| 0 التعليقات ]




ثمة علامات شتى توحي بأن طوفانا جارفا على الأبواب. إنه عالم جديد يتغلغل شيئا فشيئا في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والفكرية بالخصوص. نحن على مشارف عهد جديد، قد يطول لعقود معدودة، لكنه يحمل مفاجآت قاسية، ما لم ننتبه. إن الأحداث السياسية لا تلعب دورا مهما سوى في تسريع وتيرة الانقلابات على مستوى البنى الاجتماعية والفكرية، وإن كان يعتقد كثيرون أن العكس هو الصحيح؛ الزلزال الفكري ينتقل إلى البنية الاجتماعية لينقلب السطح السياسي.
 على كل حال، إن حراك 2011 وإن لم يحقق أهدافه المباشرة المرجُوة فإنه أحدث شروخا قوية في البنى الفكرية والاجتماعية التقليدية. إن جيلي وأمثال جيلي؛ واجب علينا أن نحمد المولى جل وعلا أن قدر أن نكون وأن نبدأ رحلة التفكير في الوقت الذي تزامن مع هذا الحراك (كاتب هذه السطور، أول مقالة فكرية كتبها في نونبر 2010 شهر قبل بداية حراك الشباب التونسي). نعم، إنها لنعمة عظيمة أن تتزامن لحظات انبثاق وعينا مع هذه المرحلة التاريخية الدقيقة، حتى لا نكرر نفس الأخطاء ونستفيد من الدروس التي يحكيها الواقع كل يوم وننتبه لأغلال كان من الصعب الانتباه إليها فيما مضى، هي أغلال الإيديولوجيا.
لقد دأب الناس على الاستهانة بكل أمر جديد، إذا كان مخالفا لتقاليدهم ومعتقداتهم القديمة. ولكنهم لا يكادون يعتادون عليه حتى يتعصبون له مثلما كانوا يتعصبون ضده قديما. ولله في خلقه شؤون! (علي الوردي، أسطورة الأدب الرفيع، شركة دار الوراق، الطبعة الثالثة،2015، ص:140)
وإن كنت أنسى كثيرا فلن أنسى الأيام الأولى التي يضيق فيها الأفق وينعدم فيها التفكير الجاد وتعلو فيها العاطفة الجياشة ويخفتُ فيها صوت العقل الرزين. لن أنسى يوما وجدت فيه أحد الأصدقاء وكان يتحدث بشكل عادي عن الموسيقى وكيف يتسرى بجميل إيقاعاتها الهادئة في بعض أوقاته، فلم يكن مني إلا أن خاطبتُه –أنا وأحد زملائي- بما نتصوره موقفا متوترا للشرع بخصوصها، ساعتها تفاجأ الصديق بالموقف الجديد وهو الذي كان متدينا يحافظ على صلاة الفجر في المسجد منذ آنذاك إلى يوم الناس هذا. بعدها أصبحتُ مائلا إلى المرونة أكثر في التصور المفترض عن الموقف المتوتر للشرع بخصوص الموسيقى وغيرها (بعد تراكم المقروء وتأملات ونقاشات)، وأمسيتُ متعبا في إقناع صاحبي بالموقف الجديد، فهو قد بات معتبرا نفسه من حراس موقف الشرع ينعى على الناس والمحيط تسلل بعض الكلام الجميل إلى آذانهم!
قصص كثيرة لا تُنسى شبيهة بالسالفة الذكر. قصة أخرى بخصوص مسالة المصافحة. أعرف أصدقاء كُثر لم يكن لديهم أدنى علم بالإشكال الذي تثيره، كلهم متدينون محافظون على صلاة الفجر في المسجد ومازالوا –بفضل الله- إلى اليوم على نفس الطريق. في نقاش معين يجري الحديث مجرى إثارة هذه المسالة، يستصعبون بادئ ذي بدء الموقف الجديد على أسماعهم وأذهانهم، ثم أجدهم بعد ذلك من كبار المنافحين بل المتشدقين بالامتناع عن المصافحة.
