم. فتجد المرء تسيل لعابه وتنتفخ أوداجه لأنك ذكرتَ -في معرض الاتفاق- رأيا قال به من أُطلق عليه أو أطلق على نفسه تسمية "علماني". فبمجرد أن يحمل الشخص لقب "علماني"، فإن الحذر من أي رأي يقول به من أولى الواجبات. ولنفرض أن رأيا –كان ثمرة طول بحث ونظر- تطابَق مع قول لحامل اسم "علماني"، فهو تأثُر منبوذ بمن لا يُرجى في كلامه إلا سب الملة والدين وإقصاء الشريعة وتدنيس السياسة. 
 بالمقابل أصبحت تهمة "السلفية" كفيلة بكيل الشتائم وأقذع النعوت لمن صدرت في حقه.
أصبح "السلفي" في مخيال الكثيرين مخبولا يكره الحياة ولا يستمتع باللحظات ولا يقترب من جو المرح والأفراح.
أما آباء "السلفية" المعاصرة؛ فهؤلاء لا نسمح لأنفسنا –معشر "التقدميين"- أن نقرأ سيرهم أو نتلمح مستملحات من حيواتهم لأننا نظن أن لا خير فيها مادام أصحابها  يتشبثون بالماضي. والماضي لا تنوير فيه، ولا نبل بين أهله، ولا إنسانية تسري بين سكانه، ولا تسامح يشيع في صفوفه. فلا فائدة من قراءة حياة هؤلاء "الآباء" والاطلاع على تجارب قادة عمليات تعطيل التحاقنا بالركب وتأبيد تأخرنا التاريخي.َ
كنت ذات يوم من الطائفة الأولى, والآن لا ينبغي أن نكون ضمن الطائفة الثانية. لأن الطائفتين معا أُصيبتا بمرض عضال هو "شيطنة" الإنسان واختزاله إنسانيته في معتقدات يعتقد بها.
والمشكلة أن هذه المعتقدات –في كثير منها- قد تسللت إلى ذهنية الإنسان وبصمت تفكيره بدون أن يختار ذلك. فالآراء التي يسوقها الناس غالبا ما تكون مطبوعة بطابع المحيط والوسط والبيئة والظروف والمعارف.. وغير ذلك من الأمور التي تصوغ الإنسان بدون استشارته! (وخُلق الإنسان ضعيفا).   
كان العلامة ابن الباز رحمه الله من أعلام السلفية الكبار. ولا شك أن الانطباع عنه سلبي. لكن الاقتراب من حياته يومئ أن تحت هذا الاسم (إنسان) وديع، هادئ، حليم، متسامح وجواد كريم.  
نقتبس من سيرة الأستاذ سلمان العودة (طفولة قلب) التي صدرت سنة 2011 بعض إلماعات ابن الباز  الإنسانية. وقد يطعن البعض في هذه الشهادة مشيرا إلى أن القنافذ لون واحد و تدافع عن بعضها البعض. غير أن هذا اختزال فج وينم عن كسل فكري رافض لفهم التحولات التي يشهدها الناس. فالعودة كان يضيق بالٍآراء الأخرى ويعتبرها مُغردة خارج السرب في بداياته (وكتب كتابا في هذا الصدد يرد فيه على الشيخ محمد الغزالي وكتابه "السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث")، لكن العودة تقدم في مسيرته الفكرية وأصبح أفقه واسعا ومستوعبا. 
يقول العودة عن ابن الباز: رجل بسيط، بعيد عن التكلف، واضح العبارة، قريب المـأخذ، عظيم الفقه بالحياة وتجاربها، عميق الإدراك لقاصد الشريعة العامة.
لا يظهر عليه الحماس الشديد لما يراه، وقد يقرره بهدوء وسكينة، وإن اعترض معترض وكان في الأمر تردد أظهر التجاوب.. وقال: الأمر محتمل..، والله أعلم..، وما ذكرته ممكن..، وهو محل نظر.. يُتأمل.. يُبحث.. وقد يطلب من بعض الحاضرين مراجعة المسألة وبحثها.
فإن كان الأمر واضحا ولا إشكال، رد على المعترض، وقال: هذا غلط..، هذا لا ينبغي..، ليس بصواب..، وقد يقول: هذا غلط..، الناس عنده سواسية، حدث أن دعا الرئيس الفلسطيني على غداء، وحين حضر ومن معه، ظل الشيخ منتظرا.. أين فلان الفتى الكويتي الذي زارنا بالأمس ووعدنا بالحضور؟ أين الشيخ فلان؟ أين الموظف فلان ؟  حتى ازدحم المكان بالمدعوين.
ثم أقبل على الرئيس عرفات يحادثه، ويسأله ويدعو له ولشعبه بالنصر، ثم ظل ينتقل إليهم واحدا واحدا، ويسأل الشاب عن أهله، وعن دراسته وعن طريقه.. عفوية تامة، وصفاء وحسن نية، وملكة هائلة في استيعاب الناس جميعا دون تكلف! (ص:145)
قلائل هم أولئك الذين يحتفظون بنفسية سليمة هادئة، بعيدة عن التعقيد والإشكال، وهو من هؤلاء القليل.. لا كآبة ولا توتر، لا قلق، ولا حالات عارضة؛ إلا بد للبشر منه، هو نموذج للصحة النفسية حين تساعد صاحبها على تجاوز المواقف الصعبة، ونسيان الإساءة، واستيعاب الآخر، وحل المعضلات مهما تشابكت.
يتحدث الكثيرون عن حفظه وذاكرته وهو كما يقولون... ويجد آخرون عبرة باستنباطه، واستخراجه للفوائد؛ وهو كذلك.. ويثني أقوام على  عبادته، وهو عابد، رقيق القلب، سريع الدمعة.. وتطري فئات كرمه، وهو من الأجواد الذين لا يجدون للمال معنى إلا في إنفاقه..
وهذا كله جزء من شخصيته غير أن محل نظر صاحبنا هو سهولة شخصيته، بعدها عن التكلف، وعفويتها وقربها الفطري من الناس جميعا، حتى يقتنع كل من حادثه أو جالسه أنه واضح وضوح الشمس، لا يخفي شيئا، ولا يضمر شرا، وما في قلبه يبوح به لسانه، دون أن يكون هذا غلظة أو جفاء أو قسوة، كما يقع للآخرين، أو أن يكون غفلة وسذاجة كما يحلو لقوم أن يقولوا  يعبروا، بل هو الرفق والسماحة والسكينة التي لا تفارق مجلسه،  حتى في الحالات الصعبة والأخبار المفاجئة؛ تجده يسبح ويحوقل، ثم يحتسي فنجان قهوة، ثم يسال بهدوء.. (ص:146)
إننا نحتاج إلى تعميق إيماننا بالإنسان وإلى إبراز اللفتات الإنسانية الطيبة لكل الأعلام. فكما كتبنا هنا يوما عن إشراقات "ماركس" الإنسان  فاليوم لا نجد غضاضة في العمل ذاته مع  "ابن الباز" الإنسان.
يكفي أن نفهم أن ماركس لن يكون كما كان لو كانت ظروف ألمانيا مغايرة أي لو كانت غير مسبوقة بالثورة الفرنسية السياسية والثورة الصناعية في إنجلترا. وقد يكون "ابن الباز" غير الذي كان لو عاش في أرض أخرى غير شبه الجزيرة العربية.
أعرف أن التوتر كبير ضد "آل سعود" ومواقفهم وسلوكهم السياسي. ولا أخفي أنني ضد الظلم والظالمين والاستبداد والمستبدين وضد فقه الطاعة الأعمى وضد الأغطية الدينية للفساد. لكنني لست ضد الإشراقات الإنسانية التي يتمتع بها من قدر الله أن يُخلقوا على أرض الحجاز؛ بل هي دروس وعبر أتعلم منها وينبغي أن ألزم نفسي بالاقتداء بها تماما كما أستفيد من دروس عصر الأنوار وأهله ! 


