| 0 التعليقات ]




يحكي المحامي الفرنسي (موريس بوتان) المعروف بميولاته التحررية وعدائه للاستعمار، والذي رأى النور في المغرب سنة 1928 وشهد أحداثا تاريخية هامة في فترة الخمسينات: في سنة 1955، عُين أحد القياد الأكفاء في منطقة مكناس. ولكنه أُوقف عن العمل بعد بضعة أشهر فقط، مما جعله يلتجئ إلى خدمات أبي المحامي للطعن في هذا القرار المجحف المتناقض مع نصوص معاهدة 1912. ولما استفسر أبي عن السبب في هذا القرار المزاجي، قدم له ممثل "فرنسا"، الجنرال حاكم المنطقة، هذا الجواب الذي يغني عن أي تعليق: "كيف تريدني أن أبقي عليه في منصبه؟ إنه يفكر". (موريس بوتان، الحسن الثاني.. ديغول، بن بركة: ما أعرفه عنهم، دفاتر وجهة نظر، الطبعة الأولى، 2014، ص:25)
يخيل إلي أن هذه الواقعة تنبئ بشكل كبير عن العدو الذي يرهق الاستعمار. علاوة على العدو الذي يزعج كل من يتقمص تلك الروح التي تحرك الاستعمار.
لكن ما هي روح الاستعمار، أولا؟ إنها نزعة تسعى لسلب أدوات التفكير وملكات التحليل وفرص التنوير من المستعمَر؛ كي يبقى دائما في العتمة والظلمات وكي يحتاج دائما إلى الآخر ليفكر محله ويُدبر مسائل حياته على أن يكون هو-أي المستعمَر- المنفذ المطيع. وهنا المستعمر (بكسر الميم) يحتفظ دائما بتفوقه وينتشي دائما بوصايته وينعم دائما بإمكان استغلال خيرات ومواهب مستعمَره.
لا يشك أحد في أن هناك حربا ضروسا تشنها "القوى الدولية" بتدخلاتها السافرة (سواء الناعمة أو الدموية) في شؤون أوطان العالم الثالث وبالخصوص العالم الإسلامي. وإذا فهمنا أن الروح التي تحرك هذه القوى هي ذات الروح الاستعمارية، بات يسيرا أن نفهم أن الحرب المُعلنة على العالم الإسلامي –بعيدا عن منطق المؤامرة لأن التحديات الداخلية أهم وسنخوض فيها- ليست متصلة أساسا بكون هذه البقعة احتضنت ذات يوم انطلاقة دين عظيم هو "الإسلام"، صار له امتداد في شتى الأصقاع والبقاع ويتنامى أنصاره يوما بعد يوم. كلا، فمادام هناك فهم ل"الإسلام" ينفخ روح الجمود والخمود في الناس ويولي وجهتهم نحو النوم والخمول ويسهم بذلك في تأبيد حالة التبعية والتسول والتوسل (إلى القوى الدولية) للعيش على فتات موائدها، فما أعظمه من إسلام!
أما إذا كان هناك اتجاه يميل إلى بعث فهم أصيل للإسلام يشُد الناس إلى قيمه ويصقل استعداداتهم وينير خطواتهم ويحصن ولاءهم (للعدل، للحرية، والرحمة العالمية) ويقدس ثمار تفكيرهم خاصة إذا كانت حصيلة لطول نظر وبحث وتنقيب ومكابدة وتأمل وعناء. فإن الروح الاستعمارية وهذه الروح التحررية الإسلامية لن تلتقيان.. وبينهما صراع وجود لا ينتهي إلا بوفاة إحداهما.
قد يقول قائل إن الانشداد إلى تلك القيم وشحذ الهمم وتقديس التفكير لن يتم تحصيل ذلك إلا ببعث روح فكر الأنوار. صحيح أن مضامين الفكر التنويري تحررية لامعة وإنسانية متقدة، ولكن لا سبيل إلى زرع تلك المضامين المضادة للروح الاستعمارية إلا باستنباتها في تربتنا لكي تتسلل بلطف إلى حنايا ضمائر الناس في أوطاننا. فلا تحرر هنا  إلا بالإسلام ومع الإسلام.
يشير الدكتور عبد الله العروي في عمله الأخير (استبانة) إلى أن الاستعمار الفرنسي في المغرب قد ساهم فعلا في بناء البنيات التحتية وتحديث بعض هياكل الإدارة وإرساء شبكات السكك الحديدية، لكنه لم يمس نهائيا ذهن الإنسان ليقوم بتنويره ولا اهتم بتفكيره ليتم تحديث نمطه. لماذا؟ لأن تلك هي طبيعة الروح الاستعمارية، أن لا يكون الإنسان حرا طليقا في تفكيره ولا متبصرا في تحليلاته ولا نافذا في رؤاه. وليس في صالح المستعمر نهائيا أن يلمع تفكير هذا الإنسان بمعانقة فكر أوروبا التنويري ولا فكر محمد عبده التجديدي. لأن كليهما سيحرره من قبضة الروح الاستعمارية السارية. ولكن حري بالذكر أن فكر مدرسة محمد عبده أهم –في تلك البدايات- لأنه متصل ببيئتنا ومدرك بدقة لتحدياتنا ومساهم بقوة في تصليب أخلاقنا وحركتنا. أما فكر الأنوار –هو هام في هذه المرحلة- فبالإمكان أن يُعلم الإنسان كيف يفكر أو كيف يحرر تفكيره، لكنه لن يعلمه مقتضى مضمون التفكير السليم في تلك المرحلة وهو الحزم والجدية والصلابة والتخفف من المغريات لأن المرحلة استثنائية وتتطلب ذلك.
