| 0 التعليقات ]





لما سأل صحفي أسبوعية (جون أفريك) الشهيد المهدي بنبركة والراحل عبد الرحيم بوعبيد، في الحوار الأشهر في ربيع سنة 1963، عن السيد رضا اكديرة وهل هو خصم لهم؛ كان الجواب:
"نحن أناس جديون على رأس هيئة جدية وغير وارد عندنا أن يكون خصمنا السياسي رجلا لا كيان له ولا يمثل أي شيء كالسيد اكديرة. فلا يجب أن نفسح المجال للغموض.
إن خصمنا الحقيقي هو الذي يرفض الاضطلاع بالمهمة التي هي مهمته الطبيعية أي مهمة الحَكَم (بفتح الكاف) حيث يتعين على الحكم أن يضع نفسه فوق الأحزاب ولكن الذي نشاهده الآن هو أن الحَكم تحول إلى رئيس كتلة من المصالح، ونعني بذلك الملك.
إن اكديرة ليس إلا ظله وليس له وجود سياسي خاص إلا الوجود الذي يجعل منه المعبر الأمين عن وجهات نظر مولاه. فلو ان الملك قرر غدا الانفصال عنه، فلا شك انه سيعود إلى ما كان عليه، أي لا شيء". (عبد اللطيف جبرو، المهدي بنبركة في الرباط، 1995، ص:265)
يبدو أن هذا الحوار الحاد هو الذي كان بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس وكان عقد "الطلاق" بين القصر وأقطاب الحركة الاتحادية. فبعده كانت الاعتقالات الشهيرة في يناير 1963 على إثر انعقاد المجلس الوطني لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وكانت أحكام الإعدام المعروفة..
لكن،  أهميته لا تكمن -في تقديري- في الإسراف في التحديد ولا الدقة في التشخيص ولا الحدة في التصعيد. وإنما المهم هو أن يفهم الشعب المعني بالخطاب وأن تعيَ الجماهير الهادرة طبيعة المعركة وأن يستوعب الحاكمون أن هناك قوى شعبية حية غيورة على ديمقراطية الوطن وكرامة المواطنين.
ولا ريب أن السيد الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، الذي نُقَدر أنه الوريث الحقيقي للإرث النضالي الديمقراطي الراشد للحركة الاتحادية في نسختها الثانية، أذكى من أن يكون غافلا عن المعركة المتجددة وأعمق من أن يستغل سيلان لُعاب الجماهير للفرجة واللهجات السياسية الشديدة. لأن كل هذا لا يبني وطنا ولا يُرسخ ديمقراطية ولا يحفظ استقرارا.
ومن المفيد التذكير بكون السياقات تختلف. ولكن من الهام أن يعرف المواطنون أن السيد فؤاد عالي الهمة الذي كان يوما وزيرا منتدبا لدى وزير الداخلية سنة 2007 ثم صار عرابا لحزب سياسي بلا طعم ولا رائحة سنة 2008، هو سليل مدرسة السيد رضا اكديرة، الذي كان ذات صباح وزيرا للداخلية والفلاحة علاوة على كونه مديرا للديوان الملكي في نفس الوقت، فأصبح في نفس المساء في مارس 1963 عرابا لحزب سياسي لا لون له ولا رسالة!
وإذا كان حزب البام في نسخته الأخيرة (حزب الهمة) قد اكتسح الانتخابات الجماعية سنة 2009 بعد أشهر من تأسيسه، فإن حزب البام في نسخته الأولى لم ينتظر أكثر من شهرين ليتصدر أول انتخابات تشريعية في تاريخ المغرب في ماي ماي 1963. من اللازم أن يعرف المواطنون ذلك. من الضروري أن يكون هذا الوضوح في الخطاب السياسي.
وإذا كان السيد اكديرة مُصرا على معاكسة إرادة المواطنين في منتصف الستينات حيث جثم لسنوات على صدر المشهد السياسي. فإن السيد الهمة أرغمته الجماهير الشعبية الهادرة في حراك 20 فبراير المجيد بالرجوع إلى الظل وعدم البقاء –على الأقل- في الواجهة.
ولهذا خرج المدعو إلياس العُمري بهرطقاته غير المسبوقة لأنه ليس وحيدا ولأنه سليل مدرسة وحلقة من حلقات تأبيد مسلسل الاستبداد في قوالب الريع والفساد والسمسرة والتحكم في الصفقات. ولكن في أي لحظة يتقرر الانفصال عن إلياس سيصير صفرا لأن المنبثون عن الشعب لا مصير لهم سوى ذاك، هكذا يثبت التاريخ دائما.
إنهم موظفون حالما تنتهي الوظيفة ينتهون. أما خُدام الشعب فخدمتهم لا سقف لها طالما الفقر والجهل (ومختلف عناوين التخلف) وكل دواعي خدمتهم قائمة.