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





من يتأمل في حركة التجديد والمراجعة والنقد الذاتي التي يشهدها الإنسان سواء كفرد أو كجماعة (تجمع بشري، تنظيم حزبي، حركة اجتماعية..)، فإنه سيخلُص إلى نتيجة واحدة وهي أن المتغير الأبرز والدافع الأكبر لهذا التغيُر الطارئ (في المواقف، في الوسائل، في الهياكل..) هو درجة استحضار الواقع الموضوعي. هكذا يبدو أن أخطاء الإنسان وسوء تقديراته مردها غالبا إلى ضعف إدراكه للواقع الذي يتعاطى معه أو إلى تغاضيه عن معادلاته (في حالة إدراكه).
وإذا فحصنا معظم "المواعظ" التي يلقيها الناس على بعضهم البعض فإن محورها الثابت هو: "كن واقعيا.."؛ "الواقع يتطلب كذا.."، "ينبغي أن تراعي مؤهلاتك وحدود إمكاناتك في الواقع..". حتى الشاب "المنحرف" (في عُرف المجتمع وليس بدلالاته السوسيولوجية)، أي الذي يدمن على المخدرات ويتهاون في دراسته ويُضيع أوقاته فيما لا يفيد، يكون مدخل النصح الموجه إليه هو أن الواقع مُر والحياة صعبة ومادام الإنسان لم يُشمر على ساعد الجد في شبابه فإنه لن يحصد سوى الأشواك والمآسي والعذابات في المراحل اللاحقة من عمره.
بل حتى التوجيه المقدم للمتهاونين في تفعيل مقتضيات الإيمان بالدين في سلوكهم لا يخرج عن هذا التصور. فالناصح ينطلق من رؤية تفيد أن "جهنم" أمر واقع لا محالة إذا تم الانفكاك عن عرى الإيمان وتم الابتعاد عن توجيهات الرحمان. ولهذا يدعو "الناصح" صاحبه إلى استحضار هذا الواقع "الأليم" في حال الاستمرار في معصية رب العالمين.
هنا، إذن، يتم استحضار الواقع لردع الإنسان (وسلبه حريته الطبيعية) لكي يخدم واقع "المجتمع" أو واقع "الدين".
لكن من جهة أخرى، أصحاب التصور الطبيعي لحياة الإنسان هم أيضا، وبلهجة أقوى، يلعبون على وتر الواقع الموضوعي للإنسان أي ما تنطق به طبيعته للدفاع عن حقه في المزيد من التحرر من القيود الموضوعة على رقبته.
فخط "الحداثة" (المدرسة الليبرالية) إنما جاء للمرافعة من أجل إنسان بفكر متحرر  وجسد منعتق. والمؤمنون بهذا الخط حينما ينكرون على الذين يُضيقون على حرية الإنسان إنما يشيرون أساسا إلى أن الوقوف ضد "واقع" الإنسان (أي طبيعته) لا ينتج حتما سوى الانفجار. وفي المسألة الجنسية، على سبيل المثال، يوردون نماذج تدل على حد تعبيرهم على أن الضغط على حرية الإنسان (ونزوعه الطبيعي والتلقائي) ينتهي باحتقان الوضع الاجتماعي؛ مثال السعودية وإيران حيث تعلو نسب الشذوذ وزنا المحارم في ظل مظاهر توحي بالحشمة والعفة والحياء.
ولهذا فأصحاب هذا الخط يدعون أساسا إلى الاعتراف أولا بطبيعة الإنسان (أي واقعه كما هو)، قبل الحديث عن شيء آخر. أو بتعبير آخر، قبل الكلام عما ينبغي أن يكون، لا بد من الانصراف إلى ما هو كائن.
حتى في خطاب المدرسة الأخرى (الاجتماعية-الاشتراكية) التي تُشكل طيفا بارزا من أطياف خط الحداثة؛ نجد أن الدعوة كلها تدور حول أهمية استحضار واقع الإنسان الموضوعي مع لفت الانتباه إلى الأضرار الاجتماعية الناجمة عن عدم الاكتراث بواقع الاستغلال والجوع والبؤس والفقر والحرمان (الصراع المكشوف، حرب أهلية، ثورة شعبية..).
حتى الصراع القديم والمتجدد، على مستوى الفكر الفلسفي، يدور كله حول "الواقع" ودرجات القرب منه ومقدار استحضار عناصره. وما "المثالية" سوى المذهب الذي يتغاضى عن الواقع ويحلق على سيرورته ويغفل عن صيرورته ويكتفي بالتجريد و"الفكر" والاعتقاد بأن (كل ما هو عقلي فهو واقعي، وكل ما هو واقعي فهو عقلي). وما "المادية" سوى الوقوع في الواقع والانطلاق من الطبيعة (طبيعة الإنسان والمجتمع؛ أي واقعهما الموضوعي) ورؤية العالم من خلال ما تنطق به.
بل ما مشكلة الإيديولوجيا –أصالة- سوى الغفلة عن الواقع والقفز على معطياته.
إن كل الدعوات "التنويرية" و"التجديدية" من أقصاها إلى أقصاها، من أعنفها في مواجهة التراث والماضي إلى أرحمها بالسلف، لا تتحرك سوى في درجة استحضار الواقع وزاوية النظر إليه.
 مثلا، لنأخذ فكرة فصل الدين عن السياسة؛ ما هو منطلقها (غير الإيديولوجي)؟ إنها فكرة منبعثة من أن استكناه الواقع والإنصات لنبضه يقول بأن الناس في ميدان السياسة يتصارعون على المصالح ولا يستصحبون معهم العقائد في هذا الصراع؛ لأن صراع المصالح هو قابل للتدبير بأدوات سلمية حضارية أما صراع العقائد فما مؤداه سوى العنف والاحتراب والتشظي والتمزق. لأن الإنسان من الصعب عليه أن يتخلى على عقيدته وأن يؤمن بعقيدة الآخر مهما بدت له سليمة لأن الاعتقاد تحكمه أمور نفسية عاطفية غير مُعللة رهينة بمحيط الإنسان وبيئة نشأته. في المقابل؛ الإنسان بإمكانه أن يدخل في مساومات وأنصاف الحلول لتبادل المصالح مع الأطراف الأخرى.
هكذا نَلفي كل الخطابات التي تحمل اسم "ثورة" أو "تجديد" أو "تنوير"، في أوساطنا، إنما هي داعية إلى الخروج من واقع التأخر التاريخي عبر بوابة "عدم القفز على الواقع". ومن ذلك أن الواقع يقول أن الغرب تقدم لأنه سلك هذا المسلك؛ فما علينا إن كنا نريد لنا موقعا بين الأمم سوى أن نستنهض الهمم لنقتدي بذات خطوات الغرب. فالواقع يقول هذا المقال!
ولهذا أيضا نجد جميع هذه الدعوات تخاصم "الإيديولوجيا" وتخصص مجهودات فكرية جبارة لتقريب هذا المفهوم من بني جلدتنا. لأن الإيديولوجيا، باختصار، تمَحُل صادر من الإنسان لفك التعارض بين ما يدور في واقعه الذهني وما يدور في العالم الخارجي (عبر آليات التفسير "المشوه" للتاريخ، تغييب حقائق وتضخيم أخرى...).
ومن المفيد الإشارة، في هذا السياق، إلى كون الحركة الإسلامية وما تعيشه من مخاض المراجعات راجع إلى ارتقاء درجة ارتباطها ومعالجتها للواقع. وهنا تكمن إضافة مالك بن نبي (ورواد مدرسته: جودت سعيد، خالص جلبي..) للفكر الإسلامي المعاصر والتجربة الحركية في مختلف الأقطار التي اهتمت بفكره. فقد أضاف مالك بن نبي –يقول راشد الغنوشي- بُعدا آخر إلى تكويننا هو البعد التاريخي الاجتماعي، أو البعد التحليلي للظاهرة الاجتماعية والسياسية والتاريخية، فلم نعد نتعامل مع نظريات إسلامية، مثل المرأة في الإسلام أو الاقتصاد في الإسلام أو الحكومة في الإسلام كما هو سائد  في الأدبيات الإسلامية، وإنما أصبحنا نتعامل مع واقع المسلمين سواء الواقع القائم الآن أم الواقع التاريخي، على ضوء مفهوم الحضارة والتخلف والعدل والظلم والديمقراطية والديكتاتورية وليس فقط على ضوء الإيمان والكفر. (راشد الغنوشي، من تجربة الحركة الإسلامية في تونس، المركز المغاربي للبحوث والترجمة، الطبعة الأولى، 2001، ص:75)
لكن؛ ما هي حدود فكرة عدم القفز على الواقع؟
سيكون من العبث الوقوف ضد فكرة "عدم القفز على الواقع"؛ لأن كل فرد تثبت تجربته بأنه بمقدار ما يزيد من درجة الاستجابة -الإيجابية والجادة- للواقع الذي رصده من حوله وفي محيطه بقدر ما يرتقي في سلوكه وتعامله وحياته.
لكن ثمة ملاحظة جديرة بالانتباه. أين التحدي؟ إذا كان الإنسان لا ينبغي أن يتمرد على غرائزه ولا ينبغي أن ينكر اتجاه أحاسيسه ولا ينبغي أن يصادم واقعه؛ فالنتيجة أن الحياة تبدو سهلة مُيَسرة وأن علامات الترهل في طريقها لغزو إدراك الإنسان واحتلال قواه.
فالإنسان، تقول طبيعته وينطق واقعه برغبته في راحة مستديمة. إنه لا يميل إلى التعب والمعاناة وبذل الوسع وإفراغ الجهد؛ فإذا خُير بين العمل براتب والراحة براتب لاختار حتما الراحة (قد يقول قائل العكس. لكن دعك من التفكير والوعي والتعقل، واستنطق طبيعتك (أي واقعك) فقط: إلى أي جهة سيميل؟).
أمام هذا الوضع؛ لن نجد العاملون في مكاتبهم والغاطسون بين الكتب والصفحات والمُنقبون في الأفكار المفيدة الكفيلة بتطوير حياة الإنسان. كما أننا لن نجد العاكفون في مختبراتهم المعتكفون على فهم خلية من الخلايا أو حشرة من الحشرات أملا في استخلاص مضاد حيوي يُقوي مناعة الإنسان. كما أننا لن ننظر إلى مخترع عازم على السهر الليالي الطوال من أجل الإتيان بما يُرفه حياة الإنسان.
إن الاستكانة للواقع هنا تكمن خطورتها. لأن ما نغفل عنه دائما وما ننساه في كل لحظة؛ هو أننا في مرحلة تاريخية تقتضي التعب والبناء والكدح لتوفير الحاجيات وتحقيق الاكتفاء الذاتي قبل التفكير في الكماليات والمُرفهات. الغرب قد يكون معذورا في رفع شعار "الاستكانة للواقع" (رغم ما له من تداعيات على المدى المتوسط والبعيد خاصة على مستوى ضرورة تجديد وسائل الحياة والترفيه لأن الإنسان يمَلُ بسرعة وينجذب نحو الجديد) فهو قد أغلق قوس  مرحلة البناء منذ زمن.

إننا ينبغي أن نكون ضد نزعة "القفز على الواقع" والاكتفاء بالتحليق في عالم المُثل لأن ذلك يمنعنا من أن نبدأ البداية الصحيحة ويحول بيننا وبين الوجهة السليمة القاصدة. وبالقدر نفسه، ينبغي أن نقف ضد السعي نحو "الوقوع في الواقع" والبقاء في أسره. وتلزمنا كما يقول المقرئ أبوزيد –نقلا عن ابن خلدون- الاستماتة لأننا في مرحلة نهوض.. لكن باستبصار !


