| 0 التعليقات ]



يشكل كتاب "مشكلة الثقافة" للأستاذ مالك بن نبي أحد أهم كتاباته. ولقد جاء الكتاب تتويجا للنقاشات التي كان مالك يفتحها مع الطلاب في القاهرة عام 1959 حول مفهوم "الثقافة" كما وظفه في كتابيه "شروط النهضة" و"فكرة الإفريقية الآسيوية".
يقع الكتاب في 152 صفحة وفق طبعة دار الفكر في دمشق. أهداه الكاتب إلى "الشباب المتطلع إلى العودة بالمجتمع الاسلامي إلى حلبة التاريخ".
منذ مقدمة الكتاب، يصرح الكاتب بأن أزمة العالم الاسلامي هو عدم إيمانه بأن "محور القوة" في العالم المعاصر يكمن في "عالم الأفكار" لا في "عالم الأشياء". وفي هذا الصدد يقول: المسلم بسبب عقدة تخلفه يرد المسافة التي تفصله عن البلدان والشعوب المتقدمة إلى نطاق الأشياء أو هو بتعبير آخر يرى أن تخلفه في نقص ما لديه من مدافع وطائرات ومصارف. وبذلك يفقد مركب النقص لديه فاعليته الاجتماعية، إذ ينتهي من الوجهة النفسية إلى التشاؤم، كما ينتهي من الوجهة الاجتماعية إلى التكديس لا البناء.ص:15
يتوزع الكتاب، بالإضافة إلى المقدمة، على خمسة فصول:
في الفصل الأول المعنون ب"تحليل نفسي للثقافة" حرص الكاتب على تأصيل مفهوم الثقافة من الناحية التاريخية مشيرا إلى أنه ثمرة لعصر النهضة وما كان فيه من ازدهار أدبي وفني وفكري. كما عاد إلى العلوم الإنسانية، وبالأخص علم النفس وعلم الاجتماع، التي رفعت مفهوم الثقافة إلى مستوى "الفكرة العلمية". وخلص في الأخير إلى أن الرؤى التي تناولت الثقافة؛ إما أنها غربية (تُغَلب الجانب النفسي) تعتبر "الثقافة" ثمرة فكر الفرد، وإما أنها ماركسية (تُغلب الجانب الاجتماعي) تعتبر "الثقافة" ثمرة دينامية المجتمع.
ولكن الكاتب يميل إلى أن "الثقافة" تنعكس في مظهر مزدوج هو المظهر النفسي الفردي والمظهر الاجتماعي الجماعي. ويستحضر مثالا دالا: طالب الطب المسلم الذي يذهب للدراسة بأوروبا، يحصل على الدبلوم نفسه الذي يحصل عليه زميله الإنجليزي مثلا، بل كثيرا ما يتفوق عليه إذا كان أكثر استعدادا وذكاء؛ لكنه لا يحصل غالبا على فاعليته، أي طريقة تصرفه أمام مشكلات الحياة. لأن الفاعلية الاجتماعية لا علاقة لها بمنهج الكلية، بل تعتمد على أسلوب الحياة في مجتمع معين. ص:42
وتتكون الثقافة، حسب الكاتب، من عنصرين هما: الفكرة، والشيء. يرتبط العنصران ويتعاونان تعاون الذراع والعجلة في الآلات التي تغير حركة أفقية إلى حركة دائرية؛ فالذراع هو الفكرة والعجلة هي الشيء. ص:45
ختم الكاتب هذا الفصل الأول بالإشارة إلى أن "ثقافة" المجتمع هي التي تصنع "المقاييس الذاتية" التي تحدد السلوك الاجتماعي للأفراد والمتمثلة في قول: (هذا جميل) و(ذاك قبيح) و(هذا خير) و(ذلك شر). ويؤكد الكاتب مجددا أن الفرد منذ ولادته غارق في عالم الأفكار والأشياء يعيش معها في حوار دائم.
أما في الفصل الثاني المعنون ب"تركيب نفسي للثقافة" فنجد الكاتب حاسما في مشكلة العالم الإسلامي معتبرا أنها غير منحصرة في محاولة فهم "الثقافة" وإنما في تحقيقها بصورة عملية. ويتطلب هذا التحقيق ربط صلة شخصية بالعوالم الثلاثة: (عالم الأشياء)، (عالم الأشخاص)، و(عالم الأفكار). وفي هذا السياق يستشهد الكاتب ب"تفاحة نيوتن" (التي تنتمي إلى عالم الأشياء)، التي لم تتحول اعتباطا إلى نظرية في الجاذبية الأرضية، لو لم تكن له بهذه العناصر شخصية استثنائية.
وإذا كانت الثقافة ـفي الإشارات السابقة ـ هي القالب الذي يحدد طبيعة العلاقة بين الشخص والأشياء والأفكار التي من حوله، فإنها في عبارة أخرى تعد تركيبا عاما لتراكيب جزئية هي: الأخلاق، والجمال، والمنطق العملي، والصناعة. إنها محيط يحيط بالإنسان، وإطار يتحرك داخله ويغذي جنين الحضارة داخله. إنها الوسط الذي تتكون فيه جميع خصائص المجتمع.
في الفصل الثالث المعنون ب"تعايش الثقافات" أثار الكاتب مسائل وقضايا في غاية الأهمية والراهنية خاصة بعد ذيوع خطاب يراد له أن يكون سيد الموقف وهو خطاب "صراع الحضارات" و"نهاية التاريخ" الذي يتم به استهداف تدمير البنى الثقافية وتنميط العالم وجعله تابعا لثقافة أحادية ولحضارة واحدة.