تتخذ روح الاستعمار أشكالا أخرى. فالاستبداد والتقاليد كلها تمارس نفس الدور. أما المستبد فلا يخاف سوى من فقدان الاعتبار الرمزي والخيرات المعنوية التي ينعم بها وتُصوره كبيرا أمام الناس (وفقدان الاعتبار الرمزي مؤداه تلاشي السلطة المادية). لهذا فهو يحنق على عدو واحد؛ هو صاحب التفكير الحر المستقل والسليم الذي لا يتهور ولا يصخب ولا يُمكن خصمه من فرص مجانية بل يتأنى ويقلب الآراء ويستنطق المسكوت عنه ويطرح المسائل في إطارها الكلي.
بينما رعاة التقاليد البالية أو من يطلق عليهم "حراس المعبد" (في أي فضاء، أو هيئة، أو تجمع، أو زاوية، أو تنظيم، أو مؤسسة، أو أسرة) فلا يُكنون البغض ولا يحملون الحقد ولا يتضايقون من إنسان كما يتضايقون من الذي يفكر قبل أن ينغمس في ممارسة طقوس وجد عليها آباءه (وربما كانوا غافلين، بل أكثرهم كذلك!)، ولا يحنقون على فرد كما يحنقون على الذي يتبصر عن أوضاع محيطه ويسأل عن تاريخ مطاوي أرضه قبل أن يزكي أطروحة قومه..
لماذا كل هذا التضايق من هذا الإنسان؟
لأن المستعمر يريد تأبيد إضفاء نوع من العمى على مستعمَره. ولهذا تقف اليوم القوى الدولية التي خرجت من سلالة الاستعمار في وجه كل من يريد أن يُبصر وحيدا بدون رفقتها. فالمستعمر (وعلى دربه يسير نسله: القوى الدولية الراهنة) قد يدعك تتلمح سُبلا ومنارات.. لكن تحت وصايته وإشرافه.
ولأن المستبد يتغيى استدامة سلطته المادية ولا سبيل إلى ذلك إلا بتطويع من حوله عبر جاذبيته الرمزية. وكل من يفكر خارج هذا النسق ويسعى لتحطيم هذا الصنم ويرنو إلى إيجاد بديل أكثر جاذبية وبخصال إنسانية رفيعة يزينه التفكير الرصين؛ فذاك هو عدوه الأول إلى أبد الآبدين. باختصار؛ فهو ينازعه سلطته ورمزيته ومكانته. لهذا فالسلاح الأمضى للمستبد هو تكميم الأفواه وتغليف الحقائق حتى يشيع العمى ولا يشيع التفكير المُدقق.
ولأن خادم التقاليد، يدرك في قرارة نفسه أن ما يدافع عنه هو قضية فاشلة أساسا وأن سداها متهلهل، فهي طقوس أو أفكار أملتها عواطف زمرة من الناس في زمن ما وفي سياق ما وردا على فعل ما، وهي بذلك محدودة وتاريخية وآفلة عاجلا أم آجلا. ولما كان واعيا بأن حياته ربطها يوما ورهنها كليا لخدمة تلك التقاليد في لحظة انطفأ فيها تفكيره، فهو يحاول قدر الإمكان أن يطمس الحقائق ويغطي الشمس بالغربال و"يستعمر" فكر الذين معه حتى لا يفكروا فيكتشفوا تقادم تلك التقاليد وليشاركوه غربة الأسر الذي أوقع نفسه فيه حينما اختار أن لا يفكر. وغالبا ما يوظف خادم التقاليد قاموسا يستهدف الالتفاف على إرادة من يريد أن يفكر فيقول له: "كأنك وحدك الذي تجيد التفكير.."؛ " كأنك البطل الأول الذي سيجرؤ عن الخروج عن الذي تواضع عليه الناس.."؛ "كأنك الفاهم الوحيد..". وغير ذلك من طقوس الاضطهاد الفكري البائسة. 
من المفيد الإشارة أيضا إلى أن العابثين يعتبرون عدوهم الأول هو الإنسان الذي يفكر في العواقب والمآلات. لأن سؤال المستقبل المجهول والمصير الغامض يقتضي تفكيرا متأنيا وينتج سلوكا منضبطا. فسؤال ما بعد الموت ومنازل الآخرة وأحوال الإنسان في تلك الرحلة، سؤال يطرحه الإنسان الذي يفكر. أما العابث فيتضايق من هذا التفكير ويغلق آذانه حتى لا تسمع نداء التساؤل عن مجريات المصير ومقتضيات ذلك من العمل الطويل.
يتضح إذن أن المعركة اليوم هي معركة تنوير الأذهان وتحرير الذهنيات ليتمكن الناس من التفكير السليم المتبصر والحكيم. وأعتقد أن العمل الطلابي تلك معركته. ولا سبيل للناس لتحصيل تفكير سامق عميق إلا بوسيلتين: محاولة خوض غمار حياة غنية بالتجارب والتأملات (فالحياة كتاب مفتوح)، إلى جانب التعمق في قراءة زبدة ما جاد به العقل البشري من كتب مسطورة.
لهذا فعدو الجميع هو صاحب التفكير المستقل السليم. ولا عجب فالعداوة مستمرة ضد الإنسان خليفة رب العالمين الذي أكرمه بنفخة تحيل على فتح المدارك وتقوية نوازع التحليل والتأمل والتفكير. 

0 التعليقات

إرسال تعليق