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]



يشكل الصراع بين الحركة الوطنية (بمفهومها التاريخي) والحركة الأمازيغية (التي نعتبرها أيضا حركة وطنية كبيرة)، أحد أهم الصراعات الكائنة في المغرب المعاصر حول الهوية. فالحركة الوطنية يُؤَرخ لعقد ازديادها بالانتفاضة الشعبية ضد  ظهير 16 ماي 1930، ما يعني أن مبرر ميلاد الحركة الوطنية (بالمفهوم السياسي المعروف) كانت له صلة وثيقة بالمسألة الأمازيغية (بغض النظر عن كيفية مقاربة هذه الصلة). كما أن الحركة الأمازيغية لم ترى النور إلا بعد الاستقلال بعشر سنوات أي بعدما تبين لمثقفين وجامعيين وطلاب أن أحد أركان الهوية المغربية طاله الحيف والتهميش من طرف من تصدوا للحكم بعد الاستقلال وكانت تقصد أساسا الحركة الوطنية (رغم أن بالإمكان التساؤل عن من كان في الحكم؛ هل الحركة الوطنية أم القصر و"الفديك" وجماعة أوفقير ورضا كديرة !).
وفي هذا الإطار يعتبر "علال الفاسي" هدفا دائما للأجيال الدائرة في الحركة الأمازيغية، التي تنطلق من رؤية مفادها أن علالا باعتباره زعيما كبيرا من زعماء الحركة الوطنية الذين يتمتعون بتكوين تقليدي "سلفي"من ناحية وباعتباره من سلالة أسرة فاسية منحدرة من الأندلس كانت لها روابط مع السلطة من ناحية أخرى؛ هو العدو اللدود للأمازيغية والأمازيغ.
وبالرجوع لمحاضرة الأستاذ فكري الأزراق (حزب الاستقلال والريف) الملقاة يوم 09 أكتوبر 2010 بميضار، والمنشورة في الأنترنت، يمكننا أن نفهم أكثر الدواعي التي تدفع قطاعا معتبرا في الحركة الأمازيغية إلى الهجوم على حزب الاستقلال وزعيمه. (1)
لم يثرني في مضمون المحاضرة أي معطى يمكن أن يدين علالا بشكل قاطع باستثناء حادثة نقلها الأستاذ الأزراق من مذكرات عبد الله الوكوتي (وبالمناسبة فالأستاذ الوكوتي كان رئيسا للمجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية في أيامه الأولى)، وقعت أثناء زيارة علال الفاسي إلى وجدة. وملخص هذه الحكاية أن  ميمون كرموس كان من المعتقلين أثناء زيارة علال الفاسي (باعتباره أحد المتمردين على حزب الاستقلال!)، وفي صباح يوم أخرج من معتقله وهو في حالة من التشويه الجسمي نتيجة لآثار التعذيب، ثم كبل من يديه وراء ظهره ووضع في سيارة جيب، وربط بالسلاسل مع كرسي السيارة في المؤخرة وذهب به إلى العمالة، وأخرج من السيارة وأدخل العمالة، وسط الحشود البشرية التي كانت مصطفة على قارعتي الطريق، جاءت لتوديع علال الفاسي، وأجلس هناك في بهو العمالة على كرسي، وإذا بعلال الفاسي يخرج مع عمرو احميدوا من مكتبه، مع البطانة ويتجهون نحو الأخ ميمون كموس ، ويقفون على رأسه هنيهة ويمعنون فيه النظر، ثم يذهبون إلى السيارات الواقفة في الشارع وسط كوكبة من الدراجات النارية التي كان من المألوف أن ترافق علال الفاسي أثناء تنقلاته أيام كان العمال كلهم تابعين للحزب. ركبوا السيارات، ركب علال سيارته مع العامل، وكانت سيارة جيب وضعت وراء سيارة علال لإثارة الإنتباه في الوقت الذي يكون فيه الجمهور يركز نظرته نحو سيارة علال الفاسي، يلفت نظره هذا المنظر الغريب، فيتساءلون وكان المسيرون الحزبيون الذين انبثوا وسط الجماهير على علم ليعطوا درسا لهم في الموضوع وليقولوا لهم أنها عقاب للمتمردين على الحزب.
تحرك الموكب، وتحركت -جيب- وراءه، ويقول الأخ ميمون كموس وبدل أن تسدد الأنظار نحو علال الفاسي كانت مسددة نحوي، ومررنا من تلك الحشود التي كانت مكتظة بشوارع وجدة، ووقع نفس الشيء حين وصلنا بني ادرار، ثم أحفير، ثم الركادة، وأخيرا وصلنا أبركان، وفي أبركان ، المحط النهائي للزيارة، دار الموكب في الشارع الكبير ثم وقف أمام ساحة الدائرة، ليقدم لعلال الفاسي التمر والحليب وتعطى التعليمات لسيارة جيب بأن تواصل جولتها في الشارع الكبير مرتين، وبعدها أرجعت إلى المعتقل، ومن هنا –يقول الأخ ميمون كموس- كنت أنا الزعيم، كانت أنظار الجمهور متجهة نحوي” وهذا فقط نموذج مصغر لما كان يقوم به الحزب الديكتاتوري ضد كل من عصى أوامره، وهذه الشهادة لا تحتاج إلى تعليق لأنها توضح بنفسها مدى الحقد الذي كان يكنه علال الفاسي وأتباعه لكل من كان خارج دائرتهم. (1) 
بصدق لم أفهم جيدا ملابسات الحادثة، وبالإمكان أن أعود لاحقا إلى مذكرات الوكوتي مباشرة وغيرها من المراجع للتدقيق فيها. غير أنني أشير إلى أن هذه الحوادث أقصى ما يمكن أن يُدين علال بالعنصرية تجاه الأمازيغ (من الريف). وطبعا معلوم من المعطيات المذكورة أن الحديث كان عن تمرد ضد الحزب أي أن المسألة فيها صراع سياسي ليس ضد الأمازيغ لأنهم أمازيغ فرُب متمرد (فاسي) على حزب الاستقلال، هل سينجو من العقاب لأنه (فاسي-عربي!).
ما أريد الوقوف عنده في هذا المقال، هو أن قراءتنا المكثفة لنصوص علال وحياته تبين أن الرجل ليس عنصريا. صحيح قد تكون له مواقف تجاه الامازيغية لا أتفق معها. ولكن التحليل الحصيف يفضي إلى كون الإنسان لا يفكر خارج محيط نشأته وملابسات الوسط الذي نما فيه (فكريا واجتماعيا)، ولهذا فعلال وجد نفسه في وسط أسرة فاسية ذات أصول أندلسية في مدينة يقل فيها الناطقون بالأمازيغية بالمقارنة مع باقي المناطق التي تصل إلى مائة بالمائة، وطبيعي أنه لا يعرف الأمازيغية ولا يستشعر ذات مشاعر الأمازيغي الذي يشع وجدانه بما بثه فيه محيطه بغلاف لغته الأم. كأننا نطلب من إنجليزي أن يقول ذات مواقف الفرنسي في الفرنسية وهو ناشئ في فضاء في فرنسا يتكلم فيه من حوله الإنجليزية ودرس في مدارس خاصة بالإنجليز.
يكفي علالا أنه كان مؤمنا بقوة الأرض وعدم التمييز بين الناس بناء على الجنس أو اللغة أو الدين. يقول في (النقد الذاتي، الطبعة الثامنة، 2008): إن قوة  الأرض أعظم القوات تأثيرا وأقدمها تاريخا، كما أنها أقوى صمودا من قوة الدم،؛ لأن تغيير القوة الأرضية يحتاج لآلاف السنين بينما تغيير قوة الدم يتم في أقرب الأوقات. والفكرة التي تتكون من التمسك بالأرض واعتبارها من مظاهر اتحادها مع النموذج النفسي هي التي نريد من الفكر الوطني.
توحيد الأرض بالنموذج النفسي وتوحيدهما معا بروح العصر، ذلك هو التفاعل الإنساني الذي تمتزج فيه مادية الأرض بروحانية الإنسان فيصبح الكل عبارة عن فكرة مجردة هي فكرة الوطنية الصحيحة التي لا تعتبر الناس بناء على ما بينهم من فوارق الجنس واللغة والدين، وإنما تعتبرهم بحسب ما يمكن من الاتحاد بين نموذجهم الشخصي والوطن الذي يعيشون فيه. ص:110.
وبخصوص ما يُقال عنه بأنه ذيل للقومية العربية في المغرب وأنه يحب العرب الأجانب ويكره الامازيغ بني جلدته، فإن نصوصه تحبل بكون ولائه هو للإسلام وأنه بدوره يُثرب على العرب الذين يعتبرون أنفسهم شعب االله المختار ويناقش السوريين الذين يحملون هذه الدعوى. ويحلل هذا الأمر، قائلا: وأما هذه الطائفة من الأمة العربية التي رأت طغيان "إسرائيل" عليها، واستبدادها بالبلاد المقدسة دونها، وحيرتها في مقاومتها لضعف مقاومة العرب وافتراق كلمتهم. فحملها ذلك على أن تقلد الإسرائيليين في دعاواهم أنهم شعب الله المختار وأنهم أفضل العالمين، فزعمت هي الأخرى، أن العرب كانت قبل الإسلام أمة عظيمة من أرقى شعوب الأرض، وأن كونها من خيرة الأمم أو خير الأمم على الإطلاق هو الذي أعدها لأن تتقبل نبوة الرسول العربي فيها. مع أن الحق بخلاف ذلك فالعرب ناس كالناس، ولولا أ محمدا داءهم من ربهم فعلمهم الإسلام وآدابه لظلوا في عمايتهم يجهلون، وإذا كان لهم فضل على الناس فهو في انبثاق النبي محمد من بينهم وقيامهم بتأييده وحماية دعوته مثلهم في ذلك مثل غيرهم ممن يقوم بنشر دعوة الإسلام والذود عنه من أي جنس كان. ولقد وقعت بيني وبين بعض المفكرين المسلمين في سوريا مجادلات في هذا الجانب. والحق أنه لا فضل لجنس على جنس ولا لعنصر على آخر إلا بالتقوى وبما قدمه للإنسانية من عمل وحضارة.  (علال الفاسي، تاريخ التشريع الإسلامي، سلسلة كتاب العلم، الطبعة الأولى، 1990، ص:47)
قد يعترض معترض على هذه النصوص مشيرا إلى أن البون شاسع بين الفكر والممارسة. أولا، الذين يتهمون علالا فهم يتهمون العنصرية الكامنة في فكره قبل أن ينتقلوا إلى نسبة ممارسات غير إنسانية تجاه الأمازيغ إلى حزبه. ثانيا؛ لست واثقا من أن هذا الكلام الشائع عن ممارسات غير إنسانية ضد المخالفين للحزب عبر توسُل العنف صحيح. 
لكن إن افترضنا أنه صحيح فأزعم أن المتورطين في هكذا أحداث لن يكونوا سوى جماعة من الأميين والعوام من المتعاطفين مع الحزب؛ وللإشارة فأغلب هؤلاء التحقوا بالحزب وعلال غير مسؤول عن قيادته المباشرة في المغرب. فعلال نُفي إلى الغابون عام 1937 وعاد من المنفى عام 1946 ثم رحل إلى مصر سنة ثم عاد إلى طنجة (التي كانت منطقة دولية) حيث كتب النقد الذاتي لكن سرعان ما عاد إلى مصر ومكث هناك إلى حدود عام 1955. ما يعني أن علالا هو خارج تراب الوطن قرابة العشرين عاما. وبالتالي، فعلال ليس مسؤولا عن تربية هذه الطينة من الحزبيين الذين يفتكون بمخالفيهم وغير خاف أن التنظيمات الجماهيرية بعد توسعها قد تكون مرتع ممارسات لا علم للقيادة بها (هكذا قيادة الإخوان في مصر ممثلة في حسن البنا لم يمكن في علمها نهائيا العمليات التي قام بها بعض أعضاء التنظيم الخاص ومنها اغتيال النقراشي ووصفهم البنا بأنهم "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين").
إن علالا يقول (النقد الذاتي، ص:15) بأن الحركة الاستقلالية التي ينضوي تحت لوائها  لا تتم رسالتها في الأمة المغربية، إلا إذا استطاعت أن تبعث في نفوسنا جميعا تلك الروحية المغربية التي كونت من أسلافنا أولياء ممتازين وأبطالا متفوقين لا يغارون إلا على حقوق الله والوطن، ولا يتنافسون إلا في السبق لخدمة الكل ومساعدته على التحرر والانطلاق. 
وهكذا، فعلال منحاز للرصيد التاريخي للوطن بالقدر الذي يعرفه (قد نختلف معه في بعض آرائه مدركين أن الإنسان رهين محيطه وبيئته وواعين أن الإنسان -أي إنسان- عدو ما جهل)، كما أنه لا مكان للعنصرية في فكره فها هو يرى تنافس المغاربة لا يكون إلا في خدمة الكل لا أهل فاس فقط ولا الريف فحسب وإنما في خدمة كل من حملته هذه الأرض. وقد كان له قصب السبق في المغرب أن كان أول الداعين إلى إحداث كرسي للثقافة الأمازيغية في الجامعة المغربية منذ عام 1968 (فهل يفعل العنصريون هذا؟).