اعتبر الكاتب أن اتجاه العالم إلى تأسيس منظمة "اليونسكو" كان يهدف إلى السيطرة على عملية من نوع آخر هي إحداث تكامل بين العناصر الثقافية لتركيب ثقافة إنسانية على المدى البعيد. وهو أمر نابع من قناعة راسخة لدى الجميع بأن مصير الإنسان رهين بثقافته؛ لأن مشكلة الإنسان تعني مشكلة حضارته ومشكلة حضارته تعني مشكلة ثقافته.
يشير الكاتب إلى أن محور واشنطن_موسكو وحتى طوكيو يُظهر تبادلا ثقافيا في نطاق علاقة حضارية واحدة رغم التوتر السياسي بينهما. لأن الثقافة في مهمتها التاريخية تقوم بالنسبة للحضارة بوظيفة الدم بالنسبة للكائن الحي، فالدم ينقل الكريات البيضاء والحمراء التي تصون الحيوية والتوازن في الكائن، كما تُكوِن جهاز مقاومته الداخلية. ص:104
وفي الجهة المقابلة، يوجد محور طنجة_جاكترا حيث تقف الهندوسية إلى جانب الإسلام كخلفيات ثقافية للمجتمعات التي تنتمي إلى هذا المحور. وفي هذا السياق، نجد الكاتب يدعو إلى صياغة ميثاق أخلاقي بينهما، ليتخذوا وجهة دولية واحدة. ويبدأ ذلك بالاتجاه نحو الأخلاق وفلسفتها لتحديد مَثلها الأعلى، ثم نحو الصناعة لخلق وسائلها إلى هذا المثل الأعلى. فإنقاذ الإنسان من البؤس والفاقة على محور طنجة_جاكرتا، وإنقاذه من حتمية الحرب على محور واشنطن_موسكو، هما بالنسبة لنا الضرورتان المحددتان للمشكلة كلها: مشكلة بقائه، ومشكلة اتجاهه، وهذه الضرورة المزدوجة تسيطر بصورة طبيعية على تحديد ثقافته، وبالتالي تسيطر على تحديد منهجه الأخلاقي. ص:108
وفي الفصل الرابع الذي يحمل عنوان "الثقافة في اتجاه العالمية"، اعتبر الكاتب أن الحربين العالميتين أعطتا مشكلات الثقافة معنى أبعد مدى، حين أنشأت بصورة ما مجالا ثالثا، هو المجال الذي يتحتم فيه على كل ثقافة أدركت حقيقة مشكلاتها الداخلية (التي تتصل بوجود مجتمع معين) والاتصالية (التي تتصل بتعايش مجتمعين أو أكثر)، أن تدرك حقيقة مشكلات أخرى على مستوى عالمي.
وفي هذا الإطار، اعتبر الكاتب أن المثقف المسلم ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي. ويستحضر في نفس السياق نموذج (غاندي) الذي لم يكن يتصرف في صاروخ كوني، أي في "شيء" ذي مستوى عالمي، وإنما كان يملك ضميرا وسع العالم. ص:116
يؤمن مالك بن نبي بفكرة مركزية تحدد معالم تفكيره في القضية المتصلة بدور الثقافة الإفريقية؛ وهي أنه بقدر ما ترتفع النخبة الإفريقية بالجماهير الإفريقية إلى مستوى الحضارة فإنها ترتفع بالضمير الأوروبي إلى مستوى الإنسانية. وقد حدد المهام التي ينبغي أن تواجهها الثقافة الإفريقية في ثلاث (ص:123):
1ـ الارتفاع بمستوى الرجل الإفريقي المتحرر من الاستعمار أو الذي لا يزال يرسف في أغلاله إلى مستوى الحضارة.
2ـ الارتفاع بالرجل المتحضر الذي لا يزال ضميره ملطخا بإثم الاستعمار إلى مستوى الإنسانية.
3ـ إدخال الشخصية الإفريقية في المسألة الرئيسية للسلام.
في الفصل الخامس (ما ضد الثقافة)، جعل الكاتب من استقالة الثقافة من النهوض بأدوارها السياسية والاجتماعية عنوانا على ما سماه (ضد الثقافة) أي على عنوانا لكل ما هو نقيض لجوهر الثقافة.
اعتبر الكاتب أن تأكيد السيادة قد تحقق بدماء أولئك الذين قادوا معركة التحرير وطردوا الاستعمار، ولكن توطيد السيادة في الحياة العامة يقع على عاتق الأحياء؛ إذ يرتكز على جلدهم في العمل، على النظام، على وعلى حماستهم في مهماتهم اليومية. وبكلمة واحدة على ميزة ثقافتهم. وبتعبير آخر، فالثقافة تستطيع أن تمنحنا اللحظات الممتعة، إذ توحي إلينا أن ننشد أحيانا مجتمعين، وأن نرقص مجتمعين، ونضحك مجتمعين؛ والأداء الحسن لذلك كله ظاهرة مشجعة وجمالية ينبغي عدم الاستخفاف بها. ولكن دورها الأساسي أن تعلمنا العيش المشترك والعمل المشترك وخاصة الكفاح المشترك. ص:134
لهذا فكل عمل من شأنه تخفيض منسوب العيش المشترك والكفاح المشترك ينسبه مالك بن نبي إلى "ضد الثقافة".

0 التعليقات

إرسال تعليق