| 0 التعليقات ]






يلعب "العلم" أساسا دور الكشف عن الحقائق الكائنة في الواقع الموضوعي (في الطبيعة أو المجتمع). يصف العلم هذه الحقائق كما هي، سواء وافقت رغباتنا أو خالفتها. لا تثير العلوم الطبيعية والفيزيائية، فضلا عن رديفتها الرياضيات، أي إشكال. بيد أن العلوم الاجتماعية والإنسانية قد تكشف عن حقائق لا نوافق عليها، لأن موضوعها هو "نحن"، هو الإنسان.

قد يخلص أي حقل فرعي من هذه العلوم -بتنسيب- إلى أن الفرد؛ ابن بيئته، كائن مندفع، خاضع لعوالم اللاشعور، محدود بحدود عالم طفولته، متحيز لذاته وعشيرته، مستعد للصراع من أجل لقمة العيش، لاهث وراء مصلحته القريبة، ميال إلى الظهور والأضواء،  فيه خصال كثيرة شبيهة بما في الحيوان... إلخ.

تنطلق نزعة الرفض تجاه هذه النتائج. يخاف الإنسان من نتائج هذه "العلوم"، رغم أنه قد يلوك صباح مساء شعارات تدور حول أهمية طلب العلم، وتعتبر (العلم) خارطة طريق التقدم والرقي. يجد مخرجا في حكاية "التحيز"، فيعتبر هذه العلوم نتاجا لنموذج معرفي متحيز غير قابل للتعميم. 

حينما تقترب العلوم الطبيعية من موضوعات تمس الإنسان، يبدأ الإشكال أيضا ويتم استحضار تناول النصوص الدينية لذات الموضوعات لإغلاق النقاش والقول بأن الحقيقة قيلت في القرآن أو في الكتاب المقدس. وتستعر الحرب خاصة حينما تصل نتائج تلك العلوم، على نسبيتها، إلى طَرق باب التشابه بين الإنسان والحيوان.

لا يفهم كثير من الناس أن "العلم" لا يحابي الرغبات ولا يتبع الأماني. حقا، قد يخطئ لأنه بصدد بناء حقائق وتاريخ العلم هو تاريخ الأخطاء، وقد يكون وثوقيا أكثر من اللازم خاصة في ميدان الإنسان والمجتمع، ولكن لا بد أن تكون لإشاراته الكبرى مصداقية ولا بد أن تمنح إشاراته الإنسان بصيص أمل لفهم نفسه والعالم من حوله. 

في الجهة المقابلة للعلم، تقف القيم، ليس بمعنى وجود التقابل بينهما، أو انفصال العلم عن القيم. كلا! للعلم قيمه الخاصة ينبغي لأهله أن يتحلوا بها منها الجدية والدقة والأمانة والنزاهة والتأني... إلخ.

القيم هي عنوان المُثُل التي ينبغي أن تشغل الإنسان في كل حركاته، هي الأحلام التي لا حياة بدونها، هي الأفق الذي نرنو إليه جميعا فرادى وجماعات. القيم هي التي تضع المسافة بين تصرف الإنسان وتصرف الحيوان. فحين يصف العلم، ولا يهمه أن يكون الموصوف جميلا أو قبيحا، لا تتنازل القيم عن الجمال!

القيم كلها تقول ينبغي أن نتصرف وفق قواعد الإنسان (الرحمة، الإيثار، الصدق، التواضع، العفة، العدل)، في الوقت الذي قد يشير فيه العلم إلى أن الفرد مشدود إلى عالم الحيوان (الفظاظة، العنف، الأنانية، الاستئساد، الإباحية، الظلم). العلم يدفع الإنسان إلى استثمار خيرات العالم ليرتاح ماديا، بينما القيم تنشغل بمعنى الاستثمار وأسئلة العدالة.

تصدر القيم عن الدين وعن الخبرات التي راكمها الإنسان على مدار ملايين السنين.

أين يتموقع الفكر في هذه المعادلة؟ بينما يشير "العلم" إلى ارتباط الإنسان بترسبات عديدة تحُد من إشراق إنسانيته. يتعين على "الفكر" أن يهتم بالسبل الكفيلة بتقريب الناس من القيم، علاوة على بذل الجهد في التفكير في سبل تفعيل مضمونها في مختلف مناحي الحياة (السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، البيئية، الرياضية، والمهنية).




0 التعليقات

إرسال تعليق