(1) http://www.maghress.com/arrifinu/24888

...تابع القراءة

| 2 التعليقات ]



أصبح الحديث عن قواعد القراءة المثمرة أو "فن القراءة" ذائعا. فهكذا الإنسان انتبه، عبر تاريخه، إلى أهمية تتبع تجارب الناس لاستخلاص القواسم المشتركة بينهم بخصوص ظاهرة من الظاهر،  ليتم تعميمها ويطلق عليها "علم" أو "قواعد". كل هذا لتيسير المسألة على الأجيال اللاحقة والقادمة كي لا تكرر نفس الأخطاء ولا تتيه في التجريب ولكي تعمل على تطوير مكتسبات الآخرين والبناء على تراكمهم.
ومنذ أن اكتشف الإنسان أن القراءة هي التي تجعله جديرا بالكرامة الموهوبة من الرحمان. (اقرأ وربك الأكرم). راح يفكر في السبيل إلى إيصال هذا النور والسراج إلى كل الأجيال. فاندفع باحثا عن الوسائل التي تخلق بواعث القراءة لدى هذه الأجيال على أمل أن تلتزم –في النهاية- بالمواظبة عليها مُوقنة أنها بدونها تفقد هويتها الإنسانية الأصيلة (التي تشكل النفخة الإلهية عمودها الفقري).
ومنذ وجود الإنسان على هذه الأرض، يخلق الله جل في علاه باستمرار نماذج تعلو تطلعاتها وتسمو تأملاتها وترتبط بالمعرفة ووعائها (الكتاب) ارتباطا مثيرا. من هنا، كان التنقيب في آراء هذه النماذج وسبر أغوار مسارها والبحث عن تأملاتها التي جسدت مُخرجات تجربة من 'القراءة" بلغت عشرات السنين مع آلاف الكتب؛ أمرا في غاية الأهمية والفائدة. لهذا اخترنا في هذا المقال أن نقف مع أحد هذه النماذج وأحد "فلتات" العصر وهو الأستاذ عباس محمود العقاد. وهو غني عن التعريف، من مواليد سنة 1889 بمصر، انقطع عن الدراسة منذ المرحلة الابتدائية واستمر بعصاميته الاستثنائية في التثقيف الذاتي حتى صار من كبار المفكرين في العالم. عُرف بكونه قارئا نهما طالع عشرات آلاف الكتب والصفحات (قيل حوالي "70 ألف كتاب"!). اخترنا أن نقف مع العقاد لنتعلم قواعد في "القراءة" مستقاة من خبير لا يشق له غبار. (ولا ينبئك مثل خبير).
أول سؤال ينقدح في ذهن كل مطلع على سيرة العقاد هو ما البواعث التي جعلته يعشق القراءة ويدمن عليها، أو بتعبير آخر؛ لماذا يهوى العقاد القراءة إلى حد الجنون؟ ومنذ البداية يرفض العقاد اختزال القراءة في كونها فقط وقودا للكتابة:  كلا.. لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمرا في تقدير الحساب..
ويستدرك: إنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك ما في ضميري من بواعث الحركة.
والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب.
فكرتك أنت فكرة واحدة.. شعورك أنت شعور واحد.. خيالك أنت خيال فرد إذا قصرته عليك..
ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة أخرى، أو لاقيت بشعورك شعور آخر، أو لاقيت بخيالك خيال غيرك.. فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين، أو أن الشعور يصبح شعورين، أو أن الخيال يصبح خيالين.. كلا.. وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات من الفكر في القوة والعمق والامتداد. (عباس محمود العقاد، أنا، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 1996، ص: 69 )
وبخصوص السؤال الأشهر؛ ما هي الكتب المفضلة لديك؟ يجيب: أُفضل قراءة كتب فلسفة الدين، والتاريخ الطبيعي، وتراجم العظماء، وكتب الشعر. وأعتقد أن العلاقة بينها متينة، وإن تختلف في الظاهر، لأنها ترجع إلى توسيع أفق الحياة أمام الإنسان.. فكتب فلسفة الدين تبين إلى أي حد تمتد الحياة قبل الولادة وبعد الموت. وكتب التاريخ الطبيعي في أشكال الحياة المختلفة وأنواعها المتعددة. وتراجم العظماء معرض لأصناف عالية من الحياة القوية البارزة. والشعر هو ترجمان العواطف. (مرجع سابق، ص:71)
هكذا العقاد يفضل من الكتب كل ما له مساس بسر الحياة. إنه هنا يعلمنا درسا بليغا متجددا مفاده أن الغرض الأول من القراءة ليس أن نتعلم البيان أو نرد على المخالفين والأعداء وإنما هو –قبل كل شيء- أن نستوعب وأن نقترب من سر الحياة وما وراء استخلاف الإنسان. إنه يدفعنا إلى الانتباه من جديد إلى كون القراءة جواز الدخول إلى ملكوت استحقاق الكرامة الإلهية. لأن البليد الحس والمفتوح الثغر والغافل عن الضجيج، الذي لا تثيره هذه الحياة ولا يستفزه الجرح الوجودي الذي يلازمه طيلة هذه الرحلة؛ فذاك أبعد ما يكون عن استحقاق كرامة الرب الأكرم التي لا تُنال إلا بعد الاستجابة لنداء (اقرأ).
ومادام الباعث على القراءة هو هذا،  يقرر العقاد أن التحديد في اختيار الكتب أمر يتجنى على الهدف الأكبر (الاقتراب من سر الحياة) لأن أي كتاب يحوي إشارات يلتقطها القارئ وتساعده في إدراك جونب تخفى عليه من دون أن يقصد ذلك.  فالكتب طعام الفكر، وتوجد أطعمة لكل فكر كما توجد أطعمة لكل بنية، ومن مزايا البنية القوية أنها تستخرج الغذاء لنفسها من كل طعام وكذلك الإدراك القوي يستطيع أن يستخرج غذاء فكريا في كل موضوع. وعندي أن التحديد في اختيار الكتب هو كالتحديد في اختيار الطعام. وكلاهما لا يكون إلا لطفل في هذا الباب أو مريض، فاقرأ ما شئت تستفد إذا كان لك فكر قادر أو معدة عقلية تستطيع أن تهضم ما يلقى إليها من موضوعات، وإلا فاجعل القابلية حكما لك فيما تختار لأن الجسم غالبا ما يغذيه ما يشتهيه. (مرجع سابق، ص:71)
لا أخفي أنني كنت –وما زلت- حريصا –كلما سئلت- على تحديد الكتب التي تستحق القراءة للسائل (خاصة إن كان في بداية المشوار) وأحرص على التي تفتح الشهية للناشئة -في عالم القراءة- لأنهم فعلا أطفال من الناحية الفكرية مهما بلغت أعمارهم. غير أنني أنبههم إلى أن هذه مرحلة البداية والرعاية سرعان ما تمر وتأتي المحطة التي يسيح فيها الإنسان -كما يشاء- في عوالم الأفكار والمعرفة. لكن لا تفوتني دائما الإشارة إلى ضرورة التنظيم ومحاربة العشوائية في الانتقال من موضوع إلى موضوع ومن مجال إلى مجال ومن كاتب إلى آخر. وأظن أن هذه الآفة هي مقتل معظم القراء الذين فشلوا في اكتشاف لذة القراءة وانعكاس ثمارها على حياتهم الفكرية.
وعموما فالعقاد يشترط فيما قاله امتلاك  فكر قادر أو معدة عقلية تستطيع أن تهضم ما يلقى إليها من موضوعات، ومعلوم أن حيازة هذا الفكر أو هذه المعدة هو نتيجة تراكم محصول من المعارف واحتكاك طويل مع الكتابات. يعني أن هذا الكلام موجه للذين لهم باع معتبر في القراءة ويقتصرون على مجال دون مجال ويستخفون بأهمية باقي الموضوعات.
ورغم كون العقاد يقول بضرورة ترك مجال الاختيار مفتوحا خاصة للذين حصلوا على "الأقدمية" في التعاطي مع الكتاب. فإنه مع ذلك يحدد مقياسا للكتاب المفيد. يقول: وأما مقياس الكتاب المفيد فإنك تتبينه من كل ما يزيد معرفتك وقوتك على الإدراك والعمل وتذوق الحياة، فإذا وجدت ذلك في كتاب ما، كان جديرا بالعناية والتنويه؛ فإننا لا نعرف إلا لنعمل أو لنشعر، أما المعرفة التي لا عمل وراءها ولا شعور فيها فخير منها عدمها . وعلى هذا المقياس تستطيع أن تفرق بين ما يصلح للثقافة والتهذيب وما لا يصلح. (مرجع سابق، ص:72)
