| 0 التعليقات ]



قضيتُ يوما متعبا مع والدتي -أطال الله عمرها- في تنظيف و "إعادة تهيئة" المسكن والفضاء الذي نعيش فيه. طيلة أشغال التنظيف راودتني أسئلة كان قطب رحاها السؤال التالي: الأشغال الشاقة، في حياة الإنسان الفرد والمجتمع، من سيتحملُ أثقالها؟
كان سؤالي نابعا من قناعة  تؤطرني مفادها أن البشرية، عبر تاريخها، تتغيى إنزال المشقة عن الإنسان وتيسير شؤونه وإسعاده على الأقل في الجوانب المادية. من هذا المنطلق، كانت روائح المشقة التي شممتها في تلك الأشغال مدعاة للتساؤل ومبعث للقلق على المعذبين في الأرض (المرأة، عمال البناء و النظافة، المشتغلون في حمل ونقل الأثقال، المتسمرون في  الشمس الحارقة..).
ربما الآباء حينما يحملون هاجس المستقبل المادي والمهني لأبنائهم، بشكل مَرضي، ينطلقون من الشعور الذي يتملكهم حينما يتصورون ابنا لهم أو ابنة وهو يكابد طعنات الدهر وشقاء الحياة. الكل، إذن، يريد أن يكون ابنه طبيبا أو مهندسا أو محاميا أو أستاذا.. و هذا حق مشروع بل واجب مفروض. لكن، لا ينبغي أن ننسى –أتحدث هنا باسم أهل الفكر والثقافة المهمومين بأمر مشروع المجتمع الذي نريد- أن هناك أعمالا لا تقوم الحياة بدونها والحاجة دائمة إليها (البناء، النظافة...)، مازالت أكلافها وتكاليفها (الإنسانية والاجتماعية بالدرجة الأولى) غالية، ولن يكون ضحية لها سوى أحد من إخوتنا و أبنائنا. قد يُقال إن المعني بالأمر هو المسؤول فهو الذي كان متهاونا في صباه في الدراسة لهذا فهو حاصد ثمار الشقاء لا محالة جزاء عمله. نعم، جزء من هذا صحيح. غير أن الفرص المتاحة أمام الجميع في الصبا و الطفولة في التعلم و الدراسة غير عادلة بحكم الظروف الاجتماعية الخارجة عن إرادة المعني بالأمر. و بعد، فهذا ليس موضوعنا و لا مقصودنا، إن الفكرة التي أريد التصريح بها هنا هي أنه إذا افترضنا أن الجميع يدرس لغاية الطب والهندسة والمحاماة والصيدلة –و هذا هو السبيل الذي نحن ننتظم في إطاره-، فهناك مشاغل أخرى لا بد من قائم بها وأكيد انه سيكون أحد الخافقين، لسبب أو لآخر، في السباق نحو الغاية المذكورة.
نظرا لاطلاعي الشحيح والمعدوم على تجارب الدول و الأمم الأخرى في هذه المسألة، فإني سأكتفي بالإشارة إلى كون المشكلة هي إنسانية وكونية وليست مشكلة محلية. لأن البشرية، في تاريخها، تتقصد ترسيخ قيم ثلاث هي العدل والحرية والمساواة. ولا شك أن الوضع الذي يُجيز وجود فئة تعاني الأمَرين في أعمال شاقة وفئة أخرى تعمل في الغرف المكيفة و بكبسات الزر في الحاسوب، ليس وضعا عادلا و لا موحيا بمساواة إنسانية.
إنه لا مناص بمنطق قيم العدل و الحرية و المساواة التي تقرها و تدعو إليها كل الشرائع، من التفكير في سبل تدبير الأشغال الشاقة: سبُل تؤكد إنسانية الإنسان القائم بها وتغرس فيه أحاسيس العزة والكرامة وشعور القائم بمهام التعليم والهندسة والمحاماة.
فلنعد إلى قصتنا، التصور الذي يرى  بأن تقسيم العمل بين الرجل والمرأة فيه عدل ومساواة ورحمة (باعتبار متاعب خارج البيت من نصيب الرجل و مشاغل داخل البيت من حظ المرأة)، تصور يبدو محدودا ولا أثر له في الواقع. لأن الاتجاه العام لطبيعة الأعمال الخارجية، بات يومئ إلى أن العمل بات مريحا و ميَسرا إلى حد ما، باستثناء الأشغال الشاقة التي وقفنا عندها. أما الأشغال المنزلية، ففي فضاء محدود: من وحي التجربة (تجربة والدتي) نقول إنها متعبة حقا و ظالمة صدقا، ناهيك عن الفضاءات الفسيحة، ولا يمكن لأي عاقل(ة) إلا أن يُفضل العمل الذي يقوم به خارج البيت –باستثناء الأشغال الشاقة- بل لا يمكنه إلا أن يُفضل أضعافه في مقابل الانسلاخ من هوية الأشغال المنزلية الرتيبة و المُملة.
كيف ستُدبر، إذن، الأشغال المنزلية في جو تُصان فيه إنسانية ربة البيت ورب البيت؟ هذا هو السؤال الذي شغلني حينها. فهناك من يقول بجلب "الخادمات".. يبدو أن المؤمن بكرامة الإنسان –أي إنسان- سينفر فورا من هذا الخيار لأن الخادمة في نهاية المطاف امرأة أيضا مثل الأم والأخت والزوجة. والنظام العادل الذي يرمقه كل حر لا وجود فيه لمسمى "الخادمات". نعم، قد يعتبر بعضهم هكذا كلام بأنه غرق في عالم المُثل. قد يكون كذلك، لكن المعروف أن المتصدي لأدواء الإنسان والمجتمع لا يبرر الظلم مهما كان الثمن ومهما كانت العاقبة. صحيح، بالإمكان الحديث عن مربية للأطفال في غياب بسبب العمل عن المنزل، لكن القول بأن جلب "الخادمة" للعناية حصرا بالأشغال المنزلية اليومية من تنظيف و كنس و طهي و .. يبدو مردودا.
ربما في انتظار مزيد من التأمل في السؤال والاطلاع على تجارب غيرنا من بني الإنسان، أسوق جواب والدتي أسعدها الله دنيا و آخرة: بالتعاون، بالتعاون، يا بني، تهون كل المصاعب وتنهار كل المشاق..

  

0 التعليقات

إرسال تعليق