في هذا السياق، ينبغي التنويه إلى كون المرجعية التي يتغذى منها خطاب الأمين لحزب العدالة والتنمية تدفعه إلى تغليب منطق الحرص على الاستقرار (أن تكون رحمة على الناس) أكثر من المواجهة الحدية مع الاستبداد. لأنه حزب انحدر من رحم الشعب كانت لأعضائه هموم أخرى غير مجابهة الاستبداد؛ كانت أم المنكرات بالنسبة إليهم هي مسائل ذات صلة بالصلاة والأزياء والربا والخمر. ولا ضير في هذا. المهم هو أن تصور الجيل القائد للحزب للمنكر تطور من اعتبار الانحراف السلوكي الفردي الذي له تبعات على ذات الفرد (دنيا وأخرى) فحسب، إلى الإيمان بكون رأس المنكرات ديمومة الاستبداد لأنه أصل الداء والباعث الأساسي على تفريخ باقي ألوان الفساد والمنكرات. وكلما تدرج أفراد الحزب في مدارج السياسة كلما ازدادوا إيمانا بمركزية المعركة الديمقراطية في حلقات الإصلاح والارتقاء نحو الأفضل.
لهذا لا يمكن محاسبة الخطاب السياسي للعدالة والتنمية بميزان الشهيد بنبركة ومن معه. لأن زمن بنبركة هو زمن يهيج فيه هائج الشباب طلبا للثورة (تأثرا بما جرى في الصين والفيتنام والانقلابات في المشرق العربي..)، علاوة على كونه مرتبطا بخيبة تلُف المواطنين ذات صلة بالانتظارات والرهانات المعقودة على ما بعد الاستقلال. أضف إلى هذا كون هوية بنبركة ومن معه سياسية بالأساس؛ نشأوا فيها ومعها ولهذا اعتنقوا قضية الديمقراطية بالموازاة مع قضية الاستقلال منذ وثيقة المطالبة بالاستقلال المُوقعة في 11 يناير 1944.  وبعد، فخيار مدرسة الشهيد أثبت محدوديته –بالرغم من أهمية وضوح خطابه- ولم يُقلع إلا بعد مراجعات وثبة 1975 حيث تم استدعاء تلك الروح من جديد وتلك الهمة العالية المطلوبة في معركة النضال الديمقراطي ببصيرة متوثبة وحكمة متوقدة ورشد حاسم ونضج كبير. وهو الذي أفسح، بلا مراء، الهوامش التي يتمتع بها المغرب وراكمها إلى اليوم.
نعود إلى خطاب العدالة والتنمية. ليس من الصعب التأكد إذا ما كان واضحا في الإشارة إلى طبيعة الخصم، آخر العنقود في عائلة اكديرة، وهو خط إلياس العمري. كما إنه ليس عسيرا التبيُن من وجود عناصر داخل الحزب التي تُجسد رموزا استثنائية في توعية الجماهير، عبر خطابها وسلوكها ووفائها ونضاليتها ومصداقيتها، بطبيعة المعركة التي يدور رحاها في مغرب اليوم. كما إنه من اليسير على المراقب التقاط الروح الوحدوية التي يشتغل بها المصباح (في عمومه)، والوقوف عند الغيرة التي تغشاه بخصوص مصير الصف الوطني الديمقراطي الذي ازدحم فيه المتساقطون على الطريق.
لماذا خطاب الشهيد المهدي ورفيقه عبد الرحيم، كان قويا (بغض النظر عن الوضوح الذي يسَمه)؟ لأنه يعلم أن الملكية التي تلظت بلظى المنفى كانت تتأسى وفي نفس الوقت تعمل على إلهام الحركة الوطنية، ولهذا لا ينبغي أن تُخلف موعدها مع التاريخ في الإسهام في إرساء حياة سياسية خصبة في البلاد تنهض بأعباء البناء والخروج من عتمة التخلف. يقول الشهيد رفقة بوعبيد في ذات الحوار مع (جون أفريك):
"يجب أن لا تنسوا أننا نحن الذين أعدنا في الواقع للملكية سمعتها في هذه البلاد. وتذكروا بأنه منذ معاهدة الحماية، أي منذ 30 مارس 1912، فقدت الملكية كل اعتبار في أعين الشعب.
ولقد أعادت الحركة الوطنية منذ 1943 للملكية مشروعيتها التي كانت فقدتها، ثم قمنا بنشاط لا يفتر حتى جعلنا الملك ليس شرعيا فقط، بل شعبيا كذلك. ولقد أوصلنا ذكره إلى البيوت والمداشر.
وفي سنة 1955 كان منديس فرانس ثم إدكار فور، يقولان لنا، وهما يحاولان أن نتنازل عن شرطنا الأولي للمفاوضة شرط تحرير الملك: "ولكن لماذا تلحون في إعادة الملك إلى العرش؟". وهنا أيضا ساندنا الملكية.
ولكننا فعلنا كل ذلك على شرط كان واضحا في أذهان الجميع: هو أن ننشئ لأنفسنا ملكية دستورية يكون فيها الملك رمزا لاستمرار المؤسسات وتمارس فيها السلطة حكومة مسؤولة. ولكننا في الواقع وصلنا إلى شيء آخر. فقد منح الدستور وترك للملك السلطة الحقيقية كلها.
لا نستطيع أن نكون ملكيين أكثر من الملك، وإذا كان هناك من يحارب الملكية فهو الملك نفسه، أليس يعد تخريبا للملكية أن توضع الدولة بين أيدي أناس لا يتوفرون على أي سند شعبي؟ أليس من تخريب الملكية أن يتسلم الملك السلطة مباشرة، أي يعرض نفسه للانتقاد؟" (مرجع سابق، ص:266-267)
أن توضع الدولة بين أيدي إلياس العُمري وأمثاله ممن انسلخوا عن الشعب  (باستخدام الوسائل المعلومة للتحايل على إرادة الناخبين أو تقويض سلطة المنتخب)، فذلك  يعني أمرا واحدا وهو أن الوطن بات على كف عفريت.

0 التعليقات

إرسال تعليق