قد يبدو هذا الكلام مناقضا للأول غير أن التأمل الدقيق يفضي إلى اكتشاف تكاملهما. فالعقاد يؤمن بكون باب الاختيار مفتوحا في الكتب، أي أن على الإنسان أن يترك خلفه الأحكام المسبقة تجاه أي كاتب أو كتاب قبل أن ينخرط في القراءة، فيكون دليله آنذاك –إن كان ذا معدة عقلية قوية- هو التمحيص والتبيُن: من خلال البحث عن المعرفة التي سيضيفها له أو قوة الإدراك التي سيمنحها له أو الذائقة التي سيزكيه بها.
لأنه في نهاية المطاف؛ الغرض من البحث وراء (سر الحياة) ليس التسلية والمتعة –وإن كانت حاصلة تبعا- وإنما الغاية كامنة في الاستجابة للمقولة التي تقول: الإنسان عدو ما يجهل. فكلما زاد الإنسان معرفة بالحياة وأدرك طبيعة الإنسان انعكس ذلك على سلوكه وتحرر من استعداء أمور هي من صميم طبائع الأشياء وتَخفَف من الأوهام والأساطير التي تكبله وانعتق من  التصورات الخاطئة التي تشوش عليه. فعلى سبيل المثال كلما أدرك الإنسان ضآلة نفسه أمام حجم الكون الضخم أو قوة ارتهانه لمحيط نشأته ازداد إقبالا على التواضع والحلم والإيمان بنسبية أفكاره.
ويأتي العقاد إلى تأثير كل من أنواع الكتب الثلاثة: العلمية، والأدبية والفلسفية. فيرى أن الكتب العلمية تعلمنا الضبط والدقة. والكتب الأدبية توسع دائرة العطف والشعور وتكشف لنا عن الحياة والجمال. والكتب الفلسفية تنبه البصيرة وملكة الاستقصاء وتتعدى بالقارئ من المعلوم إلى المجهول، وتنتقل به من الفروع إلى الأصول. (مرجع سابق، ص:72)
ومن المفيد الإشارة إلى أن الكتب "الفلسفية" يمكن تعميمها؛ فكتب فلسفة العلوم التي تدرس منطق العلم –أي علم- وأصوله ومقاصده وكلياته يمكن أن تندرج في هذا الإطار. حتى علم (أصول الفقه) فهو فلسفة تؤطر الفقه وقواعد استنباط الأحكام. وفي تقديري هذه الكتب هي التي تقربنا أكثر من سر الحياة لأنها تنظر من عل إلى سائر المجالات وهي أصلا تشتغل على المعطيات التي ينتجها البحث العلمي والمواد التي يفرزها الإنتاج والنظر الأدبي. لأنها أي هذه الكتب تجيب على السؤال الأهم (لماذا؟)؛ وتوظيف إجابات (كيف): تجري الحياة (مجال الكتب العلمية)، يتحرك الناس ويفكرون وأين يتجهون بمشاعرهم (مجال اشتغال الأدب).
في الأسطر أعلاه لما أشرنا إلى كون القراءة شرط نيل الكرامة. أكيد سيقفز إلى ذهن كل قارئ نبيه سؤال يقول: وما محل الناس الأميين الذين لم يؤتوا ولو فرصة واحدة للتعاطي مع الكتاب، ناهيك عن أن يفكروا في إدمان الحرف. وسيواصل المعترض الحصيف: وإذا كان المناط من القراءة هو إدراك أو –بالأحرى- الاقتراب من سر الحياة؛ فالعديد من الناس يفيضون بالحكمة ويستوعبون مغزى  الحياة بعدما عركتهم التجارب وعلمتهم المُشاهدات والتأملات.
هنا العقاد يشير إلى تكامل (التجارب) و(القراءة). لأنها تمكن من تعميق الاستفادة من المقروء. كما أن (القراءة) تُمكن من تطوير التأملات وتدقيق الملاحظات واستخلاص الدروس والعبر من المحن والمنح والنعم والنقم. لا تغني الكتب عن تجارب الحياة، ولا تغني التجارب عن الكتب، لأننا نحتاج إلى قسط من التجربة لكي نفهم حق الفهم. أما أن التجارب لا تغني عن الكتب، لأن الكتب هي تجارب آلاف السنين في مختلف الأمم والعصور ولا يمكن أن تبلغ تجربة الفرد الواحد تجارب عشرات السنين.
وتكمن الأهمية الكبرى للتجارب في كونها هي التي تساعد القارئ على الاستدراك على الكاتب ومناقشة أفكاره. فالإنسان يخوض التجارب –ولا شك أنه يتأمل في نفس الوقت فيما يحدث ويسجل في ذهنه الملاحظات- ثم يقرأ ثم يتأمل في النهاية في التشابك والتقاطع والفصام بين ما تنطق به التجارب الذاتية وما تقوله الكتب. وهكذا يبقى كل شيء مهما في حياة الإنسان إذا أحسن استثماره. فالمعارف التي نجمعها من التجارب والكتب محصول نفيس، ولكنه محصول لا يفيدنا ما لم نغربله ونوزعه على مواضعه من خزائن العقل والضمير.. ولن تتيسر لنا هذه الغربلة وهذا التوزيع في غير أوقات الفراغ.. إن معارف التجربة والاطلاع زرع ينتظر الحصاد والجمع والتخزين، ولا فائدة للحرث والسقي والرعاية ما لم تأت بعد ساعة التخزين.. وهي ساعة الفراغ.. ساعة هي ألزم لنا من ساعات العمل، لأن العمل كله موقوف عليها في النهاية، فلا ثمرة لأعمال الحياة بغير فراغ الحياة. (مرجع سابق، ص:93)
ساعة الفراغ، إذن، هي ساعة الحصاد. فالقراءة ليست متعة –كما يُشاع- وإنما واجب ولهذا فهي (عمل)، كما أن تجارب الإنسان كلها تُخاض وهو يعمل. وتأتي ساعة الفراغ حيث يستريح الإنسان جسديا ويشتغل ذهنيا في تحليل ما انتهى إليه من معطيات ومعارف حتى يكتسب المزيد من النباهة والذكاء وحاسة الانتباه. من هنا كانت ساعة الفراغ هي التي تصنع الفرق بين الناس.
كان الأستاذ علي عزت بيغوفيتش يرى أن كثرة القراءة لا تجعلنا أكثر ذكاء. فبعض الناس "يلتهمون" الكتب من دون الوقفات الضرورية للتفكير، هذه الوقفات ضرورية من أجل "هضم" المقروء ومعالجته، من أجل استيعابه وإدراكه. حين يتحدث أناس من هذا النوع؛ فإن شذرات من "هيجل" و"هيدجر" و"ماركس" تخرج من أفواههم كما هي، بلا هضم أو معالجة. إن القراءة –يقول علي عزت- تقتضي إسهام القارئ فيما يقرأ، ويحتاج هذا إلى وقت، كالنحلة تُحول الرحيق في بطنها على عسل.  (علي عزت بيغوفتش، هروبي إلى الحرية، مدارات للأبحاث والنشر-القاهرة، الطبعة الأولى، 2014، ص:32) 
نأتي على أهم فكرة أو أجود درس، في تقديري وبناء على تجربتي المتواضعة، وهو التركيز في القراءة على موضوع واحد (وأضيف الكاتب الواحد !) ونبذ تشتيت الذهن وطرق عدة موضوعات خاصة في بدايات تعاطي الإنسان مع المعرفة والقراءة أي قبل تحصيل الحد الأدنى الذي يُمَكن من التوظيف الإيجابي لأي مقروء وربط عناصر الموضوعات. 
 يقول العقاد: ولا أظن أن هناك كتبا مكررة لأخرى، لأني أعتقد أن الفكرة الواحدة إذا تناولها ألف كتاب أصبحت ألف فكرة، ولم تعد فكرة واحدة..  ولهذا أتعمد أن أقرأ في الموضوع الواحد أقوال كتاب عديدين، وأشعر أن هذا أمتع وأنفع من قراءة الموضوعات المتعددة. فمثلا أقرأ في حياة نابليون أقوال أكثر من ثلاثين كاتبا، وأنا واثق من أن كل نابليون من هؤلاء هو غير نابليون الذي وصف في كتب الآخرين. (مرجع سابق، ص:72 )
هي دروس، على كل حال، بالإمكان أن تساهم في تخصيب تجارب القراء مع القراءة. فمهما بلغ شأو الإنسان في مجال إلا وتطلع إلى معرفة تجارب الآخرين فيه ليستفيد ويُنَقح ويطور مسيرته. وها هو العقاد نفسه، الذي لا ريب في أنه منتسب إلى زمرة العظماء، يواظب -كما قال- على قراءة تراجم الكبار وسير العظماء. ولا يفوتني أن أشير إلى أنني أستحب الاطلاع على تجارب كبار القراء كما يحكونها -وأقارنها مع تجربتي الناشئة- على أن أقرأ حديثا في "القراءة السريعة" أو "علم القراءة!"، وربما تكون هذه سلبية علي التخلص منها، لكن ما عساني فاعلا فهذا هو سلوكي وهذه هي ميولاتي!