هذه قصص في مسائل بسيطة محدودة جدا بالنظر إلى تحديات الحياة وأسئلة الراهن وإشكالات الفكر والسياسة والاقتصاد.. كلها تؤشر على أن الإنسان ضعيف وينبغي أن يتواضع. الإنسان يقبل في البدء ما يدخل ضمن مألوفاته الإدراكية وعوائده الفكرية، وكلما أخبرته بموقف جديد سرعان ما ينتفض ويرفض.. إلا أنه بعد حين يتمسك بالموقف الجديد ويتعصب له ويفسد علاقاته الاجتماعية وقد يقطع رحمه من أجل الوافد الجديد على بنيته الذهنية.
 السنوات المقبلة، الله أعلم بما تحويه أحشاؤها من مفاجآت صادمة، لكن المؤكد أن الفكر التقليدي الذي يعزف على أوتار عاطفة الناس سيحتضر و سيوارى الثرى. لأن تحولات الواقع وتموجاته في تفاعلها مع الأفكار والتصورات (عن مواقف الشرع في مسائل تدخل في نطاق حياة الإنسان المتغيرة) ستتمخض لا شك عن رؤى مغايرة.
إن الفترة السابقة، ما قبل 2011 (بالمناسبة، حدث 2011 يعتبره العديد من الأكابر ضمنهم الفيلسوف أبي يعرب المرزوقي: ثاني ثورة هامة بالنسبة للأمة بعد الثورة النبوية، بعد البعثة)، كانت فترة تأسيس طبع عليها بل غلب عليها طابع ردود الأفعال إزاء صدمة الاستعمار واكتشاف العالم الحديث. والمرحلة التي نعيش فيها اليوم، بعد 2011، هي استمرار لحالة الفوضى والتيه ومزيد من التجريب، أقصد هنا الجانب الفكري والاجتماعي الذي لا ينتبه الناس إلى ما يعتمل فيه من تغيرات جذرية تفوق هزات الوضع السياسي.
ولا شك أن مرحلة الاستقرار والحياة في أمن وأمان قادمة لا محالة. لكن المحتوى الفكري والنموذج الاجتماعي الذي سيتقمصه المجتمع القادم سيكون مباينا بشكل كبير لما نتصوره. لأن أغلب تصوراتنا الفكرية والاجتماعية نجمت عن ردود أفعال ولم تكن تفكيرا في مرحلة الاستقرار يُستحضر فيه روح الإسلام وتحديات العصر بعيدا عن هاجس الهوية والاستلاب وشبح أفول الأنا وصعود الآخر. والأكيد أن الآراء التي تعتبر اليوم شاذة في شؤون الفكر والاجتماع هي التي ستسود، لأنها لم توصف بالشذوذ إلا لكونها شذت عن منطق ردود الأفعال وهجسها الصواب ولم تبالي بالآخر بل التفتت كل الالتفات إلى كيف سيكون برنامجنا نحن لا كيف سنكون في برنامجهم.
صحيح، أن البعض قد لا يستشعر خطورة الطوفان الذي أتحدث عنه. والإنسان عدو ما جهل. وأنعم بها من جنة وراحة وطمأنينة يفرزها الجهل! الإنسان مادام جاهلا بمعنى لا يملك الدراية بما يجري في الساحة الفكرية وتأثيرات ذلك على الساحة الاجتماعية فإنه سيكون مطمئنا وسيكون حالما وهو صادق. لكن مع الأسف الشديد، الأمر ليس كذلك. فما لم ننتبه قبل فوات الأوان سيكون الطوفان القادم جارفا سيقتلعنا من جذورنا وسينتزع منا أرواحنا وسنقف مشدوهين أمام الإلحاد والانتحار وغيرهما من الملاذ الذي سيسعى إليه الإنسان لرفع التعارض بين ما في واقعه الذهني وما في الواقع الخارجي.

إن الاستعداد للطوفان القادم يبدأ من العودة بجد إلى متابعة ما يدور في المكتبة. إن هذا الاستعداد ينطلق أولا من إعادة قراءة الكتابات التي طالما ثلبها مفكرونا وصارت أفكارها اليوم ضمن دائرة المقبول. إن إعادة قراءة الكتابات التي طُمست أفكارها بفعل الصراع الإيديولوجي من شأن ذلك أن يعطينا صورة عن الأفكار التي سنتقبلها بسرعة ودون مرارة بعد عشر سنوات. إذن، حتى لا نُضيع سنوات أُخر فلنبدأ القراءة من الآن ولنتأمل من الآن، حتى نحتفظ بروحنا ونصون جوهرنا في  مستقبل الأيام، فالطوفان قادم ليس محالا!


0 التعليقات

إرسال تعليق