| 0 التعليقات ]



عاد أحد أصدقائي من فرنسا غير آسف على العودة. عاد بعد سنة ونصف من تجربة الغربة؛ حصل على باكالوريا علوم رياضية يونيو 2014. عاد بعدما انتصر لتحيزات محتواه الداخلي، قائلا: المشكل نفسي بالدرجة الأولى، لم أرتح هناك، الجو لا يلائمني.. لهذا اتخذت قرار العودة. كنت في طليعة المتفوقين في دراستي بل كنت مُتصدر صفي الدراسي. كنت في الشعبة التي يعدها الكثيرون غاية المراد من رب العباد، شعبة الرياضيات في الأقسام العسكرية التي تسمى خطأ ب"الأقسام التحضيرية".
حاولتُ إثناء صاحبي عن قراره الشجاع وغير المسبوق، لكني استسلمتُ لمنطقه الذي يتناغم مع منطقي. إنه المنطق الذي ينتصر للمعنى وينحاز للمحتوى الداخلي للإنسان ويتحيز لنفسيته ومعنوياته. إنه المنطق الذي يُعلي من شأن الراحة النفسية والسعادة الداخلية والطمأنينة الباطنية. إنه المنطق الذي ينفلت من قيود الماديات وأغلال نظرات المجتمع القاصرة. إنه المنطق الذي يتقصد الإنسان، بمنواله، بناء تجربته الخاصة وفق ظروفه وإمكاناته ومؤهلاته  وميولاته الخاصة ويرفض اللهث وراء تكرار واجترار تجارب الآخرين مهما سمت  وكانت شامخة (دون إغفال الاستفادة والتعلم، فالحياة مدرسة)، لأن السعادة باختصار هي تجربة شخصية وجوانية وداخلية. إنه منطق يعلنها بصراحة و بلا هوادة: لا يمكن للآخر أن يتصور كيف سأكون سعيدا مهما بلغت نيته من الصفاء.
عاد صاحبي ومعه أفكار شتى حول المجتمع الفرنسي  وطبيعة الحياة في فرنسا. استوقفته سائلا: لماذا يتقدم المستوى العلمي والمعرفي للمجتمع الفرنسي رغم أن معظم الذين يحتلون المراتب الأولى في الأقسام التحضيرية وغيرها أجانب والمغاربة لا يشق لهم غبار في هذا المضمار؟
أجاب بالإيجاب مبتسما. صحيح أن نسبة مُقَدرة وهامة من الطلبة المغاربة الذين يُجايلونني هم الذين احتازوا المراتب الأولى. لكن ثمة ملاحظتين لا بد من الإشارة إليهما بصدد المقارنة بين المنظومتين اللتين تؤطران الطالب/التلميذ المغربي والطالب/التلميذ الفرنسي:
أولا، ما يمكن تسجيله، دون أدنى مجهود فكري، هو اختلاف التعامل مع الدراسة عموما و مع النقط والدرجات التقييمية بالخصوص. ففي حين نجد طالبنا يتمزق نفسيا وتنتفخ أوداجه حين ينكسر في اختبار معين و حين لا يحالفه النجاح في تحصيل عالي الدرجات. نجد الطالب الفرنسي –على الأقل، كما عاينته في محيطي الدراسي- يتعامل ببرودة مع هذه الخُطوب (أي تحصيل ضعيف النقط والدرجات).
استدركتُ على صاحبي متدثرا بمنطق الطلاب المغاربة و نفسيتهم: إن الطالب المغربي يموت حزنا ويستشيط غضبا إثر خيبته في سباق النقط والدرجات لسبب بسيط هو كونه يستشعر أن مفاتيح سوق الشغل بدأت تسقط من يديه بعد كل خيبة وانكسار. في حين أن الهاجس المهني والمادي لا ندري كيف يتعامل معه الفرنسي.
أجاب صاحبي: تماما صديقي. الطالب الفرنسي –أتحدث عن العينة التي عاينتُ حتى لا نسقط في تعميم مخل- يؤمن بيقين بأن مستواه المتواضع لا بد و أن يوافق مهنة توفرها الدولة، لهذا فهو راض بوضعه وغير آسف كثيرا على مستواه. فصاحب أي مستوى هو مشروع ممتهن لمهنة تلائم ذاك المستوى.
ثانيا، في نفس السياق، لا يفوت المتأمل في التعامل الذي ينطبع به الطالب الفرنسي مع المنافسة في وسطه، لا يفوته أن يسجل كون الفرنسي لا يرتهن كثيرا لمنطق الصراع الأعمى من أجل البقاء: فهو إذ يتحصل على نتائج متواضعة مسبوقة يبهرك بتفاؤل إرادته: لا مشكلة، سأحاول أن أتدارك في الاختبار القادم.. لكن صاحبي لم يفته أن يقول: إن روحه تتقد حماسة ومحتواه الداخلي يشع أملا في تعويض ما فاته من النقط و المراتب والدرجات.
إذن، هذه الروح المتدفقة بالجدية والأمل والحماس والتفاؤل لعلها سر الأسرار ولغز الألغاز ومفتاح المفاتيح الكامنة وراء نجاح الفرنسي دراسيا ومهنيا وماديا. هذه الروح التي تسري في الإنسان رغم طوارئ الفشل وأعراض الانكسار وانثنائه بالخيبات، هي التي تستنهض همته ليستمر في الحياة. فظاهريا قد تجد الفشل لا يفارق الإنسان، لكن جوهره نقي لامع بروح الجدية. هذه الروح هي المطلوب غرسها واستنباتها في أوساطنا. هي روح إذا ما توفرت -وطبعا فهي مصحوبة بإجراءات أخرى: من مهام الدولة أساسا-  فلا خوف على الإنسان من كبوة بل لا خوف عليه من كبوات لأنه يدرك جيدا سبيل النهوض وطريق الاستمرار في مسيرة النجاحات والوثبات. و دور أهل التعليم والتربية المركزي هو تنشيط هذه الروح حتى لا تخمد ولا تخمل. في قضية صلاة الفجر أيضا، المطلوب إشاعة نَفس الجدية في التعامل معها. فالإنسان، سيتعثر لا شك في مسيرة الكدح وسينام لا ريب عنها في يوم ما، لكن روح الجدية تمنعه من التطبيع مع النوم وروح الحرص على بركات الفجر تحول دون ركونه إلى الخمول ودون انتسابه لزمرة النُوام.   




0 التعليقات

إرسال تعليق