...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]




المقصود بالفرق بين الناس هو ذاك التفاوت القائم بينهم في المستوى وذاك التمايز الملحوظ في ما بينهم في مسائل التفكير والتحليل وذاك التباعد الظاهر بين حظوظهم في مختلف جوانب الحياة (الدراسية، المهنية، التنظيمية، المعرفية..).
نشاهد مجموعة من الطلاب تدرس عند نفس الأستاذ (وهو أحسن الأساتذة)، وتضيف الساعات الإضافية في نفس مركز الدعم، وتحرص بشكل جماعي على إنجاز الواجبات المنزلية والانضباط الدائم لوقت الحصص الدراسية. غير أن التفاوت في المستوى يبرز بقوة عند الامتحان.
نجد زمرة من التلاميذ وصلت إلى مستوى الأولى إعدادي وهي تملك مؤهلات متساوية في اللغات، تتابع بشغف –بشكل جماعي- دروس النحو في العربية لتتخلص من الأخطاء في كتابة الإنشاء، تحفظ الأشعار الفرنسية بحماس لتنمي رصيدها اللغوي. غير أن "الطبقية" اللغوية في أوساط هذه الزمرة سرعان ما تطل برأسها عند الاختبار.
نعاين بعض الخلان يحبون مادة الرياضيات منذ الصغر، يجتهدون في إنجاز التمارين التي يعطيها الأستاذ، يستحلون المعاناة ويستمتعون بالتعب من أجل إيجاد المسائل الشائكة التي قدمها لهم الأستاذ، يحرصون بشكل تلقائي على المشاركة في الفصل. غير أن  حذق الإجابة في الامتحان وتحصيل أعلى الدرجات لا يكون إلا من نصيب القلة القليلة.
نرى الأقران يلتحقون بتنظيم معين (العمل الجمعوي)؛ ويحرصون على الحضور في نفس الأنشطة ويستمعون لذات المحاضرات وينخرطون في نفس اللجان. غير أن بعضهم يفوق بعضا بكثير.
هذا التفاوت طبيعي لأن تطور المجتمع البشري ناشئ من هذه المنافسة الحادة التي تدفع كل فرد إلى أن يبرع ويتفوق على غيره. حيث يبرز آنذاك النجاح الذي يستفيد منه الفرد والمجتمع معا. إنه نجاح المخترع والتاجر والقائد والزعيم والخطيب وغيرهم من الذين يضيفون إلى تراث البشرية كل يوم جديدا.(1)
لكن، ما الذي يحدث؟
صحيح أن أول تفاعل سيدور في الأذهان بخصوص هذه الأسئلة يحيل إلى التفاوت الأصلي الأصيل والكامن بين هؤلاء الأفراد في مواهبهم ومؤهلاتهم الفطرية وذكائهم الطبيعي (القدرة على الحفظ والاستحضار والحساب...). وهو أمر معروف، قد تكون له نسبة من الصحة. لكن عموما المعطيات التي كشفت عنها التجارب الحديثة تشير إلى محدودية المؤهلات الطبيعية والفطرية في صناعة الفرق بين الأفراد.
إن النماذج التي أوردناها افترضنا فيها جميع أنها تتقاسم نفس الظروف الاجتماعية وتشترك في نفس القدر من المثابرة على إنجاز ما يُطلب منها من طرف الآخرين (الأساتذة والمُربُون). ثمة، إذن، أمر في الخفاء هو الذي يصنع الفرق.
إنها المواظبة الاختيارية. الأمثلة التي سبق ذكرها ألمحنا إلى أن ما يجمع الأفراد المتبارين فيها هو مواظبتهم على الأمور الإجبارية المفروضة عليهم من طرف جهة خارجية (الآباء، الأساتذة، قيادة التنظيم...)، أو قل الأمور المطلوبة منهم من طرف من لهم سلطة عليهم (مادية كانت أو معنوية).
لكن المواظبة الاختيارية شيء آخر. إنها التزام يفرضه الفرد على نفسه بعد أدائه للالتزامات الخارجية والإجبارية. نعود إلى الأمثلة السابقة:
إن الذي يجعل نتائج الطلاب مختلفة هو كون بعضهم أخذ على نفسه (بعد الانتباه لمتطلبات الدرس في الفصل، وبعد الاختلاف إلى مجالس الدعم والساعات الإضافية) أن يقوم بمجهود آخر فردي اختياري يوميا. يبرمج أوقاتا خاصة في اليوم ليشتبك من جديد مع أسئلة المقرر الدراسي ويتفاعل معها بالمراجعة والتمارين.
وإن الذي يكمن وراء تميُز بعض التلاميذ في كتابة الإنشاء هو كونهم إذ يرجعون إلى منازلهم؛ يُثَبتون قواعد النحو، ويفتحون سلاسل الروايات ليستغرقوا في قراءتها، ويمسكون بالكتب لينهلوا من معين أفكارها، ويلخصون ما عنَ لهم من خلاصات، ويُدبجون ما بدا لهم من محاولات في كتابة المقالات. كما أن مرد تألق بعض الفتية والفتيات في التمكُن من ناصية اللغة الفرتسية راجع إلى كونهم قد أخذوا على عاتقهم، بعد حفظ الأشعار المُقررة، ومن تلقاء أنفسهم وبدون إلزام من أحد؛ حفظ ثلاث كلمات بمعانيها من القاموس كل يوم ومحاولة الاشتباك مع صفحات قلائل من مكتوب فرنسي بشكل يومي أو مشاهدة أفلام ناطقة باللغة الفرنسية أو الاستماع الراتب لأغان وأشعار فرنسية.
كما أن الذين يتميزون في الرياضيات عن غيرهم ليس لخارق ذكائهم وإنما لكونهم ألزموا أنفسهم بالمواظبة على التفاعل والتعب مع عدد مُقدَر من التمارين والمسائل، تنضاف إلى سلسلة ما طلبه الأستاذ. ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن أحد أصدقائي المتميزين في الرياضيات –على الصعيد الوطني- وأحد الحائزين على الرتب الأولى في الامتحان النهائي للأقسام التحضيرية الخاص بشعبة الرياضيات، دورة ماي 2016، حدثني مؤخرا بعدما سألته عن الدرس المستفاد أو خلاصة سنتين من الجد والاجتهاد في الأقسام التحضيرية: إن أكبر وهم يبيعه الناس هو قولهم بأن الإجابة على مسائل الرياضيات تنتظر من الفرد التمتع بذكاء خارق "يُلهمه" الجواب. إن الحكاية يا صاحبي لا تعدو أن تخرُج عن ثنائية التكرار والاجترار في إنجاز التمارين؛ فلن تجيب إذا لم تُجرب ولم تبحث سلفا في نموذج قريب للتمرين المطلوب حله في الامتحان، خاصة وأن الوقت يضيق آنذاك ولا يسمح باسترسال التفكير.
ولفهم الفروق بين الأفراد الذين ينخرطون في نفس الإطار الجمعوي يلزم أيضا الاطلاع على ما يفعله كل واحد منهم في أوقات فراغه بعد الانتهاء من كل الواجبات، كما يلزم البحث عن الأعمال التي يواظب عليها كل واحد منهم –اختيارا- كل يوم. فقد تجد أحدهم مواظبا على تعلُم تقنيات جديدة في الإعلاميات وقد تلفي آخر عاكفا على القراءة المتأنية في تاريخ الحركات والتنظيمات مستخلصا الوسائل التي تستثمرها لترجمة أهدافها إلى واقع ملموس..
هكذا تبدو المواظبة الاختيارية حاضرة في الاستثمار اليومي لأوقات الفراغ. إنها قد تتمثل –مثلا- في اتخاذ العطلة الصيفية إلى جانب فترات فيها للاستجمام فرصة لإجراء أبحاث شخصية في الفكر والثقافة عن موضوعات مختارة بغير إيعاز من جهة خارج إرادة الفرد الحرة الطليقة. إنها قد تتمثل أيضا في بحث الفرد عن جوانب غير مدروسة في مجاله المهني سعيا منه لضبطها وتجويد عمله بها.
إن الكبار الذين نقف مشدوهين أمام سيرهم لم يكونوا سوى مواظبين –اختيارا- على أعمال بعينها. ففي مجال حفظ القرآن الكريم –مثلا- نجد الأستاذ حسن البنا كان يأمل والده أن يراه حاملا لكتاب الله لكنه بلغ سن المدرسة ولما يقف بعد على منتصف القرآن؛ فما كان منه إلا أن واظب على برنامج يومي  –إلى جانب المدرسة النظامية- فحفظ فيه ما تبقى له من سُور القرآن بعد صلاة الفجر قبل الذهاب وفي المساء بعد العودة من المدرسة. وهذا الدكتور يوسف القرضاوي يحكي، في مراجعاته على قناة الحوار مع عزام التميمي، سر السرعة التي حفظ بها القرآن ذاكرا أنه لا يكتفي بمحفوظه من الكُتاب بل يعود إلى المصحف في البيت ليواظب على استذكار المزيد من الآيات، فحاز بذلك قصب السبق بين الأقران.
وإذا تأملنا في الإنتاج الفكري للباحثين نرى أن ما يُميز بعضه على بعض هو كون فئة امتازت بجمعها بين التعمق في تخصصها (مجال المواظبة الإجبارية) والإطلالة المُمَكنة من استيعاب ما يدور في التخصصات والمجالات الأخرى ( مجال المواظبة الاختيارية). مما مكنها من تسليط الضوء على نقط منسية وقضايا مسكوت عنها. كان الأستاذ عبد الوهاب المسيري يحكي أنه عندما يكون بصدد إلقاء محاضرة في موضوع ما أو كتابة بحث في قضية معينة يروح تلك الأيام إلى قراءة كتب أخرى لا تتصل بتاتا بالموضوع الذي هو مجبر على الانشغال به. ويلفت انتباهنا إلى أن هذه القراءات الإضافية المختارة هي التي تُخصب خياله وتُمكنه من التفكير في زوايا أخرى للنظر في الموضوع الذي هو بصدد البحث حوله وإلقاء العرض فيه.
إن الذي يصنع الفرق حقا بين الناس ويستحق أن يكون مقياسا لتقييم الأفراد هو ما واظبوا عليه باختيارهم وبدون إكراه من احد وما فعلوه في أوقات فراغهم. أما الذي ينتظر دائما إشعارا من الخارج وأمرا من الآخر ليواظب على عمل وينجز الإنجازات، فهو سيصل -نعم- إلى مبتغاه ولكن لن يكون من المتميزين ولا في الصفوف الأولى في المباريات التي تشهدها الحياة باستمرار طوال مسيرة الإنسان.
وغير خاف أن المواطنين في الغرب يصنعون الفرق لأنهم يواظبون اختيارا على احترام القوانين وصيانة جمالية الفضاء وهدوء الوسط الذين يعيشون فيه. وفي المقابل نجد بني جلدتنا يتحايلون على الاستجابة لأمور فيها المواظبة الإجبارية وفي الغرامات وفيها السجن.

