| 0 التعليقات ]







حسن البنا، معلم بسيط أقامت دوائر الامبريالية والاستعمار في أمريكا احتفالات بهيجة، فيها هز البطون ودق الطنبور ورائحة الخمور، لمقتله و إعلان نهاية حياته. أسس الرجل تنظيما صارما لم يُقدر لأي تنظيم في العالم العربي-على الأقل- أن يُعمر مثلما عمر واستمر. العالم كله، اليوم، لا حديث له سوى هذه الظاهرة "الإسلامية" التي يقال أنها من نسله؛ تُصرف الأموال الطائلة على مراكز الأبحاث والدراسات لمعرفة هذا "الأخطبوط" المرعب أو للاقتراب من حقيقته على الأقل.
يتم التوقف طويلا عند يافطة التطرف الديني وخطابات العنف والإكراه والتكفير التي شاعت كثيرا في الآونة الأخيرة ويمتطي صهوتها زمرة من الأميين بدعم مفضوح من الدوائر الاستخباراتية العالمية التي تريد إشاعة صورة نكراء عن الإسلام السمح. فلا يتوانى المتوقفون من ربط جذور ما يجري وما يشيع من جرائم باسم الدين، من ربط كل ذلك بحسن البنا وجماعته. حسن البنا الذي لم يتورط إطلاقا في دعوة ملغومة إلى العنف، حسن البنا الذي اعتبر الأفراد المتورطين في التنظيم الخاص السري الذي باشر اغتيالات محدودة في نهاية الأربعينات "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين".  حسن البنا، سنقف في هذه السطور مع بعض إضاءاته و نُثارات من إشراقاته لنعيد اكتشاف حسن البنا ولنؤكد أن من اتخذ الصادقين الحكماء المتبصرين قدوة لن ينتسب إطلاقا لجوقة الأميين الذين يعتلون المنابر ويجيدون التحريض والتصنيف.  

1-      عدم الإكراه على الانتماء إلى التنظيم:


إن المنطق الضيق الأفق هو الذي يوجه أصحابه  إلى اعتبار عدم انتماء الأقرباء والأصحاب والناس عامة إلى تنظيمهم وجماعتهم جنحة من الجنح بل جريمة الجرائم. يكون، حسب هذا المنطق، الشخص غير المنتمي لنفس الجماعة والذي اختار تنظيما آخر والانحياز لفكرة أخرى مدعاة للتجريح والنفور والكلام في النيات والأعراض.. إن هذا المنطق الأعوج  الذي يعتبر من ليس معي فهو تلقائيا عدوي و ضدي وهو خائن وهو متكبر ومتعالي وباحث عن البروز (بقاعدة "خالف تُعرف")؛ إن هذا المنطق المريض لم يعرف سبيله إلى منهج إمام الدعاة في العصر ومجدد الهمم والعزائم الأستاذ حسن البنا. وإن كان هناك أحد قد يُسمح له –سهوا- بتبني هذا المنطق خاصة مع أقربائه ومحيطه فهو الأستاذ البنا باعتباره قائدا، في سن مبكرة، لتنظيم فيه مئات الألوف يتسابقون لخدمة الأفكار التي طورها. الأستاذ حسن البنا لم ينهج هذا المنهج ولم يتبنى هذا المنطق حتى مع أصغر إخوته بل تلميذه الذي درس عنده في الصف الابتدائي وهو شقيقه جمال البنا الذي ولد سنة 1920 أي يصغر حسن ب14 سنة، فالأستاذ البنا من مواليد 1906.
اختار جمال البنا الشقيق الأصغر والتلميذ النجيب طريقا آخر ولم يختر "الإخوان"، بل كتب كتابات تحمل مضامينها نقدا مضمرا للاتجاه الفكري لمدرسة "الإخوان". غير أن الأستاذ حسن البنا ذي الأفق الواسع والصدر الرحب لم يحقد على شقيقه ولم يُصنفه ضمن زمرة الخصوم والأعداء والخونة بل راح يدعو الإخوان لقراءة كتابات شاب مشاغب لم يتجاوز 25 ربيعا وراح يستحث هممهم لمحو أميتهم في قضايا السياسة والشأن العام بمطالعة رسائل الشاب جمال البنا الذي اختار تأسيس حزب جديد هو حزب العمل الوطني الاجتماعي.
 يحكي الأستاذ جمال البنا قصته المثيرة مع الأستاذ حسن البنا بضمير الغائب. كان حسن البنا يدرك أن في أخيه تميُز "الرسالية" الذي توافر فيه كما توافر للوالد، وكان هذا سر تقريبه رغم الاختلاف، أو كأنما كان يقرب جمال البنا مثلما يحب شاب أشقر فتاة سمراء، فالاختلاف أدى إلى الترابط لا إلى التنافر. وقد لمح حسن البنا لشقيقه الصغير برغبته إلى أن يعمل إلى جانبه في مناسبتين:
كانت الأولى عندما حديث عن علاقة السيد رشيد رضا الشيخ محمد عبده، ثم علاقته بابن عمه الذي كان يحمل اسم "عاصم" ويتولى إدارة أعماله، و لكن جمال البنا صمت، فكان عزيزا عليه أن يرفض هذه الثقة، و في الوقت نفسه فإنه لا يستطيع القبول، وأدرك حسن البنا الموقف بألمعيته وذكائه فغير الحديث، وفي مناسبة أخرى عندما قبض البوليس على جمال البنا وبعض أعضاء حزب العمل الوطني الاجتماعي بعدما قاموا بتوزيع منشور عن ذكرى ضرب الأسطول البريطاني للإسكندرية بالمدافع تمهيدا للاحتلال. وأرسل الأستاذ حسن البنا بأحد أعوانه فقابل سليم زكي حكمدار القاهرة الذي أصدر أمره فورا بالإفراج عنه، و لما عاد قال له: "أنت تكدح في أرض صخرية صلدة، ونحن لدينا حدائق تثمر أشجارها فواكه تتساقط وتحتاج لمن يلتقطها"، ورد جمال البنا بأن فواكه الإخوان ليست هي الثمار التي يريدها، ولم يتأثر حسن البنا بهذا الرد، ولكنه نصح شقيقه بتغيير اسم "حزب" إلى "جماعة" حتى لا يصطدم الحزب الناشئ بالحكومة وهو في نشأته، وهو ما أخذ به جمال البنا.
ويصور هذا سعة أفق حسن البنا وحُسن إدراكه وفهمه لشقيقه الصغير، وكان جمال البنا يدلي بتحفظاته على فكر الإخوان للإمام البنا، وكانت عن المرأة والفنون والسياسة... ، وكان هو يسمع، ويبتسم ولكنه لا يعقب، فما ذكره جمال البنا ليس جديدا عليه، فقد كان حسن البنا مطلعا على الكتابات الحديثة، ولكنه كان قائدا للجماهير، وقائد الجماهير بقدر ما أنه يقودها ويدفعها، فإن الجماهير تمسكه وتقيد خطوه بمستوى فهمها بحيث لا يجاوز هذا الفهم إلا قليلا، كما أن حسن البنا كان يعمل بسياسة المرحلي ويؤمن بأن الزمن جزء من العلاج، و أن لكل مشكلة وقتها، فقد كان مؤمنا بإعطاء المرأة حقا أكبر من الحرية، ولكن في وقت معين، ولو ترك لأصلح الكثير مما لم يفسح له المجال لإصلاحه. (قضية القبلات وبقية الاجتهادات وكذلك من هو جمال البنا؟ وما هي دعوة الإحياء؟، جمال البنا، دار الفكر الإسلامي القاهرة، الطبعة الأولى، 2008، ص: 132-133-134).


2-      الإيمان بحرية الإنسان:

كثيرا ما يمتعض الممتعضون من تقصير الناس في أداء حقوق الله جل في علاه. لكن أحيانا لا يكون الامتعاض نابعا من قصد سليم وغيرة حارة صادقة. فالذي يرى شقيقه أو ابنه تاركا للصلاة؛ إذ يمتعض من هذا الشرود، لا ينطلق من خوف صادق على مصيره في الدار الآخرة ولا من حسرة جادة على فقدانه لمورد لا يُعوض من موارد التزكية ورفع المعنويات والاتصال بالعلي الأعلى، إنما يهجسه هاجس الاعتبار الاجتماعي وما يقوله الناس أي أن يعرف محيطه ومعارفه وأصدقاءه أن ابنه تارك للصلاة وأن شقيقه لا يعرف إلى أبواب المساجد طريقا.. ولو كانت الغيرة الصادقة على مصير الأحبة في الدار الآخرة، الذي لا يعلم أحد كيف هو إلا الله، لدعا مع أخيه وابنه بظهر الغيب دعوات حارة يومية ملحاحة ليكون من المهتدين والمصلين. وأحيانا يترتب على هذا التفكير الذي ينصرف إلى الاعتبار الاجتماعي أو الطقس التعبدي الشكلي سلوكات ناشزة من قبيل إكراه الراشدين (الأبناء والأشقاء) على الذهاب إلى المساجد أو صلاة الجماعة في البيت؛ وكل هذا يؤشر على افتقادنا لجوهر العبادات وما تدل عليه من حرية الإنسان الباطنية أي من حيث استعداده الحر للاتصال مع ملك الملوك ومناجاته بأشواق المعرفة والوصول.
حسن البنا إمام الدعاة الواسع الأفق لم يكن من هذه الطينة التي تُكره الناس على الصلاة ليتسمى بأن "فلان صلى بعدما دعوته للصلاة". بل كان يدعُ الناس وحالهم ويكتفي بالتذكير الذي هو وظيفة كل داعية مرب أصيل موصول بسيرة المصطفى الأمين. لم يُكره شقيقه الأصغر على صلاة الجماعة وإنما كان يدعه وحاله لأنه يعلم أن "المحاضرات" الرتيبة التي قد يلقيها على مسامعه قد يجيد جمال حبك وعرض ما يفوقها.
حسن البنا مؤمن كبير بحرية الإنسان، وكيف لا يؤمن بالحرية من يتمسك بأهداب روح الإسلام الذي "إذا نظرنا إلى شريعته نجد أنها تعتمد قبل كل شيء على وجدان الإنسان لا على قوات السلطان؛ فبعض التنظيمات القضائية أو الدولية ليست في نظره إلا وسائل تنظيم إداري، تتعلق بالاهتمام بشؤون الناس أكثر مما تتعلق بحكمهم. إنها ذات مهمة هي إسعاد الناس وتدبير مصالحهم؛ لا مراقبتهم والتدخل في شؤونهم الخاصة". (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، علال الفاسي، منشورات مؤسسة علال الفاسي، الطبعة الخامسة، 2008، ص:11)
 يحكي جمال البنا بضمير الغائب ما يؤكد ما ذهبنا إليه. عندما شغل جمال البنا منصب إدارة مطبعة الإخوان، لم يلتزم بما كان يلتزم به العاملون في "الدار" من آداب وتعاليم إسلامية سواء كان في أداء الصلاة أو في الحرص على قربات...، فكثيرا ما كان معاون الدار الشيخ عبد البديع صقر يأتي إليه مؤذنا لصلاة الظهر ليصلي جماعة، وكان جمال البنا يصرفه لانشغاله الشديد بتصحيح بروفة حتى لا تتوقف عجلات ماكينة الطباعة، وعندئذ يهرع إلى الأستاذ حسن البنا ويقول: إن غرفة جمال البنا وكر تاركي الصلاة، فيقول له: "دعه وحاله".
وكان حسن البنا يتابع تقدم شقيقه، وروى الشيخ عبد العزيز الخياط وزير الأوقاف الأسبق بالأردن أنه عام 1946 كان يطلب العلم في الأزهر، ودخل مع مجموعة من إخوانه على المرشد فوجدوه يقرا في كتاب "على هامش المفاوضات"، فقال لهم: "تعلموا السياسة من هذا الشاب، لقد أصدر حمال رسالة حسنة عن المفاوضات"، ولم يصده عن ذلك أنها كانت تصدر باسم "حزب العمل الوطني الاجتماعي". (قضية القبلات وبقية الاجتهادات وكذلك من هو جمال البنا؟ وما هي دعوة الإحياء؟، جمال البنا، دار الفكر الإسلامي القاهرة، الطبعة الأولى، 2008، ص:135).

إن سعة الأفق ثمرة طبيعية للاطلاع الواسع والانفتاح على مختلف ألوان الحكمة البشرية وفتوحات العلوم الإنسانية كما أنها سمة تسم كل من يتعلق بروح الإسلام وغاياته قبل أشكال وسائله وطقوس عباداته. لا غرو، إذن، أن نجد حسن البنا القارئ النهم الذي يلتهم جديد المترجمات في علم الاجتماع وعلم النفس وغيرهما، كما يقول الدارسون المحققون لحياته، مدركا للمعاني والجواهر ومتجنبا لمنطق استعداء الآخر المختلف ورافضا لسبيل الإكراه والإلجاء على أداء العبادات.

إن حسن البنا ذي الأفق الرحب حري بالجماعات الإسلامية التي تزعم صلة لها به أن تعيد اكتشافه وتجدد صلتها بإشراقاته وإلماعاته، وجدير بالباحثين في جذور العنف والإرهاب باسم الدين أن يعيدوا النظر في الأحكام الجاهزة التي يتفوهون بها في حقه، كما أنه حقيق بهم أن يسلطوا الضوء على أمثال هذه الإشارات المتنورة لصد تيار الغلو والتطرف الذي يقتات من التضييق على الصور المنيرة للتدين المتنور والرباني العميق في ذات الوقت.


0 التعليقات

إرسال تعليق