(1) علي الوردي، خوارق اللاشعور، دار الوراق للنشر،  الطبعة الرابعة، 2015، ص:14.

...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





تيسر لي بفضل الله حضور الملتقى الجهوي الصيفي لقيادات حركة التوحيد والإصلاح بجهة الشمال الغربي الذي انعقد بطنجة أيام 22-23-24 يوليوز. كان حضوري باسم طلبة الحركة (منظمة التجديد الطلابي) بمعية طالبين آخرين. كان اللقاء فرصة ثمينة لا تتكرر للوقوف على أين وصلت ذهنية قطاع مقدر من الحركة الإسلامية. حيث جسد بحق أجواء قلب الحركة الإسلامية. ففرق كبير بين أن تكون ذا دراية فقط بما يعتمل في العقل الحركي الإسلامي القيادي الوطني المُنظر وبين أن تنفذ إلى تمثلات القيادات المنطقية الميدانية ورؤيتها لمختلف لقضايا الهامة الشائكة. بالطبع اللقاء داخلي وله خصوصية؛ لهذا فتفاعلي عبر هذه الأسطر مجرد تسليط للضوء على نقط تثار حول الحركة الإسلامية وتُشكل نقاشا في أوساط المثقفين المهتمين بها.
أول شعور ساورني في خضم فعاليات الملتقى هو مدى جهل العديد من المثقفين بتحولات الحركة الإسلامية. إذ مازال بعض أدعياء الموضوعية والحوار غير قادرين على تجاوز مسلمات كانت موضوعة على طاولة المحللين للظاهرة الإسلامية منذ ميلادها.  
جماعة من الناس رأت أن ثمة في واقعها ثُلمة وأن المدخل للإصلاح وعمود نجاحه هو الدين. تيقنت أن سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة هو الحياة ل"إقامة الدين وإصلاح المجتمع". تعلو وجوه أفرادها بسمات وضاءة. لا تطرف يبدو ولا إرهاب يعلو ولا غلو يغلي.. وإنما اليقين بأن هذا هو الطريق. طريق العمل المدني السلمي التراكمي التراحمي الذي يتوسل خطبة الجمعة والنشاط في الجمعية والمحاضرة في دار الشباب والمقال في الجريدة و(الآن) التعبير عبر الفيلم القصير لتقريب من تعثر من الصلاة ومقاومة المخدرات وتذكير من غفل عن ذكر الله وغير ذلك من عناوين"الوسطية والاعتدال". جمهور من هذه الجماعة كافر بالسياسة ومغانمها (رغم أنه قريب من حزب سياسي متألق في هذه اللحظة من تاريخ الوطن)، أحيانا يبدي امتعاضه من سلوك بعض "إخوانه" في الحزب مسلك الترشح اللامحدود ويبدي أسفا لأن أبناء الحركة الإسلامية بدأوا يغرقون في الدنيا وينسون الرسالة.   
طبعا لكل واحد منا ملاحظات. فتجربتنا ومعارفنا وتأملاتنا وقراءتنا تُسعفنا في أخذ المسافة من أي كلام يقال أو دعوى تُرفع. لكن ينبغي قبل التحليل وقبل النقد والتجريح أن نأخذ الواقع كما هو، أن نأخذ الآخر المأخذ الذي يتخذه من نفسه قبل أن نقف منه الموقف الذي نريد. ينبغي أن نتصور الآخر كما يصور نفسه قبل أن نميز في تصوراته بين العلم والإيديولوجيا وبين الحقيقة والمجاز وبين الأماني والحقائق.. وهذه هي الحلقة المفقودة في عمل جوقة "الباحثين في شؤون الحركة الإسلامية"؛ فمعظمهم لا يكتفون بجعل ما في واقعهم الذهني عن الحركة الإسلامية مجرد إمكان وإنما يحسمون النتيجة سلفا ويعتبرونه مطابقا لما في الواقع الخارجي. لا نصادر حق أي واحد في تحديد فرضياته، لكن العمل العلمي كما هو معروف يقتضي اختبار الفرضية قبل النطق بصحتها.
نأتي إلى الملاحظة المركزية التي راودتني في خضم أشغال الملتقى. تتصل بتحول هام تقبل عليه الحركة الإسلامية –طبعا لا نقصر هذا الوصف على التوحيد والإصلاح فقط ولكن لغرض إجرائي هي المقصودة فقط بهذا الاسم في هذا المقال- وهو إدراج المواد العلمية (العلوم الشرعية خاصة) ضمن برامج ملتقياتها.
كان الأستاذ فريد الانصاري رحمه الله وهو يضع الحركة الإسلامية تحت المجهر يُصرح بأن عمق أزمتها كامن في غياب القيادة العلمية في صفوفها الأولى. ليس من الضرورة أن نتفق مع العلامة الأديب. ولكنني خرجت من الملتقى بخلاصة مفادها أن الحركة الإسلامية مرت بثلاثة مراحل:
أولا؛ مرحلة الفكر الحركي. هي مرحلة تاسيسية مغرقة في إيديولوجيا عاتية ككل الحركات الاجتماعية في نشأتها. هي مرحلة البحث عن أنصار الفكرة والتحشيد والتعبئة. لهذا كانت البرامج تشير بالبنان إلى كتابات الشهداء سيد وحسن وعبد القادر وغيرهم لأن أثرها في النفوس قوي ولا ينمحي بسرعة. وهي كتابات تعبوية حركية تملأ النفوس بالزهو بالحق الذي وصلت إليه وتتمنى توظيف ما تملك من غال ونفيس لترجمة الأفكار وترنو بحرارة إلى عيد البديل الحضاري الذي تحمله.
الفكر الحركي فكر غير علمي، غير دقيق. هو بيان أو "مانفيستو" على غرار البيان الشيوعي. يؤسس للقطعيات ويزرع بذور عقلية مقفلة وذهنية تؤمن بإطلاقية أفكارها. هو فكر جذاب خاصة إذا كان في قالب أدبي رائع كقوالب الشهيد سيد. لهذا فمن له صلة قوية بأبجديات التفكير العلمي –حتى في العلوم الشرعية- سيظهر توترا متناميا تجاه هذا الفكر. وأغلب قيادات الحركة الإسلامية في العالم من المعاهد العلمية التقنية تلقفت منذ نشأتها هذا الفكر لأنه بعيد عن تعقيدات علم الأصول وغيره. ولهذا أطلق الأستاذ فريد صرخته مُثربا على الحركة الإسلامية –ما فهم هو- أنه إزاحة للقامات العلمية من صفوفها الأمامية.
ثانيا؛ جاءت بعد ذلك مرحلة الفكر الإداري (أو فكر التنمية البشرية المستند إلى علم الإدارة والتدبير Management). يصعب التأريخ لها بدقة. لكن المؤكد أنها بعد اشتداد العود والتوسع واستكمال عهد بناء القاعدة. وأُرجح –من دون مجازفة- أن حوالي 2006 قد يكون تاريخ البدايات الأولى لتعاطي الحركة الإسلامية مع هذا الفكر. فاعتماد أسلوب التخطيط الاستراتيجي وصياغة المخطط الاستراتيجي أمر تم في مؤتمر 2006. 
أرجع الباحث باتريك هايني صاحب كتاب (إسلام السوق. ترجمة عومرية سلطاني. ط1 : 2015) بدايات ظهور هذا الفكر في العالم العربي  إلى مطلع الثمانينات. يقول: بدأ كل شيء في العالم العربي في أوائل الثمانينات عندما انتقل عدد من الإسلاميين العراقيين والكويتيين والفلسطينيين لمتابعة دراستهم في الولايات المتحدة الأمريكية، من بينهم: طارق السويدان، أحمد محمد الراشد، هشام الطالب ومحمد التريكي ثم نجيب الرفاعي وعلاء حمادي. لقد عاد هؤلاء في أوائل التسعينات مُحملين بالفكر الإداري المنتشر بقوة في كليات الاقتصاد الأمريكية. (ص:140)
في البداية تم تحميل هذا الفكر إلى المجال الاقتصادي والترويج ل "المال: عبره سنؤثر ونخدم الإسلام". يورد الكتاب مثالا ل"إسلامي" يقول: أريد أن أكون رجل أعمال مهم وذا ثروة مهولة. وأريد التأثير في المجتمع بفضل هذه الثروة وتلك المكانة. ويستطرد مضيفا هذه النصيحة الحكيمة: هل تظن أنهم سيستمعون إليك لأنك قرأت َ هذا الكتاب أو ذاك؟ يجب أن تظهر علامات النفوذ، سيارتك، اهتمامك بمظهرك، ومداخيلك.. (ص: 133)
وللأسف الشديد فقد عاينتُ بنفسي  بعض تجليات هذا الفكر – وإن كان الأمر ليس بنفس الأسلوب- في مجمل برنامج أكاديمية إعداد القادة السابعة صيف 2015 بتركيا. مما دعا أحد الأصدقاء المغاربة –ابن الحركة الإسلامية- الذي لا يتفق مع ذات الفكر أن يعبر لي ببلاغة: هذا النموذج وهذا الفكر؛ صحيح أنه متميز وصالح لخلاصنا الفردي. لكن قضية تحررنا الجمعي (سؤال التحديث والنهوض)، في إطار نسقه، على كف عفريت يا صاحبي !
بعد ذلك انتقل التنزيل من مجال المقاولات والشركات إلى التنظيمات والجمعيات والهيئات. في الملتقى الجهوي الذي كان مناسبة هذا الحديث؛ كان أحد الإخوة يشير بفرح وسرور  يُحسد عليهما إلى كون "حركتنا المباركة" تمكنت بفضل فعالية تنظيمها الإداري من أن تنافس الشركات! كان ذلك تعليقا على أحد العروض التنظيمية.
هذا الفكر الإداري إذا اقترن بالتنظيم يصير موتورا بأعداد الأنشطة وكمية المؤشرات ويختزل الفعالية في هذا الجانب. علما أن العمل التربوي لا يُقاس أثره بهذا الأسلوب. لكن في غياب طريقة لقياس الكيف والنوع نعكف على المؤشرات الكمية لتُقربنا من مردودية أعمالنا؛ هكذا يصرح أحد المسؤولين التنظيميين في كلمته بنفس الملتقى.
يعرف سؤال البديل الحضاري تراجعا ملحوظا في تطبيقات الفكر الإداري. كما أن العمق الفكري والمعرفي يخف. قد يقول قائل: وما ذنب الفكر الإداري فهو مجرد وسيلة وصلت إليها الخبرة الإنسانية في مجال التسيير والتنظيم وتُمكن من نتائج أفضل؟ صحيح هو وسيلة لكن يحمل مضمونا فهو فكر ولا بد أن يكون متحيزا. تماما مثل الدولة الحديثة؛ إذا نظرنا إليها فهي مجرد نظم ومؤسسات لتنظيم الحياة العامة، غير أن الراسخين في العلم يدركون أن الدولة الحديثة فكرة وثقافة تثوي نموذجا معرفيا خاصا بها وتريد من الإنسان أن يكون كيت وكيت..  إن من يعتقد بحياد الوسائل  واهم؛ فكل وسيلة تحيل بشكل غير مباشر على غاياتها.
ولا يخفى على المتابع من الداخل أن هناك تراجعا مهولا في الصلة بالكتاب في صفوف الأجيال الصاعدة للحركة الإسلامية. ومرد ذلك هو بالأساس راجع إلى التداعيات السلبية للفكر الإداري.
صدق من قال: إن المأسسة هي المقبرة. لكن ما المعمول في عالم بات لا يعترف بغير المؤسسات؟
ثالثا؛ لعل هناك أصوات نابهة انتبهت إلى التداعيات السلبية للفكر الإداري وإلى كون الحركة الإسلامية تحفر قبرها بيدها من خلال التعاطي غير النقدي والمكثف معه. وبدا أن مرحلة الفكر الحركي لا مكان لها في الحاضر والمستقبل فهي مرتبطة بزمن الصبا. وليس هناك ملجأ سوى استدعاء الفكر العلمي المُغيب.
الفكر العلمي هو الذي يستند إلى الأصول والقواعد قبل تحرير الكلام بسرعة في أي مسألة من المسائل. تشهد الحركة الإسلامية صحوة مقاصدية مشهودة لا شك أنها تندرج في هذا الإطار. فتحرير المقال في أي شأن من الشؤون تحرر من التفاصيل والجزئيات و ارتمى في أحضان الأصول والمقاصد والكليات.
لعل المحطة الثانية في هذه المرحلة هي توظيف العلوم الاجتماعية والإنسانية. فبعد حسم العديد من القضايا المستشكلة والشائكة والمثيرة خاصة تلك التي يعج بها التراث (خاصة التراث السياسي) ستبقى الحاجة ماسة إلى تعميق الصلة بالتراث الإنساني الغني قصد التعاطي الإيجابي النقدي معه واستثمار نتائجه. هذا رغم أن هناك أصوات ترتفع قائلة كلاما يفيد أنه من العسير إحداث نقلة نوعية في العلوم الشرعية (رغم هذه الصحوة المقاصدية) تستجيب لتحديات العصر ولا تخاصم مقاصد الشرع بدون استثمار معطيات وفتوحات العلوم الإنسانية خاصة الأدوات التحليلية.
تبقى الإشارة في الختام إلى أن تقسيمنا لهذه المراحل مجرد وجهة نظر. كما أنه بالإمكان أن نجد تداخلا بين مرحلتين. فالظاهرة الإنسانية من الصعب حدها بمراحل فهي تنفلت وتستعصي على كل عمليات الضبط والتنميط. ويبقى تأثير السياسي على بنية الفكري حاسما في كل مرة. ولا شك أن الحركة الإسلامية في هذه العُشرية في مفترق الطرق. ودرس التاريخ وسننه خير دال على المفيد لأن الزبد دائما يذهب جفاء وما ينفع الناس دائما  يبقى في الأرض.


...تابع القراءة

| 0 التعليقات ]





كنت جالسا وصديقي الأثير أمام الحديقة بعد صلاة العشاء في "القامرة" بالعاصمة. لم ننتبه هذه المرة إلى أن المكان الذي نقتعده هو ملجأ أهل الدعارة. كنا نعلم أنه كذلك إلا أن انتباهنا –آنذاك- لهذا الأمر تأخر. فجأة بدت تلك التي ألفناها، تترنح بجانبنا وحولنا من شدة السكر. في الحقيقة امتعضنا لوجودها لأنها أفسدت علينا اللحظة وقد كنا نتغيى الاستمتاع بالجو الصيفي في هذا الفضاء الحيوي. لكنها طلبت منا "درهما" بأدب واعتذرت  عما صدر منها من إزعاج!
هي أم عازبة (وطالما كنت أُثرب على مستعملي هذا التعبير أيام مرحلة الثانوي –نسأل الله المغفرة- لكوني أعتقد أنهم يخلطون الأوراق ولا يودون تسمية الأمور بمسمياتها: داعرة، عاهرة... غفر الله لنا اندفاعنا وقسوتنا غير المفهومة)، شهدنا وعايننا، في السنة الماضية، الأيام التي كانت فيها حبلى بابنتها الثانية.
بعدما أفسدت علينا صاحبتنا اللحظة بهذيانها وكلامها الساقط وبعدما أخذ منها الخمر مأخذا عظيما، هممنا بمغادرة مجلسنا. فوجئنا بعد هنيهة بكونها  تستعيد أنفاسها وتحاول أن تسترد هدوءها لتجلس بجوارنا (فوقع مكان جلوسها بيني وبين شاب آخر يُرجح أنه بائع مخدرات).
أخذت هذه المسكينة تحكي ضميرها وتستنطق حالها، فدعُونا نستمع لها:
" أنا.. تعذبتُ كثيرا بل احترقتُ بالعذابات. لم أعش طفولة تُذكر ولا حياة تُشكر. يا الله. لو انبعث والديَ الآن لقبلتُ أظافرهما. كان الحرمان سيد الموقف طيلة حياتي.
أنا.. نعم تعذبتُ وحرمتُ من الحياة الكريمة. نعم أنا الآن سكيرة ومخمورة. لكن ثقوا أني لن أترك ابنتاي تكرران نفس السيناريو. أنا حُرمتُ من الدراسة لكني أدَرسُ ابنتي. لن تعيش ابنتي ما عشت من عذابات. سأُضحي من أجل ابنتاي بأعز ما أملك.
الآن ابنتي طريحة الفراش في المستشفى، عمرها 15 ربيعا: سأموت كي تحيا ابنتي أياما جديرة باسم "الحياة". في جيبي 6 (ستة) دراهم (أخذت  تداعب بأصابعها دراهمها المعدودة)؛ هي كل رأسمالي، سأجوع كي لا تجوع ابنتي.
تشردتُ منذ أن كان عمري 11 سنة. 24 سنة من التشرد والحرمان والبؤس. في هذه الأيام سأطفئ شمعتي 35 بمرارة وقد أصبح عمري 35 ربيعا".   
.. (تدخل الشاب الذي يُرجح أنه بائع مخدرات) ملوحا بوجهه تجاهي، طالبا شهادة مني تعزز كلامه: كلنا سنموت ("ياك أخُويا")، كلنا سائرون، كلنا إلى زوال. الجميع سيرحل من هنا.
عادت المسكينة التعيسة: الأيام تتكرر لكن الصحة تتبدد. السنة تدور لكن رأسمال الصحة يبور.
"آه كم تعذبتُ.. لكن عزائي في ابنتاي أن أربيهما وأدرسهما لتكونا صالحتين عسى ربي يكتب لهما "ولد الناس" زوجا.
تلظيتُ بلظى الحرمان والبؤس والتشرد و"الصعلكة" والضياع.. لكن اللهم لك الحمد (وأخذت تضغط بسنها على الحمد)".
"لا أحد يعرف معنى الوالدين إلا من فقدهما. لا أحد يعرف معنى الأمومة إلا من عاش تجربتها. أنا تماهيتُ مع وظيفة الأمومة. الأم هي منبع الحنان هي التي تحس بالإنسان. أما الرجل (الأب) فلا اهتمام يبديه ولا شوق يحرقه تجاه مستقبل أبنائه! ".
بينما كنا جلوس وكأن على رؤوسنا الطير لا نلوي على شيء نُصغي باهتمام للمرافعة البليغة التي قدمتها هذه المسكينة؛ أخذ التأثر لحالها يغشانا وأخذ الامتعاض من سابق حكمنا عليها يتملكُنا، خاصة وأنها تحكي وكأنها حمل وديع ترسل دموعها وتتنهد المرة تلو الأخرى.
لم يجد صديقي بُدا من أن يقول: إن هذه المحرومة تُلقننا دروسا في علوم التربية، لو تيسر لها أن تكتب تأملاتها لنافست "جان جاك روسو" على ما سطره في كتابه الكلاسيكي "إميل".
"هل هذه المسكينة ستُعيد تجربة الجحيم في الآخرة؟ إن الجحيم في أبهى حلة هو ما عاشت فيه طوال حياتها".
"هل رأيت كيف أنها موصولة بالمولى وتجدد حمده وتعيد شكره رغم أن وضعها يحمل في طياته عوامل إشعال فتيل التمرد والتمزق والرفض والجحود والكفر والإنكار؟"
" .. لا نزكيها على الله.. لعلها تستحق أن تكون في الفردوس الأعلى !".

يكفينا درسا أننا تعلمنا في مجلسنا مدى ضآلة إنسانيتنا ودرجة انطماس بصيرتنا وفتور علاقتنا بالمولى جل وعلا. يكفينا درسا أنه ينبغي أن نتواضع لأن هناك من هم أنبل منا ومن هم أكثر إنسانية منا ومن هم أقوى صلة بالله جل في علاه منا، طالما حسبنا أنفسنا في صفوف متقدمة على صفوفهم !


...تابع القراءة